الفصل الرابع

كان الأمل يحدو إيما أن يرحل سيرل في هدوء قبل أن تتكشَّف أيُّ أدلة أخرى على جاذبيته أمام الأسرة؛ لكن كان مقدرًا أن يخيب أملها في ذلك أيضًا. فقد أعلن سيرل صراحة أنه أتى إلى إنجلترا في إجازة، ولم يكن لديه أقارب أو أصدقاء مُقرَّبُون يزورهم، وكان معه كاميرا وقد عقَدَ العزم على استخدامها، ولم يبدُ أن هناك سببًا يمنعه من المكوث في تريمنجز واستخدامها. وبمجرَّد أن رأى جمال أورفوردشير النقيَّ إلى حدٍّ كبير، قال إنه ينوي البحث عن فندق جيد في كروم ليجعل منه مركزًا للانطلاق للتصوير الفوتوغرافي للأكواخ والمنازل الريفية الموجودة في الأرجاء. لكن كان هذا أمرًا غير عملي، كما قالت لافينيا بسرعة. فقد كان بإمكانه المكوث في تريمنجز بين أصدقائه وغزو أبعد ما يُمكنه من المناطق والحصول على أفضل النتائج كما كان سيفعل وهو في كروم. فلماذا يتعيَّن عليه أن يعود كل ليلة إلى حجرة في فندق ويُصاحِب معارف عابرين في استراحة الفندق، في حين أن بإمكانه العودة إلى منزل وإلى رغد حُجرته في البرج؟

لا شك أن سيرل كان سيقبل هذه الدعوة في كل الأحوال، لكن الشيء الذي رجَّح الكفة كان الاقتراح أن بإمكانه ووالتر الاشتراك في تأليف كتاب. لم يكن باستطاعة أحد أن يتذكَّر فيما بعد من تقدَّم بهذا الاقتراح أولًا، لكنه كان اقتراحًا يُمكِن لأيِّ أحد أن يتقدَّم به. كان والتر قد تدرَّج من الصحافة إلى المرتبة البارزة للمُعلِّق الإذاعي، ووجود تعاون بين أحد أشهر الشخصيات البريطانية وبين أحد أكثر المصورين الأمريكيِّين استحواذًا على الإعجاب والتقدير من شأنه أن يثمر كتابًا قد يستحوِذ — مع شيء من الحظ — على اهتمامٍ مُتساوٍ من الإنجليز والأمريكيِّين. ويمكنهما أن يحققا ربحًا عظيمًا من خلال الشراكة بينهما.

لذا لم يكن رحيل سيرل واردًا صباح يوم الإثنين، ولا صباح يوم الثلاثاء، ولا في أيِّ يوم مُحدَّد في المستقبل القريب. على ما يبدو أنه لن يرحل عن تريمنجز. ولم يجد أحد مشكلة في هذا الأمر سوى إيما. وقد عرضت عليه لافينيا أن يستخدم سيارتها الرولز رويس ذات المقعدَين ليتنقَّل بها في أرجاء الريف — إذ لم تكن السيارة مستخدَمة في شيء كما قالت سوى أنها تقبع في المرأب أثناء عملها — لكن سيرل فضَّل أن يستأجر سيارة أصغر وأرخص من بيل مادوكس الذي كان يملك مرأبًا عند مدخل القرية. فقال: «إن كنتُ سأجوب طرقات بعضها ليس ذا حال أفضل من قيعان المجاري المائية، فأنا أريد سيارة لا ينشغِل بالي عليها.» لكن ليز شعرت أن ردَّه هذا كان مجرد طريقة لبقة لرفض ما عرضته لافينيا، وقد راقها منه ذلك.

تحدَّث بيل مادوكس عنه إلى أهل القرية على نحو طيب — إذ قال إنه «غير مُتكبِّر على الإطلاق ولا يُمكن خداعه أيضًا؛ إذ رفع غطاء المحرِّك وفحص السيارة وكأنه وُلد ميكانيكيًّا» — وهكذا بحلول الوقت الذي ظهر فيه في حانة سوان مع والتر ذات مساء كانت سالكوت سانت ماري تعرف عنه كل شيء، وكان أهلها مُستعدِّين لقبوله على الرغم من وسامته التي لاقت نقدًا كبيرًا. كان الغرباء عن سالكوت لا ينحازُون بالطبع ضد الوسامة ولم يتردَّدُوا بأيِّ نحو في قبوله. فتوبي توليس بمجرَّد أن رآه، نسي مباشرة حديثه عن حقوقه الخاصة بالتأليف، وكذلك المسرحية الكوميدية التي انتهى منها لتوِّه وتلك التي بدأ فيها لتوِّه، وخيانة كريستوفر هاتون (وكم كان أبله لأنه وثق بمخلوق يتمتَّع بغرورٍ مرَضي للغاية حتى إنه سمَّى نفسه بهذا الاسم!) وتوجه مباشرة وبسرعة نحو المقعد الذي أجلس والتر فيه سيرل حتى يُحضر الجعة.

وقال بأفضل أساليبه التي يتصنَّع فيها عدم اليقين: «أظن أني رأيتُك في حفل لافينيا في المدينة. اسمي توليس. وأنا أكتب مسرحيات.» إن التواضُع الذي تنطوي عليه الجملة الأخيرة دائمًا ما كان يستهويه. فالأمر أشبه بقول أحد مُلاك خُطوط السكك الحديدية العابرة للقارات: «أنا أملك قطارات.»

فقال ليزلي سيرل: «تشرَّفت بلقائك يا سيد توليس. ما نوع المسرحيات التي تكتبها؟»

ساد الصمت لحظة بينما كان توليس يلتقِط أنفاسه، وكان لا يزال يبحث عن كلمات عندما عاد والتر ومعه الجعة.

وقال: «حسنًا، أرى أنكما قد تعارفتُما.»

فقال توليس بعد أن استقرَّ على إجابته ومال نحو والتر بحماس: «والتر، لقد التقيتُ به!»

سأله والتر الذي كان دائمًا ما يتذكَّر من يقصدهم توليس بحديثه: «التقيت بمن؟»

«الرجل الذي لم يسمع بي قط. لقد التقيت به أخيرًا!»

فسأل والتر: «وكيف كان شعورك؟» وكان يرمق سيرل بنظرة سريعة ويُقرِّر مرة أخرى أن ليزلي سيرل به جوانب أخرى أكثر من الظاهرة للعيان.

«رائع يا عزيزي، رائع. إحساس فريد.»

«اسمه سيرل إن كان يُهمك ذلك. ليزلي سيرل. وهو أحد أصدقاء كوني ويجن.»

رأى والتر شيئًا من الشك يمرُّ بعينَي توبي توليس الرماديتَين بلَون السَّمَك، وتتبَّع هذه الفكرة بوضوح كبير. إن كان هذا الشاب الوسيم صديقًا لكوني ذي الشهرة العالميَّة، فهل كان من الممكن أنه لم يسمع من قبل بتوبي توليس الأكثر شهرة عالميًّا منه؟ أمن المُمكن أن الشاب كان يخدعه؟

وضع والتر كوبَي الجعة من يده، واندسَّ في المقعد بجوار سيرل واستعدَّ ليُمتِّع نفسه.

في الجهة المقابلة من الحجرة كان بإمكان والتر أن يرى سيرج راتوف وهو يُحدِّق بغضبٍ في تلك الصحبة الجديدة. كان راتوف في وقتٍ ما سبب وجود مسرحية جديدة من مسرحيات توبي توليس ونجمها المرتقب، والتي كان من المقرر أن تُسمَّى «بعد الظهيرة» وكانت تدور حول كائن الفون الأسطوري. لكن لسوء الحظ خضعت تلك المسرحية لتغييرات هائلة أثناء عملية ميلادها وخروجها إلى النور وفي النهاية أصبحت شيئًا يُسمَّى «الغسق»، وأصبحت عن نادل ضئيل الجسم في حانة بوا، ولعب الدور فيها وافد جديد له اسم نمساوي وطباع يونانية. لم يتعافَ راتوف من أثر هذه «الخيانة» قطُّ. ففي البداية أخذ يعاقر الشراب بشدة حتى بدأ يشعر بالشفقة على نفسه وهو ثمل؛ ثم أخذ يعاقر الشراب ليتجنب ألم الشفقة على الذات الذي ضجَّت به نفسه وهو غير ثمل؛ ثمَّ لم تعُد تُعرَض عليه أعمال لأنه أصبح شخصًا لا يعتمد عليه في البروفات والأداء التمثيلي؛ ثم وصل إلى أدنى مراحل السقوط التي يصل إليها راقص الباليه وتوقَّف حتى عن التدريب. وأصبحت الدهون الآن تطمِس، بنحو غامض لكنه أكيد، معالم قوامه المشدود النحيل. وحدهما العينان الحانقتان كانتا لا تزالان تتمتَّعان بالحياة والتوهُّج القديمَين. كانتا عيناه لا تزالان تملكان غايةً ومعنى.

وحين توقف توبي عن دعوته إلى منزله في سالكوت، اشترى راتوف الإسطبل القديم المُجاوِر لمتجر القرية؛ الذي كان مجرَّد كوخ صغير مُنحدِر السطح في مقابل الحافة الجملونية للمتجر؛ وحوَّله إلى مسكن له. وتبين له على نحو غير مُتوقَّع أن في هذا خلاصه؛ ذلك أن موقعه المميز بجوار المتجر الوحيد في القرية حوَّله من مجرَّد شخص مرفوض من توبي إلى مصدر عام للقيل والقال في المجتمع برمته، ومن ثم أصبح شخصية مستقلة ذات حيثية. وقد عامله أهل القرية من دون التحفظ الذي اعتادوا أن يتعاملوا به مع الغرباء الآخرين — متأثِّرين بالطابع الطفولي في ملامحه وشخصيته — مُستخدمين معه درجة التسامح نفسها التي يستخدمونها مع «الأبرياء» من بينهم. ومن ثم أصبح راتوف هو الشخص الوحيد في القرية الذي يتمتَّع بنفس القدر من الحرية بين المجتمعين. لم يكن أحد يعرف علامَ يحيا من طعام، أو إن كان يتناول الطعام من الأساس، وذلك مقارنةً بمُعاقرتِه للشراب. يُمكن أن تجده في أي ساعة من النهار تقريبًا وهو يقِف في اعتدادٍ وتأنُّق تامٍّ أمام منضدة مكتب البريد في المتجر، وفي المساء كان يعاقر الشراب في حانة سوان مثله في ذلك مثل بقية المجتمع.

وفي الأشهُر القليلة المنصرمة حدَث تقارب بينه وبين توبي، بل وسرت شائعات أنه قد بدأ يتدرب من جديد. والآن أصبح يرمق الوافد الجديد إلى سالكوت بغيرة، ذلك الوافد الجديد الفاضل البارز المتألق، الذي استحوذ على اهتمام توبي. وبرغم «الخيانة» والسقوط، كان تُوبي لا يزال صديقه وقدوته. وفكر والتر بقدر من التندر كيف سيشعر سيرج المسكين بالصدمة إن استطاع أن يشهد المعاملة التي يتعرض لها صديقه المفضَّل توبي. فتوبي الآن صار يعرف أن ليزلي سيرل هو شخص يُصوِّر مشاهير العالم؛ ومن ثمَّ فقد تأكَّدت شكوكه أن سيرل يعرف جيدًا من هو توبي توليس. لذا أصبح متحيرًا، إن لم يكن مجروح الكبرياء. إن أحدًا لم يُعامل توبي توليس بوقاحة مدة عقد من الزمان على الأقل. لكن حاجة المُمثِّل الذي بداخله إلى أن يصبح محبوبًا كانت أقوى بكثير من استيائه؛ لذا حشد كل ما يتمتَّع به من جاذبية لكي يفوز على ذلك الغريم المفاجئ.

جلس والتر يُشاهد تأثير الجاذبية العملي، وأخذ يُفكِّر كيف يتعذَّر استئصال صفة «الجلافة» من شخصية المرء. حين كان والتر طفلًا كان أصدقاؤه في المدرسة يستخدمون كلمة «جِلف» ككلمة فضفاضة لوصف أي شخص يرتدي الياقة الخاطئة. لكن بالطبع لم يكن الأمر على هذا النحو على الإطلاق. ما كان يجعل المرء جِلفًا هو نوعية عقليتِه. ومدى الوقاحة. والافتقار إلى الحساسية. إنَّ الجلافة شيء لا شفاء منه إلى حدٍّ كبير؛ فهو انحراف نفسي داخلي. وبعد كل هذه السنوات، لا يزال توبي توليس جِلفًا على نحو واضح لا لبس فيه. كان الأمر في غاية الغرابة. فلم يكن هناك باب في هذا العالم — باستثناء باب بلاط قصر سانت جيمس — ليس مفتوحًا لاستقبال توبي توليس. كان الرجل يسافر وكأنه شخصية ملَكية ويحظى بمزايا الدبلوماسيين تقريبًا؛ كان يرتدي الثياب من أفضل دور الأزياء العالَمية كما اكتسب قواعد اللياقة الاجتماعية من أفضل الناس في العالم؛ كان الرجل هو الأكثر رُقيًّا في العالم في كل شيء إلا في جَوهرِه. في جوهره ظلَّ توبي جِلفًا. لقد قالت مارتا هالارد ذات مرة: «كلُّ ما يقوم به توبي هو نشاز بعض الشيء»، وكان هذا وصفًا دقيقًا للأمر.

سُرَّ والتر — الذي كان ينظر من طرف خفي ليرى كيف يتعامل سيرل مع هذا التودُّد الغريب — حين لاحظ شيئًا من شرود الذهن على وجه سيرل بينما كان الأخير يتناول جعته. وكان مستوى شروده ملائمًا إلى حد مستحسن كما لاحظ والتر؛ إذ كان المزيد منها سيجعله عُرضة لاتهامه بالوقاحة؛ ومن ثم يوقعه في الحرج، والدرجة الأقل منها ما كانت لتُصبح واضحة بما يكفي لردع توليس. وعلى هذا الحال، كان توبي يبذل محاولات جاهدة بأكثر مما ينبغي ويجعل من نفسه أضحوكة بفعل حيرته. لقد حاول فعل كل شيء عدا حيلة التلاعب بالأطباق. كان توبي توليس لا يُطيق ألا ينبهر به أحد. أخذ توبي يتعرق. وابتسم والتر بينما ينظر إلى كوب جعته، وظل ليزلي سيرل دمثًا مُهذبًا وشارد الذهن بعض الشيء.

واستمر سيرج راتوف في النظر بغيرة من الجانب الآخر من الحجرة.

وتوقَّع والتر أنه إذا شرب سيرج كوبين إضافيين فسيُقدم على ارتكاب فضيحة، وتساءل في ذهنه إن كان ينبغي عليهم إنهاء جعتهم والرحيل، قبل أن ينضمَّ إليهم سيرج بسيل من لغة إنجليزية غير مفهومة واتهامات مُبهَمة. لكن الشخص الذي انضمَّ إليهم لم يكن سيرج بل كان سيلاس ويكلي.

كان ويكلي يرقبهم من عند المشرب لبعض الوقت، والآن أحضر جعته إلى طاولتهم وحياهم. وكما كان يعلم والتر، أتى ويكلي لسببَين: أنه يتَّسِم بفُضول النساء، ولأنَّ كل شيء جميل كان يجذبه كي يبدي تجاهه الشعور بالنفور. كان ويكلي يمتعض من الجمال، ولم يكن ليُحسب ضده أنه يجني دخلًا كبيرًا جدًّا من هذا الامتعاض. كان امتعاضه صادقًا إلى حدٍّ بعيد. وكما قالت ليز من قبل، كان العالم الذي يلقى استحسانه هو العالم الذي «يعجُّ بالروث الذي ينبعث منه البخار والأمطار المُنهمِرة». وحتى المحاولات البارعة للمُحاكاة الساخرة من أسلوبه الفرديِّ المُميَّز لم تفلح في إفساد شعبيته. فقد كانت جولات محاضراته في أمريكا تُحقِّق نجاحات صاخبة، وليس السبب الأكبر في ذلك أن قُرَّاءه المخلصين من بيوريا وبادوكا يُحبُّون الروث الذي ينبعث منه البخار، بل لأن سيلاس ويكلي تقمص الدور بامتياز شديد. كان سيلاس ويكلي شديد الشحوب داكن البشرة طويل القامة، وكان صوته متراخيًا هامسًا يئوسًا، وكل نساء بيوريا وبادوكا الطيبات كن يَتُقنَ لاصطحابه إلى المنزل وإطعامه وإبراز آفاقٍ أكثر إشراقًا على الحياة أمامه. وفي هذا كان أولئك النِّسوة أكثر سخاءً بكثير من زملائه الإنجليز؛ الذين يعتبرونه مملًّا تمامًا وأحمق بعض الشيء. وتُشير إليه لافينيا دائمًا بعبارة «ذلك الرجل المُضجر الذي يقول دائمًا إنه كان يرتاد مدرسة حكومية يُنفِق عليها دافعو الضرائب»، كما تعتقد أن به مسًّا من جنون. (أما من جانبه، فكان ويكلي يشير إلى لافينيا بلقب «المرأة فيتش» وكأنه يتحدث عن مجرمة.)

أقبل ويكلي نحوهم لأنه لم يستطع أن يتحاشى وسامة ليزلي سيرل البغيضة، ووجد والتر نفسه يتساءل إن كان سيرل يعلم بذلك. فقد أصبح سيرل — والذي كان لا يكترث في شيء من الدماثة بتوبي المتلهِّف — أصبح الآن منهمكًا في محاولة ترويض سيلاس ذي الطابع العدائي. وكان والتر الذي يُشاهد براعة سيلاس التي تكاد تكون أنثوية، كان على استعداد أن يُراهن أن سيرل سيُروِّض سيلاس ويكبله في غضون خمس عشرة دقيقة. فرمق الساعة الكبيرة المُملة المعلَّقة خلف المشرب وقرَّر أن يحتسب له الوقت.

وقد فعلها سيرل في أقل من المدة المتوقعة بخمس دقائق. ففي غضون عشر دقائق كان سيرل قد جعل من ويكلي، المُمتعض الحانق، أسيرًا في شباكه. وكان الارتباك في عينَي ويكلي الغائرتين أكبر بكثير من الارتباك في عينَي توبي الرماديتين بلون قشور السمك. وكاد والتر ينفجِر ضاحكًا بصوتٍ مُرتفِع.

ثم أضاف سيرل لمسَتَه الكوميدية الأخيرة إلى هذا المشهد. ففي لحظة محاولة كل من توبي وسيلاس الإتيان بأفضل ما يُمكنهما في تنافسهما من أجل التسلية، قال سيرل بطريقة حديثهِ البطيئة الممطوطة: «أستميحكم عذرًا، لكنني رأيت صديقًا لي»، ونهض على مهلٍ وسار مبتعدًا لينضم إلى صديقه عند المشرب. كان صديقه هو بيل مادوكس، صاحب المرأب.

دفن والتر وجهه في كوب جِعَته وهو يضحك على التعبيرات المرتسمة على وجهَي صديقَيه.

ولم يُساور والتر إحساس بسيط بالانزعاج إلا لاحقًا، حين أخذ يتذكَّر الموقف في ذهنه للتلذذ به. كان الموقف المرح لطيفًا، وقد أدَّاه سيرل في خفة، حتى إن صفته الجوهرية، وهي القسوة، كانت غير واضحة.

في الوقت الراهن كان والتر سعيدًا وحسب بردود الفعل النمطية لضحيتي سيرل. فقد تجرع سيلاس ويكلي ما تبقى من جعته، ودفع بالكوب بعيدًا عنه في إيماءة تنم عن اشمئزازه من نفسه، وخرج من الحانة من دون أن ينطق بكلمة واحدة. كان كرجل يهرُب من ذكرى عناق مُقزز في حجرة خلفية؛ رجل سأم خضوعه واستسلامه. وتساءل والتر في ذهنه للحظة إن كانت لافينيا على حق، وإن كان ويكلي به مس من جنون في نهاية المطاف.

على الجانب الآخر، لم يعرف توبي توليس الانسحاب ولا الاشمئزاز من النفس قط. كان تُوبي ينشر قواته وحسب من أجل إطلاق مزيد من الحملات.

إذ قال: «خجول بعض الشيء، صديقُك الشاب هذا» وكانت عينه على سيرل وهو يتحدَّث إلى بيل مادوكس عند المشرب.

كانت كلمة خجول هي آخر كلمة قد يستخدمها والتر عن ليزلي سيرل، لكنه عرف أن توبي لا بدَّ له وأن يُقدِّم مُبررًا لهزيمته المؤقتة.

«يجب أن تُحضرَه ليرى هوو هاوس.»

كان هوو هاوس مبنًى حجريًّا جميلًا يقف على نحو غير مُتوقَّع وسط صف جملونات سالكوت التي تتَّخذ ألوان الوردي والأصفر والكريمي. كان المنزل فيما سبق نُزُلًّا؛ وقبل ذلك، كان يقال إن أحجاره كانت جزءًا من دير يقع بعيدًا عبر الوادي. والآن أصبح المنزل تُحفة ذات طبيعة نادرة للغاية حتى إن توبي — الذي يُغيِّر مكان إقامته (بالكاد يُمكن أن نقول بيته) بين كل عام وآخر — ظلَّ يرفض طيلة سنوات كل العروض التي قُدِّمت لشرائه.

«هل سيمكُث معك طويلًا؟»

قال والتر إنه ينوي أن يُؤلِّف هو وسيرل كتابًا. ولم يحسما طبيعته بعد.

«هل سيصبح بعنوان التجوال بحرية في أرجاء أورفوردشير؟»

«شيء من هذا القبيل. سأتولى أمر كتابة النص، وسيتولى سيرل أمر الصور الإيضاحية. ولم نفكر بعد في موضوع محوري جيد للكتاب.»

«إن هذا الوقت من العام مبكِّر بعض الشيء للتجوُّل بحرية في الأرجاء.»

«لكنه مُناسِب للتصوير. قبل أن تتكتَّل الخضرة في المقاطعة.»

فقال توبي وهو يمسك بالكوبين ويتحرك نحو المشرب في عفوية تثير الإعجاب: «ربما أراد صديقُك الشاب أن يلتقِط صورًا في هوو هاوس.»

مكث والتر حيث كان، وتساءل عن عدد أكواب الجعة التي تناولها سيرج راتوف منذ أن لاحظه آخر مرة. لقد ظن آنذاك، أنه ينقصه تناول كوبين آخرين كي يبدأ شجارًا. لا بدَّ أنه قد وصل الآن إلى حد الانفجار.

وضع توبي الكوبين على طاولة المشرب ودخل أولًا في مُحادَثة مع صاحب الحانة، ثم مع بيل مادوكس، وبطريقة طبيعية إلى حدٍّ بعيد دخل في محادثة مع سيرل مرة أخرى. وقد أجرى الأمر ببراعة.

إذ سرعان ما سمعه والتر يقول: «لا بدَّ أن تأتي لتُشاهد هوو هاوس. إنه بديع الجمال. بل إنك قد ترغب في التقاط صور له.»

فسأله سيرل مُندهِشًا: «ألم تلتقِط له صورًا حتى الآن؟» كان اندهاشُه بريئًا إلى حدٍّ كبير؛ ذهول من أن شيئًا بهذا الجمال لم يُوثَّق. لكن ما وصل إلى سامعيه كان: «أمن المُمكن أن أحد أوجه حياة توبي توليس ظل مُستترًا عن الملأ؟»

وكانت تلك هي الشرارة التي أشعلت جذوة سيرج.

إذ صرخ واندفع من زاويته كالألعاب النارية ووضع وجهه الصغير الغاضب على بعد مسافة قليلة للغاية من وجه سيرل وقال: «أجل! لقد التقطتُ له صورًا! التقطت له صورًا آلاف المرات على يدِ أعظم المصورين الفوتوغرافيين في العالم وليس المنزل في حاجة إلى أن يحطَّ من قدره هاوٍ غبيٌّ من بلاد سُرِقت من الهنود حتى ولو كان وسيمًا ذا شعر مصبوغ بلا أخلاق و…»

فقال توبي: «سيرج! اخرس!»

لكن ثرثرة سيرج الجامحة أخذت تنصبُّ من وجهه المنكوب من دون أن يتوقَّف.

قال توبي: «سيرج! أتسمعُني! توقف!» ودفع راتوف برفق على كتفه حتى يدفعه بعيدًا عن سيرل.

كانت تلك هي اللمسة الأخيرة؛ ومن ثم ارتفع صوت سيرج عاليًا بسيل مُتواصِل من الإهانات، مُعظمُه مصوغ لحسن الحظ بإنجليزية غير مفهومة لكن تناثَرَت فيه بكثرة عبارات بالفرنسية والإسبانية ورُصِّع بألقاب وأوصاف مُبتكَرة تدعو إلى الضحك. وكانت «أنت لوسيفر الغرب الأوسط!» من بين أفضلها.

وفيما أخذتْهُ يد توبي من خلفية ياقته ليجرَّه بالقوة بعيدًا عن سيرل، اندفعت ذراع سيرج إلى حيث موضع كوب جِعَة توبي المملوء لتوِّه على الطاولة. وصل سيرج إلى الكوب قبل أن يتمكن ريف، صاحب الحانة، من أن يصل إليه بجزء من الثانية، فأمسك به، وقذف محتوياته كلها في وجه سيرل. وبفعل الغريزة، تحرك وجه سيرل جانبًا فتناثرَت الجعة على رقبته وكتفه. فرفع سيرج الكوب الثقيل فوق رأسه كي يقذفه، وهو يصرخ من شدة الغضب، إلا أن يدَ ريف الكبيرة أطبقت على معصمه وخلص الكوب من قبضته المتشنِّجة، ونادى ريف قائلًا: «آرثر!»

لم يكن هناك حارس في حانة سوان، إذ لم يكن هناك من قبلُ قطُّ حاجة إلى حارس. لكن حين تكون هناك حاجة إلى حثِّ أحدهم على أمر ما، كان آرثر تيبيتس يتولى ذلك. يعمل آرثر راعيًا للماشية في مزرعة سيلفرليس، وهو مخلوق ضخم الجثَّة بطيء الحركة رقيق القلب بحيث يمكن أن يترك طريقًا يمشي فيه تجنبًا لأن تطأ قدمه على دودة.

قال آرثر: «هيا بنا، يا سيد راتوف» وكان يطوق بجسده الساكسوني الضخم الجسد الصغير للرجل الأجنبي الذي يُنازع ليخلص نفسه من قبضته. ثم أكمل: «لا داعي لأن تنزعِج من مثل هذه الأمور الصغيرة. أهذا شرابُ جِن هذا الذي هناك، يا سيد راتوف. لقد أخبرتك من قبل. ليس هذا بشراب يشربه المرء، يا سيد راتوف. تعالَ معي الآن ولنرَ إن كنت ستتحسَّن بفعل الهواء النقي. لنرَ إن كنت ستتحسَّن.»

لم يكن سيرج ينوي الذهاب إلى أيِّ مكان مع أيِّ أحد. كان يُريد أن يمكُث ويقتل هذا الوافد الجديد على سالكوت. لكن ليس هناك أي حُجة ناجحة في مواجهة آرثر. فقد كان آرثر يضع ذراعه حول المرء وحسب بطريقة ودية ثم يضغط عليه. كانت ذراعه تُشبه فرع شجرة خوخ، والضغط يشبه سقوط كتلة صخرية ضخمة من فوق جبل. ذهب سيرج معه تحت وطأة الضغط نحو الباب، ثم خرجا معًا. لم يوقف سيرج ولو للحظة واحدة سيل سبابه واتهاماته، ولم يكن يُكرِّر شيئًا مما يقول بحسب ما أدرك الجميع.

وفيما أخذ صوت الثرثرة العالي يتلاشى في الهواء بالخارج، عاد المُشاهِدون إلى الهدوء والحديث مرة أخرى.

قال توبي توليس: «أيها السادة، أعتذر إليكم نيابة عن المسرح.»

لكنه لم يقلْها بخفة الدم المطلوبة. فبدلًا من أن يكون مُمثلًا مرحًا يُحاول أن يلطف من وطأة لحظة حرجة، كان توبي توليس يُذكرهم بأنه يتحدَّث عن المسرح الإنجليزي. وكما قالت مارتا من قبل: كل ما يقوم به توبي هو نشاز بعض الشيء. ولم يُضف حديثه إلى شعور الحرج الذي تشعر به القرية، سوى همهمات تندُّر.

مسَح صاحب الحانة كتف سيرل بمنشفة أكواب ورجاه أن يدخل إلى الخلف، على أن تنظِّف زوجته البذلة التي يرتديها بالماء النظيف، وتُزيل عنها رائحة الجعة قبل أن تجفَّ عليها. لكن سيرل رفض ذلك. كان لطيفًا للغاية في رفضِه لكنه بدا وكأنه يُريد الخروج من المكان. ورأى والتر أن سيرل يبدو متعبًا بعض الشيء.

تمنَّى سيرل ووالتر أمسية سعيدة لتوبي، الذي لا يزال يشرح حالة سيرج المزاجية بمُصطَلحاتٍ مسرحية، ثم خرجا إلى جو المساء اللطيف.

سأل سيرل: «هل يعبر عن تذمره بهذا العنف كثيرًا؟»

«راتوف؟ لقد تسبب في فضائح عدة مرات من قبل، أجل، لكنه لم يُثِر ضجَّة بمثل هذا العنف من قبل قطُّ. لم أشهدْه وهو يُحاول الاعتداء جسديًّا على أحد من قبل.»

قابلا آرثر، عائدًا ليُكمل تناول جِعته، فسأل والتر عما حلَّ بالرجل المُضطرِب.

قال آرثر بابتسامته العريضة: «هرع إلى المنزل. انطلق وكأنه سهمٌ ينطلِق من قوسه. يُمكنه أن يسبق أرنبًا بريًّا.» ثم عاد ليتناول شرابه.

قال والتر: «ما زال الوقت مُبكرًا على تناول العشاء. لنذهب إلى المنزل سيرًا بجوار النهر وعبر طريق الحقول. أنا آسِف حيال ما حدث من شجار، لكنني أتوقع أنك معتاد في عملك على الحالات المزاجية السيئة.»

«في الواقع، لقد تعرَّضت للشتائم من قبل، بالطبع، لكن لم أُقذف بشيء حتى الآن.»

«أكاد أقسم أن أحدًا من قبل لم يجرؤ على أن يُطلق عليك لوسيفر الغرب الأوسط. مسكين سيرج.» ثم توقَّف والتر ليتكئ على الجسر بجوار منزل ميل هاوس، ولينظر نحو انعكاس الشفق على مياه نهر راشمير. ثم أردف يقول: «ربما كان المثل القديم صحيحًا ولا يُمكن للمرء أن يحب ويكون حكيمًا. فحين يكون المرء مخلصًا لأيِّ أحد مثلما يخلص سيرج لتوبي توليس، فإنني أتوقع أن يجانب المرء الصواب حيال ذلك.»

قال سيرل بنبرة حادة: «الصواب».

«أجل؛ تفقد الأمور أبعادها الحقيقية. الأمر الذي أراه فقدانًا للصواب.»

ظل سيرل صامتًا لوقت طويل؛ إذ أخذ يُحدِّق بالمياه الجارية وهي تتدفَّق ببطء شديد نحو الجسر ثم تندفِع من تحته بحركة مُفاجئة تقوم بها المياه حين تتدفَّق حول عقبات تُعرقِل مجراها.

وكرَّر قائلًا: «الصواب»، وراح يرقب المكان الذي تفقد فيه المياه السيطرة وتنسحب تحت القناة.

قال والتر: «أنا لا أقول إن الرجل مجنون. إنما فقد قدرته فقط على الحكم بمنطق سليم.»

«وهل المنطق السليم صفة مرغوبة كثيرًا؟»

«إنها صفة مندوبة.»

قال سيرل: «لم يأتِ شيء عظيم قطُّ من المنطق السليم.»

«بل على النقيض. الافتقار إلى المنطق السليم مسئول عن كل الشرور في العالم إن تحدثنا عمليًّا. كل شيء من الحروب وحتى عدم إفساح مجال في الحافلة. أرى ضوءًا في منزل ميل هاوس. لا بد أن مارتا قد عادت.»

ورفعا ناظريهما نحو هيكل المنزل الضخم الذي يلمع في الشفق قبيل حلول الظلام وكأنه زهرة شاحبة تلمع. وقد أضاء شعاع ضوء واحد — والذي لا يزال بلون أصفر ساطع فيما تبقَّى من نور النهار — جانب المنزل الذي يطلُّ على النهر.

قال سيرل: «إنه شعاع ضوء كالذي تحبُّه ليز.»

«ليز؟»

«تحب الأشعة ذهبية كتلك التي في ضوء النهار. قبل أن تحولها الظُّلمة إلى اللون الأبيض.»

وللمرة الأولى يجد والتر ما يجبره على التفكير في أن سيرل على علاقة بليز. لم يخطر بباله حتى الآن أن يفكر في أن كلًّا منهما على علاقة بالآخر مطلقًا؛ إذ لم يكن ينزع إلى التملك ولو بالقدر القليل حيال ليز. بالنسبة إليه يمكن أن يرجع عدم التملك هذا إلى قيمه إن لم يكن نابعًا مباشرة من حقيقة أنه ينظر إليها كأمر مفروغ منه. ولو كان بالإمكان أن نسحب آخر ما تبقَّى من العقل اللاواعي لدى والتر إلى السطح ولو حتى بشكل من أشكال التنويم المغناطيسي، لوجدنا أنه يعتبر أن ليز تُبلي بلاءً حسنًا من تلقاء نفسها. حتى طيف هذه الفكرة كان سيصدم عقلَ والتر الواعي، بالطبع؛ لكن وبما أنه كان لا يميل تمامًا إلى التحليل الذاتي ولم يكن مغترًّا بنفسه إلى حد كبير (وهي صفة مكَّنتْه من أن يرتكب أمر البث الإذاعي الذي أثار اشمئزاز مارتا كثيرًا وأكسبه إعجاب الجمهور البريطاني)، فقد كان أبعد ما ذهب إليه عقله الواعي هو أن يرى أن من دواعي الإشباع والجدارة أن تحبه ليز.

كان والتر يعرف ليز من فترة طويلة حتى إنها لم تكن تمثل له أي مفاجأة. كان يسلم تمامًا بأنه يعرف كل شيء عنها. لكنه لم يكن يعرف شيئًا واحدًا بسيطًا عنها مثل حبها لأنوار المصابيح في ضوء النهار.

وقد علِم سيرل، الوافد الجديد، بذلك.

والأدهى، أنه تذكَّر ما أحبَّته ليز.

تعكر صفو والتر شيئًا طفيفًا.

ثم سأل: «هل التقيتَ بمارتا هالارد؟»

«كلا.»

«ينبغي أن نعوِّض ذلك.»

«لقد رأيتها وهي تمثل، بالطبع.»

«أوه. فيمَ كانت تُمثل؟»

«مسرحية تُدعى «مسير في الظلام».»

فقال والتر: «أوه، أجل. كانت تؤدي بشكل جيد في تلك المسرحية. إنه أحد أفضل أدوارها، في رأيي» ثم ترك أمر الحديث عن هذا الموضوع. لم يكن يُريد أن يتحدَّث عن مسرحية «مسير في الظلام». ربما تكون هذه المسرحية ذكرى من ذكريات هالارد، لكنها أيضًا من الذكريات ذات الصلة بمارجريت ميريام.

قال سيرل، وهو يرفع نظره نحو الضوء: «أعتقد أنه ليس بإمكاننا أن نزورها الآن؟»

«لقد شارفنا كثيرًا على وقت العشاء، حسبما أظن. ومارتا ليست من النوع الذي يُمكن لك أن تزوره بسهولة. وأشك، أن هذا هو سبب اختيارها لموقع ميل هاوس المُنعزِل منزلًا لها.»

«ربما بإمكان ليز أن تصحبني إليها وتُقدِّمَني لها غدًا.»

كاد والتر يقول: «ولماذا ليز؟» حين تذكَّر أن الغد هو يوم الجمعة، وأنه سيظلُّ بعيدًا في البلدة طوال اليوم. فيوم الجُمعة هو يوم البث الإذاعي. وتذكر سيرل أن والتر لن يكون هنا غدًا على الرغم من أنه هو نفسه نسي ذلك. ومن ثمَّ تعكَّر صفو والتر مرة أخرى.

«أجل. أو ربما بإمكاننا دعوتها على العشاء. إنها تحب الطعام الطيب اللذيذ. أعتقد أن من الأفضل أن نكمل طريقنا.»

لكن سيرل لم يتحرَّك. كان ينظر إلى الطريق المحاط بأشجار الصفصاف التي تحد صفحة الماء اللامعة كالقصدير والآخذة عتمتها في الزيادة.

ثم قال: «لقد وجدته!»

«وجدتَ ماذا؟»

«الموضوع الرئيسي. الرابط الموصل. الفكرة المُميِّزة.»

«أتقصد، من أجل الكتاب؟»

«أجل. إنه النهر. نهر راشمير. لماذا لم نُفكِّر في هذا من قبل؟»

«النهر! أجل! لماذا لم نفعل؟ أعتقد أن ذلك بسبب أنه ليس نهرًا من أنهار أورفوردشير وحدها. لكنه يمثل الحل المثالي بالطبع. وقد حدَث هذا مع نهر التيمز ونهر سيفيرن. ولا أجد سببًا يجعل الأمر يفشل مع نهر راشمير الأصغر منهما.»

«هل سيقدم لنا التنوع الذي نحتاجه من أجل الكتاب؟»

قال والتر: «بلا شك. لا يُمكن أن يكون هناك أفضل من ذلك. يرتفع مستوى النهر في ذلك الريف الجبلي؛ حيث تكثر الخراف والجدران الحجرية والحدود الوعرة؛ ثم نجد بعد ذلك الجزء الرعوي القروي ببيوته الريفية الجميلة وحظائره الرائعة، والأشجار الإنجليزية في أفضل أشكالها وصورها، والكنائس القروية التي تُشبه الكاتدرائيات؛ ثم نجد بعد ذلك ويكهام، أصل المدن الإنجليزية ذات الأسواق؛ حيث المدينة التي انطلق منها الفلاح المُستأجِر ليتحدَّث إلى الملك ريتشارد في لندن هو الرجل نفسه الذي يقود العجول اليوم إلى متن القطار في طريقها إلى الأرجنتين.» ثم انسلَّت يد والتر إلى جيب صدره حيث يحتفظ بمُفكرته، لكنه أنزلها مرةً أخرى. وأردف يقول: «ثم نجد المُستنقعات. حيث تقف أسراب الإوز في مواجهة أفق المساء. وتشكيلات السحب البديعة والأعشاب المُتمايلة. بعدها نجد الميناء: ميناء مير. والذي يكاد يكون هولندي الطابع. إنه يختلف تمامًا عن المقاطعة التي في خلفيته. مدينة تعج بالبنايات الفريدة الجميلة، وميناء يعجُّ بأنشطة الصيد والتجارة الساحلية. والنوارس والانعكاسات على المياه والجملونات. إنه مثالي، يا سيرل!»

«متى نبدأ؟»

«حسنًا، في البداية، كيف سنُؤدِّي المهمَّة؟»

«هل يُمكن أن نبحر عبر النهر بقارب؟»

«قارب بنط فقط. أو قارب سكيف حيث يتسع النهر أسفل الجسر.»

فقال سيرل بشك: «قارب بنط. إنه أحد تلك القوارب المسطحة التي تستخدم لصيد البط.»

«تقريبًا.»

«لا يبدو هذا عمليًّا. من الأفضل أن نستخدم زوارق الكانو.»

«زوارق الكانو!»

«أجل. أيمكنك أن تقود واحدًا؟»

«لقد جدفت بأحدها في أرجاء بركة حديقة للزينة حين كنت طفلًا. هذا كلُّ ما فعلت.»

«أوه، حسنًا، على الأقل لديك فكرة عنه. وسرعان ما ستتذكر طريقة الإبحار به. من أي نقطة في أعلى النهر يمكننا أن نبدأ، بزوارق الكانو؟ إنها فكرة رائعة، يا رجل. إنها حتى تقدم لنا عنوانًا للكتاب. «زوارق كانو في نهر راشمير». عنوان رنان. كأنه يُشبه: «طبول عبر وادي موهوك». أو «زيت لمصابيح الصين».»

«سيتعيَّن علينا أن نجتاز الجزء الأول منه سيرًا على الأقدام. الجزء حيث الريف والخراف. وعلى طول مساره حتى أوتلي تقريبًا. أتوقع أن مجرى النهر سيستوعب زورق كانو عند أوتلي. رغم أنني لا أتوقَّع كثيرًا أن أشعر بالارتياح في زورق كانو، وليُساعدني الرب في ذلك. يمكننا أن نحمل حقيبة صغيرة من منبع النهر — إنه نبع في وسط أحد الحقول، حسبما فهمت على الدوام — حتى أوتلي أو كابل، ومن هناك نستقلُّ زورقَي كانو حتى البحر. «زوارق كانو في نهر راشمير». أجل، يبدو العنوان مناسبًا. حين أذهب إلى المدينة يوم غد سأذهب لمقابلة كورماك روس وأعرض عليه الفِكرة وأعرف ما العرض الذي سيتحمَّس لتقديمه إليَّ. وإن لم ترُقه الفكرة، لديَّ نصف دزينة أخرى من الناشرين سيتهافتون عليها. لكن روس واقع تحت سيطرة لافينيا؛ لذا يُمكننا أن نستفيدَ منه إن كان سيُشارك.»

قال سيرل: «بالطبع سيفعل. أنت فعليًّا مثل أفراد العائلة المالكة في هذا البلد، أليس كذلك!»

إن كان هناك أي أحاسيس في هذا التهكُّم فإنها ليست واضحة.

قال والتر: «ينبغي عليَّ حقًّا أن أعرض الأمر على دار نشر ديبهام. فهم من نشروا كتابي عن حياة المزرعة. لكنني تشاجرت معهم بشأن الصور التوضيحية. كانت تلك الصور مريعة، ولم يلقَ الكتاب رواجًا.»

«أظن أن هذا كان قبل أن تعمل في مجال البث الإذاعي.»

«أوه، أجل.» ثم ابتعد والتر عن الجسر وبدأ السير نحو الطريق بين الحقول كي يعود ليتناول وجبة العشاء. «لقد رفضوا قصائدي، بعد إصدار الكتاب عن حياة المزرعة؛ لذا يُمكنني أن أستخدم هذه الذريعة للابتعاد.»

«أتكتب القصائد أيضًا؟»

«ومن لا يفعل؟»

«أنا على سبيل المثال.»

فقال والتر على نحوٍ ودِّي مرِح: «أحمق!»

ثم عادا لمناقَشة طرائق وأساليب رحلتهما عبر نهر راشمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤