الفصل الخامس عشر

كان الجو عند النهر في غاية البرودة. كانت أشجار الصفصاف تهتزُّ، وكان لون الماء رماديًّا مائلًا للزُّرقة، وكان سطحه يتناوب ما بين التجعد بفعل الرياح والتنقر بفعل زخات المطر. وبمرور الساعات بطيئة تحوَّل وجه رودجرز القَلِق بطبيعته إلى كآبة مستقرة، أصبح طرف أنفه الذي يطل من ياقة معطفه الواقي من المطر يتَّخذ لونًا زهريًّا داكنًا. وحتى هذه اللحظة لم يأتِ مُتطفِّلُون ليُشاركوا في عملية التفتيش تلك. فقد أقسم كلُّ من في منزل ميل هاوس أن يُحافظوا على السرية، ولم يجدوا في ذلك أي مشقة؛ إذ انسحبت السيدة ثروب إلى فراشها، وكانت لا تزال «تشعر برغبة في التقيؤ»؛ وكان تومي ضمن فريق التفتيش باعتباره مواليًا للشرطة. كان الامتداد الشاسع للنهر عبر الأراضي الطينية بعيدًا عن أي طريق أو ممرٍّ ويخلُو من المنازل؛ لذا لم يكن هناك مارة ليتوقفوا ويشاهدوا، أو ليتوقفوا هنيهة ثم يكملوا مسيرهم وينشروا الخبر.

كانت مجموعة التفتيش وحدها في عالم منعزل بالأسفل قرب النهر. عالم توقف فيه عامل الزمن، واختفت منه الراحة.

كان جرانت ورودجرز قد استنفدا الإجراءات المهنية لتقييم الموقف منذ وقت طويل، ولم يحرزا أي تقدم. والآن كانا مجرَّد رجلَين بمفردهما في مرج في يوم ربيعي بارد. جلس الرجلان معًا على ما تبقَّى من جذع شجرة صفصاف ساقط، حيث يُراقب جرانت جرافة البحث وهي تُجري عملية التفتيش البطيء، بينما ينظر رودجرز عبر المسطحات الرحيبة لأرضية الوادي.

قال رودجرز: «يفيض ماء النهر على كل هذه الأرض في الشتاء. ويبدو ذلك جميلًا، أيضًا، إن استطعت أن تنسى كل ما تُخلِّفه من دمار.»

قال جرانت: ««مرَّ الجَمال سريعًا فأغرق نجيلًا كادحًا».»

«ماذا قلت؟»

«ما كتبه زميل لي في الجيش عن الفيضان.

«ذات مرة حيثما كان النجيل الرقيق البراق يختلِج ويتحرَّك. مرَّ الجَمال سريعًا فأغرق نجيلًا كادحًا».»

فقال رودجرز: «هذا لطيف.»

رد جرانت: «لكنه عتيق الطراز مع الأسف. قد يبدو «وقعُه» كالشعر. عرفت أن به خلَلًا كارثيًّا.»

«أهو طويل؟»

«شطران فقط والعِبرة منهما.»

«وما العبرة؟»

«أيها الجمال الأخير، الكامن في كثير من الأماكن الغرقى، لن يحملَنا إغراقك لبعض الأشياء الجميلة على كُرهِ وجهك.»

أخذ رودجرز يفكر في ذلك. ثم قال: «هذا حسن، فعلًا. كان زميلك في الجيش يعرف عن ماذا يتحدث. لم أكن يومًا ممَّن يُحبُّون قراءة الشعر في الكتب؛ أقصد الدواوين الشعرية، لكن المجلات في بعض الأحيان تضع شطورًا لتملأ المساحات الفارغة في آخر الصفحات حين ينتهي مقال ولا يصل إلى أسفلها. أتفهمني؟»

«أفهمك.»

«قرأت الكثير من تلك الشطور، وبين الفينة والأخرى تعلق إحداها بذهني وتُذكِّرني بشيء. وأتذكر إحداها حتى يومنا هذا. لم تكن شعرًا على النحو الصحيح، أقصد أنها لم تكن مُقفَّاة، لكنها نقلتْني إلى حيث كنت أعيش. وهي تقول:

«قَدَري أن أعيش بعيدًا عن السواحل، بعيدًا عن أصداء الشطآن وصيحات النوارس، وأنا المجبول على صوت البحر منذ نعومة أظفاري، أتحرَّق لسماع النهر يتدفق عبر الحقول الخضراء وزقزقة العصافير بين الأغصان.»

لقد تربَّيت بالقُرب من البحر، عند ميناء مير، ولم أعتد قطُّ الابتعاد عنه. فحينها تشعر أنك مُقيَّد ومُختنق. لكنني لم أجد الكلمات التي تصف ذلك الشعور قطُّ حتى قرأت تلك الكلمات. أعرف تمام المعرفة كيف كان شعور ذلك الشخص. «زقزقة العصافير!».

سُر جرانت من نبرة الحنق والازدراء في صوت رودجرز، لكن شيئًا آخر سرَّه أكثر بكثير فراح يضحك.

سأله رودجرز بنبرة دفاعية نوعًا ما: «ما المضحك في ذلك؟»

«كنت أفكر للتوِّ كم ستُصبح صدمة كُتاب الأدب البوليسي الرائع إن شهدوا مفتِّشَي شرطة يجلسان على شجرة صفصاف ويتبادلان القصائد.»

رد رودجرز: «أوه، آه من أولئك!» بالنبرة التي عادة ما يتبعها الأشخاص من المستويات الدنيا ببصاق. ثم سأله: «هل قرأت من قبل أيًّا من تلك الأشياء؟»

«أوه، أجل. بين الحين والآخر.»

«هذه هواية لدى الرقيب الذي يعمل معي. إنه يجمع الأخطاء. وأكبر رقم من الأخطاء سجله حتى الآن في كتاب واحد هو اثنان وتسعون. في كتاب بعنوان «آلهة الإنقاذ» كتبته إحدى المؤلفات.» ثم توقَّف ليشاهد شيئًا، بعدها أضاف: «هناك امرأة قادمة الآن. إنها تدفع دراجة.»

ألقى جرانت نظرة ثم قال: «هذه ليست امرأة. إنها من آلهة الإنقاذ.»

كانت المرأة هي مارتا التي لا تُقهر، ومعها قنينات حافظة للحرارة بها قهوة ساخنة وشطائر للجميع.

قالت في تفسيرها لأمر الدراجة: «كانت الدراجة هي الشيء الوحيد الذي وجدتُه لأجل حمل هذه الأشياء، لكن كان الأمر صعبًا لأن معظم البوابات لا تُفتح.»

«كيف عبرتِ خلالها إذن؟»

«كنت أفرغ حمولة الدراجة وأرفعها فوق البوابة وأحمل الأشياء فيها ثانية عند الجهة الأخرى.»

«تلك هي الروح التي أنشأت الإمبراطورية.»

«قد يكون هذا صحيحًا، لكن لا بدَّ أن يعود تومي برفقتي ويُساعدني.»

فقال تومي وفمه مليئًا بشطيرة: «سأفعل بكل تأكيد يا آنسة هالارد.»

خرج الرجال من النهر وقُدموا إلى مارتا. وسُر جرانت حين لاحظ رُوح الود لدى أولئك الذين كان من الواضح أنهم لم يسمعوا عنها من قبل، ومن حسن الأدب الرائع لدى أولئك الذين يعرفونها.

قالت مارتا: «أعتقد أن الأخبار قد تسرَّبت. لقد اتصل بي توبي وسألني إن كان صحيحًا أن النَّهر يجري تفتيشه ثانية.»

«لم تُخبريه السبب؟»

فأجابت: «كلا. كلا» وقد تحوَّل وجهها وبدا كئيبًا بعض الشيء لدى تذكُّرها الحذاء.

بحلول الثانية من بعد ظهر اليوم كان قد أصبح لديهم مجموعة كبيرة من الحضور. وبحلول الثالثة أصبح المكان أشبه بسوق، وبذلَ الشرطيُّ المحلي جهودًا باسلة ليحفظ شيئًا من اللياقة والنظام.

وعند الثالثة والنصف، كانوا قد فتشوا من النهر امتدادًا إلى سالكوت نفسها ولم يجدوا شيئًا. فعاد جرانت إلى منزل ميل هاوس ووجد والتر ويتمور بانتظاره.

قال والتر: «كان لطفًا منك أيها المفتش أن تبعث لنا برسالة. كان ينبغي عليَّ الحضور إلى النهر، لكنني لم أتمكن من ذلك.»

«لم يكن لنا أدنى حاجة إلى حضورك إلى هناك.»

«قالت مارتا إنك ستعود إلى هنا بحلول وقت تناوُل الشاي؛ لذا انتظرتك هنا. هل من … نتيجة؟»

«ليس بعد.»

«لماذا أردتَ أن تعرف بأمر الحذاء، هذا الصباح؟»

«لأنه كان مربوطًا حين وُجِد. وأردتُ أن أعرف إن كان سيرل يخلع هذا الحذاء في العادة من دون أن يفكه. من الواضح أنه دائمًا ما كان يفكُّه.»

«إذن لماذا … كيف يُمكن للحذاء أن يكون مربوطًا الآن؟»

«إما إن التيار قد سحبه من قدمه، أو أنه قد خلعه بنفسِه من قدمه ليسبح بشكلٍ أسهل.»

قال والتر، بنبرة حزينة: «فهمت.»

ورفض أن يتناول الشاي، وانصرف في سبيله وقد بدا مشوشًا أكثر من ذي قبل.

قالت مارتا: «أتمنى لو كنت آسفة عليه كما يجدُر بي أن أكون. أتريد الشاي هنديًّا أم صينيًّا؟»

كان جرانت قد تناول ثلاثة أكواب من الشاي الحارق السخونة («هذا مُضرٌّ كثيرًا بمعدتك» كما قالت مارتا) وقد بدأ يستعيد شعوره بآدميته ثانية، وذلك حين اتصل ويليامز ليبلغه بما توصل إليه.

كان التقرير غير ذي جدوى؛ على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها ويليامز. لم يكن سيرل يروق ابنة عمه ولم تتردَّد هي في التصريح بذلك. هي، أيضًا، كانت أمريكية، لكنهما قد وُلِدا على جانبين معاكسين في الولايات المتحدة ولم يلتقيا قطُّ حتى صارا بالغَين. ومن الواضح أنهما كانا يتشاجران كلما رأى أحدهما الآخر. وفي بعض الأحيان كان يتَّصل بها حين يأتي إلى إنجلترا، لكنه لم يُهاتفها هذه المرة. لذا لم تكن تعرف أنه موجود في إنجلترا.

وسألها ويليامز إن كانت تخرج من منزلها كثيرًا، وما إن كانت تظنُّ أن سيرل قد أتى لزيارتها أو هاتفها ولم يجدها. وردَّت هي بأنها كانت في هايلاندز ترسم وأن سيرل ربما جاء لزيارتها مرارًا من دون أن تعرف. فحين تكون في الخارج يُصبح الاستوديو فارغًا ولا يُوجد من يتلقَّى الرسائل الهاتفية.

سأله جرانت: «هل رأيت الرسومات؟ تلك التي رسمتْها لاسكتلندا.»

«أجل. كان المكان يعج بها.»

«وكيف كانت تبدو؟»

«تُشبه اسكتلندا كثيرًا.»

«تقليدية إذن.»

«ما كنتُ لأعرف. كان أغلبها عن غربي ساذرلاند وجزيرة سكاي.»

«وماذا عن أصدقائه في هذا البلد؟»

«قالت إنها متفاجئة من سماع أن لديه أصدقاء في أيِّ مكان.»

«ولم تشِر إلى أن سيرل كان مخادعًا عديم الضمير؟»

«كلا يا سيدي. لم تأتِ على ذكر شيء من هذا القبيل.»

«ولم تستطع اقتراح أي سبب قد يفسر اختفاء سيرل المفاجئ، أو إلى أين يمكن أن يكون قد ذهب؟»

«كلا، لم يكن بإمكانها ذلك. فليس لديه من يذهب إليه، كما أخبرتْني. فوالداه قد ماتا على ما يبدو؛ وكان هو ابنهما الوحيد. لكن بدا إنها لا تعرف شيئًا عن أصدقائه. على أي حال، كان صحيحًا ما قاله عن أن لديه فقط ابنة عم في إنجلترا.»

«حسنًا، شكرًا جزيلًا لك يا ويليامز. لقد نسيت تمامًا أن أسألك هذا الصباح إن كنت قد وجدت بيني؟»

«بيني؟ أوه، أجل. بسهولة كبيرة.»

«وهل أخذ يصيح؟»

هنا سمع جرانت ويليامز يضحك.

«كلا. لقد أتى بخُدعة جديدة هذه المرة. تظاهر بأنه فقد الوعي.»

«وعلامَ تحصَّل من ذلك؟»

«على ثلاثة مشروبات براندي مجانية وتعاطُف الكثيرين. لستُ في حاجة إلى أن أخبرك أننا كنا في حانة. بعد أن تناول مشروب البراندي الثاني بدأ يستعيد وعيه وينوح من طريقة اضطهاده؛ لذا قدموا له شرابًا ثالثًا. حينها لم أكن محبوبًا كثيرًا لدى الحاضرين.»

رأى جرانت أن في هذا مثالًا رائعًا على تهوين الأمر.

قال ويليامز: «من حسن الحظ أن الحانة كانت من حانات منطقة ويست إند.» وترجمة هذا تعني أنه لم يكن هناك تدخُّل فعلي من الحاضرين أثناء أدائه لعمله.

«هل وافق على الذهاب معك من أجل التحقيق معه؟»

«قال إنه سيذهب معي لو سمحت له أن يُجري مُكالَمة هاتفية أولًا. وقد قلت له إنه يعرف تمامًا أن له مطلق الحرية في أن يهاتف أي أحد وفي أيِّ ساعة من النهار أو الليل — إذ كان هذا من تدابير مكتب البريد — لكن لو كانت مكالمته تلك لأغراض بريئة فأعتقد أنه لم يكن ليُمانع أن ألازمه فأقف إلى جوار كشك الهاتف.»

«وهل وافق على ذلك؟»

«لقد أقحمني عمليًّا في كشك الهاتف. في ظنك، بمن اتصل ذلك الوغد الصغير؟»

«عضو البرلمان الذي ينوب عن دائرته.»

«كلا. أظن أن أولئك يخجلون منه بعض الشيء الآن. فقد أثقل عليهم آخر مرة. كلا، لقد اتصل برجل ما يعرف أنه يكتب في جريدة ووتشمان وأخبره بالقصة. قال إنه لم يكد «يخرج» من السجن حتى كان أحد رجال الشرطة في إثره يُريد منه أن يذهب إلى سكوتلانديارد من أجل التحقيق معه، وكيف لرجل أن يسير في الطريق المستقيم إن كان يحظى بجلسة شراب بريئة مع أصدقائه الذين لم يكونوا يعرفون أي شيء عنه، فيأتيه رجل من الواضح أنه من البوليس السري يرتدي ثيابًا مدنية يريد أن يتحدث معه، وراح يكمل القصة. ثم أتى معي وهو مسرور كثيرًا بفعلته.»

«هل أفاد الإدارة بأيِّ معلومات؟»

«كلا، لكن فَتاته كانت مُفيدة للغاية.»

«هل أخذت تثرثر؟»

«كلا، بل كانت ترتدي أقراط بوبي. بوبي بلامتر.»

«حقًّا!»

«لو لم يصادف أننا أخذنا بيني من وسط دائرة أصدقائه لبعض الوقت، فأعتقد أن فتاته كانت ستأخذه منها إلى الأبد. إنها مجنونة للغاية. لم يمضِ على علاقتهما كثير، ويبدو أنها كانت تُفكِّر في هجره؛ لذا «ابتاع» لها بيني زوج أقراط من الألماس. إن كم الذكاء الذي يتمتع به بيني ما كان ليزعج دعسوقة حتى.»

«هل حصلت على بقية أشياء بوبي؟»

«أجل. فقد اعترف بيني بكل شيء. لم يكن أمامه متَّسع من الوقت ليبيعها.»

«أحسنت صنعًا. ماذا عن الرجل من جريدة ووتشمان؟»

«في الواقع، أردتُ أن أترك ذلك الرجل يعاني مغبة أفعاله. لكن المفوَّض لم يسمح لي بذلك. قال إنه لا فائدة من وجود مشاكل بإمكاننا تجنُّبها حتى ولو كنَّا سنستمتع برؤية جريدة ووتشمان تجعل من نفسها أضحوكة. لذا تحتَّمَ عليَّ أن أتصل به وأُطلعه على ما حدث.»

«لا بدَّ أنكَ تشفَّيتَ بشيء من ذلك على الأقل.»

«أوه، أجل. أجل. لا أنكر أنني استمتعت بذلك بعض الشيء. فقد قلت له: «سيد ريتر، أنا الرقيب المحقِّق ويليامز. كنت حاضرًا حين هاتفك بيني قبل بضع ساعات.» فقال سائلًا: «كنت حاضرًا؟ لكنه كان يشتكيك»!» فأجبتُه: «أوه، أجل. نحن في بلد حرٍّ كما تعلم.» فقال: «لا أظنُّ أن البعض يتمتَّع بمقدار الحرية نفسه. كنت تقتاده كي يُحقَّق معه في دائرة الشرطة الرئيسية.» فقلت له إنني دعوته لرفقتي وإنه لم يكن مُضطرًّا إلى المجيء لو لم يُرِد ذلك.

ثم أخذ يسهب بالحجة القديمة نفسها عن مطاردة المجرمين وتعقُّبهم، وأن بيني سكول قد أدَّى دَينه تجاه المجتمع، وأننا لا نملك أي حق في مُطاردته الآن بعد أن نال حريته ثانية، وما إلى ذلك. وقد قال السيد ريتر: «لقد ألحقت به العار أمام أصدقائه، وزججت به إلى ظلمات اليأس. فكم استفادت سكوتلانديارد من الاستمرار في إزعاج بيني سكول المسكين خلال ظهيرة اليوم؟»

فأجبته: «ما يُساوي ألفَي جنيه».

فقال متعجبًا: «ماذا؟ ما الذي تتحدَّث عنه؟»

تلك هي قيمة المجوهرات التي سرَقَها من شقة بوبي بلامتر مساء يوم الجمعة.

فسألني: «كيف عرفت أن ذلك من فعل بيني؟»

فأجبته أن بيني قد سلم المسروقات بنفسِه، عدا قرطين ماسيَّين فرديين كبيرين كانا يُزيِّنان أذنَي عشيقته الحالية. ثم قلت له: «طاب مساؤك، يا سيدي»، بنبرة عذبة وخافتة، تمامًا كما يفعلون في برنامج «ساعة الأطفال»، ثم أغلقتُ الخط. أعتقد أنه كان قد كتب ذلك الخطاب بالفعل عن بيني سكول البريء المسكين. لقد كان مبهوتًا. لا بدَّ أن الكتَّاب يشعُرون بالسطحية الشديدة حين يجدون أنهم كتبوا شيئًا ليس فيه نفع لأحد.»

فقال جرانت: «انتظر حتى يتم السطو على شقة السيد ريتر. حينها سيأتينا صارخًا يطلب إهراق دم المجرم.»

«أجل، يا سيدي. إنه لأمر طريف، أليس كذلك؟ دائمًا ما يكون أولئك هم الأسوأ حين يحدث لهم مثل ذلك. هل جاءك أي خبر من سان فرانسيسكو؟»

«ليس بعد، لكن قد يحدث ذلك في أي لحظة. لا يبدو ذلك مهمًّا للدرجة الآن.»

«أجل. حين أفكر في المفكرة التي ملأتها عن آخرها أثناء تحقيقي مع محصِّلي الحافلات في ويكهام! أجد أنها ليست ذات نفع إلا لسلة المهملات.»

«لا تلقِ أبدًا بملاحظاتك في سلَّة المُهمَلات، يا ويليامز.»

«أأحتفظ بها سبع سنوات وأجد لها نفعًا بعدها؟»

«احتفظ بها من أجل سيرتك الذاتية، إذا ما أردتَ، لكن احتفظ بها. كنتُ أود أن تعود إلى هنا، لكن العمل لا يقتضي ذلك في الوقت الراهن. إنما يقتضي العمل الآن الانتظار في الخارج في هذا الطقس البارد.»

«أتمنى أن تتوصَّلُوا إلى شيء قبل غروب الشمس، يا سيدي.»

«آمل هذا. حرفيًّا.»

أغلق جرانت الخط وعاد إلى ضفة النهر. كان حشد الناس قد نقص بعض الشيء إذ بدأوا يعودون إلى منازلهم لتناول وجبة عشاء مبكِّرة كما اعتادوا في أيام الآحاد، لكن المعاندين منهم الذين قد يتضوَّرُون جوعًا في سعادة من أجل أن يشهدوا جثة رجل وهي تُستخرج من النهر كانوا لا يزالون واقفين. نظر جرانت إلى وجوههم المزرقة التي تبدو عليها علامات الحماقة وراح يُفكِّر للمرة الألف منذ أن أصبح رجلَ شرطة في الدافع الأساسي لدى هؤلاء. كان هناك أمر واحد أكيد بشأنهم؛ لو أننا أعدْنا عقوبة الإعدام على الملأ غدًا، فإن «أعداد المتفرِّجين» ستصبح كبيرة وكأنها مباراة كأس حاسمة.

كان رودجرز قد عاد إلى ويكهام، لكن يبدو أن الصحافة قد وصلَت؛ إذ أراد كل من الصحفي المحلي ومراسل جريدة كروم، وهي من الصحف اليومية اللندنية، أن يعرفا السبب وراء إعادة تفتيش النهر. وكان هناك أيضًا «أكبر السكان». وهو رجل اقترب أنفه من ذقنه حتى إن جرانت كان يتساءل في ذهنه كيف يمكن لرجل كهذا أن يحلق لحيته. كان الرجل عجوزًا غير ذي حيثية لكنه يُمثِّل في هذا الجمع شيئًا أقوى بكثير من أيٍّ منهم: إنه ريس ميموري؛ ومن ثمَّ كان يجب أن يحظى بالاحترام.

قال الرجل لجرانت: «لا نفعَ من تفتيشكم للنهر فيما بعد القرية» وكأنه يُعطي لبستانيٍّ بعض التعليمات.

«أحقًّا؟»

«نعم. لا نفع من ذلك. فهي تدفع بكل شيء لأسفل، هناك. في الوحل.»

لا شك أن «هي» كانت تعود على مياه النهر.

«لماذا؟»

«لأنها تسير بطيئة هناك. كما لو كانت منهَكَة. وكأنها تُلقي بكل شيء عنها. ثم حين تصبح على مقربة من منحنى النهر، عند منتصف الطريق نحو ويكهام هناك، تبدأ في السير سريعًا مرة أخرى، خفيفة وسعيدة. آه. هذا هو ما تفعله. تلقي عنها بكل شيء تحمله في الوحل، ثم تسير هادئة لمسافة قصيرة، تنظر حولها وكأنها ترى إن كان الناس يلاحظون ما تفعل، ثم فجأة! تنطلق نحو ويكهام بسرعة كبيرة.» ثم رمق الرجل جرانت بعينين زرقاوين صفاؤهما مذهل. وأردف: «داهية. هذا هو ما تجده منها. الدهاء!»

قال رودجرز حين تحدث معه في البداية إنه ليس من المجدي أن يجرفوا النهر فيما بعد سالكوت سانت ماري، وقد قبِل برأي الرجل المحلي من دون أن يطلب تفسيرًا. والآن ها هو ريس ميموري يقدم له التفسير.

قال ريس ميموري وهو يمسح أنفه بإيماءة تحمل شيئًا من الازدراء الخفي: «ليس في تفتيشكم نفع كبير على أي حال.»

«لماذا؟ ألا تعتقد أن الجثة موجودة هناك؟»

«أوه، آه! بل هي موجودة بالفعل. لكن ذلك الوحل، إنه لا يفرط في شيء إلا في حينه.»

«هل تعرف متى يمكن أن يحدث ذلك، في رأيك؟»

«أوه! في أيِّ وقت بين غد وألف سنة. فهذا الوحل لزج للغاية. كأنه وحل من رمال متحركة. حين كان جدي الأكبر لا يزال طفلًا صغيرًا كانت معه سمكة من نوع بارموندا وقد جرت منه على الضفة حتى الماء. وكان الماء في تلك البقعة ضحلًا إلى حدٍّ بعيد. كان يرى السمكة لكنه كان خائفًا من أن يخوض في الوحل ليأتي بها. لذا هرع عائدًا إلى الكوخ. الذي لا يبعد أكثر من بضع ياردات. وأحضر والده ليجلب له السمكة. لكن الوحل كان قد ابتلعها. الوحل يبتلع الشيء بمجرد أن تدير له ظهرك. ولم يبقَ شيء من السمكة ظاهرًا. ولا حتى حين أحضرا مجرفة وراحا يجرفان بحثًا عنها. لقد ابتلعها الوحل. إنه وحل متوحِّش كما أقول، هذا الوحل مُتوحِّش.»

«لكنك تقول إنه يلفظ ضحاياه في بعض الأحيان.»

«أوه. صحيح. يحدث هذا.»

«متى؟ في الفيضان؟»

«كلا! في الفيضان تجري المياه على مساحة أوسع. وتُصبح حاضنة فتُلقي بالمزيد والمزيد من الوحل. كلا. لكنها في بعض الأحيان تجبر على التراجع. حينها تترك الأشياء على نحو يثير الدهشة.»

«تُجبَر على التراجع؟»

«أجل. تمامًا كما حدث قبل أسبوع. حينما ضربت عاصفة أعالي الريف فوق أوتلي وأمطرت هناك بغزارة، فانهمر الماء على النهر وكأنه رجل يتخلَّص من ماء الاستحمام. فلم يكن أمام مياه النهر حينها وقت لكي تنتشِر بشكلٍ مُلائم. واندفع الماء عبر القناة وكأنه فرشاة تنظيف ترج النهر بعنف. حينها يحرر النهر شيئًا مما في الوحل.»

شعر جرانت أنها وجهة نظر غير صائبة أن ينتظر حتى قدوم العاصفة القادمة ليستخرج جثة سيرل. وقد أحبطه اقتراب الغروب؛ ففي غضون ساعتَين سيتعين عليهم أن يُوقفُوا التفتيش. علاوة على ذلك، فبحلول ذلك الوقت سيكونون قد وصلوا إلى سالكوت وإن لم يجدوا عندها شيئًا، فكم يتبقَّى من أمل؟ لطالما شعر جرانت طوال اليوم بشعور مريع بأنهم لم ينبشُوا إلا سطح ذلك «الوحل السحيق». وإن ثبَت أن عملية التفتيش الثانية هذه غير ذات جدوى، فماذا بعد؟ لن يكون هناك تحقيق. ولا قضية. لن يكون هناك شيء.

وعندما غلف الغروب، الذي تكتنفه سحب ممطرة، المشهد بضوء باهت كانوا على بعد خمسين ياردة من نهاية مسارهم. وفي تلك اللحظة عاود رودجرز الظهور وأخرج من جيب معطفه مظروفًا.

«لقد وصلك هذا حين كنت في قسم الشرطة. إنه التقرير المنتظَر من الولايات المتحدة.»

لم يكن هناك حاجة طارئة إليه الآن، إلا أن جرانت فتحه وقرأ ما فيه.

لم يكن لدى شرطة سان فرانسيسكو أي سجل إجرامي خاص بليزلي سيرل، ولم يعرفوا له سجلًّا. كان سيرل قد اعتاد القدوم إلى الساحل في أشهر الشتاء. أما عن بقية العام فكان يسافر خارج البلاد ليمارس عمله بالتصوير. كانت حياته رغدة لكنها كانت في غاية الهدوء، ولم يكن هناك أي إشارة على وجود حفلات باهظة أو سلوكيات أخرى تنمُّ عن البذخ. لم يكن لديه زوجة ولا تاريخ من ارتباطات عاطفية. ولم يكن لدى شرطة سان فرانسيسكو سجلٌّ يحوي أصوله، لكنهم تقدموا بطلب إلى قسم الدعاية في جراند كونتيننتال وهو الاستوديو الذي التقطَ فيه سيرل الصور لكل من لوتا مارلو وداني مينسكي، وهما النجمان المهيمنان في تلك الآونة. وطبقًا لما أفاد به جراند كونتيننتال، فقد وُلِد سيرل في جوبلينج بولاية كونتيكت، وهو الابن الوحيد لكلٍّ من دورفي سيرل وكريستينا ماتسون. وقد طُلبت معلومات من الشرطة في ولاية كونتيكت عن عائلة سيرل، فقالوا إنهم غادروا البلدة منذ أكثر من عشرين عامًا وسافروا جنوبًا إلى مكان غير معلوم. أما سيرل فكان كيميائيًّا شغوفًا بالتصوير الفوتوغرافي، لكن كان هذا هو كل ما يتذكَّره الجميع عنه.

في واقع الأمر، كان التقرير روتينيًّا وغير واضح للغاية. مجموعة غير مُلهمة من الحقائق غير المُفيدة. ولم يحتوِ على إشارة إلى الشيء الذي كان جرانت يُريد معرفته بشدة؛ وهم الأشخاص المقربون للغاية من سيرل في الولايات المتحدة. ولم يسلط الضوء على سيرل نفسه. غير أن شيئًا في التقرير دق ناقوسًا في رأسه.

قرأ جرانت التقرير مرة أخرى، منتظرًا تلك النقرة التحذيرية في رأسه أن تنطلِق والتي تبدو كالصوت الذي تُصدره الساعة حين تكون على وشك أن تدق. لكن بعد قراءته هذه المرة لم يكن هناك أيُّ رد فعل.

راح جرانت يقرؤه ثالثًا في بطءٍ وتحيُّر. ما الذي أصدر الصوت التحذيري ذلك في رأسه؟ لم يجد شيئًا. كان لا يزال مُتحيرًا، فطوى الورقة ووضعها في جيبه.

قال رودجرز: «لقد انتهينا، أظن أنك تعرف ذلك؟» وأردف: «لن نجد شيئًا الآن. لم يحدث مطلقًا أن استُعيد شيء من النهر في سالكوت. في هذا الجزء من الريف هناك مثلٌ شعبي. حين يريدون أن يقولوا: تخلَّ عن شيء، أو: أخرجه من رأسك إلى الأبد، يقولون: «ألقِ به من على الجسر في سالكوت».»

فقال جرانت في انفعال شديد: «كان على القوم هنا أن يزيدوا من اتِّساع وعمق القناة بدلًا من أن يدعوا النهر يُغرقهم بالطمي. لو فعلوا ذلك لما فاض النهر على منازلهم في كل شتاء.»

تبدَّل وجه رودجرز الذي كانت تعلوه أمارات الأسى إلى البهجة واللطف. وقال: «لو شممت من قبل دلوًا من وحل راشمير، لكنت فكرت طويلًا قبل أن تتخذ التدابير لرفعه بحمولات عربات ونقله عبر الشوارع. هل أوقفهم عن العمل الآن؟»

رد جرانت في عناد شديد: «كلا. دعهم يُكملوا التفتيش طالَما بقيَ ضوء من النهار. فمَن يدري، قد نصنع التاريخ ونصبح أول من يستعيد من النهر شيئًا في سالكوت. أنا لا أُصدِّق تلك الخرافات الريفية على أي حال.»

واستمروا فعلًا في التفتيش حتى غاب ضوء النهار، لكن النهر لم يلفظ شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤