الفصل الثاني

قالت ليز حين خرجت إلى الرصيف: «يا لَلنهار الرائع! يا للنهار الصافي الطيب!» وراحت تتنسَّم هواء ما بعد الظهر في استمتاع. وأضافت: «لقد أوقفت السيارة عند زاوية الشارع في الميدان. أتَعرِف لندن جيدًا، يا سيد … سيد سيرل؟»

«أجل، كثيرًا ما كنتُ أزورُ لندن في الإجازات. ولكني لا آتي غالبًا في مثل هذا الوقت المبكر من العام.»

«أنت لم ترَ إنجلترا قطُّ إلا إذا كنت قد رأيتها في الربيع.»

«هذا ما سمعت.»

«هل استقللتَ الطائرة إلى هنا؟»

«من باريس فقط، مثل أي أمريكي صالح. باريس جميلة في الربيع أيضًا.»

فردت ليز بنفس جملته ونبرته: «هذا ما سمعت.» ثم حين وجدت أنه ينظر إليها نظرةً أزعجتها، أردفت تقول: «هل أنت صحفي؟ هل عرفت كوني ويجن من خلال هذا؟»

«لا، أنا أعمل في نفس المجال الذي كان يعمل به كوني.»

«التصوير الصحفي؟»

«ليس الصحفي. التصوير فقط. أنا أقضي معظم فصل الشتاء على الساحل الغربي، أصور الناس.»

«الساحل الغربي؟»

«كاليفورنيا. هذا يجعلني في وضع مادي جيد. والنصف الآخر من العام أقضيه في السفر وتصوير الأشياء التي أريد تصويرها.»

قالت ليز وهي تفتح باب السيارة وتستقلها: «تبدو حياة طيبة».

«إنها حياة طيبة للغاية.»

كانت السيارة من طراز رولز رويس ذات مقعدَين؛ عتيقة الطراز بعض الشيء في شكلها كما هو حال سيارات رولز رويس التي تدوم إلى الأبد. شرحت له ليز هذا الأمر وهما يقطعان الطريق خروجًا من الميدان ويلتحمان بالحركة المرورية في نهاية فترة ما بعد الظهر.

«كان أول ما فعلته الخالة لافينيا حين جنت الكثير من المال أن اشترت لنفسها وشاحًا من فرو السمور. فلطالَما ظنت أن لوشاح فرو السمور الكلمة العُليا في الأناقة. وثاني شيء أرادت شراءه كان سيارة من طراز رولز رويس. وقد حصلت على هذه حين نشرت كتابها التالي. لم ترتدِ الخالة لافينيا الوشاح قطُّ لأنها قالت إن من مصادر الإزعاج المروعة أن يتدلى شيء من المرء طوال الوقت، لكن السيارة الرولز رويس كانت صفقة موفقة؛ لذا ما زالت لدينا.»

«وماذا حدث لوشاح فَرْو السمور؟»

«بادلت به اثنين من الكراسي على طراز المَلِكة آن وآلةً لجز العشب.»

حين وقَفا أمام الفندق قالت ليز: «لن يدَعُوني أنتظر هنا. سأذهب إلى ساحة الانتظار وأنتظرك.»

«لكن ألن تُساعديني في حزم حقائبي؟»

«أساعدك في حزم حقائبك؟ بالطبع لن أفعل.»

«لكن خالتك طلبت منكِ أن تفعلي.»

«كان ذلك مجرَّد تعبير مجازي.»

«لم يكن ذلك ما فهمته. على أي حال، اصعدي وشاهديني وأنا أحزم الحقائب. قد أَستفيد من رأيكِ كما سيُبهجني مُحيَّاكِ. إن مُحيَّاكِ لطيف.»

في نهاية المطاف كانت ليز هي في الواقع من حزمت الأغراض في حقيبتَيه، بينما يُخرج هو أغراضه من الأدراج ويُلقي بها إليها. لاحظَت ليز أن الأغراض كلها باهظة الثمن؛ مصنوعة بالطلب من أفضل الخامات.

سألته: «هل أنت فاحش الثراء، أم أنك شديدُ الإسراف؟»

«لنَقُل إنني أحب التأنُّق.»

بحلول الوقت الذي غادَرا فيه الفندق كانت أول مصابيح الشارع قد أضيئت لتُزيِّن ضوء النهار.

قالت ليز: «تُصبح الأضواء في أفضل شكل لها في هذا الوقت في رأيي. حين لا يزال ضوء النهار موجودًا. إنها باللون الأصفر الساحر كزهر النرجس البري. وبعد قليل حين يحل الظلام ستصبح الأضواء بيضاء وعادية.»

عادا بالسيارة إلى منطقة بلومزبيري ليجدا أن الآنسة فيتش قد رحلت. بينما تمدَّد السيد روس، أحد صاحبَي الشركة، على كرسي في إنهاك شديد، وهو يتجرَّع ما تبقَّى من شراب الشيري وقد غرق في التفكير، واستجمع بعض قواه ليقول بلطف إن الآنسة فيتش رأت أن سيارة السيد ويتمور ستكون بها مساحة أكبر فذهبت إلى الاستوديو ليأخُذها معه حين ينتهي من برنامجه الذي مدَّته نصف ساعة. وكان على الآنسة جاروبي والسيد سيرل أن يتبعاها إلى سالكوت سانت ماري.

ظل سيرل صامتًا وهما يشقَّان طريقهما خارج لندن؛ احترامًا للسائقة، كما اعتقَدَت ليز، فراقها ذلك منه. ولم يبدأ في الحديث عن والتر حتى بدأت الحقول الخضراء تظهر على الطريق عن جانبَيهما. يبدو أن كوني كان يحب والتر كثيرًا.

«إذن لم تكن في البلقان مع كوني ويجن؟»

«كلا، لقد تعرفت على كوني في الولايات المتحدة. لكنه تحدَّث كثيرًا في خطاباته عن ابن خالتك.»

«كان هذا لطفًا منه. لكن والتر ليس ابن خالتي.»

«حقًّا؟ لكن الآنسة فيتش خالتك، أليس كذلك؟»

«كلا. لا تجمعني بأيٍّ منهما أي صلة قرابة. لقد تزوجت أخت لافينيا — واسمها إيما — من أبي حين كنت صغيرة. هذا كل ما في الأمر. لقد حاصرته أمي — إيما — فعليًّا، إن كان لا بد من قول الحقيقة. ولم يكن أمامه مفر. لقد ربَّت لافينيا، وكانت صدمة مريعة لها حين بدأت فيني تتطلع إلى المستقبل وفعلت شيئًا لنفسها. خاصة لو كان شيئًا استثنائيًّا كأن تصبح من أفضل الكُتاب مبيعًا. نظرت إيما حولها لترى من يمكن أن تطوله يدها لتشمله برعايتها، وكان ذلك الشخص هو أبي، الذي كان مكبلًا بطفلته ويلتمس الوقوع في الأسر ببساطة. وهكذا أصبحت إيما جاروبي، وأصبحت أمي أيضًا. لا أعتبرها أبدًا «زوجة أبي»؛ لأنني لا أتذكر أمًّا غيرها. وحين مات والدي، أتت والدتي لتعيش في تريمنجز مع الخالة لافينيا، وحين أنهيتُ مدرستي أصبحتُ سكرتيرة لها. وهذا يُفسِّر ما قالته عن حزم أغراضك.»

«وماذا عن والتر؟ أين هو من كل ذلك؟»

«إنه ابن الأخت الكبرى. مات والداه في الهند وربَّته الخالة لافينيا منذ ذلك الحين. أعني مذ كان في الخامسة عشرة من عمره أو نحو ذلك.»

صمَتَ سيرل قليلًا، فكان بلا شك يُحاول استيعاب هذه الأمور في ذهنه.

تساءلت ليز في نفسها: لماذا أخبرته بذلك؟ لماذا أخبرته أن أمها كانت تنزع إلى التملُّك؛ حتى ولو أوضحت أنها كانت تحبُّ التملك بألطف الطرق؟ أكان من المحتمل أنها تشعُر بالتوتر؟ وهي التي لم تشعر من قبل قطُّ لا بالتوتر ولا بحب الثرثرة. ماذا كان هناك ليُصيبَها بالتوتر؟ من المؤكد أنه لا يوجد شيء يدعو إلى القلق والتوتر في وجود شابٍّ وسيم. لقد التقت بالكثير من الشباب الوسماء من قبل باعتبارها ليز جاروبي وسكرتيرة الآنسة لافينيا فيتش، لكنها لم تتأثر كثيرًا بهذا الشكل (بقدر ما يمكن لها أن تتذكر).

انعطفت ليز من على السطح الأسود المصقول للطريق الرئيسي إلى طريق جانبي. تلاشت خلفهما آخر لمحة من لمحات التطور الحديث، فصارا الآن في عالم ريفي تمامًا. كانت الطرق الصغيرة تتقاطع بعضها مع بعض، وأصبحت مجهولة الاسم دون أي صلة بينها، وأخذت ليز تنتقي الطرق التي ستسير عليها من دون تردد.

سألها سيرل: «كيف تعرفين الطريق؟ تبدو لي هذه الطرق الترابية الصغيرة متشابهة كثيرًا.»

«تبدو لي متشابهة أيضًا. لكنني قمت بهذه الرحلة كثيرًا حتى إن يديَّ تقومان بها تلقائيًّا، تمامًا كما تعرف أصابعي المفاتيح على الآلة الكاتبة. لا يمكنني ذكر أماكن المفاتيح في الآلة الكاتبة عن طريق محاولة تخيلها، لكن يديَّ تعرفان مكان كل مفتاح. أتعرف هذا الجزء من العالم؟»

«لا، إنه جديد علي.»

«إنها مقاطعة مضجرة في اعتقادي. رتيبة إلى حد بعيد. يقول والتر إنها مكان تتكرر على امتداده سبعة أشياء مع تغيير ترتيبها: ست أشجار وكومة قش. ويؤكد بالفعل أن أغنية المسير الرسمي لفوج المقاطعة تحتوي على عبارة تقول بكل وضوح: «ست أشجار وكومة قش!».» وغنت له المقطع الأخير. ثم قالت: «وحين ترى المطب على الطريق، تكون هذه هي بداية حدود أورفوردشير، وهي أكثر قبولًا بكثير.»

في واقع الأمر كانت مُقاطعة أورفوردشير امتدادًا من الأرض يبعث على الرضا. وفي ظلمة الغسق المتنامية تدفقت معالمها معًا في تشكيلات مُتغيِّرة باستمرار، فبدت في مثاليتها كالحلم. بعد ذلك توقَّفا على شفا وادٍ ضحل ونظرا أسفلهما إلى أسقف البيوت الملطَّخة بالسواد وأضواء القرية المُتناثِرة.

قالت ليز، وهي تُقدِّمها له: «هذه هي سالكوت سانت ماري. قرية إنجليزية كانت فيما مضى جميلة وأصبحت الآن مُحتلَّة.»

«مَن الذين يحتلونها؟»

«من يُطلِق عليهم من تبقى من السكان الأصليين «عصبة الفنانين». هذا محزن كثيرًا لهم، أولئك المساكين. لقد تعاملوا مع الخالة لافينيا بهدوء؛ لأنها كانت مالكة «المنزل الكبير» ولم تكن جزءًا من حياتهم الفعلية على الإطلاق. كما أنها مكثت كثيرًا هنا حتى إنها بدأت تنتمي إلى هذا المكان. لم يكن المنزل الكبير قطُّ جزءًا من القرية طوال القرن الماضي، على أي حال؛ لذا لم يكن من المهم كثيرًا من كان يعيش فيه. لقد بدأت المشاكل حين أصبح منزل ميل هاوس شاغرًا، وكانت إحدى الشركات ستشتريه. أقصد لتحوله إلى مصنع. حينها سمعت مارتا هالارد بالأمر واشترته لتعيش فيه، وكان ذلك تحت أعين العديد من المحامين، فسُرَّ الجميع وظنوا أنهم قد نجوا. لم يكن يروقهم كثيرًا أن تعيش ممثلة في هذا البيت، لكن على الأقل لن يصبح هناك مصنع في قريتهم الرائعة في نهاية المطاف. يا لهم من مساكين، ليتهم أدركوا الوضع سلفًا!»

ثم أدارت ليز السيارة، وراحت تقود ببطءٍ على طول المنحدَر، الموازي للقرية.

قال سيرل: «أعتقد أن الزحف من لندن إلى هنا قد بدأ في غضون ستة أشهر تقريبًا.»

«كيف عرفت ذلك؟»

«أرى ذلك طوال الوقت هناك على الساحل الغربي. يجد أحدُهم بقعة هادئة طيبة، وقبل أن ينتهي من أعمال السباكة يجد نفسه مطالبًا بالتصويت من أجل اختيار عمدة.»

«أجل، تجد غريبًا في كوخ من بين كل ثلاثة. هناك كل درجات الثراء بدءًا بتوبي توليس — الكاتب المسرحي كما تعرف — الذي يمتلك منزلًا جميلًا على الطراز الجاكوبي في مُنتصَف شارع القرية، حتى سيرج راتوف الراقص الذي يعيش في إسطبل تحوَّل إلى منزل. وهناك كل درجات العيش في الخطيئة، بدءًا بديني بادينجتون التي لا يأتيها زائر إجازة نهاية الأسبوع نفسه مرتَين أبدًا، وحتى العجوزين المسكينين أتلانتا هوب وبارت هوبارت اللذَين يعيشان في الخطيئة — ليرحمهما الرب — منذ ثلاثين عامًا. وهناك كل درجات الموهبة بدءًا من سيلاس ويكلي — الذي يكتب تلك الروايات الكئيبة عن حياة الريف والتي تعج بالروث الذي ينبعث منه البخار والأمطار المنهمرة — وحتى الآنسة إيستون-ديكسون التي تكتب كتابًا واحدًا في العام عن القصص الخرافية من أجل موسم عيد الميلاد.»

فقال سيرل: «يبدو ذلك رائعًا.»

فردَّت ليز بنبرة حانقة أكثر مما كانت تبغي: «بل قبيحًا للغاية»، ثم تساءلت مرة أخرى عن سبب انفعالها بهذا الشكل هذا المساء. وعادت تقول وقد جمعت شتات نفسها: «وبالحديث عن القبح، أخشى أن الجو مظلم كثيرًا بالنسبة إليك بما لا تستطيع معه أن تُقيِّم تريمنجز جيدًا، لكن تقييمه الكامل يُمكن أن ينتظر حتى الصباح. يُمكنك أن تحصل فقط على الانطباع العام عنه وهو في مواجَهة السماء.»

انتظرَت حتى نظر الشاب إلى أطر قِمَم الأبراج والأسوار ذات الفتحات المُظلِمة في سماء المساء. ثم قالت: «التُّحفة الاستثنائية هي البيت الزجاجي القوطي، وهو ما لن تستطيعَ رؤيته في ظل هذا الضوء.»

سأل سيرل في تعجُّب: «لماذا اختارت الآنسة فيتش هذا الطراز؟»

فقالت ليز وكان صوتها دافئًا بفعل الألفة والانسجام: «لأنها ظنَّت أنه راقٍ وفاخر. لقد ترعرعت الآنسة فيتش في بيت قس؛ من النوع الذي بُنيَ حوالي عام ١٨٥٠؛ لذا اعتادت عينها رؤية الطراز القوطي الفيكتوري. وحتى الآن، هي لا ترى حقًّا أي مشكلة به. هي تعرف أن الناس يسخرون منه، وهي متقبلة ذلك إلى حدٍّ ما، لكنها لا تعرف حقًّا لمَ يسخرون. حين أحضرت كورماك روس — وهو الناشر الخاص بها — إلى هنا لأول مرةٍ أثنى عليها بسبب ملاءمة الاسم، ولم تكن لديها أدنى فكرة عما كان يقصد.»

قال الشاب: «في الواقع، لستُ في حالة مزاجية لأن أنتقد حتى الطراز القوطي الفيكتوري. كان من اللطيف كثيرًا من جانب الآنسة فيتش أن تأتي بي إلى هنا من دون حتى أن تتوقف لتبحث عني في سجلات الهاتف. فنحن في الولايات المتحدة نتوقع المزيد من الحذر من جانب الإنجليز على نحو ما.»

«إن المسألة لدى الإنجليز لا تتعلق بالحذر؛ بل هي مسألة حسابات منزلية. لقد طلبت منك الخالة لافينيا الحضور إلى هنا على الفور لأنها لم يكن عليها أن تفكر في أمور المنزل. إنها تعرف أن هناك ما يكفي من البياضات الاحتياطية لفرش سريرٍ إضافي، وما يكفي من الطعام في المنزل لإطعام ضيف، وما يكفي من «العمالة» ليعملوا على راحتك، ومن ثمَّ لم يكن أمامها داعٍ للتردُّد. أرجو ألا تمانع لو ذهبنا مباشرة إلى المرأب وأدخلنا أغراضك من الباب الجانبي. إن المسافة بين الباب الأمامي ومسكن الخادمات طويلة؛ لأن القاعة البارونية تعترض الطريق للأسف.»

سألها سيرل وهو يرفع نظره نحو هيكل المنزل بينما يطوفان حوله: «مَن بنى هذا ولماذا بناه؟»

«رجل من برادفورد، بحسب ما علمت. كان هناك منزل قديم جميل للغاية على الطراز الجورجي في هذا المكان — هناك صورة له في حُجرة الأسلحة — لكنه رأى أنه رديء الشكل فهدَمه.»

حمل سيرل أغراضه عبر ممرات قبيحة مُضاءة بإضاءة خافتة؛ قالت ليز إنها تُذكِّرُها دائمًا بالمدرسة الداخلية.

قالت ليز وهي تشير إلى سلم للخدم: «ضعها هنا وحسب، وسيصعد بها أحدهم بعد قليل. لتدخلِ الآن إلى مكان به شيء من الحضارة، وتتدفَّأ وتحصلْ على شراب وتلتقِ بوالتر.»

دفعت ليز بابًا من الجوخ الأخضر ففتحتْه وأرشدت سيرل إلى مقدمة المنزل.

سألها سيرل وهما يعبُران المساحات الخالية في الردهة: «أتمارسين التزحلُق بحذاء ذي عجلات؟»

ردت ليز بأنها لم تُفكِّر في الأمر، لكن المكان بالطبع كان صالحًا لحفلات الرقص. وقالت: «إن هواة الصيد المحليين يستخدمونه مرة واحدة في العام. وعلى الرغم من أنك قد لا تظن ذلك، فإن المكان أقل عرضة للتيارات الهوائية من قاعة بورصة القمح في ويكهام.»

ثم فتحت بابًا فانتقلا من مساحات أورفوردشير الرمادية وممرات المنزل القاتمة الكئيبة إلى الدفء ونور المدفأة وحَفاوة غرفة المعيشة التي تعجُّ بأثاثٍ طال به العهد وتفوح برائحة الخشب المحترق ونبات النرجس. كانت لافينيا غارقة في أحد الكراسي وقدماها الصغيرتان الناعمتان موضوعتان على حافة حاجز المدفأة الفولاذي وشعرُها الأشعث يخرج من دبابيسه فيفترش بطانة الكرسي. وفي مواجهتها، يقف والتر ويتمور بطريقته المفضَّلة، مرفقه على رف المدفأة وإحدى قدميه على حاجزها، ورأته ليز فشعرت بدفقات من مشاعر الحب والارتياح.

لِمَ هذا الارتياح؟ هكذا سألت ليز نفسها وهي تستمع إلى عبارات التحية والترحيب. كانت تعلم أن والتر سيكون موجودًا. فلماذا الشعور بالارتياح؟

أكان الأمر فقط أنها تستطيع الآن تسليم عبء الواجبات الاجتماعية إلى والتر؟

لكن الواجبات الاجتماعية كانت مهمتها اليومية وكانت تقوم بها بصدر رحب. ولا يمكن كذلك اعتبار سيرل عبئًا بحق. فلم تلتقِ ليز بأحدٍ بهذا اللطف والتساهُل إلا نادرًا. لماذا كل هذا السرور لرؤية والتر، ذلك الشعور العبثي بأن الأمور ستصبح الآن على ما يرام؟ وكأنها طفل عاد من مكان غريب عليه إلى مكان يألفه.

راحت ليز ترقُب السرور على وجه والتر وهو يستقبل سيرل؛ وأحبَّته. كان إنسانًا عاديًّا، وغير مثالي، وقد بدأت التجاعيد تغزو وجهه بالفعل، كما أبدى شَعره أمارات عودته للنمو فوق صدغَيه، لكنه كان والتر، وكان حقيقيًّا؛ وليس … ليس شيئًا ذا وسامة أو جمال غير بشري جاء من زمن سحيق يتخطى حدود ذاكرتنا.

سعدت ليز حين لاحظت أن الوافد الجديد بدا قصيرًا تقريبًا وهو يقف وجهًا لوجه أمام والتر الفارع الطول. كما كان حذاؤه — رغم ثمنه الباهظ ومن وجهة نظر إنجليزية — غير مُلائم بنحو واضح.

فقالت لنفسها وهي غارقة حتى أذنَيها في عبثيتِها: «إنه مجرَّد مُصوِّر في نهاية المطاف.»

فهل كانت معجَبة بليزلي سيرل حتى إنها كانت في حاجة إلى الحماية منه؟ بالتأكيد لا.

كان من الشائع أن يصادف المرء هذه الوسامة العجيبة بين الشعوب الشمالية؛ ولم يكن ليعجَب منها لدرجة تُذكِّره بحكايات شعب السيلكي الأسطوري وغرابتهم. كان الشاب مجرَّد شاب وسيم ذي أصول إسكندنافية أمريكيَّة يتمتَّع بذوق بائس في اختيار الأَحذية ومَوهبة في استخدام النوع المناسب من العدسات. لم يكن هناك أدنى حاجة إليها أن ترسُم إشارة الصليب، أو أن تُلقي تعويذات لتحمي نفسها منه.

على الرغم من ذلك، حين سألته أمها على العشاء عما إن كان له أي أقارب في إنجلترا، أدركت ليز أنها تفاجأت بشكل غير مفهوم من أنه يمتلك أشياء عادية ودنيوية كالأقارب.

رد سيرل بأن لديه ابنة عم؛ وكان هذا كل شيء.

«نحن لا يروق بعضنا بعضًا. فهي تعمل رسامة.»

سأله والتر: «هل رسمُها غير مُتناسِق؟»

«أوه، أنا أُحبُّ رسمَها كثيرًا، أو ما رأيتُ منه. الأمر فقط أننا يزعج بعضنا بعضًا؛ لذا لا يُلقي بعضنا لبعض بالًا.»

سألته لافينيا عما كانت ترسمه ابنة عمه؛ أهي صور شخصية؟

تساءلت ليز في نفسها، فيما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث، إن كانت تلك الفتاة قد رسمت ابن عمها من قبل. لا بدَّ أنه أمر رائع أن تكون قادرًا على أخذ فرشاة ومجموعة من الألوان وتصور من أجل متعتك ورضاك وسامةً لا يُمكن أن يمتلكها أحد آخر غيره. وأن تحتفظ بهذه الصورة وتنظر فيها متى أردت حتى تموت.

قالت ليز لنفسها: «إليزابيث جاروبي! خلال وقتٍ ليس ببعيدٍ إطلاقًا ستُعلِّقين صُوَر المُمثِّلين.»

لكن لا؛ لم يكن الأمر على هذا النحو على الإطلاق. لم يكن في الأمر شيء مذمومًا أكثر من الوقوع في حب … أو الإعجاب بعمل من أعمال براكسيتيليز. لو أراد براكسيتيليز يومًا أن يُخلد أحد عدَّائي سباقات الحواجز، لكان ذلك العدَّاء سيُشبه ليزلي سيرل تمامًا. ينبغي عليها أن تسأله في وقتٍ ما عن مكان المدرسة التي كان يذهب إليها، وما إن كان قد شارك من قبل في سباقات الحواجز.

شعرت ليز بشيء من الأسف عندما لاحظت أن سيرل لم يرُق والدتها. بالطبع لم يكن أحد ليشكَّ في أمر كهذا؛ لكن ليز تعرف أمها جيدًا وكان بإمكانها أن تقيِّم بدقة بالغة ردود فعلها الخفية تجاه أي موقف من المواقف. كانت ليز تُدرك الآن مشاعر انعدام الثقة التي تفجَّرت وفاضت خلف ذلك المظهر الخارجي اللطيف المداهِن، كما تتفجر الحمم وتفيض خلف منحدرات جبل فيزوف الباسمة.

وفي ذلك كانت ليز بالطبع محقَّة. فحين ذهب والتر بضيفه ليُريه غرفته، وذهبت ليز للإعداد لوجبة العشاء، تحدثت السيدة جاروبي إلى أختها عن ذلك الشخص المجهول الذي جلبته إلى المنزل.

إذ سألتها: «كيف تعرفين إن كان يعرف كوني ويجن بالفعل؟»

فردت لافينيا على نحو عقلاني: «لو أنه لا يعرفه، فسرعان ما سيكتشف والتر ذلك. لا تزعجيني يا إم. أنا متعبة. كان الحفل مزعجًا كثيرًا. كان الجميع يثرثرون كثيرًا ويصيحون بأعلى أصواتهم.»

«إن كانت خطته الحقيرة تنطوي على سرقة تريمنجز، فسيكون الوقت قد تأخَّر كثيرًا بحلول صباح الغد عندما يدرك والتر أنه لا يعرف كوني على الإطلاق. بإمكان أي شخص أن يقول إنه كان على معرفة بكوني. وإن كان الأمر له صِلة بهذا، فيُمكن لأي أحد أن يقول إنه كان على معرفة بكوني وينجو بفعلته. فعمليًّا لم يكن هناك أي جانب من حياة كوني غير معروف لعامة الناس.»

«لا يُمكنني أن أجد سببًا لتَشكُّكِك الشديد حياله. كثيرًا ما استضفْنا دون تفكير أناسًا ما كنا نعرف عنهم أي شيء هنا …»

فقالت إيما في تجهُّم: «بالفعل، هذا صحيح.»

«وحتى الآن، دائمًا ما كانوا يصدُقون فيما يقولون. فلماذا اخترتِ السيد سيرل ليكون محلَّ شُكوككِ؟»

«إنه جذاب بشدة على أن يكون مأمون الجانب.»

كان من المعتاد بالنسبة إلى إيما أن تتجنَّب قول كلمة «جميل»، وأن تستخدِم كلمة بديلة عادية ككلمة «جذاب».

وأشارت لافينيا إلى أنَّ قدر الضرر الذي سيتسبَّب فيه السيد سيرل في المنزل سيكون ضئيلًا بالضرورة إذ إنه سيمكُث حتى يوم الإثنين فقط.

«وإن كان غرض السرقة هو ما يدور بخلَدك، فسيتلقَّى صدمة مُحزِنة حين يطوف بتريمنجز. لا يمكنني أن أفكر في شيء يستحق سرقته من هنا وحتى ويكهام.»

«هناك الفضيات.»

«بطريقة ما لا يُمكنُني أن أتخيل أن أحدًا يتكبد عناء المَجيء إلى حفل كورماك ويدَّعي بأنه يعرف كوني ويطلُب لقاء والتر من أجل الحصول فقط على دزينتين من الشوكات وبضع ملاعق وصينية تقديم. لماذا لا يكسر القفل في إحدى الليالي المظلمة وحسب ويسرق ما يريد؟»

بدت السيدة جاروبي غير مُقتنِعة.

«من المفيد بشدة أن تتحدَّث عن شخص مُتوفًّى إذا ما أردت أن تُقدَّم إلى إحدى الأسر.»

ردت لافينيا: «أوه، يا إم»، ثم انفجرت ضاحكة على الجملة بقدر ما ضحكت على الفكرة.

وهكذا جلست السيدة جاروبي وأخذت تُفكِّر في عبوس خلف مظهرها الخارجي اللطيف. لم تكن خائفة على الفضيات الخاصة بتريمنجز بالطبع. بل كانت خائفة مما أطلقت عليه «جاذبية» الشاب. كانت مُرتابة من جاذبيته في حدِّ ذاتها، وكرهت أن تراها تهديدًا محتملًا لمنزلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤