الفصل السادس عشر

سأل رودجرز جرانت: «هلا قمتُ بتوصيلك إلى ويكهام؟» لكن جرانت أجاب بالرفض، فلديه سيارته الخاصة عند منزل ميل هاوس وسيذهب إلى هناك سيرًا ليحضرها.

وعند وصوله إلى ميل هاوس خرجت مارتا في الشفق العاصف لتلقاه، ثم وضعت ذراعها في ذراعه.

وقالت: «ألم تتوصَّل إلى شيء؟»

«كلا.»

«أدخل لتحصُل على شيء من الدِّفء.»

وسارت إلى جواره في صمتٍ فدخَلا المنزل وصبَّت له كوب ويسكي بحجمٍ كبير. درأت الجدران الغليظة صوت الرياح، فأصبحت الحجرة هادئة دافئة كما كانت ليلة أمس. ومن المطبخ أتت رائحة طفيفة لبهارات الكاري من المطبخ.

«أتشمُّ ما أطهو لأجلك؟»

«الكاري. لكن لا يُمكن أن نتوقَّع منكِ أن تُطعمي القسم.»

«الكاري هو ما أنت في حاجة إليه بعد عناء يوم طويل مع تقلُّبات ربيعنا الإنجليزي. بالطبع يمكنك أن تعود إلى فندق وايت هارت وتتناول عشاء الأحد المُعتاد من اللحم البقري المعلب البارد، وشريحتَي الطماطم ومُكعَّبات جذر الشمندر الثلاث، والخس الذابل الأوراق.»

ارتجف جرانت في غير مغالاة. كان مجرَّد التفكير في فندق وايت هارت مساء يوم أحد يمثل له الموت بعينه.

«هذا إلى جانب أنني لن أكون هنا يوم غد لأُقدِّم لك العشاء. سأعود إلى المدينة. لا يمكنني أن أطيق منزل ميل هاوس لأكثر من هذا في الوقت الراهن. وسأَمكُث هناك حتى تبدأ تدريبات الأداء على مسرحية «قلب كليل».»

فقال جرانت: «إن وجودك هنا قد أنقذ حياتي فعلًا.» ثم أخرج التقرير الأمريكي من جيبه وقال: «أرجو أن تقرئي هذا، وأخبريني إن دق ناقوس ما في ذهنك.»

فقالت بعد أن قرأت: «كلا. لم يدقَّ شيء. هل ينبغي أن يفعل؟»

«لا أدري. بدا لي حين قرأتُه للمرة الأولى أنه دق ناقوسًا في ذهني.» ثم أمعن النظر فيه ثانية متحيرًا للحظة ثم أعاده إلى جيبه.

قالت مارتا: «حين نُصبح كلانا في المدينة، أريد أن تقدمني إلى الرقيب ويليامز. ربما يمكنك أن تحضره على العشاء ذات ليلة؟»

قال جرانت مسرورًا مُتهللًا: «بالطبع. لكن لماذا هذا الشغف المفاجئ بويليامز المجهول؟»

«في الواقع، إن لديَّ سببَين مختلفَين. الأول أن أيَّ شخص يتمتَّع بالذكاء الفطري ليرى أن والتر ويتمور شخص «فاقد الجرأة» هو شخص جدير باللقاء. والسبب الثاني أن المرة الوحيدة التي رأيتُك تبدو فيها سعيدًا كانت بعد أن تحدثت إلى الرقيب ويليامز عبر الهاتف.»

فقال جرانت: «أوه، تلك المرة!» ثم أخبرها عن بيني سكول وعن الصحفي بجريدة ووتشمان وعن فضيلة العتاب والتوبيخ التي يتسم بها ويليامز. وهكذا اكتنفتْهما رُوح المرح في نهاية المطاف أثناء تناوُلِهما عشاء الأحد، وكانت مارتا في أثناء ذلك تروي قصصًا تشهيرية عن الناقد المسرحي لجريدة ووتشمان. ولم يكن إلا حين هم جرانت بالرحيل أن سألته مارتا عمَّا سيفعل تاليًا بعد أن أخفق البحث عن سيرل.

رد جرانت: «سأُسوِّي بعض الأمور هنا في سالكوت صباح يوم غد، وبعدها أعود إلى لندن لأُقدِّم تقريري إلى رئيسي.»

«وماذا يحدُث بعدها؟»

«سنعقد اجتماعًا لتحديد الإجراء الذي سيُتخذ إن كان هناك أي إجراءات.»

«فهمت. حسنًا، حين تنتهي من تسوية أمورك اتصل بي وأخبرني فضلًا. وحينها يمكننا ترتيب موعد حين يسمح وقت الرقيب ويليامز.»

فكَّر جرانت في نفسه حين انصرف وركب سيارته، كم هي مدهشة؛ كم هي مُدهِشة حقًّا. لا أسئلة، لا تلميحات، لا تحقيقات أُنثوية تافهة. كانت على نحوٍ استثنائي تتصرف كالرجال في تقبُّلها للمواقف. لربما كان افتقارها إلى التبعية هذا هو ما وجده الرجال مُفزعًا.

عاد جرانت إلى وايت هارت، واتصل بقسم الشرطة ليعرف إن كانت هناك رسائل له، وأخذ قائمة الطعام من خزانة غرفة الطعام ليتحقَّق من تكهنات مارتا حول العشاء (ينبغي أن يُخبرها أنها نسيت أمر الراوند المطهو وحَلوى الكاسترد) وللمرَّة الأخيرة ذهب لينام في الحجرة الصغيرة تحت سقف البناية. لم تكن الآية من الكتاب المقدَّس تُمثِّل تبشيرًا هذه الليلة. «تأتي ساعة هي الآن»، بالفِعل. يا للفراغ الذي كانت تتمتَّع به النساء فيما مضى. أما الآن أصبح كل شيء مُعلَّبًا ولم يعد هناك وقت فراغ على الإطلاق.

لكن لا، لم يكن الأمر على هذا النحو بالطبع. كان الأمر أنَّ النساء لم يعُدْن يقضين وقت فراغهن في صنع آيات من الكتاب المقدس بخيوط صوف مُلوَّن. بل يذهبْنَ ليُشاهدْنَ داني مينسكي ويضحكْنَ حد السأم مقابل مبلغ زهيد، وإن سألته لقال إن تلك كانت طريقة أفضل للتعافي من يوم عمل طويل من صنع أنماط حمقاء بغُرز مُتقاطعة بخيط أرجواني. راح جرانت يُحدِّق في الآية وأمالَ المصباح حتى محى الظل رؤيته لها، وأخذ مُفكِّراته معه إلى الفراش.

في الصباح دفع جرانت الفاتورة، وتظاهَر بأنه لم يرَ أمارات المفاجأة على وجه صاحب المكان. كان الجميع يعلم أن التفتيش في النهر لم يُسفِر عن شيء، وكانوا يعلمون كذلك أن قطعة ملابس استُخرجت من النهر هي ما تسبَّب بهذا التفتيش (وكانت هناك روايات مختلفة عن نوع تلك القطعة بالتحديد)؛ لذا لم يتوقع صاحب المكان أن يُغادِر المفتش في ظل هذه الظروف. إلا إن كان هناك دليل لا أحد يعلمه عنه؟

«هل ستعود، يا سيدي؟»

رد جرانت وهو يقرأ أفكاره ككتاب: «ليس عما قريب»، ولم يرُقه بصورة خاصة وصمة الفشل التي علَقت باسمه حاليًّا.

ثم توجَّه إلى تريمنجز.

حمل جو الصباح اعتذارًا رقيقًا عن جو الأمس. فقد كان صحوًا نديًّا، وقد هدأت الرياح. وتألقت أوراق الأشجار وتوهَّجت الطُّرُقات تحت ضوء الشمس. كان الربيع الإنجليزي وكأنه يقول للبشر المُبتلِّين المُرتجفين الذين وثقوا به: «كنتُ فقط أمزح، يا أعزائي».

وبينما كانت السيارة تُخرخر على المنحدَر، متجهة نحو تريمنجز، نظر جرانت إلى سالكوت سانت ماري في الوادي، وفكَّر كم هو غريب أن هذه القرية قبل ثلاثة أيام كانت مجرَّد اسم تستخدمه مارتا عرضًا في محادثاتها. والآن أصبحت القرية تشغل جزءًا من تفكيره.

وبفضل من الرب لم تكن تلك القرية لتظلَّ عالقة في ذهنه إلى الأبد!

في منزل تريمنجز استقبلته إيديث المهذَّبة، التي انزعجت بالشكل الكافي الذي سمح لها للحظة أن تبدو خائفة خوفًا بشريًّا حين رأته، وطلب منها لقاء والتر. أرشدتْه الفتاة إلى غرفة المكتبة التي لم توقد بها المدفأة؛ والتي أتى والتر وأنقذه منها.

قال والتر: «لنذهب إلى غرفة الاستقبال. نحن نستخدمُها كغرفة معيشة والمدفأة موقدة بها.» ووجد جرانت نفسه يُفكِّر إن كان والتر يضع في اعتباره راحة نفسه أم راحة ضيفِه. فقد انتبه جرانت إلى أن والتر كان يبدو وكأنه يفكر بهذه الطريقة.

قال جرانت: «سأعود إلى البلدة هذا الصباح، وهناك بضعُ نقاط بسيطة أريد أن أستوضحها قبل أن أقدم تقريري إلى رؤسائي.»

فأجاب والتر: «ما هي؟» وكان متوترًا وبدا كأنه لم ينَم.

«حين سألتُك عن رحلتك عبر نهر راشمير، قلت إنك كنت تأخذ رسائل البريد من مكاتب بريدٍ تمَّ الترتيب معها.»

«أجل.»

«لم يكن هناك شيء تأخُذُه من البريد يوم الإثنين، لكن على الأرجح أنك أخذت ما كان موجودًا يومَي الثلاثاء والأربعاء. فهل كانت هناك أي خطابات لسيرل في أي يوم من هذين اليومين، أيمكنك أن تتذكَّر؟»

«لا أجد صعوبة في التذكُّر. لم تُرسَل إلى سيرل «أبدًا» «أيُّ» رسائل بريدية، أيها المفتش.»

«أبدًا؟ أتعني أن سيرل لم تُرسَل له أيُّ رسائل على الإطلاق حين كان في تريمنجز؟»

«على حدِّ عِلمي، لا. لكن يمكن لليز أن تُخبرك. فهي تتولى أمر البريد حين يأتي.»

أخذ يتساءل في ذهنه كيف له أن يُفوِّت تلك المعلومة الصغيرة.

«ولا حتى رسائل موجهة من الفندق الذي يمكث فيه أو المصرف الخاص به؟»

«على حد علمي، لا. ربما كان يدعها تتراكم. هناك بعض الأشخاص لا يُبالون بالرسائل بطبيعتهم.»

كان هذا صحيحًا؛ وترك جرانت الأمر عند هذا الحد.

وقال: «إذن بخصوص المكالَمات اليومية. لقد اتصلتُم بالمنزل من تونستول مساء يوم الأحد، ومن كابل مساء يوم الإثنين، ومن فرايداي ستريت يوم الثلاثاء، فمن أين اتصلتم يوم الأربعاء؟»

«هناك كابينة هاتف عند بيتس هاتش. كنا قد قرَّرنا في واقع الأمر أن نُخيِّم عند بيتس هاتش، لكن الطاحونة المدمَّرة بدت مريعة بشكلٍ ما، ثم تذكرت أنا تلك البقعة المستترة، التي تقع بعد بيتس هاتش حيث ينعطف النهر جنوبًا؛ لذا أكملنا حتى هناك.»

«وهل أخبرت سكان منزل تريمنجز عن هذا المخيَّم المُقترَح.»

«أجل. لقد أخبرتُك بالفعل من قبل أننا فعلنا.»

«أعرف أنكم فعلتم. ولا أقصد بسؤالي هذا مُضايقتك. إنما أريد أن أعرف الآن من تحدَّث إلى من أثناء تلك المكالمة من بيتس هاتش؟»

فكَّر والتر لحظة. ثم قال: «تحدثت إلى الآنسة فيتش أولًا لأنها دائمًا ما تكون في انتظار المكالمة، ثم تحدث إليها سيرل. بعد ذلك أتت الخالة إم — السيدة جاروبي — وتحدثت إلى سيرل قليلًا ثم أنهيت المكالمة بعد أن تحدَّثتُ أنا إليها. ولم تكن ليز قد عادت من مهمة كانت تؤديها في القرية؛ لذا لم يتحدَّث إليها أيٌّ منا يوم الأربعاء.»

فقال جرانت: «حسنًا، شكرًا لك.» ثم انتظر قليلًا وعاود يقول: «أظن أنك لا تشعر بعد بأنك قادر على أن تُخبرَني بموضوع … الخلاف الذي دار بينكما يوم الأربعاء؟» وحين تردَّد والتر بعض الشيء أكمل جرانت يقول: «أيعود سبب تردُّدك إلى أنه بخصوص الآنسة جاروبي؟»

فأجاب والتر: «لا أريد لها أن تنجرَّ إلى هذا الأمر» ولم يسع جرانت سوى أن يشعر أن هذه الإجابة النمطية ليست نتيجة لعاطفته تجاهها وإنما مُحصِّلة لقناعة لدى والتر بأن هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يتصرَّف بها رجل إنجليزي في مثل هذا الموقف.

«إنما أسألك كما قلت من قبل كوسيلة للحصول على حقائق بشأن ليزلي سيرل أكثر منها وسيلة لأجعلك تقرُّ بأيِّ شيء. بعيدًا عن دخول الآنسة جاروبي إلى هذه المحادثة، هل كان هناك شيء بها تُفضل لو أنني لا أعرفه؟»

«كلا، بالطبع لا. كان الأمر فقط له صلة بليز … بالآنسة جاروبي. كانت محادثة غاية في السخف.»

ابتسم جرانت بطريقة فجة. وقال: «سيد ويتمور، إن رجل الشرطة يتعرَّض إلى أقصى مراحل السخافة قبل أن يكون قد أنهى سنتَه الثالثة وهو على قوة الشرطة. وإن كنت مترددًا فقط بشأن الحديث عما يحمله هذا الأمر من سخافة فتشجع. سيُمثِّل هذا الأمر لي على الأرجح شيئًا يكاد يقارب الحصافة.»

«لم يكن هناك أي حصافة حيال تلك المحادثة. لقد كان سيرل في حالة مزاجية غاية في الغرابة طوال تلك الأمسية.»

«حالة مزاجية غريبة؟ أكان مُكتئبًا؟» من المؤكد أن جرانت فكر في أننا لن نضطر إلى أخذ مسألة محاولة الانتحار في الاعتبار في مثل هذه المرحلة المتأخِّرة من القضية.

«كلا. بل بدا وكأن حالة غير مُعتادة من الطيش تعتريه. وفي طريق مُغادرتنا من عند النهر بدأ يغيظني ويسخر مني بشأن … بشأن أنني لست مناسبًا بما يكفي بالنسبة إلى ليز. بالنسبة إلى خطيبتي. حاولت أن أصرف المحادثة إلى أمر آخر، لكنه ظلَّ على نهجه. حتى ازداد انزعاجي. فبدأ يعدُّ لي كل الأشياء التي عرفها عنها ولم أكن أعرفها أنا. كان يستعرض شيئًا ويقول: «أراهن أنك لم تكن تعرف هذا عنها».»

«أكانت أشياء لطيفة؟»

رد والتر في الحال: «أوه، أجل. بالطبع. أشياء جذابة. لكن الأمر برمته كان غير ضروريٍّ بالمرة ومُثيرًا جدًّا للاستفزاز.»

«هل أشار إلى أنه كان سيغدُو أكثر امتنانًا لو كان في مكانك؟»

«بل ذهب إلى أبعد من ذلك. لقد قال بكل صراحة أن بإمكانه لو أراد أن يُقصيني. قال إن بإمكانه أن يقصيني عن طريقها في غضون أسبوعين.»

هنا لم يسَع جرانت سوى أن يسأله: «هل اقترح أن تتراهنا على ذلك؟»

فأجاب والتر وقد بدا مُندهِشًا قليلًا: «كلا.»

فكَّر جرانت أن عليه أن يُخبر مارتا يومًا ما أنها أخطأت بشأن هذه التفصيلة.

أكمل والتر: «حين قال ذلك، بشأن إقصائي، شعرت أنني لم أعدْ أُطيقه تلك الليلة. لم تُزعجني الإشارة إلى أنني لستُ ندًّا له، آمُل أن تعيَ هذا، أيها المفتش؛ بل ما أزعجني هو ما يتضمَّنه ذلك من تشويه لسُمعة ليز على نحو غير مباشر. بشأن الآنسة جاروبي. التلميح الخفي إلى أنها سترضخ وتنقاد لأي أحد يغريها بجاذبيته وسحره.»

فقال جرانت بنبرة جادة: «أعي ذلك. شكرًا جزيلًا لك على إخباري بهذا. أتعتقد إذن أن سيرل كان يعمد إلى افتعال شجار؟»

«لم أفكِّر في ذلك. رأيت حينها فقط أنه كان في حالة مزاجية تحث على الاستفزاز. وأنه كان مغرورًا بعض الشيء.»

«أجل. شكرًا لك. هل بإمكاني التحدث إلى الآنسة فيتش لبضع لحظات. لن أعطلها كثيرًا.»

أخذه والتر إلى غرفة الجلوس حيث كانت الآنسة فيتش تطوف جيئة وذهابًا بها وكأنها قطة غاضبة، وكان في شعرها ذي اللون الرملي والمصفَّف على شكل عش الطائر قلم رصاص باللونين الأصفر والأحمر، وقلم آخر في فمها. وقد بدا عليها الاسترخاء حين رأت جرانت، وبدا عليها الإرهاق والحزن الطفيف.

سألتْه قائلة: «هل أتيت تحمل أنباءً، أيها المفتش؟» وحين تخطاها جرانت بعينه إلى ما خلفها رأى الخوف في عيني ليز.

«كلا. بل أتيت أطرح عليكِ سؤالًا، يا آنسة فيتش، ثم لن أزعجك مرة أخرى. وأعتذر عن إزعاجي لكِ الآن. مساء يوم الأربعاء كنتِ تنتظرين المكالَمة المسائية من ابن شقيقتِك ليقصَّ عليكِ ما يحرزانه من تقدم.»

«أجل.»

«لذا تحدثتِ إليه أولًا. أقصد كنتِ أنتِ أول من تحدث من بين أهل هذا المنزل. فهلا أكملتِ على مسامعي بقية ما حدث؟»

«أتُريد أن أخبرك بما تحدثنا بشأنه؟»

«كلا؛ بل من تحدَّث إلى من.»

«حسنًا، كانا عند بيتس هاتش — أظن أنك تعرف هذا — وتحدَّثت أنا إلى والتر ثم إلى ليزلي. وكانا كلاهما سعيدَين.»

ثم اضطربت نبرتها. وأردفت: «ثم ناديتُ على إيما — أختي — وتحدثت هي إليهما.»

«هل انتظرتِ أثناء حديثها معهما؟»

«كلا، بل صعدت إلى غرفتي لأستمع إلى برنامج سوزي سكلاندرز. إنها تقدم عشر دقائق كل شهر يوم الأربعاء، وهي رائعة، وبالطبع لم أتمكن من الاستماع إليها جيدًا فيما كانت إيما تتحدث.»

«فهمت. والآنسة جاروبي؟»

«عادت ليز من القرية في وقتٍ متأخِّر فلم تتمكَّن من التحدث معهما.»

«أتذكرين متى كان توقيت ذلك؟»

«لا أتذكر الوقت تحديدًا، لكن لا بدَّ أن ذلك كان قبل تناول العشاء بعشرين دقيقة. فقد تناولنا العشاء باكرًا تلك الليلة لأن أختي كانت ستذهب إلى اجتماع جمعية مناهضي الحروب. إن موعد العشاء في منزل تريمنجز دائمًا ما يقدم أو يؤخر لأنَّ أحدًا إما أنه ذاهب إلى مكان أو في طريق عودته من مكان ما.»

«شكرًا جزيلًا لك، يا آنسة فيتش. والآن آمل لو كان بإمكاني أن أتفقَّد غرفة سيرل مرة أخيرة ولن أزعجكم بعدها ثانية.»

«أجل، بالطبع.»

هنا قالت ليز: «سأصحَب المفتش إلى الطابق العلوي» مُتجاهلة حقيقة أن والتر — الذي لا يزال على مقرُبة — هو من ينبغي أن يرافقه بطبيعة الحال.

ثم نهضت من أمام الآلة الكاتبة قبل أن تتمكَّن الآنسة فيتش من التدخل بأي اقتراح بديل، وتقدمت المفتِّش إلى خارج الغرفة.

قالت ليز وهما يصعدان السلم: «هل ستُغادر لأنك توصَّلت إلى خاتمة لهذه القضية، أيها المفتش، أم لأنك لم تتوصَّل إلى خاتمة؛ أم لا ينبغي أن أسألك عن هذا؟»

«بل سأغادر كأمر روتيني. كي أفعل ما يُتوقَّع من كل موظف أن يفعل؛ أن أُقدِّم تقريرًا لرؤسائي وأتركهم يُقرِّرون ما أوصلت إليه الوقائع.»

«لكنك تُضيف شيئًا أولًا، بالتأكيد.»

فقال جرانت بنبرة ساخرة: «وأقتطع الكثير، أيضًا.»

ولم تغبْ عن ليز تلك السخرية. فقالت مُقرَّة: «ليس هناك أي شيء منطقي في هذه القضية، حسبما أرى. يقول والتر إنه من غير المُمكن أن يكون سيرل قد وقع في النهر بالخطأ. إلا أنه قد وقع بالفعل. بطريقة ما.»

ثم توقفت ليز عند العتبة خارج حجرة البرج. في تلك البقعة كان هناك ضوء مصدره السقف فبدا وجهها واضحًا بكل تفاصيله حين التفتت إلى جرانت وقالت: «إن الشيء الأكيد الوحيد في هذه الفوضى هو أن والتر ليس له أي صلة بوفاة ليزلي. صدِّقني أرجوك، أيها المفتش. أنا لا أدافع عن والتر لأنه والتر ولأنني سأتزوَّج به. إنني أعرفه طوال حياتي وأعرف ما يُمكن له أن يقدِم على فعله وما لا يُمكن له أن يفعله. وليس بإمكانه أن يستخدم العنف الجسدي تجاه أي أحد. من فضلك صدقني. إنه … إنه لا يملك «الجرأة» وحسب.»

لاحظ جرانت أنه حتى زوجته المستقبلية تعرف أنه فاقد الجرأة.

«ولا يخدعنَّك أمر ذلك القفاز، أيضًا. أيها المفتش. أرجوك أن تصدق أن أكثر التفسيرات ترجيحًا أن ليزلي التقطَه من على الأرض ووضعه في جيبه بُغية أن يعيده إليَّ. لقد بحثت عن الفردة الأخرى من القفاز في جيب باب السيارة ولم أجده؛ لذا فإنَّ أكثر التفسيرات ترجيحًا أنهما سقطا من السيارة، ووجد ليزلي أحدهما فأخذه.»

«لماذا لم يعده إلى جيب باب السيارة؟»

«لا أعرف. لماذا يقوم المرء بأي شيء؟ أن يضع المرء شيئًا في جيبه هو فعل يكاد يكون لا إراديًّا. الفكرة أنه لم يكن ليحتفظ به من أجل الاحتفاظ به. لم يكن شعور ليزلي تجاهي بهذا الشكل على الإطلاق.»

فكَّر جرانت أن الفكرة لم تكن تتمحور حول ما إن كان ليزلي واقعًا في حب ليز، بل ما إن كان والتر يعتقد أن ليز واقعة في حب ليزلي.

كان جرانت يتوق لأن يسأل ليز عمَّا يحدث للفتاة حين تكون مخطوبة إلى شخص فاقد الجرأة ويأتي بعدها منبوذ جنة عدن، هارب من أتلانتيس، شيطان بملابس بشرية. لكن من المؤكد أن طرح هذا السؤال لن يصبح مثمرًا، على الرغم من إنه سديدٌ ووثيق الصلة بالموضوع. وبدلًا من ذلك، سألها جرانت إن كان سيرل قد استقبل أي خطابات أثناء مكوثه في تريمنجز وقالت إنه لم يفعل بقدر ما تناهى إلى علمها. ثم عادت ليز إلى الطابق السفلي، ودلف هو إلى غرفة البرج. تلك الغرفة الضخمة الأنيقة التي ترك فيها سيرل كل شيء عدا شخصيته.

لم يكن جرانت قد رآها في ضوء النهار من قبل، فأمضى بضع لحظات ينظر إلى الحديقة والوادي من النوافذ الثلاث الضخمة. كانت ثمة ميزة واحدة يتحصَّل عليها المرء حين لا يعبأ بما سيبدو عليه منزله حين يجري الانتهاء منه؛ وهي أن يجد النوافذ في المكان الذي يحقق أقصى استفادة منها. وبعد ذلك عاد جرانت مرة أخرى إلى مهمة تفقُّد متعلقات سيرل. فأخذ يتفقَّدُها بتأنٍّ، قطعة بقطعة وشيئًا بشيء، آملًا عبثًا أن يتكشَّف له شيء ما. ثم جلس على كرسي منخفض وعلى الأرض أمامه صندوق التصوير الفوتوغرافي مفتوحًا عند قدميه، وراح يُفكِّر في كل شيء يمكن لمصور فوتوغرافي أن يستخدمه. ولم يهتدِ إلى شيء — سواء أكان مادة كيميائية أو أداة — مفقود من المجموعة التي بالصندوق. ولم يكن الصندوق قد حُرِّك منذ آخر مرة تفقَّدَه، فكانت المساحة الخاوية لا تزال تُبرز محيط ما أخذ من الصندوق.

لم تكن المساحة الخاوية تدع إلى الريبة. فهو أمر معتاد أن تجري إزالة الأشياء من الصناديق المعبأة، وتترك تلك الأشياء محيط وجودها. لم يكن هناك أدنى سبب يدعو إلى افتراض أن الشيء الذي أُخِذ يحمل أي أهمية. لكن لماذا، بحق السماء، لم يستطع أحد أن يقترح ما كان ذلك الشيء؟

مرةً أخرى أخذ جرانت يُحاول وضع الكاميرات الصغيرة في المساحة الخاوية، وهو يعرف تمامًا أنها لن تسعها. حتى إنه ألصق زوجًا من أحذية سيرل معًا وحاول أن يدخلها في تلك المساحة. فكان الحذاء أطول من المساحة بنصف بوصة وبرز النَّعلان فوق المستوى العام فلم يتثبَّت الغطاء فوقهما ولم ينغلق غطاء الصندوق. وعلى أي حال، لماذا قد يحمل المرء الملابس في صندوق تصوير فوتوغرافي في حين أن لديه مساحة كافية في الحقائب المخصَّصة لذلك؟ إن أيًّا ما كان في تلك المساحة لم يكن قد وُضِع فيها عشوائيًّا أو على عجل. بل كانت طريقة وضعه تنمُّ عن تناسُق وترتيب له هدف ما.

الأمر الذي يُشير إلى أن هذا الشيء قد وُضِع في تلك المساحة لأن سيرل نفسه هو من سيُخرجه منها.

في واقع الأمر، كان جرانت عند هذه المرحلة قد نال كفايته، وهذه عبارة منمَّقة.

أعاد جرانت كل شيء بعناية إلى مكانه كما وجده؛ وألقى نظرةً أخرى على وادي راشمير، وقرَّر أنه قد اكتفى من الأمر برمَّته؛ ثم أغلق الباب على الحجرة التي ترك فيها ليزلي سيرل كل شيء عدا شخصيته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤