الفصل الثالث عشر

حين دلف جرانت إلى منزل ميل هاوس في السابعة إلا الربع شعر وكأنه غربل سالكوت سانت ماري خلال غربال شبكي صغير، وأنه لم يتبقَّ له في الغربال أيُّ شيء حرفيًّا. كان جرانت قد عايش قطاعًا عريضًا من تجارب الحياة في إنجلترا، ولهذا كان الأكثر خبرة ودراية. لكنه لم يكن قد أحرز أيَّ تقدُّم تجاه حلِّ القضية التي أوكِلت إليه.

حيَّته مارتا بأفضل عبارات الود الهامسة واجتذبته إلى السكينة والراحة. كانت حجرة المعيشة في منزل ميل هاوس تطلُّ على الماء، وفي أثناء النهار كان أثاثها يسبح وسط الأضواء المتمايلة؛ أضواء خضراء تُشبه تلك التي تحت سطح الماء. لكن مارتا هذا المساء كانت قد أسدلت الستار على آخر مشاهد الغروب، وصدَّت ضوء النهر؛ إذ أعدَّت ملجأً من الدفء والطُّمأنينة، ولهذا كان جرانت شاكرًا لها إذ كان مُنهَكًا وفي حيرة من أمره.

قالت مارتا وهي تدفعه على نحو رقيق إلى كرسيٍّ بإحدى إيماءاتها المفضَّلة وتصبُّ له شرابًا: «أنا مسرورة كثيرًا أن والتر لم يكن هو من اختفى.»

فتساءل جرانت: «مسرورة؟» وقد تذكَّر ما عبرت عنه مارتا من رأيٍ لها تجاه والتر.

«لو كان والتر هو من اختفى لكنتُ من المشتبه بهم، بدلًا من أن أكون شريكة مهجع.»

فكَّر جرانت أن مارتا لا بدَّ أنها تتشارك الكثير مع الفِتَن النائمة باعتبارها شريكة مهجع.

«أما الآن فبإمكاني الجلوس إلى جوار العدالة ومشاهدة الأمور وهي تمضي. هل تُبلي بلاءً حسنًا، يا عزيزي؟»

رد جرانت في قسوة: «أنا في حيرة من أمري»، لكن مارتا تعاملَت مع الموقف بهدوء.

«أنت تشعر بهذا فقط لأنك مُنهَك وجائع؛ وربما أنك تُعاني من سوء الهضم، على أيِّ حال، بعد أن تناولت الطعام في فندق وايت هارت ليومَين. سأتركُكَ مع دورق الشراب وسأنزل إلى الطابق السفلي لأحضر النبيذ. نبيذ أبيض مُبرَّد في القبو. يقع المطبخ تحت هذه الحجرة ويقع القبو تحت المطبخ، فيخرج النبيذ منه باردًا كالماء الجاري. عزيزي، لقد وعدتُ نفسي بأنني لن أزيد التفكير اليوم في الماء الجاري. لقد أسدلت الستائر لأحجب مشهد النهر؛ فأنا لم أعدْ مفتونة بالنهر كما اعتدت. لربما سنشعر كلانا بشعور أفضل بعد تناول النبيذ الأبيض. حين أحضره من القبو سأُعدُّ لك الأومليت الذي لا يُعدُّه أحد مثلي، بعدها سنَجلِس في هدوء. لذا استرخ قليلًا ولتستعدْ شهيَّتك. وإن لم يكن هذا الشراب قويًّا بما يكفي، فهناك شراب تيو بيبي في الخزانة؛ لكنني أظن أن تقييم قوته مبالغٌ فيه.»

ثم ذهبت مارتا وامتنَّ جرانت لها لأنها لم تُزعجه بالأسئلة التي لا بدَّ أنها تتزاحم في ذهنها. كانت مارتا امرأة لا تقدر الطعام الشهي والشراب اللذيذ وحسب، بل كانت تملك حسن تقدير مُتأصِّلًا يكاد يرقى إلى العطف. لم يكن جرانت قد رآها من قبل على نحو أفضل مما رآها عليه في منزلها الريفي الرائع هذا.

استلقى جرانت وسط ضوء المصباح، ومدَّ قدمه إلى المدفأة حيث الحطب الذي يصدر عنه صوت احتراقه واسترخى. كان المكان دافئًا وفي غاية الهدوء. ولم يكن للنهر صوت: كان نهر راشمير يجري في صمت. لم يكن هناك أي صوت على الإطلاق عدا صوت النار الخافت. وعلى الأريكة مُقابلَه وضعت جريدة، وخلفها حقيبة كتب، لكنه كان مُتعبًا بشكلٍ أكبر من أن يتمكَّن من إحضار الجريدة أو كتاب. وعند مرفقِه كان هناك رفٌّ وضعت عليه مراجع. راح جرانت يقرأ عناوين المراجع في فتور حتى وصل إلى سجل هواتف لندن. مظهر تلك الكتب أرسل عقله في قناة جديدة من الفكر. فحين تحدَّث جرانت إلى إدارة سكوتلانديارد هذا المساء، قالوا إن قريبة سيرل لم تتواصَلْ معهم بعد. ولم يُفاجئهم ذلك بالطبع؛ فالأخبار لم تنتشِر سوى هذا الصباح، ومن المحتمل أن ابنة عمومته الفنانة تعيش في أي مكان بين جزر سيلي وإحدى المزارع في كمبرلاند؛ وربما أنها لا تقرأ الصحف على أيِّ حال؛ وإن وصل الأمر إلى هذا الحد، فقد تكون غير مُكترِثة تمامًا بالمصير الذي لحقَ بابن عُمومتها. وعمومًا كان سيرل قد قال وبكل صراحة إن أحدهما لا يكترث بالآخر.

لكن جرانت كان لا يزال يرغب في الحديث مع أحد يعلم خلفية سيرل؛ أو على الأقل جزءًا ضئيلًا منها. والآن، وقد جلس مُسترخيًا في راحة للمرة الأولى منذ يومين، مدَّ جرانت يده إلى المجلد الذي يحتوي على الأسماء التي تبدأ بحرف السين، وبناء على احتمالية أن تكون مقيمة في لندن وأنها وسيرل أبناء اثنين من الإخوة، بحَث عن اسم سيرل. وفي المجلد لاحَظ جرانت أن هناك آنسة باسم سيرل تعيش في هولي بيفمينت. تقع هولي بيفمينت في هامبستيد، وهي مُستعمَرة شَهيرة للفنانين. وبفعل باعث بداخله رفع جرانت سماعة الهاتف وطلب رقم لندن.

جاءه الصوت المبتهج من الطرف الآخر على الهاتف يقول: «ستتأخر المكالمة مدة ساعة. سأعاود الاتصال بك.»

فرد جرانت: «إنها مُكالَمة ذات أولوية.» ثم قدم بياناته.

قال صاحب الصوت في إحباط لكن يصحبه عزم: «أوه، حسنٌ. سأرى ما يمكنني فعله.»

قال جرانت: «بل على النقيض. سأرى أنا ما يمكنك فعله.» ثم أغلق الهاتف.

أعاد جرانت سجل الهاتف إلى حيث كان وأخرج مرجع «أعلام المسرح» ليسلي نفسه به قليلًا أثناء انتظاره. وقد شعر من خلال ما قرأ من بعضه بأن العمر قد مضى به كثيرًا. مُمثِّلون وممثلات لم يسمع بهم من قبل قط أصبح لديهم بالفعل قوائم طويلة بنجاحات تُحسَب لهم. والذين عرفهم من بين من هم في الكتاب كان لديهم صفحات من الإنجازات تمتدُّ بالفعل إلى الماضي البعيد. بدأ جرانت يبحث عن الأشخاص الذين كان يعرفهم، كما يفعل المرء في فهرس كتاب من كتب السيرة الذاتية. توبي توليس، ابن سيدني توليس وزوجته مارثا (سبيك). كان من المدهش في رأي جرانت التفكير في أن رمزًا وطنيًّا كتُوبي توليس قد خضَع لعمليات الحمل والمجيء إلى هذا العالم بالطُّرُق الطبيعية. ولاحظ جرانت أن بدايات توبي كمُمثِّل قد أُخفيت بصورة لائقة تحت عنوان: «كان فيما مضى ممثلًا». وعلم جرانت أن زملاءه من تلك الفترة كانوا ليُنكروا بشدَّة أنه كان مُمثلًا ولو حتى على وجه التقريب. ومن ناحية أخرى، فكر جرانت، بينما يتذكر لقاءه معه هذا الصباح، أن حياة توبي توليس برمتها كانت «مسرحية». فقد اختلق توبي لنفسه دورًا وصار يلعبه منذ ذاك الحين.

وكان من المدهش لجرانت، أيضًا، اكتشاف أن مارجريت ميريام (وهي ابنة جيفري ميريام وزوجته بريندا (ماتسون)) كانت أكبر سنًّا بكثير مما كان المرء يعتقد بفعل رقَّتها التي تشبه رقة المراهقين. ربما لو كانت لا تزال على قيد الحياة، لوهنت صفة المراهقة تلك، ولاضمحلَّت قدرتها على فطر قلوب الجماهير. لا شكَّ أن هذا هو ما كانت تقصده مارتا حين قالت إن مارجريت لو عاشت عشر سنين أخرى، لوردت إعلانات نعيها في الصفحات الأخيرة من الصحف.

كانت مارتا (ابنة جيرفاس وينج سترات إم آر سي إس، إل آر سي بي وزوجته آن (هالارد))، بالطبع، ذات نشأة تقليدية تمامًا. فقد تلقَّت تعليمها في أفضل المدارس وتسلَّلت إلى المسرح من أبوابه الخلفية عن طريق فنِّ الخطابة مثلها في ذلك مثل الكثير من أسلافها الكريمي الأصل. أَمَّل جرانت أن يجد جيرفاس وينج سترات وزوجته آن العزاء عن خداع ابنتهما لهما قبل ربع قرن مضى، حين يتبع اسمها حروف دي بي إي في الطبعة التالية، أو التي تليها على أقصى تقدير.

ولم يكد جرانت يبدأ في التلذُّذ بأولى قطوف التَّسلية المحتملة التي يقدمها هذا المجلد الساحر حتى دق جرس الهاتف.

جاء الصوت يقول: «مُكالمتك إلى لندن مباشرة الآن. فلتبدأ، من فضلك.»

قال جرانت: «مرحبًا. هل يمكنني التحدث إلى الآنسة سيرل؟»

فجاء صوت رقيق يميل إلى النشاط يقول: «الآنسة سيرل تُحدِّثك.»

«آنسة سيرل، أنا آسف حقًّا لإزعاجك، لكن هل لديك ابن عمومة يُدعى ليزلي سيرل؟»

«أجل لديَّ، وإن كان قد استعار منك مالًا فإنك تُضيِّع وقتك إن ظننت أنني سأردُّه لك.»

«أوه، لا. ليس الأمر على هذا النحو. لقد اختفى ابن عمومتك أثناء مُكوثه مع أصدقاء له في الريف ويحدُونا الأمل أن تُساعدينا في تتبعه. اسمي جرانت. وأنا مُفتِّش مُحقِّق في إدارة سكوتلانديارد.»

قال الصوت: «أوه» وبدا على صاحبته التفكير وليس الذعر. «في الواقع، لا أدري كيف سأقدم لك المساعدة. فليس بيني وبين ليزلي الكثير. لم يكن يروقني، وبالتأكيد لم أكن أروقه.»

«قد يكون من العون إن أتيتُ وتحدثتُ إليكِ عنه. هل ستكونين في المنزل غدًا بعد الظهر إن أتيت؟»

«كنت سأذهب إلى حفل موسيقي يوم غد بعد الظهر في قاعة ألبرت هول.»

«أوه. ربما يُمكنني القدوم قبل الغداء بقليل إن كان هذا أفضل بالنسبة إليكِ.»

فعلقت قائلة: «أنتَ في غاية الرقة واللطف بالنظر إلى كونك رجل شرطة.»

فقال جرانت: «لا يرانا المجرمون كذلك.»

«كنتُ أظنُّ أن توفير المأوى للمجرمين هو غاية إدارة سكوتلانديارد وهدفها. لا بأس، أيها المفتش. لن أذهب إلى الحفل. إنه ليس بالرائع على أي حال.»

«ستكونين موجودة بالمنزل لو أتيت؟»

«أجل، سأكون موجودة.»

«هذا لطفٌ بالغ منكِ.»

«ذلك المصوِّر المُبالغ في تقديره لم يأخذ مجوهرات الأسرة معه حين غادر، أليس كذلك؟»

«كلا. كلا، لقد اختفى وحسب.»

فأطلقتْ صوتًا خافتًا من أنفها. كان من الواضح أن أيًّا ما ستقوله الآنسة سيرل عن ابن عمومتها، فلن يتضمَّن تورية للحقائق أو حياء زائفًا.

حين كان جرانت يضع السماعة، عادت مارتا يتبعها صبيٌّ صغير يحمل الحطب للنار. وضع الصبي الحطب بعناية في المدفأة، ثم رمق جرانت بنظرة تنم عن الإجلال والخشية.

قالت مارتا: «يُريد تومي أن يسألك شيئًا. إنه يعلم أنك مُحقِّق.»

«ما الأمر، يا تومي؟»

«هلا أريتني مسدسك، يا سيدي؟»

«كنت سأريك إياه لو كان معي. لكنني أخشى أنه في درج داخل مكتبي في إدارة سكوتلانديارد.»

بدا تومي مفطور الفؤاد. «كنتُ أظنُّ أنكم تحملُون المسدسات دائمًا. الشرطيُّون الأمريكيون يحملونه دومًا. أنت تجيد إطلاق النار، أليس كذلك، يا سيدي؟»

فقال جرانت محاولًا تخفيف حدة الخوف الشديد الذي بدا واضحًا على وجه الصبي: «أوه، أجل. اسمع، في المرة القادمة التي تأتي فيها إلى لندن، يُمكنك القدوم إلى إدارة سكوتلانديارد وسأريك مسدسي.»

«أيُمكنني أن آتي إلى إدارة سكوتلانديارد؟ أوه، شكرًا لك. شكرًا جزيلًا لك يا سيدي. سيكون هذا رائعًا.»

ثم انصرف الصبي بعد أن ألقى تحية المساء في تهذيب، وهو في حالة من عدم التصديق.

قالت مارتا بينما كانت تضع طبق الأومليت على الطاولة: «ويَعتقد الآباء أن بإمكانهم مداواة الصِّبْية من الوقوع في حبِّ الأسلحة المميتة بألا يعطوهم دمى الجنود. هيا لتتناول الطعام.»

«أدين لكِ بثمن مكالمة خارجية إلى لندن.»

«ظننتُ أنكَ كنتَ ستسترخي.»

«كنت سأفعل لكن واتتني فكرة، وقد حققت على إثرها أول تقدم منذ توليت القضية.»

قالت مارتا: «هذا جيد! يُمكنك الآن أن تشعر بالسعادة وتدع عصاراتك الهضمية تقوم بعملها.»

ومن ثم أعدت طاولة دائرية صغيرة بجوار نار المدفئة، مع إضاءة شموع لإضافة البهجة والزينة، وتناولا الطعام معًا في هدوءٍ ساده الود. ثم صعدت السيدة ثروب بالدجاج، وقُدِّم إلى جرانت، وقد أفصحت عن مدى امتنانها بالدعوة التي قدمها جرانت لتومي. بعد هذا لم يقاطع صَفوهما أحد. وأثناء تناولهما القهوة تطرَّق حديثهما إلى سيلاس ويكلي وغرابة أهل المنزل الذي يقع على الزقاق.

«يفتخر سيلاس بكونِه من «الطبقة العاملة»، أيًّا كان ما قد يحمله هذا من معنى. لن يبدأ أيٌّ من أطفاله حياته بأفضل مما بدأ هو. إنه مُضجر ومريع بشأن أصول مدرسته الثانوية. لدرجة أنك قد تظن أنه كان أول من يدخُل جامعة أكسفورد من طلاب المدرسة الثانوية منذ تأسَّست. إنه مثال كلاسيكي للتواضع المصطنع.»

«لكن ماذا يفعل بكل ما يكسب من أموال؟»

«الرب وحده يعلم. ربما يدفنه تحت أرضية ذلك الكشك الصغير الذي يعمل فيه. إنه لا يسمح لأي أحد أبدًا أن يدخل إلى ذلك الكشك.»

«لقد التقيت به في ذلك الكشك هذا الصباح.»

«آلان! يا لبراعتك! ماذا كان بداخله؟»

«كاتب شهير، يقوم بعمل قليل جدًّا.»

«أتوقَّع أنه ينزف دمًا من أجل أن يكتب شيئًا. إنه لا يملك أيَّ خيال. أقصد أنه لا يدري تمامًا كيف تعمل عقول الآخرين. لذا فإنَّ المَواقف التي يكتبها وكذلك ردود أفعال شخصياته عليها ما هي إلا أشياء مبتذلة وتقليدية. إنه يبيع مؤلفاته بسبب «أسلوبه المباشر» و«مهارته البدائية»، لينجدنا الرب جميعًا. لنُبعِد الطاولة ونقترب أكثر من النار.»

ثم فتحت مارتا دولابًا صغيرًا وقالت بتقليد ممتاز للصبية الذين يبيعون الأشياء على الصواني على أرصفة السكة الحديد: «درامبوي، بينيديكتين، استريجا، جراند مارينير، بولز، تشارتروز، شليفوفيتس، أرمانياك، كونياك، راكيا، كوميل، ومختلف المشروبات الفرنسية بحلاوتها التي لا توصف، وشراب الزنجبيل المنعش الخاص بالسيدة ثروب!»

«أتنوينَ إغوائي لاستخلاص الأسرار الرسمية من دائرة التحقيقات الجنائية؟»

«كلا، يا عزيزي؛ بل أبدي التقدير والإجلال لذوقك. أنت أحد الرجال القلائل الذين أعرفهم ممن يستمتعون بشيء كهذا.»

ثم وضعت مارتا التشارتروز وزجاجات الشراب على صينية وعدلت ساقيها الطويلتين على الأريكة إلى وضعية مريحة.

ثم قالت: «والآن أخبرني.»

فقال مُعترضًا: «لكن ليس لدي شيء لأخبرك به.»

«لا أقصد هذا النوع من الإخبار. أقصد حدِّثني. تظاهرْ بأني زوجتك — حاشا لله — واجعل مني مستمعةً لك. على سبيل المثال، أنت لا تظنُّ حقًّا أن ذلك المسكين والتر ويتمور يتمتَّع بما يكفي من الشجاعة ليضرب سيرل بشيء على رأسه، أليس كذلك؟»

«كلا، لا أظنُّ ذلك. إنَّ الرقيب ويليامز يُطلق عليه فاقد الجرأة، وأظنُّ أني أتَّفق معه.»

«يُطلَق عليه ماذا؟»

فسَّر لها جرانت معنى الكلمة، فقالت مارتا: «وكم هو صائب رأي الرقيب ويليامز! لقد تأخرت مغادَرة والتر كثيرًا.»

«ربما يُغادِر من تلقاء نفسه إن لم تُحلَّ هذه القضية.»

«أجل، أظن أنه يواجه وقتًا عصيبًا، ذلك المخلوق السخيف المسكين. إن الشائعات في مكان ريفي صغير قاتلة. بالمناسبة، هل استجاب أحد لمناشَدة الشرطة التي أطلقتْها؟ لقد سمعتُها عند الساعة الواحدة.»

«كلا، ليس حتى السابعة إلا الربع، حين تحدثت آخر مرة مع إدارة سكوتلانديارد. وقد أعطيتهم رقم الهاتف هنا ليتَّصلوا خلال الساعتين التاليتين. آمل أنكِ لا تمانعين.»

«لماذا تظن أنه من الممكن أن يكون قد حصل على توصيلة؟»

«لأنه إن لم يكن في النهر فلا بدَّ أنه سار بعيدًا عنه.»

«بمحضِ إرادته؟ لكن سيكون من الغريب حقًّا فعل ذلك.»

«ربما أنه يُعاني من فقدان الذاكرة. هناك خمسة احتمالات مُجتمعة.»

«خمسة!»

«مساء يوم الأربعاء، سار سيرل عبر ذلك الزقاق، في تمام الصحة واليقظة؛ ولم يظهر في الجوار منذ ذلك الحين. إذن الاحتمالات هي: الأول، أن يكون قد سقط في الماء بطريق الخطأ وغَرِق؛ الثاني، أن يكون قد قُتِل وألقِيَ به في النهر؛ الثالث، أن يكون قد غادَر لأسباب شخصية؛ الرابع، أن يكون قد ضلَّ طريقه وابتعد وأنه نسي من يكون وإلى أين كان يتجه؛ الخامس، أن يكون قد اختُطف.»

«اختطف!»

«نحن لا نعرف شيئًا عن حياته في أمريكا؛ وعلينا أن نضع هذا في اعتبارنا. بل من المُمكن حتى إنه أتى إلى هذا البلد ليهرُب من أمريكا لبعض الوقت. ولن أعرف شيئًا عن هذا الأمر حتى يصلَنا تقرير عنه من كاليفورنيا؛ إنه أمر غير مُؤكَّد! خبِّريني، ما رأيك في سيرل؟»

«من أي جانب تقصد؟»

«أتظنِّين أنه يميل إلى المزاح المزعج، على سبيل المثال؟»

«أي شيء عدا ذلك.»

«أجل. تُخالف ليز جاروبي أيضًا هذه الفرضية. قالت إنه لم يكن ليرى أن المزاح المُزعجَ أمر طريف. في رأيك كم كان حجم إعجابه بليز جاروبي؟ لقد كنتِ هناك على العشاء.»

«معجبًا بها بما يكفي ليجعل والتر مُعتلًّا من شعوره بالغيرة.»

«أحقًّا؟»

«كانا رائعَين معًا، أقصد ليزلي وليز. كانا يُشكِّلان ثنائيًّا طبيعيًّا، بطريقةٍ ما. شيء لن يُصبح عليه والتر وليز مُطلقًا. لا أظنُّ أن والتر يعرف أي شيء عن ليز؛ وتراءى لي أن ليزلي سيرل يعرف عنها الكثير.»

«هل راقكِ حين التقيت به؟ هل اصطحبته في طريق عودتك تلك الليلة، بعد العشاء.»

«أجل. أجل على كلا السؤالين. راقني مع بعض التحفُّظات.»

«أي نوع من التحفظات؟»

«من الصعب وصف ذلك. بالكاد كنتُ أتمكَّن من إبعاد عيني عنه، إلا أنَّني لم أرَ قطُّ أنه … أنه حقيقي. يبدو هذا جنونًا، أليس كذلك.»

«تقصدين أنه كان هناك شيء زائف بشأنه؟»

«ليس بالمعنى المعروف. من الواضح أنه كان مثلَما صرَّح عن نفسه. على أي حال، تشهد الآنسة إيستون-ديكسون على ذلك، كما تعرف على الأرجح.»

«أجل، كنت أتحدث إلى الآنسة إيستون-ديكسون بعد ظهر اليوم بشأنه. وقد يتَّضح أن الصورة التي معها له ذات جدوى. عن أيِّ شيء تحدثتِ أنتِ وسيرل، في تلك الليلة التي اصطحبتِهِ فيها في طريق العودة؟»

«الكثير من الأشياء، عن الصعاليك والملوك. الأشخاص الذين التقط لهم الصور. والأشخاص الذين التقى كلانا بهم. والأشخاص الذين كان يُريد أن يلتقيَ بهم. وقد أمضينا وقتًا طويلًا في إبداء إعجاب مشترك بداني مينسكي، ووقت طويل آخر في خلاف محتدٍّ بشأن مارجريت ميريام. كان يظن أن مارجريت عبقرية فذة، مثله في ذلك مثل الجميع، ولم يكن ليقبل بسماع كلمة سيئة في حقها. وقد انزعجت منه كثيرًا حتى إنني أخبرته ببضع حقائق مزعجة عنها. وقد شعرت بالخزي من نفسي بعدها. من الوضاعة أن يكسر المرء لعبة طفل.»

«أعتقد أنكِ أسديته معروفًا. لقد كان أكبر من أن يبقى بمعزل عن حقائق هذه الحياة.»

«سمعت أنكَ كنتَ تجمع حجج الغياب اليوم.»

«كيف عرفتِ ذلك؟»

«بنفس الطريقة التي أعرف بها كل شيء. من السيدة ثروب. من هم سيئو الحظ الذين لا يملكون حجج غياب؟»

«القرية بأكملِها فعليًّا، بمن فيهم الآنسة إيستون-ديكسون.»

«إن صديقتنا ديكسي «مُستبعَدة». من أيضًا؟»

«الآنسة لافينيا فتيش.»

فقالت مارتا: «العزيزة لافينيا!» ضاحكة بغير تحفظ من فِكرة قُدرة الآنسة فيتش على ارتكاب جريمة القتل.

«ليز جاروبي؟»

«لا بدَّ أن ليز المسكينة تواجه وقتًا عصيبًا بسبب هذه المسألة. أعتقد أنها كانت شبه واقعة في حب الشاب.»

«السيدة جاروبي؟»

توقَّفت مارتا لتتأمل هذه الفكرة. «أتعرف، ما كنتُ لأستبعد قيامها بذلك. كانت لتفعلها دون أن تهتزَّ لها شعرة لأنها ستقنع نفسها أن هذا عين الصواب. بل إنها كانت ستذهب إلى الكنيسة لتطلب من الرب أن يُبارك فعلتها.»

«توبي توليس؟»

«كلا، بالكاد أظنُّ ذلك. كان توبي ليجد طريقة أخرى ليثأر لنفسه. شيء أقل خطورة بالنسبة إليه ومرض بالقدر ذاته. إن رأسه خصب في ابتكار طرق الثأر الصغيرة. ما كنت لأظن أنه في حاجة لقتل أحدهم.»

«سيلاس ويكلي؟»

«دعني أفكر. أجل، أعتقد أن سيلاس كان سيرتكب جريمة القتل. خاصة إن صادف أن الكتاب الذي يكتبه في الوقت الراهن لا يسير على خير ما يُرام. فالكتب هي مُتنفَّسٌ لمشاعر الكراهية لديه. وإن ساء أمر ذلك الكتاب، كان سيقتل أحدهم. كان سيقتل شخصًا يبدو له ثريًّا ووسيمًا ومحظوظًا على نحو غير مستحق.»

«أتظنِّين أن ويكلي مجنون؟»

«أوه، أجل. ربما ليس بشكل مؤكَّد، لكنه لا شك أنه غير متزن. بالمناسبة، هل شائعة حدوث مشاجرة بين والتر وسيرل تحمل أيَّ قدرٍ من الصدق؟»

«يُنكر ويتمور أنها كانت مشاجرة. يقول إنها كانت «مجرَّد مشاحنة».»

«إذن هناك «بالفعل» ضغينة بينهما؟»

«لا أعرف إن كان لدينا أدلَّة حتَّى على هذا. فانزعاج مؤقَّت لا يتساوى مع مشاعر الضغينة. يمكن لرجلين أن يختلفا بشكل جوهري تمامًا في حانة ذات مساء من دون أن تُصبح هناك ضغينة واقعية لدى أي منهما.»

«أوه، لكَم تُثير جنوني. بالطبع كانت هناك ضغينة، وبالطبع نعرف سبب ذلك. كانت الضغينة بسبب ليز.»

فقال جرانت ساخرًا من تسرعها في الاستنتاج: «هذا استنتاج خيالي تمامًا. قال ويتمور إن سيرل كان «استفزازيًّا». من وجهة نظرك، أيُمكنكِ أن تُخبريني كيف سيصبح سيرل استفزازيًّا بشأن ليز؟»

«على الأرجح أنه أخبر والتر بمدى قلَّة تقديره لليز، وإنه سيأخُذ ليز منه إن لم يُصلِح والتر من نفسه وسلوكه، وإن ظنَّ والتر أن سيرل لا يقدر على ذلك فإنه مُخطئ وأنه سيجعل ليز تحزم أمتعتها وتُغادر معه بحلول ثلاثاء الأسبوع المقبل، وأن سيرل يُراهن بخمسة جنيهات على ذلك. حينها قال والتر، في غضب وخشونة، إننا في هذه البلاد لا نُراهن على احتمال منح المرأة استحسانها لرجل وإدخاله في حظوتها، أو على الأقل أنَّ الرجال النبلاء لا يفعلون ذلك، وإن المراهنة على ليز بخمسة جنيهات هو ببساطة إهانة لها (إذ إنَّ والتر لا يتمتع بحس الدعابة كما تعلم؛ فهذه هي طريقته في تقديم ذلك البث الإذاعي وجذب إعجاب السيدات العجائز اللاتي يتجنَّبْن الريف كالوباء وما كنَّ ليتعرَّفنَ على طائر النمنمة إن رأينه)؛ وعلى الأرجح أن ليزلي قال إن كان والتر يعتقد أن خمسة جنيهات هي مبلغ زهيد جدًّا فإنه مُستعدٌّ لأن يجعلها عشرة، حيث إن ليز وإن كانت مخطوبة إلى مُفسِد بهجة مثل والتر طيلة ما يقرُب من سنة كاملة فإنها باتت جاهزة الآن لإحداث تغيير وستصبح الجنيهات العشرة كنزًا، وهكذا نهض والتر وخرَج وصفق الباب وراءه.»

«كيف علمت بأمر صفق الباب؟»

«عزيزي، كل من في أورفوردشير يعرفون الآن بأمر صفق الباب. لهذا فإن والتر هو المُشتبَه به رقم واحد. بالمناسبة، أهذه هي كل قائمتِك بمَن ليس لديهم حُجَج غياب؟»

«لا، هناك سيرج راتوف.»

«ماذا كان سيرج يفعل؟»

«يرقُص على العشب قرب النهر في الظلام.»

«يبدو هذا حقيقيًّا، على أيِّ حال.»

«لماذا؟ هل رأيته؟»

«لا. لكنه الأمر الذي يبدو أن سيرج كان سيفعله. إنه لا يزال مُشبعًا بفكرة تحقيق العودة. قبل وقوع المشكلة التي وقعت بينَه وبين ليزلي سيرل، كان يُخطط للعودة كوسيلة لإرضاء توبي؛ أما الآن فإنه يخطط لها من أجل «الاستعراض» أمام توبي.»

«من أين تحصلين على كل هذه المعرفة الاستبطانية؟»

فأجابت: «لم أؤدِّ الأدوار طيلة خمسة وعشرين عامًا بناءً على توجيهات المُخرِجين وحسب.»

نظر جرانت نحوها، كانت مُتألِّقة وفاتنة أمام ضوء النار، وفكَّر جرانت في كل الأدوار المختلفة التي شاهدها وهي تؤديها: كامرأة بغيٍّ وكعجوز مُحبَطة، وكامرأة عاملة طَموحة وكربَّة منزل خانعة. لقد كانت عين الحقيقة أن الممثلين يتمتَّعون بنفاذ بصيرة، وفهم للدوافع الإنسانية، الأمر الذي يفتقر إليه الأشخاص العاديُّون. وليس لهذا أدنى علاقة بالذكاء، كما أن علاقته بالتعليم محدودة. ففيما يتعلق بالمعرفة العامة كانت مارتا محدودة العلم وكأنها طفل في الحادية عشرة يفتقر إلى الذكاء؛ كان انتباهها يتحول تلقائيًّا عن أي شيء مغاير لاهتماماتها الآنيَّة وتصبح نتيجةً لذلك جاهلةً مثل طفلٍ رضيع. وقد رأى جرانت الشيء نفسه في مُمرضات المستشفيات، وأحيانًا كان يراه في الأطباء الممارسين للطب العام المثقلين بالعمل. لكن ضع في يدها نص سيناريو وستجد أنها تستقي الوسائل لتجسيد ما أبدعه الكاتب من مُستودَع سري وفطري للمعرفة بداخلها.

قال جرانت: «بافتراض أن هذه القضية هي بالفعل جريمة قتل. بناء على الملابسات الظاهرية والشكل الحالي الذي تخذه الأمر، إن جاز التعبير، على من كنتِ ستُراهنين على أنه القاتل؟»

راحت مارتا تُفكِّر في هذا قليلًا، وهي تقلب كوب شرابها الفارغ أمام ضوء النار.

ثم قالت في النهاية: «إيما جاروبي بحسبِ ما أظنُّ. هل يمكن أن تكون إيما هي من فعلتها؟ أقصد من حيث الملابسات المادية.»

«أجل. فقد تركت الآنسة إيستون-ديكسون حيث افترقَ طريقاهما مساءً يوم الأربعاء، وبعد ذلك الوقت كانت وحدها تمامًا. لا أحد يعرف الوقت الذي عادت فيه إلى تريمنجز. كان الآخَرُون قد ذهبوا إلى أَسِرَّتهم؛ أو على وجه الدقة، إلى غرفهم. والسيدة جاروبي هي من يُوصد الباب الأمامي للمنزل على أي حال.»

«أجل. هناك متَّسع من الوقت. والمسافة بين منزل تريمنجز ومنحنى النهر ذاك ليست ببعيدة. أتساءل كيف كان حال حذاء إيما صباح يوم الخميس. أم إنها نظَّفتْه بنفسها.»

«صدقيني، إن كان هناك طين غير مألوف على حذائها فقد نظَّفتْه بنفسها. تبدو لي السيدة جاروبي امرأة في غاية الترتيب والنظام. لكن لماذا تتحاملين على إيما جاروبي؟»

«أظن أن المرء يرتكب جريمة قتلٍ لأنه يكون أحاديَّ التفكير. أو أنه أصبح على هذا النحو. وطالَما أن للمرء طائفةً من الاهتمامات فلن تأبَه لأيِّ منها إلى حدِّ ارتكاب جريمة قتل. فحين يصبح كل البيض لدَيك في سلَّة واحدة، أو حين لا يبقى لك إلا بيضة واحدة في السلة، تفقد إحساسك بالاتِّساق والملائمة. هل كلامي واضح، أيها المفتش جرانت؟»

«واضح تمامًا.»

«رائع. والآن خذ مزيدًا من التشارتروز. في الواقع، تبدو لي إيما الأكثر تركيزًا من بين المشتبه بهم المُحتمَلين. لا يمكن لأحد أن يصف سيرج بأنه يتحلَّى بالتركيز، إلا على ما يفعله في الوقت الراهن. إن سيرج يقضي وقتَه في خصومات مُتأجِّجة، ولم يظهر من قبل أيُّ إشارة على أنه قد يقتل أحدًا. فأبعد ما يُمكن أن يصل إليه هو أن يقذف بأي شيء يصادف أنه بالقُرب من يده.»

رد جرانت: «ينقصُه في ذلك أن يحمل سوطًا» ثم أخبرها بلقائه مع سيرج. بعدها سألها: «وماذا عن ويكلي؟»

«من حيث الشكل، ولكَي أستخدم التعبير المجازيَّ الرائع الذي استخدمته، فسيلاس يتأخَّر عن إيما بفارق جنيه أو اثنين في الرهان على هوية مرتكب الجريمة؛ لكن من المؤكَّد أنه مُتأخِّر عنها. لدى سيلاس نجاحاته الخاصَّة، وأُسرته والكتب التي سيكتبُها في المستقبل (حتى ولو كانت مشابهة للكتُب التي كتبها من قبل ولكن بكلمات مختلفة)؛ أقول إنَّ اهتمامات سيلاس ليست «محدَّدة» كما في حالة إيما. وبصرف النظر عن أن به مسًّا من جنون وشيئًا من كُرهٍ غير مبرر، فإن سيلاس لا يملك دافعًا يجعله يتخلَّص من ليزلي. وكذلك الأمر مع توبي. فحياة توبي تتألَّق بفعل التنوُّع. ما كان توبي ليُفكِّر قطُّ في قتل شخصٍ ما. وكما أخبرتك، فإنه يملِك الكثير من الحيل والطُّرُق الأخرى التي تُمكنه من تسوية حساباته. ولكن إيما. لا تملِك شيئًا سوى ليز.»

ثم فكرت فيما قالت لبُرهة، ولم يشأ جرانت أن يقضَّ مضجعَ الصمت.

ثم قالت مارتا في النهاية: «كان ينبغي أن ترى إيما حين أعلن والتر وليز عن خطبتهما. كانت … كانت متلألئة حرفيًّا. كانت كشجرة كريسماس تمشي على قدمَين. كان هذا هو ما أرادت دومًا، وعلى عكس كل الاحتمالات تحقَّق لها ما أرادت. فقد وقع والتر في حبِّ ليز، وهو الذي التقى بالكثير من بنات جيله الذكيات الجميلات، وكانا سيتزوَّجان. وكان والتر سيرثُ منزل تريمنجز ذات يوم، وكذلك ثروة لافينيا؛ لذا فحتى لو تلاشت شعبية والتر، فإنهما سيحصُلان من متاع هذا العالم على ما قد يتمنَّاه أيُّ إنسان أو يرغب به. كان الأمر أشبه بقصَّة خرافية تتحقَّق على أرض الواقع. وكانت إيما تكاد أن تطير من السعادة. وعلى حين غِرَّة ظهر ليزلي سيرل.» وهنا سمحت مارتا، الممثلة البارعة، بعودة الصمت. ولكونها فنانة بارعة أيضًا، فقد تركته دون أن تُذيب جليدَه.

في نار المِدفأة انزلق الحطب وتناثَرَ، فنفَثَ لهيبًا جديدًا، وظلَّ جرانت مُستلقيًا في سكون في كرسيِّه وأخذ يُفكِّر في إيما جاروبي.

وكذلك في الشيئين اللذين لا تعرف مارتا عنهما شيئًا.

كان من الغريب أن يحتلَّ المُشتبَه به لدى مارتا المساحة نفسها في ذهنه التي يحتلها الشيئان اللذان يفتقران إلى المبرِّر: وهما القفاز الذي وجدَه في درج سيرل، والمساحة الخاوية في صندوق التصوير.

إيما. إيما جاروبي. تلك المرأة التي ربَّت أختها الصغرى وحين خرجَت تلك الأخت من كنفها تزوجت برجل أرمل له طفلة صغيرة. لقد شعبت إيما اهتماماتها على نفس النحو الطبيعي الذي توسَّع به توبي توليس في اهتماماته، أليس كذلك؟ كانت مُتألِّقة — «كشجرة كريسماس تمشي على قدمين» — بسبب إعلان الخِطبة؛ وفي الفترة التي تلت الخِطبة (التي صادف أن عرف جرانت أنها بلغت خمسة أشهر وليس اثنَي عشر شهرًا) لا بدَّ أن ابتهاجها المبدئي قد تمدَّد وتضاعف إلى شيء أكبر بكثير؛ إلى شعور بالرضا؛ شعور بالإنجاز، وبالسكينة والاطمئنان. وقد تحملت الخِطبة الصدمات الصغيرة التي لاقتها، أيًّا كانت، طيلة الأشهر الخمسة تلك، ولا بدَّ أن إيما كانت قد اعتادت النظر إلى هذه الخِطبة باعتبارها آمنة وراسخة.

ثم، كما قالت مارتا، ظهر ليزلي سيرل.

ليزلي سيرل بجاذبيتِه وحياته غير المستقرَّة. سيرل بسيمائه التي بدت وكأنها ليست من هذا العالم. ما كان أحد لينظر من فوره بارتياب إلى ذلك الأشقر الجذاب العصري أكثر من إيما جاروبي.

سأل جرانت مارتا: «ما الشيء الذي يمكن أن يوضع داخل مساحة مقاسها عشر بوصات ونصف في ثلاث بوصات ونصف في أربع بوصات؟»

فأجابت مارتا: «فُرشاة شعر.»

تذكر جرانت أن هناك لعبة يلعبها علماء النفس، إذ يذكر الضحية أول شيء يخطر بباله لدى سماعه كلمة ما. وبأخذ كل شيء في الاعتبار، لا بدَّ أن هذا النهج قد حقق نجاحًا جيدًا. لقد عرض جرانت تلك المسألة على بيل مادوكس، وجاءت إجابة بيل «مفتاح براغي» في غير تردُّد، تمامًا كما فعلت مارتا وقالت «فرشاة شعر». وتذكَّر أن ويليامز قد اقترح أن يكون الشيء هو قطعة صابون.

«أي شيء آخر؟»

«مجموعة من قطع الدومينو. علبة أظرُف خطابات؟ كلا، إذ سيكون هناك فارق صغير عند الجانب الصغير من المساحة. رزمة من البطاقات؟ هناك ما يكفي من البطاقات لتُداهم جزيرة منعزلة! أدوات مائدة. ملاعق العائلة. أكان هناك من يُخفي القطع الفضية الخاصة بالعائلة؟»

«لا. إنما هو شيء كنتُ أُفكِّر فيه.»

«إن كانت قطعًا فضية خاصة بمنزل تريمنجز، فدع هذا الأمر عنك، يا عزيزي، فما كانت تلك القطع مجتمعة لتأتي بثلاثين شلنًا إذا ما بيعت في مزاد.» ثم انتقلت عينها في ارتياح لا شعوري تجاه أدوات المائدة على الطاولة خلفها، التي كانت تتميَّز ببساطة العهد الجورجي. ثم أردفت: «أخبرني، يا آلان، لو أخبرتني من هو الشخص الذي تفضل أن يلعب هذا الدور، لن يُعدَّ هذا إفشاءً أو أمرًا مُنافيًا لأخلاق المهنة، أليس كذلك؟»

«أي دور؟»

«دور القاتل.»

«سيعدُّ هذا مُنافيًا لأخلاق المهنة وإفشاءً أيضًا. لكنني لا أعُده إفشاءً طائشًا لو أخبرتكِ أنني لا أظن أن هناك قاتلًا.»

«ماذا! أتظنُّ حقًّا أن ليزلي سيرل لا يزال على قيد الحياة؟ لماذا؟»

كان جرانت يسأل نفسه هذا السؤال. ما الشيء الذي ينطوي عليه هذا المشهد وخلَّف لديه إحساسًا بأنه في عرض مسرحي؟ إحساسًا بأنه يُدفَع إلى المقاعد الأمامية بحيث يفصل موقع فرقة أوركسترا بينه وبين الواقع. لقد قال له نائب مفوض الشرطة ذات مرة في لحظة غير معتادة من الفضفضة إنه يمتلك أثمن الصفات التي تقتضيها وظيفته؛ وهي الموهبة الفطرية. وقال له أيضًا: «لكن لا تكن مطية لها، يا جرانت. اجعل تركيزك منصبًّا على الأدلة». أتشكل هذه القضية مثالًا على سماحه لموهبته بأن تمتطيَه؟ كانت احتمالات أن يكون سيرل قد سقط في النهر هي تسعة وتسعون إلى واحد. كل الأدلة تشير في ذلك الاتجاه. ولولا تداعيات خلافه مع ويتمور، لما تدخل جرانت في هذه القضية على الإطلاق؛ كانت ستصبح قضية بسيطة تتعلق ﺑ «مفقود في عداد الغرقى».

«ولكن». رغم ذلك. يبدو الأمر كحيلة ساحر، أنت الآن ترى الشيء، وفي اللحظة التالية يختفي. تلك العبارة القديمة الخاصة بالسحرة. لقد صارت تلازمه كالوسواس.

وفي شيء من غفلة قالها بصوتٍ عالٍ.

حدَّقت فيه مارتا وقالت: «حيلة ساحر؟ من صاحب الحيلة؟ وما الهدف منها؟»

«لا أعرف. إنما ينتابني إحساس قويٌّ وحسب أن هناك من يتلاعب بي!»

«أتظنُّ أن ليزلي غادر من تلقاء نفسه بطريقة ما؟»

«أو أن أحدًا خطط لأن يبدو الأمر على هذا النحو. أو شيء من هذا القبيل. ينتابني إحساس قوي بأنني أشاهد شيئًا يُقطع بمنشار إلى نصفين.»

فقالت مارتا: «أنت تشق على نفسك في العمل. في ظنك أين اختفى ليزلي؟ إلا إن كان قد عاد إلى القرية واختبأ بمكان ما.»

انتبه جرانت بشدة ونظر إليها في إعجاب. وقال في سرور: «من الغريب للغاية أنني لم أفكر في هذا الأمر. أتظنِّين أن توبي يُخبِّئه ليُصعِّب الأمور على والتر؟»

«كلا، أعلم أن هذا غير منطقي. وكذلك فكرتك عن أنه غادر من تلقاء نفسه. إلى أين كان سيتجه في ساعة مُتأخِّرة من الليل وهو لا يرتدي غير بنطال ومعطف واقٍ من المطر؟»

«سأعرف حين ألتقي بأحد أقاربه غدًا.»

«ألديه أقارب؟ يا للمفاجأة. الأمر أشبه بالعثور على أقرباء للإله ميركوري. من هو؟»

«إنها امرأة. عرفتُ أنها رسَّامة. إنسانة لطيفة تخلَّت عن حضور حفل موسيقي بعد الظهر يوم الأحد في قاعة ألبرت هول كي تظلَّ في المنزل لمُقابلتي. وقد استخدمت هاتفك في تحديد موعد معها.»

«وتتوقَّع منها أن تعرف سبب مغادرة ليزلي في منتصف الليل وهو لا يرتدي شيئًا سوى بنطال ومعطف يقي من المطر؟»

«أتوقع منها أن تستطيع اقتراح مكان من المحتمل أن يكون ليزلي قد توجه إليه.»

فقالت مارتا: «سأَستعير العبارة الخالدة لمُساعِد خشبة المسرح وأقول: أتمنَّى لك دوام التوفيق.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤