الفصل التاسع عشر

مرَّت ثمان وأربعون ساعة قبل أن يأتيَ خبر من جوبلينج، وطوال تلك المدة ولمرات كثيرة كان جرانت على وشك أن يذهب إلى تلك المرأة في هامبستيد وينتزع منها الحقيقة انتزاعًا بالقوة. إلا أنه كبح جماح نفسِه. سيتعامل معها عما قريب. سيُنمِّق أكاذيبها ويُقدمها لها في طبق، وسيقدمه لها حين يحين وقت ذلك.

سينتظر التقرير.

وحين أتى التقرير ثبَت أنه كان يستحق الانتظار.

قرأه جرانت بلمحة سريعة من عينه، ثم أسند ظهره للخلف وأخذ يضحك.

وقال للرقيب ويليامز: «إن أرادني أحد خلال ما تبقى من اليوم سيجدني في منزل سومرست هاوس.»

رد ويليامز متجهمًا: «حسنًا، يا سيدي.»

رمق جرانت ملامح الهدوء غير المعهود على مُحيا ويليامز — إذ كان ويليامز حزينًا بعض الشيء أن جرانت كان يتناول هذا الأمر بمفرده — فتذكر شيئًا.

«بالمناسبة، يا ويليامز، تتُوق الآنسة هالارد للقائك. لقد طلبت مني أن أحضرك إلى العشاء ذات ليلة.»

فسأله ويليامز وقد تحوَّل لونُ وجهه إلى الأحمر: «أنا؟» وأردف: «لماذا بحقِّ السماء؟»

«لقد وقعت ضحية جاذبيتك التي سمعت عنها. فطلبَت مني أن أُرتِّب لليلة تكون مُتفرغًا فيها. وأشعر في أعماقي هذا الصباح أنني وأنت بحلول يوم السبت سنُصبح في حالة تسمح بالاحتفال؛ وسيكون من الملائم في رأيي أن نحتفل مع مارتا. هل يوم السبت مناسب لك؟»

«في الواقع، عادة ما نذهب أنا ونورا إلى السينما يوم السبت، لكن حين أكون في العمل تذهب برفقة جين. تلك هي أختها. لذا لا أرى مانعًا أن تذهب مع جين هذا الأسبوع.»

«حين تعرف أنك ذاهب للعشاء مع مارتا هالارد فإنها على الأرجح ستبدأ في إجراءات الطلاق.»

قال ويليامز المُتزوِّج حديثًا بعد عزوف طويل عن الزواج: «ليست نورا من يفعل ذلك. ستنتظر حتى يتسنى لها أن تسألني عما كانت ترتديه مارتا هالارد.»

اتصل جرانت بمارتا ليسألها إن كان بإمكانه أن يحضر السيرجنت ويليامز ليلتقي بها مساء السبت، ثم غادر ودفن نفسه في منزل سومرست هاوس.

في تلك الليلة لم يرقد مستيقظًا. بل كان كطفل يذهب للنوم لأن الغد سيحل سريعًا بتلك الطريقة. غدًا، ستُوضَع آخر قطع الأحجية في مكانها وتكتمل الصورة.

وإن صادف أن لم تكن تلك القِطعة الصغيرة الأخيرة مُلائمة، فإن الصورة بأكملها كانت خاطئة بالطبع. لكنه كان واثقًا كثيرًا من أنها ستلائم مكانها.

وفي المدة القصيرة ما بين إطفائه المصباح واستغراقه في النوم، أخذ يجوب بعقله في ثنايا تبعات ما سيحدث. حين توضع تلك القطعة الصغيرة في مكانها غدًا، ستصبح الحياة أكثر سعادة لكثير من الناس. لوالتر طبعًا؛ حيث ستُرفع ظلال الشك عنه. ولإيما جاروبي، إذ ستُصبح ليز في أمان. أما لليز، فسيصبح ارتياحًا لا تصفه الكلمات بالنِّسبة إليها. وارتياحًا للآنسة فيتش، التي قد تحزن بعض الشيء أيضًا في ظنه. لكن بإمكانها دائمًا أن تخط ذلك في كتاب. الأمر برمته ينتمي إلى عالم الكتب.

ورأى جرانت أن توبي سيُصبح لديه أسباب خاصة إلى حد بعيد ليهنئ نفسه؛ وأضحكه ذلك. وسيشعر سيرج راتوف بالارتياح.

وما كان سيلاس ويكلي ليعبأ بالأمر على الإطلاق.

تذكَّر أن مارتا كانت قد علَّقت على كم كان كلٌّ من ليزلي وليز «لطيفَين» معًا. (قالت إنهما يُشكلان «ثنائيًّا طبيعيًّا» لكن لم يكن بإمكانها أن تُخمن «كم» هما طبيعيان!) هل من الممكن أن تشعر ليز بالحزن والألم حين توضع تلك القطعة الصغيرة في مكانها غدًا؟ كان يأمل ألا يحدث ذلك. فليز جاروبي تروقه. ويتمنى لو أن سيرل لم يكن يُمثِّل لها شيئًا. وألا تجد شيئًا سوى السعادة والارتياح في تبرئة والتر.

ما الذي قالته مارتا؟ «لا أظن أن والتر يعرف أي شيء عن ليز، وأظن أن ليزلي سيرل عرف عنها الكثير». (من المدهش أن مارتا رأت ذلك من دون أي دليل على مصدر معرفة سيرل.) لكن في رأي جرانت، ليس من المهم أن والتر لم يكن يعلم الكثير عن ليز. فقد كان واثقًا أن ليز تعرف كل ما يُمكن معرفته عن والتر؛ وهذا يمثل أساسًا قويًّا لحياة زوجية سعيدة.

خلَد جرانت إلى النوم وهو يُفكِّر فيما إن كان الزواج من امرأة لطيفة وذكية ومحبوبة مثل ليز جاروبي يُمكن أن يعوض الرجل عن خسارته حريته.

وتلاشى في الأفق موكب عواطفه — معظمها دعوات رومانسية بالتوفيق — فيما أخذ ضباب غياب الوعي يلفُّ عقله.

لكنه في الصباح لم يكن يفكر إلا في امرأة واحدة. تلك المرأة في هامبستيد.

لم يحدث له من قبل قطُّ — حتى في أقل أوقات خبرته — أن ذهب للقاء امرأة بشغف كبير كشغفه الذي كان يسوقه إلى هولي بيفمينت هذا الصباح. وكان مُتفاجئًا قليلًا حين نزل من الحافلة وسار تجاه منعطف هولي بيفمينت ووجد أن قلبه كان يخفق بشدة. لقد مر زمن طويل منذ أن خفق قلب جرانت لأي سبب آخر سوى الأسباب الجسدية.

وقال في ذهنه، اللعنة على تلك المرأة، تبًّا لها.

كان هولي بيفمينت عبارة عن موضع راكد من النهر يملؤه ضوء الشمس؛ مكان في غاية الهدوء حتى إن تبختر الحمائم بدا وكأنه ضجيج. وكان المنزل رقم تسعة عبارة عن مبنًى من طابقَين، ومن الواضح أن الطابق الأعلى منه قد تم تحويله إلى استوديو. وعلى لوحة الجرس كان هناك زرَّان بجانبهما علامتان خشبيتان مُنمقتان. على الأعلى منهما مكتوب «الآنسة لي سيرل» وعلى الأدنى منهما مكتوب: «نات جانسيج للأكسسوارات».

ضغط جرانت على الزر الأعلى منهما وهو يتساءل في ذهنه ماذا تكون تلك «الأكسسوارات»، وسرعان ما سمعها تنزل على السُّلم الخشبي نحو الباب. فُتِح الباب وظهرت هي واقفة خلفه.

سمع جرانت نفسه يقول: «الآنسة سيرل؟»

فأجابت وهي تنتظر تحت ضوء الشمس: «أجل»، ولم تكن مُرتبكة لكنها مُتحيِّرة.

«أنا المفتش المحقق جرانت من قسم التحقيقات الجنائية.» لاحظ جرانت أن حيرتها زادت لدى سماعها لذلك. وتابع: «أتى زميل لي، وهو الرقيب ويليامز، لزيارتك بدلًا مني قبل أسبوع لأنني كنت مشغولًا بأمور أُخرى. وأرغب كثيرًا في التحدُّث إليكِ بنفسي، إن كان هذا ملائمًا.»

ومن الأفضل أن يكون ذلك ملائمًا، عليكِ اللعنة، هكذا قال جرانت في ذهنه؛ وكان غاضبًا من دقات قلبه المتسارعة.

فقالت في اتزان وهدوء: «أجل، بالطبع. فلتتفضَّل بالدخول. أنا أقطن الطابق العلوي.»

أغلقت الآنسة سيرل الباب خلفه ثم تقدمته على السُّلم الخشبي إلى الاستوديو الخاص بها. كانت رائحة قهوة قوية — قهوة جيدة — تعمُّ المكان، وفيما أرشدته إلى الداخل قالت: «كنتُ أتناول إفطاري للتو. لقد عقدت صفقة مع فتى الصحف أن يترك لي رغيفًا صغيرًا من الخبز في كل صباح مع الصحف، وهذا هو إفطاري. لكن هناك الكثير من القهوة. هل أُعدُّ لك بعضها، أيها المفتِّش؟»

يقولون عن جرانت في الإدارة إن لدَيه نقطتَي ضعف: القهوة والقهوة. وكانت رائحة هذه القهوة رائعة. إلا أنه لم يكن ليشرب أي شيء مع لي سيرل.

«شكرًا لكِ، لكنني انتهَيت من قهوتي للتو.»

فصبَّت لنفسها فنجانًا آخر، ولاحظ جرانت أن يدَيها كانتا ثابتتَين. يا لكِ من امرأة، لقد بدأ جرانت يشعر نحوها بإعجاب. كانت ستصبح رائعة لو كانت زميلة له.

كانت المرأة طويلة ونحيفة؛ وتبدو في غاية الجمال بفعل مظهرها النحيل ولا تزال في عنفوان الشباب. وقد صنعت من شَعرها ضفيرة سميكة؛ على شكلِ إكليل. أما المعطف المنزلي الطويل الذي كانت ترتديه فكان مصنوعًا من قماش أخضر باهت، يُشبه كثيرًا أحد معاطف مارتا؛ وكان لهذه المرأة ساقان طويلتان كساقَي مارتا اللتين أضفتا عليها أناقتها.

قال جرانت: «قُرب الشبه بينك وبين ليزلي سيرل استثنائي للغاية.»

فقالت في اقتضاب: «هكذا كان يُقال لنا.»

تحرَّك جرانت في أرجاء الغرفة ينظر إلى الرسومات الاسكتلندية التي تستنِد إلى مسند العرض. كانت الصور تمثل انطباعات تقليدية عن مناظر تقليدية، إلا أنها مرسومة بثقة بربرية عنيفة، وبغضب، بحيث كانت تصرخ من اللوحة في وجه الناظر إليها. لم تكن تلك الصور تقدم نفسها للناظر، بل كانت تهاجمه. «انظر، أنا سوليفان!» هكذا صاح سوليفان، بحيث بدا أكثر غرابة وتفردًا مما بدا عليه ذلك الجبل يومًا. وكذلك كولينج — ذلك الحصن بلون العنب الأزرق أمام سماء صباح باهتة — كان يمثل حاجزًا كاملًا من العجرفة والغرور. حتى مياه كيشورن الهادئة الرائقة كانت ماجنة عاتية.

سألها جرانت: «هل ظلَّ مُمتعًا لك؟» ثم شعر أن قوله هذا يفتقد إلى قواعد اللياقة فأضاف: «إن غرب اسكتلندا رطب للغاية.»

«ليس في هذا الوقت من العام. هذا هو أفضل وقت هناك.»

«هل وجدتِ الفنادق مُريحة؟ سمعت أنها تميل لأن تكون بدائية.»

«لم أزعج نفسي بالفنادق. فقد خيَّمت في العراء في سيارتي.»

فكَّر جرانت في ذهنه أن هذا كان تصرفًا محكمًا للغاية.

«ما الذي أردت أن تتحدَّث إليَّ عنه؟»

لكن جرانت لم يكن في عجلة من أمره. لقد سببت تلك المرأة له الكثير من المتاعب. سيتأنى وسيستغرق وقته.

ثم انتقل جرانت من الرسومات إلى صفوف الكتب على الأرفف، وأخذ يُفكِّر في العناوين.

«أرى أنكِ تُفضِّلين الغرائب.»

«الغرائب؟»

«الأرواح الشريرة. زخَّات الأسماك. ندبات المصلوبين. تلك النوعية من الأشياء.»

«أعتقد أن كل الفنَّانين ينجذبُون إلى غرائب الأشياء، بصرف النظر عن الوسط الخاص بها، ألا تعتقد ذلك؟»

«لكن لا يبدُو أن لديكِ شيئًا عن التشبُّه بالجنس الآخر.»

«ما الذي جعلك تظن هذا؟»

«إذن أنتِ تعرفين المُصطلَح؟»

«بالطبع أعرفه.»

«أهو أمر لا يُثير اهتمامك؟»

«ما كُتِب عن هذا الموضوع غير مريح للغاية، حسبما فهمت. لا شيء بدءًا من الكُتيِّبات العلمية وحتى صحيفة نيوز أوف ذا وورلد.»

«ينبغي عليكِ أن تكتُبي بحثًا عن هذا الموضوع.»

«أنا؟»

فقال جرانت في سلاسة: «أنتِ تحبِّين الغرائب.»

«أنا رسامة، أيها المُفتِّش، ولست بكاتبة. أضف إلى ذلك أن لا أحد يهتمُّ في هذه الآونة بالقراصنة الإناث.»

«القراصنة؟»

«كانوا جميعًا قراصنة أو جنودًا أو بحَّارة، أليس كذلك؟»

«أتظنِّين أن موضة ذلك خبت مع فيبي هيسيل؟ أوه، على الإطلاق. هذا الموضوع يظهر باستمرار. قبل عدة أيام فقط ماتت امرأة في جلوسيسترشاير وكانت تعمل لأكثر من عشرين عامًا في نقل الأخشاب والفحم، وحتى الطبيب الذي عالجها في آخر مرض لها لم يكن لديه أدنى فكرة أنها لم تكن رجلًا. وفي ذلك عرفت حالة شخصية منذ وقت ليس بطويل. إذ اتُّهم شابٌّ في ضواحي لندن بالسرقة. وكان شابًّا طبيعيًّا محبوبًا. يجيد لعب البلياردو، وينتمي إلى أحد نوادي الرجال، ويُواعد إحدى الفتيات الجميلات في الضاحية. لكن حين تمَّ الكشف عليه طبيًّا اتضح أنه امرأة شابة طبيعية. يحدث هذا الأمر هنا وهناك أو بين الحين والآخر. في جلاسجو. وشيكاغو. ودندي. في دندي شاركت فتاة شابة جناحًا في فندق مع عشرة من الرجال ولم يشكَّ أحدٌ بأمرها أبدًا. هل يصيبك حديثي بالملل؟»

«على الإطلاق. كنت أتساءل وحسب إن كنت تعتبر هذه الأحداث غريبة بنفس المعنى الذي تنظر به إلى الأرواح الشريرة وندوب المصلوبين.»

«كلا؛ أوه، كلا. إنَّ بعض الإناث بالطبع يُصبحن أكثر سعادة بالفعل عند التشبُّه بالرجال؛ لكن الكثير منهن يفعلن ذلك بدافع حب المغامرة، وقلَّة منهنَّ لضرورات اقتصادية. والبعض يفعلنها لأنها الطريقة الوحيدة التي يُمكنهنَّ من خلالها تنفيذ مخططاتهن.»

أخذت هي رشفة من قهوتها في اهتمام مُهذَّب، كما يفعل المرء وهو يمهل ضيفًا ثقيلًا حتى يصل إلى المرحلة التي يُعبِّر فيها عما أتى له.

فكَّر جرانت أن تلك المرأة ستُصبح حليفًا رائعًا في العمل.

تباطأت نبضات قلبه إلى المعدَّل الطبيعي. كانت تلك حركات في لعبة مارسها منذ وقت طويل؛ لعبة عقل ضد آخر. والآن كان جرانت يتطلَّع إلى ردِّ فعلها على حركاته. لقد صمدت أمام مناوشاته لها. فكيف ستُواجه هجومًا مباشرًا؟

أتى جرانت من عند أرفف الكتب وقال: «لقد كنتِ في غاية الإخلاص لأقاربك، يا آنسة سيرل.»

«ليزلي؟ لكنني بالفعل …»

«كلا. بل مارجريت ميريام.»

«مار … لا أعرف ما الذي تتحدث عنه.»

كان هذا خطأً من جانبها. لو توقفت لتفكر للحظة، لأدركت أنه لم يكن هناك سبب على الإطلاق لإنكار صلتها بمارجريت. لكن عدم توقُّع ذكر هذا الاسم على شفتَيه أذهلَها، فاندفعت وتهورت.

«مخلصة للغاية حتى إنكِ لم يكن بمَقدُوركِ أن تُفكِّري فيها على نحو مُستقيم.»

«أقول لك …»

«كلا، لا تقولي أي شيء. سأُخبرك أنا بشيء. شيء ينبغي أن يُقوِّي أواصر الثقة بيننا بسهولة كبيرة، يا آنسة سيرل. لقد قابلت ليزلي سيرل في حفل في بلومزبيري. إنه واحد من تلك التجمُّعات الأدبية. وأراد أن يقدم إلى لافينيا فيتش ووافقت أنا على تقديمه. وبينما كنا نكافح في التقدم عبر الحشد دفع بعضنا نحو بعضٍ فاقترب بعضنا من بعضٍ كثيرًا؛ في الواقع كانت المسافة بيننا تكاد تكون كافية للتنفُّس وحسب. ورجل الشرطة يتدرب على الملاحظة الدقيقة، لكني وحتى من دون هذا التدريب أظنُّ أنني كنت سألاحظ أي اختلاف في التفاصيل التي بدتْ لي من تلك المسافة. كان ليزلي سيرل يتمتَّع بعينَين رماديتَين جميلتَين للغاية، وكان هناك بُقعة صغيرة بُنِّية في قزحية العين اليُسرى. وقد أمضيت مُؤخرًا وقتًا طويلًا بذلت فيه من الجهد والتفكير الكثير، محاولًا تفسير اختفاء ليزلي سيرل، وبفِطنة فِطرية وقدرٍ كبيرٍ من الحظ وصلت إلى المرحلة التي كنت فيها بحاجة إلى شيء صغير فقط لكي تكتمل قضيتي. بقعة بُنية صغيرة. وقد وجدتها على عتبة الباب بالأسفل.»

ساد صمت تام. كانت تجلس وكوب قهوتها موضوع على حجرها، بينما تنظر إليه. وقد بدا صوت طقطقة ساعة الحائط البطيء صاخبًا وثقيلًا وسط هذا الهدوء.

قال جرانت: «إنه لشيء غريب، الجنس. حين ضحكتِ معي — عندما تقاربنا في الزحام ذلك اليوم — أدركتني لحظة شعرت فيها فجأة بالخجل. كنت مرتبكًا. مثل الكلب أحيانًا حين يرى أن هناك من يضحك عليه. كنتُ أعرف أن الأمر ليس له أي صلة بضحككِ، ولم أستطع أن أُفكِّر في سبب آخر لشعوري بالارتباك. عند الساعة الواحدة إلا الربع تقريبًا يوم الإثنين الماضي بدأت عملية إدراك ذلك السبب؛ وكدت أُدهَس تحت سيارة أجرة نتيجة لذلك.»

رفعت نظرها عند سماعها ذلك؛ ثم قالت في اهتمامٍ ضعيف بشكلٍ ما: «هل أنت النجم البارع في إدارة سكوتلانديارد؟»

فأكَّد لها جرانت: «أوه، كلا. بل هناك الكثيرون مثلي.»

«طريقة حديثك لا تدلُّ على أن هناك كثيرين مثلك. ليس ممَّن عرفتهم. وليس بإمكان أحد يشبه الكثيرين أن يعرف ما حدث … ما حدث لليزلي سيرل.»

«لست أنا المسئول عن التوصُّل إلى ذلك.»

«ليس أنت؟ من المسئول إذن؟»

«دورا سيجنز.»

«دورا …؟ من هي دورا؟»

«دورا هي فتاة تركت حذاءها على مقعد سيارتي. حذاء في لفافة منمَّقة. في ذلك الوقت كان مجرَّد حذاء في لفافة. لكن يوم الإثنين الماضي في الواحدة إلا الربع، تمامًا أمام سيارة أجرة، أصبحت اللفافة مشابهة لشيء آخر كنت أبحث عن أبعاده.»

«أي أبعاد تلك؟»

«أبعاد تلك المساحة الخاوية في صندوق التصوير الفوتوغرافي الخاص بكِ. حاولت أن أضع حذاء سيرل في تلك المساحة — اصفحي لي عن إقدامي على ذلك — لكنكِ ستتقبلين أن مُفتشًا عاديًّا يكد في عمله يوجد مثله الكثيرون ما كان له أن يُفكِّر في شيء غريب كلفافة تحتوي على حذاء نسائي ومنديل رأس حريري ملوَّن. بالمُناسبة، الوصف الذي دونه زميلي الرقيب للمرأة التي استقلَّت الحافلة عند تقاطع الطرق حيث كان المهرجان، يقول: معطف مطر فضفاض.»

«أجل. معطفي الواقي من المطر ذو وجهين.»

«أكان هذا جزءًا من تحضيراتك للخطة أيضًا؟»

«كلا؛ بل حصلت عليه قبل سنوات، حتى أتمكَّن من السفر في خفة. فبإمكاني التخييم في العراء وأنا أرتديه، وأن أذهب لتناول شاي الظهيرة حين أُدير وجهه.»

«من المثير للحنق قليلًا أن أدرك أنني كنت من مهَّد الطريق لتلك المزحة المزعجة التي فعلتِها بسبب تلهُّفي أن أكون عونًا للغريب الواقف على الباب. بعد هذه المرة سأدع الغرباء يقفون ولن أبالي.»

قالت في بطء: «أهكذا يبدُو الأمر لك؟ مزحة مزعجة؟»

«دعينا لا نتجادل بشأن المصطلحات. لا أدري ماذا تُطلقين عليها بينَكِ وبين نفسِك. في واقع الأمر، تلك مُزحة مُزعِجة تتَّسم بالقسوة إلى حدٍّ ما. أظنُّ أن خطتك كانت إما أن تجعلي من والتر ويتمور أحمقَ أو أن تتركيه في مأزق.»

فقالت ببساطة: «كلا، كنتُ سأقتله.»

كان صدقها جليًّا حتى إن جرانت هبَّ واقفًا.

وقال في اهتمام بالغ وقد زالت عنه الرغبة في التهكُّم: «تقتلينه؟»

قالت: «بدا لي أنه لا ينبغي أن يسمح له بالحياة.» ورفعت كوب قهوتها من على حجرها لتضعه على الطاولة، لكن يداها كانتا ترتعشان كثيرًا حتى إنها لم تتمكَّن من رفعه.

تحرك نحوها جرانت وأخذ الكوب منها بلطف ووضعه نيابة عنها.

وقال: «كرهتِه بسبب ما تخيَّلتِ أنه قد فعله بمارجريت ميريام» فأومأت إيجابًا. كانت يداها تتعانقان في حجرها في محاولة عابثة لكي تُبقيهما ثابتتين.

صمت جرانت للحظات، في محاولة لأن يعتاد فكرة أن براعتَها التي ظنَّ أنها مخرج حذق لها من تنكُّرها كانت في واقع الأمر مخرجًا مُخطَّطًا له للإفلات بجريمة قتل.

«وما الذي حملكِ على تغيير رأيكِ؟»

«رغم غرابة الأمر، فإن أول شيء بسيط كان عبارة قالها والتر. كان ذلك ذات مساء بعد أن افتعل سيرج راتوف مشكلة في الحانة.»

«وبعد؟»

«قال والتر إن المرء حين يكون مخلصًا لأحدهم كما هو حال سيرج فإنه يتوقَّف عن التفكير بعقلانية في الأمر. جعلني هذا أفكر قليلًا.» توقفت عن الحديث. ثم استطردت: «بعد ذلك، أعجبت بشخصية ليز. لم تكن على الإطلاق كما تخيَّلتها. فقد تخيَّلتُ أنها الفتاة التي سرقت والتر من مارجريت. وشخصية ليز الحقيقية لم تكن على ذلك النحو أبدًا. حيَّرني هذا الأمر قليلًا. لكن السبب الحقيقي الذي أوقفني كان … كان أن … أن …»

فقال جرانت بنبرة هادئة: «أنكِ اكتشفتِ أن الإنسانة التي تُحبِّينها وأردت الانتقام من أجلها لم تكن شخصيتها مثلما تظنِّين.»

أخذت نفسًا عميقًا وقالت: «لا أعرف كيف يُمكن لك تخمين ذلك.»

«لكن هذا هو ما حدث، أليس كذلك؟»

«بلى. بلى، فقد اكتشفت … لم يكن الناس يعرفون أن لي صلة بها، فكانوا يتحدَّثون بلا حذر. بالأخص مارتا. مارتا هالارد. عدتُ برفقتها ذات ليلة بعد العشاء. فأخبرتْني بأشياء … أذهلتني وصدمتني. لطالما عرفت أنها كانت جامِحة وعنيدة — أقصد مارجريت — لكن المرء يتوقَّع هذا من العباقرة، وقد كانت تبدو حساسة … حسَّاسة للغاية حتى إن المرء قد يغفر لها …»

«أجل، أفهم ذلك.»

«لكن مارجريت التي تعرفها مارتا وأولئك الناس كانت شخصًا لم أكن أعرفه على الإطلاق. شخصًا ما كان سيروقني حتى لو … أذكر أن مارتا قالت حين قلت لها إنها «عاشت» على الأقل: «تكمن المشكلة في أنها لم تسمح لأحد أن يعيش. كان التأثير الذي أحدثته كبيرًا حتى إن رفاقها قد تُركوا في عزلة تامة. فهم إما ماتوا كمدًا أو دُفعوا إلى الموت تحت عجلات أقرب عربة ضخمة.» وهكذا، لم أعدْ أشعر برغبة في قتل والتر. لكنني كنت ما زلت أكرهه لأنه هجرها. لم أستطع نسيان ذلك. أنه هجرها وأنها قتلت نفسها جرَّاء ذلك.» ثم أضافت حين رأت جرانت على وشك أن يقاطعها: «أوه، أعرف، أعرف! لم يكن الأمر أنها أحبَّته لهذه الدرجة. أعرف هذا الآن. لكن لو كان ظلَّ معها لظلت هي على قيد الحياة حتى يومنا هذا. على قيد الحياة بعبقريتِها وجمالها وجاذبيتها المُبهجة. كان بإمكانه الانتظار …»

فأكمل جرانت متسائلًا بنَبرة أجف مما كان ينوي: «حتى تسأم هي؟» فأجفلت.

وقالت في صراحة حزينة: «لم يكن هذا ليستغرق وقتًا طويلًا.»

فقال جرانت: «هل لي أن أغير رأيي وأحظى ببعض القهوة في نهاية الأمر؟»

نظرت إلى يدِها التي لا تستطيع السيطرة عليها وقالت: «هلا صببتَ بعضها لنفسك؟»

وراحت ترقبه وهو يصبُّ القهوة، ثم قالت: «أنت رجل شرطة في غاية الغرابة.»

«كما قلت لليز جاروبي حين أبدت الملحوظة نفسها: ربما كانت فكرتك عن رجال الشرطة هي الغريبة.»

«لو كان لي أخت مثل ليز، لصارت حياتي مختلفة. لم يكن لي أحد سوى مارجريت. وحين سمعت أنها قتلت نفسها، أَعتقد أنَّني قد جُننتُ قليلًا. كيف اكتشفت العلاقة بيني وبين مارجريت؟»

«لقد أرسلت الشرطة في سان فرانسيسكو تقريرًا عنكِ، وكان فيه اسمُ والدتكِ ماتسون. وبعد ذلك بوقت طويل تذكَّرت أنني قد قرأت في مرجع «أعلام المسرح» — والذي كنت أستخدمه ذات ليلة كوسيلة لتمضية الوقت بينما أنتظر مكالمة هاتفية — أن اسم والدة مارجريت ميريام كان ماتسون أيضًا. وحيث كنتُ أبحث عن علاقة بينكِ وبين والتر، بدا لي أنني قد أكون وجدتها إن كنتِ أنتِ ومارجريت ابنتَي خالة.»

«أجل. كنَّا أكثر من ذلك. كنا حينها أطفالًا فقط. كانت والدتانا نرويجيتَين، لكن إحداهما مُتزوِّجة في بريطانيا والأخرى في أمريكا. بعد ذلك وحين بلغت الخامسة عشرة، أخذتْني أمي إلى إنجلترا، والتقيت مارجريت للمرة الأولى. كانت تكبرني بعام تقريبًا، لكنها بدت أصغر سنًّا. وحتى في تلك السن كانت مارجريت في غاية الروعة. كان كل ما تقوم به يتصف ﺑ … بشيء من «التألق». كنا نُراسل بعضنا بعضًا كل أسبوع منذ ذلك الحين، وكل عام كنت أراها عندما نأتي إلى إنجلترا في الصيف، إلى أن تُوفِّيَ والدي.»

«كم كان عمركِ حين مات والداكِ؟»

«ماتا في وباء الإنفلونزا حين كنت في السابعة عشرة. وقد بعت الصيدلية لكنني أبقيت على معدات التصوير الفوتوغرافي؛ لأنني أحببتُه وكنت ماهرة فيه. لكنني كنت أريد السفر. أن أصور العالم وكل شيء جميل به. لذا أخذت السيارة واتجهت غربًا. كنت أرتدي البناطيل في تلك الأيام فقط لأنها كانت رخيصة ومريحة، وحين يكون طولك خمس أقدام وعشر بوصات فإنك لا تبدو بأفضل أحوالك في ملابس الفتيات. لم أفكِّر قطُّ في استخدام الملابس ﮐ … كتمويه حتى جاء يوم كنت منحنية على محرك السيارة فتوقف رجل وقال: «أمعك ثقاب، يا صديقي؟» فأعطيته ثقابًا؛ ونظر إليَّ وأومأ برأسه وقال: «شكرًا، يا صديقي» وذهب إلى حال سبيله من دون أن يُعيد النظر. جعلني هذا أفكر. حين تكون الفتاة وحدها فإنها دائمًا ما تُواجه المتاعب — أو على الأقل هكذا هو الحال في الولايات المتحدة — حتى ولو كانت فتاة طولها خمس أقدام وعشر بوصات. كما تُواجِه الفتيات صعوبة أكبر في «الحصول» على مهنة مُربحة. لذا جربت الأمر بعض الوقت. وقد أجدى نفعًا. كما لو كان الأمر حلمًا. بدأت أجمع الأموال على الساحل. في البداية كنتُ أُصوِّر الأشخاص الذين يرغبون في العمل بالتمثيل، ثم بدأت أصور الممثلين أنفسهم. لكنني كل عام كنت آتي إلى إنجلترا لبعض الوقت. بصفتي الحقيقية. فاسمي الحقيقي هو ليزلي، لكن الناس ينادونني في الغالب باسم لي. لطالما كانت تُناديني هي باسم لي.»

«إذن جواز سفرك هو جواز سفر امرأة.»

«أجل. إنما أمثل شخصية ليزلي سيرل في الولايات المتحدة وحسب. ولا يحدُث ذلك معظم الوقت هناك.»

«وكان كل ما فعلتِه قبل الذهاب إلى ويستمورلاند هو الذهاب إلى باريس، وترك آثار ليزلي سيرل في حال ثبَت أن أحدهم كان مُتشكِّكًا.»

«أجل. كنت في إنجلترا منذ مدة. لكنني لم أظنَّ في واقع الأمر أنني سأحتاج إلى تلك الآثار. فقد كنت أنوي التخلُّص من شخصية ليزلي سيرل أيضًا. أن أجد نهاية مشتركة له ولوالتر. وهذا حتى لا يبدو الأمر كأنه جريمة قتل.»

«سواءٌ كان الأمر جريمة قتل أو — كما تبيَّن — وضع ويتمور في مأزق، كان في ذلك لهوٌ باهظ الثمن عليكِ، أليس كذلك؟»

«باهظ الثمن؟»

«عمل مُصوِّر فوتوغرافي يُدرُّ ربحًا كثيرًا، وزيٌّ كامل لشاب نبيل من أقمشة باهظة الثمن، وأمتعة متنوعة من أفضل الصانعين. الأمر الذي يُذكرني بأن أسألك، أنتِ لم تسرقي فردة قفاز من ليز جاروبي، أليس كذلك؟»

«كلا، لقد سرقتُ زوجًا. من درج السيارة. لم أكن أُفكِّر في القفازات، لكنني اكتشفت فجأة كم تكون قفازات المرأة مُقنعة. أقصد إن كان هناك شك فيما يتعلق بجنسك. إن القفازات شبه مقنعة كأحمر الشفاه. لقد نسيت أحمر الشفاه الخاص بي بالمناسبة؛ في اللفافة الصغيرة. لذا أخذتُ زوج قفازات ليز. لم يكن ذلك الزوج ليلائم يديَّ بالطبع، لكنني أردت أن أحمله معي. وقد أخذتُه على عجلٍ من درج الياقات لأن والتر كان قادمًا في الممر يُنادي ليرى ما إن كنت مستعدًّا، واكتشفت لاحقًا أنني لم آخذ سوى فردة واحدة. هل كانت الأخرى لا تزال موجودة في الدرج؟»

«أجل. وقد أدَّت بي إلى أبعد النتائج تضليلًا.»

فقالت لي، «أوه!» وبدت مستمتعة وقد تخلت عن جمود مشاعرها للمرة الأولى. أخذت تفكر قليلًا، ثم قالت: «لن يعتبر والتر ثانية أن زواجه من ليز هو أمر مسلَّم به. هذا شيء وحيد جيد تسببت أنا في حدوثه. من العدالة الشاعرية أن تكون امرأة هي من فعلت ذلك. وذكاء منك أن تُخمِّن أنني كنت امرأة فقط من الهيكل الخارجي للفافة صغيرة.»

«أنتِ تنسبين لي شرفًا أكثر من اللازم. لم يخطر ببالي قطُّ أنكِ قد تكونين امرأة. إنما فكرت وحسب في أن ليزلي سيرل قد رحَل مُتنكِّرًا في زي امرأة. ظننتُ أن الزي ربما يخصك أنت، وأنه رحل إليكِ. لكن التخلي عن حياة سيرل كلها ومُتعلِّقاته قد حيرني. ما كان لسيرل أن يفعل ذلك إلا إن كانت هناك شخصية أخرى سيتقمَّصها. حينها فقط بدأت أتساءل إن كان سيرل مُتنكرًا وليس رجلًا من الأساس. ولم تبدُ تلك الفكرة جامحة كما كانت ستبدو من قبل، لأنني رأيت مؤخَّرًا قضية سرقة تبيَّن لاحقًا أنها مختلفة على نحو يثير الدهشة كثيرًا. ورأيت كيف من السهل القيام بذلك. ثم بعد ذلك وجدتكِ أنتِ، في مواجهتي مباشرة، إن جاز التعبير. شخصية جاهزة تمامًا لكي يذُوب سيرل فيها. شخصية كانت ترسم في اسكتلندا بكل ارتياح فيما كان سيرل يُخادع المثقَّفين في أورفوردشير.» ثم انتقلت عين جرانت إلى معرض الرسوم. «هل استأجرتِ هذه اللوحات، أم رسمتِها بنفسكِ؟»

«بل رسمتها بنفسي. فأنا أقضي الصيف في ممارسة الرسم في أوروبا.»

«هل ذهبتِ من قبل إلى اسكتلندا؟»

«كلا.»

«يجب أن تذهَبي وتُشاهديها في وقتٍ ما. كيف عرفتِ أن جبل سوليفان يتمتَّع بتلك النظرة التي وكأنها تقول: «انظر إليَّ»؟»

«هكذا بدا على البطاقة البريدية. أأنت اسكتلندي؟ جرانت اسم اسكتلندي، أليس كذلك؟»

«اسكتلندي مارق. كان جدي ينتمي إلى منطقة ستراثسبي.» ثم نظر جرانت إلى الترتيب التسلسلي على قماش الرسم وابتسم. «حجة غياب رائعة وشاملة ومقنعة كأكثر ما رأيت يومًا.»

فقالت في ارتياب وهي تنظر إليها: «لا أعرف. أعتقد أنها بالنسبة إلى رسام آخر ستُصبح أقرب كثيرًا إلى كونها اعترافًا. إنها هدامة بشكل مُتعجرف كثيرًا. وتوحي بالغضب. أظنها كذلك. كنت سأرسمها اليوم بطريقة مختلفة كثيرًا، بعد أن عرفت ليز وبعد أن صرت … ناضجة، وقد ماتت مارجريت في قلبي كما ماتت في الواقع. من النضج كثيرًا أن تكتشف أن شخصًا عرفته طوال حياتك لم يكن موجودًا من الأساس. هل أنت متزوج، أيها المفتش؟»

«كلا. لماذا؟»

فقالت على نحو مبهم: «لا أعرف. كنت أتساءل كيف فهمت بسرعة ما حدث لي بسبب مارجريت. أعتقد أن المرء يتوقَّع من الأشخاص المتزوجين أن يكونوا أكثر تعاطفًا تجاه التقلبات العاطفية. الأمر الذي يعدُّ سخيفًا إلى حدٍّ كبير؛ لأنهم يكونون مُشوَّشِين كثيرًا بمشاكلهم العاطفية الخاصة مما يعوق وجود فائض من التعاطف لديهم. إنما الشخص المستقل أو الأعزب هو من … من يساعد في هذا الصدد. ألن تحصل على مزيد من القهوة؟»

«أنتِ تصنَعين القهوة أفضل حتى مما ترسُمين.»

«أنت لم تأتِ لتُلقيَ القبض عليَّ، وإلا لما شربت من قهوتي.»

«أنتِ محقَّة إلى حدٍّ بعيد. ما كنت لأفعل. ما كنت حتى لأشرب قهوة شخص يحب الدعابات المزعجة.»

«لكنك لا تمانع أن تشرب القهوة مع امرأة كانت تخطط طويلًا وباستفاضة لقتلِ شخصٍ ما؟»

«وقد غيرت تلك المرأة رأيها. هناك قلة فقط من الناس ممن كنت سأرغب في قتلهم في سابق أيامي. وأظن أنني، مثل جيلبرت، كنت سأصنع من هؤلاء قائمة قصيرة بعد أن أصبح السجن مؤسسة عقابية لا تربو عن كونها مدرسة عامة غير جيدة، وبعد أن أصبحت عقوبة الإعدام على وشك أن تُلغى. ثم سأقوم بمسحٍ ساحق حين أكبر في السن قليلًا — سأتخلَّص من عشرة بسعر التخلُّص من واحد فقط — وأتقاعد هانئًا لأتلقَّى الرعاية المناسبة لما تبقَّى من حياتي.»

قالت على نحو غير ذي صِلة: «أنت عطوف للغاية.» ثم قالت بعد ذلك: «أنا لم أرتكب أيَّ جريمة في واقع الأمر. لذا لا يُمكنهم أن يُلاحقوني قضائيًّا بسبب أيِّ شيء، أليس كذلك؟»

«عزيزتي الآنسة سيرل، لقد ارتكبت كل جريمة معروفة في العالم. وأسوءُها وأبعدها عن الغفران هي تضييع وقت قوات شرطة هذا البلد المُثقَلة بالأعمال.»

«لكن تلك ليست بجريمة، أليس كذلك؟ هذا هو سبب وجود الشرطة. لا أقصد: أن يضيع وقتهم، بل أقصد أنهم يحرصون على عدم وجود شيء مريب حيال حادثٍ ما. ومن المؤكَّد أنه لا يوجد قانون يعاقب المرء على ما أطلقت أنت عليه مزحة مزعجة، أليس كذلك؟»

«دائمًا ما يكون هناك مبدأ «الإخلال بالسِّلم». ومن المدهش كم الأشياء المتنوعة التي يمكن استحداثها لتندرج تحت مظلة عنوان الإخلال بالسلم.»

«وماذا يحدث حين يخل المرء بالسلم؟»

«يُمنَح نصيحة أخلاقية وتُطبَّق عليه غرامة مالية.»

«غرامة مالية!»

«مبلغ بسيط للغاية، وهذا في معظم الأحيان.»

«لن أُرسَل إلى السجن إذن؟»

«إلا إن كنتِ قد فعلتِ شيئًا لا أعلم به بعد. وما كنتُ لأستبعدَ ذلك عنك، كما يقولون في ستراثسبي.»

فقالت: «أوه، كلا. كلا. أنت تعرف بالفعل كل شيء عني. ولا أعرف كيف تعرف كل هذا، إذا كان هذا ضروريًّا.»

«إن رجال شرطتنا بارعون. ألم تسمَعي بذلك؟»

«لا بدَّ أنك كنت واثقًا تمامًا من أنك عرفت عني كل شيء قبل أن تأتي باحثًا عن تلك البقعة البُنية في قزحية عيني.»

«أجل. ورجال شرطتكم بارعون كذلك. لقد بحثوا في المواليد في جوبلينج في كونتيكت، من أجلي. والطفل الرضيع الذي أخذه السيد والسيدة دورفي سيرل معهما حين غادرا جوبلينج، كان أنثى، كما أبلغوني. بعد هذا كنت سأندهش للغاية لو لم يكن هناك بقعة بُنية في قزحيتك.»

«إذن فقد اتفقتُم عليَّ.» كانت يداها قد توقَّفَتا عن الارتعاش كما لاحظ جرانت. وكان مسرورًا أنها وصلت إلى مرحلة التهكُّم. «هل ستصحبُني معك الآن؟»

«بل على العكس. هذا فراقُ بيني وبينكِ.»

«فراقٌ؟ لا يُمكنك أن تفارق شخصًا لا تعرفه.»

«بالنِّسبة إلى الصلة بيننا من حيث التعارف المتبادل، فإنني أحظى بأفضلية عليكِ كما يقولون. قد تكون معرفتي جديدة عليك إلى حدٍّ ما — أو هي فعليًّا جديدة — لكنكِ لم تُفارقي ذهني طوال الأسبوعين الماضيين، وسأُسرُّ كثيرًا لأخرجك من تفكيري.»

«لن تأخذني إذن إلى قسم الشرطة أو أي شيء من هذا القبيل؟»

«كلا. إلا إذا بدرتْ منك علامات على مُغادرة البلاد بسرعة. في تلك الحالة ومن دون شك سيظهر شرطي إلى جانبك وسيقدم لكِ دعوة ملحَّة لكي تظلي.»

«أوه، لن أهرب. أنا آسفة حقًّا لما بدر مني. أقصد لما سببت من متاعب وما سببت من … معاناة حسبما أظن.»

«أجل. أشعر أن المعاناة هي الكلمة المناسبة.»

«وآسفة خصوصًا على ما لا شكَّ أن ليز قد عانت منه.»

«كان شرًّا غير مبررٍ منكِ أن تفتعلي ذلك الخلاف في حانة سوان، أليس كذلك؟»

«بلى، بلى. كان هذا شيئًا لا يُغتفَر. لكنه أصابني بالجنون إلى هذه الدرجة. كان مُتعجرفًا للغاية. مُتعجرِفًا بغير وعي منه. لطالما كان كل شيء سهلًا بالنسبة إليه.» هنا رأت رغبته في التعليق ظاهرة على وجهه، فاحتجَّت تقول: «أجل. حتى عن وفاة مارجريت! فقد ذهب بعدها مباشرة إلى ذراعي ليز. لم يعرف والتر قطُّ معنى الأسى. أو الخوف. أو اليأس. أو أي شيء من الأشياء البليغة «الطاحنة» في الحياة. كان مُقتنعًا إلى حدٍّ كبير أن لا شيء يتعذَّر إصلاحُه قد يقع له. فلو ماتت «مارجريت» دائمًا هناك «ليز». «أردته» أن يُعاني. أن يقع في شيء لا يمكن له أن يُخلِّص نفسه منه. أن يلقى المتاعب ويظلَّ يُعاني فيها ولو لمرة واحدة. ولا يُمكنك أن تقول إنني لم أكن محقَّة! لن يصبح والتر متعجرفًا ثانية. أليس كذلك؟ بعد ما حدث!»

«بلى، أظن أنه لن يُصبح كذلك. في الواقع، أنا واثق من ذلك.»

«أنا آسفة للألم الذي اضطرت ليز إلى تكبده. كنت سأذهب إلى السجن إن كان في ذلك تعويض لها. لكنني أعطيتها والتر بشخصية أفضل كثيرًا من الذي كانت ستتزوَّج به. إنها واقعة حقًّا في حب ذلك المخلوق البائس الأناني المسكين. والآن، لقد عدلت من شخصيته لأجلها. وسأَندهِش كثيرًا لو لم يُصبح منذ الآن رجلًا جديدًا.»

«إن لم أذهب، فستُثبتي لي أنكِ فاعلة خير بدلًا من كونك مُذنِبة بتهمة الإخلال بالسلم.»

«ماذا سيحدث لي الآن؟ هل أجلس فقط وأنتظر؟»

«لا شك أن شرطيًّا سيُقدِّم لكِ استدعاءً رسميًّا بالحضور أمام المحكمة. بالمناسبة، هل لديكِ محامٍ؟»

«أجل، لديَّ رجل عجوز له مكتب صغير غريب، وهو يحتفظ برسائلي البريدية حتى أطلبَها منه. يُدعى بينج، باري، باري وبينج، لكنني لا أظنُّ أن اسمه أيٌّ من ذلك في الواقع.»

«إذن من الأفضل لكِ أن تذهبي وتخبريه بما فعلتِ.»

«هل أخبرُه بكل شيء؟»

«الأجزاء المهمَّة ذات الصلة. ربما يمكنكِ عدم ذكر الخلاف في حانة سوان، وأي شيء آخر تعتقدين أنكِ تشعرين بالخجل منه.» لاحظ جرانت أنها تفاعلت مع ذلك. فأكمل: «لكن لا تُسقطي الكثير. فالمحامون يحبُّون أن يعرفوا؛ ولا يمكن أن يصدموا كرجال الشرطة.»

«هل صدمتك، أيها المفتش؟»

«ليس على نحوٍ ملحوظ. فأنتِ تُمثِّلين تحوُّلًا مُرضيًا من السرقات المسلَّحة والابتزاز وخدع الاحتيال.»

«هل سأراك حين أُحاكَم؟»

«كلا. بل أتوقَّع وجود رقيب صغير ليقدم الأدلة.»

أخذ جرانت قبعته واستعد للرحيل، وهو ينظر مرةً أخيرة إلى معرض امرأة واحدة للوحات منطقة ويست هايلاندز.

ثم قال: «ينبغي لي حقًّا أن آخُذ معي لوحةً كتذكار.»

«يمكنك أخذ أي لوحة تختارها. سيتم محوها على أي حال. أيها يروقك؟» كان من الواضح أنها لم تعرف ما إن كان جرانت جادًّا في حديثه أم لا.

«لا أعرف. تروقني كيشورن، لكنني لا أتذكر أن كيشورن كانت عدائية إلى هذا الحد، ولو أخذت لوحة كولينج فلن يكون هناك مساحة لي بالغُرفة معها.»

كانت قد بدأت تقول: «لكن أبعادها تبلغ فقط ثلاثين بوصةً في …» ثم فهمت مقصده. «أوه. فهمت. أجل، إنها اقتحامية ومُتطفِّلة.»

«لا أظنُّ أن أمامي وقتًا لأنتظر وأنتقي منها. أخشى أن عليَّ أن أتركها. لكن شكرًا لكِ على هذا العرض.»

فقالت: «عد في أي يوم حين يكون أمامك متسع من الوقت واختر من بينها على راحتك.»

«شكرًا لكِ. قد أفعل ذلك.»

قالت وهما ينزلان على السلم: «حين تُبرئ المحكمة ساحتي، ستجد هذا الأمر محبطًا بعض الشيء، أليس كذلك؟ أن أنطلق بنيَّة قتل شخص ما وينتهي بي المآل إلى الإخلال بالسلم.»

أسَرَت نبرة الانفصال في حديثها هذا انتباهه، فوقف طويلًا ينظر إليها. وبعد برهة قال كما لو كان يُصدر حكمًا: «لقد شُفيتِ.»

فقالت بنبرة حزينة: «أجل، لقد شُفيت. لن أصبح ساذجة بعد الآن. كان الأمر جميلًا أثناء فترة استمراره.»

قال جرانت مُطمئِنًا ومشجعًا إياها: «من الجميل أن ينضج المرء أيضًا» وغادر نازلًا السلم. وحين فتح الباب نظر خلفه فوجدها لا تزال واقفة ترقبه. فقال: «بالمناسَبة، ما هي الأكسسوارات؟»

«ماذا؟ أوه!» ثم ضحكت قليلًا. «أحزمة ومآزر وعقد أنشوطية وباقات أزهار صغيرة هشة لتزين بها النساء شعورهن.»

قال جرانت: «وداعًا.»

«وداعًا، أيها المفتش المحقِّق جرانت. أنا ممتنَّة لك.»

انطلق جرانت في ضوء الشمس، متصالحًا مع العالم.

وبينما يسير إلى محطة الحافلة واتته فكرة جميلة ومجنونة. سيتَّصل بمارتا ويسألها إن كانت تريد استضافة امرأة أخرى في ليلة السبت، وستقول هي أجل، أحضر من تريد، وسيحضر لهم لي سيرل.

لكنه بالطبع لا يستطيع فعل ذلك. فسيُصبح هذا تصرفًا غير لائق من ضابط في قسم التحقيقات الجنائية؛ إذ سيشير هذا إلى طيش عقله ورعونة من جانبه لا يمكن وصفها إلا بكونها باعثة على الأسى في ظل هذه الظروف. قد يُصبح مقبولًا ممن هم مثل لي سيرل في هذا العالم؛ الأشخاص الذين لم ينضجوا بعد، أن ينساقُوا وراء أفكارهم، أما بالنسبة إلى البالغين، الذين يتسمون بالوقار على وجه الخصوص، فهم يلتزمون بقواعد اللياقة.

وبالطبع كانت هناك تعويضات مقابل ذلك. فالحياة مبنية بالكامل على التعويضات.

إن الوهم والخيال للمراهقين؛ أما البالغون فلهم البهجة الناضجة.

ولم تستطع بهجة من سنوات «شبابه» أن تملأ صدره بترقُّب مثير أكثر من البهجة النابعة من تصوره لوجه مديره برايس حين يقدم له تقريره هذا الصباح.

كان ذلك مشهدًا مرتقبًا مهيبًا ومُرضيًا بحق.

بالكاد كان بمقدوره الانتظار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤