الفصل الخامس

قال والتر على الإفطار في صباح اليوم التالي: «لتأتِ معي إلى المدينة لنُقابل روس.»

لكن سيرل أراد أن يظلَّ في الريف. فقال إنه لأمر سيئ أن يقضيَ ولو يومًا واحدًا حتى في لندن بينما يدخل الريف أول أطوار التحوُّل إلى اللون الأخضر. بالإضافة إلى أنه لم يكن يعرف روس. لذا من الأفضل أن يقدم والتر الفكرة إلى روس أولًا، ثم يقدمه له لاحقًا.

وعلى الرغم من أن والتر كان محبطًا، فإنه لم يتوقف ليحلل نوعية الإحباط الذي يشعر به بالتحديد.

لكن بينما يقود والتر السيارة في طريقه إلى المدينة كان ذهنه مشغولًا بصورة أقل بكثير عن المعتاد بأمر البث الإذاعي؛ ذلك أنه شرد عائدًا إلى تريمنجز على نحو غير مُعتاد كثيرًا.

ذهب والتر للقاء روس وعرض عليه خطط كتاب «زوارق كانو في نهر راشمير». وأعرب روس عن سروره وقرَّر تقديم نسبة زائدة قدرها اثنين ونصف بالمائة كاتِّفاق مشروط. لكنه أشار بالطبع أنه لا يُمكن التوصُّل إلى اتِّفاق نهائي بشأن أي شيء حتى يستشير كرومارتي.

كان الافتراض الشائع أن روس أدخل كرومارتي شريكًا له من أجل المرح الذي يُضفيه الأمر؛ من حيث تناغم اسمَيهما. كان كورماك روس يُبلي بلاءً حسنًا بمفرده، وذلك بقدر ما يعرف الجميع، وبدا من ظاهر الأمر أنه لا حاجة إلى اتخاذ شريك له؛ خاصة إذا كان شريكًا غير مُتميِّز ككرومارتي. لكن كورماك روس كان يتمتع بما يكفي من صفات أهل ويست هايلاندز ليجد صعوبة في أن يرفض. كان يروقه أنه يروق الجميع. لذا فقد أشرك معه كرومارتي كساتر دخاني. فعندما يتطلب الأمر استقبال كاتب ما بترحاب، يستقبله كورماك روس بترحاب. أما حين يجب أن يرفض عرض أحد المؤلفين مع الأسف، فإن ذلك يكون بسبب عناد كرومارتي. وذات مرة قال كرومارتي لروس في نوبة من الانفعال: «أطلعني على الأقل على الكتاب الذي أرفضه!» لكن تلك كانت حالة من حالات المبالغة. ففي طبيعة الأمر كان كرومارتي يقرأ الكتب التي سيُصبح مسئولًا عن رفضها.

والآن، عندما وجد روس نفسه أمام عرض لكتاب سيؤلفه النجم المحبوب من الجمهور البريطاني في الوقت الحالي، استخدم العبارة التلقائية عن استشارة شريكه؛ لكن وجهه الوردي المستدير كان مشرقًا بالرضا والارتياح، فأخذ والتر لتناول الغداء واشترى له زجاجة مشروب روماني كونتي؛ أتى عليها والتر الذي يحب الجعة.

ومن ثم ذهب والتر إلى الأستوديو، وقد امتلأت معدته بشراب فاخر وامتلأت نفسه بأمل كبير في وجود شيكات في الطريق إليه، فبدأ ذهنه مرة أخرى يمارس عليه الألاعيب وشرد سارحًا في سالكوت بدلًا من أن يركز مسرورًا في الأستوديو كما هي عادته.

كان والتر دائمًا ما يدعو ضيفًا ليتحاور معه خلال نصف الحلقة التي يُقدمها أسبوعيًّا على الهواء. وكان الضيف شخصًا ترتبط مهنته أو هوايته بالطبيعة والتواجد في «الهواء الطلق»؛ تلك السلعة التي بذْل والتر عليها جهدًا كبيرًا مؤخَّرًا من أجل أن يجعلها حكرًا عليه بشكل فعلي. وقد نظم والتر تلك الفقرة عبر استضافة صياد أو مُربٍّ للخراف من الأجزاء الخلفية في أستراليا، أو مُراقب طيور أو حارس من ساذرلاند، أو أنثى جادة أخذت تجوب الأرجاء لتبعد جوز البلوط إلى جانبَي الطريق، أو هاوٍ يصطاد بالصقور، أو أي شخص آخر يصادف أن يكون في طريقه ولديه استعداد. أما بالنِّسبة إلى النصف الآخر من الحلقة فكان والتر يتحدث ليس إلا.

واليوم كان ضيفه طفلًا يربي ثعلبًا أليفًا، وشعر والتر بالضيق حين وجد أن ذلك الطفل المزعج لم يرُقه. كان والتر يحبُّ ضيوفه. ويشعر نحوهم بالدفء والحماية والأخوة؛ ولم يكن يحب الجنس البشري بهذا الشكل الكبير أو بهذا العمق كمثل ما يفعل حين يتحدث هو وضيوفه معًا في نصف الساعة تلك. كان والتر يحب ضيوفه إلى حدِّ البكاء من الرقة نحوهم. والآن فإن والتر مُنزعج من شعوره بالانفصال عن هارولد ديبس وثعلبه وانتقاده لهما. لاحظ والتر مع الأسف أن هارولد يملك فكًّا غير مُكتمِل النمو، وكان هو نفسه يبدو كالثعلب. ربما مكث الثعلب معه لأنه شعر أنه مع أحد من بني جلدته. وشعر والتر بالذنب لأن فكرة كهذه واتتْه وحاول أن يعوض عن ذلك بأن يضفي على صوته نبرة دافئة أكثر مما تحمل في الغالب، حتى بدا أن اهتمامه بالأمر يحمل نبرة مُتكلفة. كان هارولد وثعلبه هما حالة الإخفاق الأولى بالنسبة إلى والتر.

ولم يكن الحديث كذلك ناجحًا بما يكفي ليمحو ذكرى هارولد. كان الحديث عن «ما يفعله دود الأرض من أجل إنجلترا». وكانت عبارة «من أجل إنجلترا» هي لمسة نموذجية من لمسات والتر. قد يتحدَّث رجال آخرون عن مكان دود الأرض في الطبيعة، ولم يكن أحد ليهتمَّ ولو بقدر ضئيل لا بدود الأرض ولا بالطبيعة. لكن والتر علَّق دودته في صنارة شكسبيرية وأخذ يحركها بلطف، حتى يتمكَّن مُستمعوه من رؤية جحافل الغابة العمياء الغاضبة وهي تُحوِّل الأحجار الرمادية في البحر الغربي إلى الجنة الخضراء التي هي إنجلترا. ستُرسَل سبعة وخمسون خطابًا غدًا في أول بريد متاح من جهة الحدود الشمالية، بالطبع، للإشارة إلى أن اسكتلندا هي الأخرى لديها دود الأرض. لكن كان هذا مجرد الكثير من الأدلة الإضافية على القوة التي يتمتع بها تصوير والتر.

كانت عادة والتر السرية أن يتحدث كما لو كان يخاطب شخصًا واحدًا مُحددًا حين يبث برنامجه؛ وهي خدعة تساعده على الوصول إلى حالة الود غير الواعي تلك والتي كانت هي صفته المميزة. لم يكن هذا الشخص الذي يخاطبه حقيقيًّا قطُّ؛ ولم يتخيَّل هو قطُّ شكل مُستمعه الخيالي بالتفصيل. كان والتر يقرر فقط أنه سيتحدث اليوم إلى «امرأة عجوز في ليدز»، أو إلى «فتاة صغيرة في مستشفى في بريدجووتر»، أو إلى «حارس فنار في اسكتلندا». أما اليوم فقد فكر للمرة الأولى أن يتحدَّث إلى ليز. دائمًا ما كانت ليز تستمع إلى بثه الإذاعي، وكان يُسلم يقينًا أنها ستستمع له اليوم، لكن مستمعه التخيُّلي كان جزءًا أصيلًا من تمثيله حتى إنه لم يخطر بباله من قبل قط أن يستخدم ليز باعتبارها الشخص الذي يتحدث إليه. الآن، واليوم، انمحى مستمعه «التخيلي» بفعل احتياج مبهم بداخله لتقريب ليز إليه، احتياج إلى أن يشعر بها إلى جواره، فتحدَّث إلى ليز.

لكن ذلك لم يحقق النجاح المرجو. كان مجرَّد تذكر ليز يصرف ذهنه عن النص المكتوب، فأخذ يتذكر ليلة أمس بجوار النهر، وأشجار الصفصاف وقتامتها الآخذة في الازدياد، والنجمة الذهبية الوحيدة بجوار منزل ميل هاوس. وإضاءة بلون النرجس البري الشاحب، «كما تُحبُّها ليز». ثم انصرف انتباهه عن الديدان وعن إنجلترا وتعثَّر في نطق الكلمات، فضاع منه وهم العفوية.

وقَّع والتر دفاتر التوقيعات التي أرسلت إلى الاستوديو لأجل ذلك الغرض، وكان في أثناء ذلك متحيرًا ومنزعجًا بعض الشيء لكنه لم يكن مُضطربًا كثيرًا، وقرَّر ما سيفعل بشأن حالات (أ) طلب حضوره إلى حفل تعميد، (ب) طلب الحصول على إحدى ربطات عنقه، (ﺟ) تسعة عشر طلبًا للظهور في برنامجه، و(د) سبعة طلبات لقروض مالية؛ ثم غادر عائدًا إلى المنزل. وبعد أن واتتْه فكرة لاحقة، عاد والتر واشترى رطلًا من ملبَّس الشوكولاتة لأجل ليز. وبينما كان يضعه في علبة القفازات بالسيارة خطر له أن وقتًا طويلًا قد مر منذ أن اشترى شيئًا لليز وهو في طريق عودته إلى المنزل. كانت تلك عادة لطيفة؛ ينبغي أن يكثر من فعلها.

وما كاد يترك زحام المرور خلفه وامتدَّ أمامه الطريق السريع الرئيسي في هدوء حتى انصرف ذهنه عن ليز إلى الشيء الذي كانت تُخبئه صورتها: وهو سيرل. سيرل. «لوسيفر الغرب الأوسط» كما قال عنه سيرج المسكين. تساءل والتر في ذهنه، لماذا لوسيفر؟ لوسيفر، أمير الصباح. كان دائمًا ما يتخيَّل لوسيفر عملاقًا طويلًا من نار طوله ستة أقدام ونصف. وليس مثل سيرل على الإطلاق. ماذا كان بسيرل وأوحى بلوسيفر إلى عقل راتوف الاتهامي؟

لوسيفر. مجد ساقط. بهاء تبدَّل إلى شر.

رأى في ذهنه صورة سيرل الذي سار معه حول المزرعة؛ شعره الأشقر من دون قبَّعة وهو يتطاير في فوضى بفعل الرياح، ويداه مدفوعتان عميقًا في جيوب بنطاله الإنجليزي الخفيف. لوسيفر. كاد والتر يضحك بصوت مرتفع.

لكن كان هناك بالطبع شيء غريب فيما يتمتَّع به سيرل من وسامة. شيء — ماذا كان ذلك الشيء الغريب؟ — صفة لا يُمكن تحديد وجهتها. شيء ليس من عالم البشر تمامًا.

ربما كانت تلك الصفة هي ما أوحتْ بفكرة الملاك الساقط إلى عقل سيرج الخصب.

على أي حال، بدا سيرل شابًّا صالحًا، وهما سيُؤلِّفان كتابًا معًا؛ وسيرل يعلم أن ليز مخطوبة إلى والتر وسيتزوَّجها؛ لذا فإنه ما كان ﻟ…

لم ينهِ والتر خاطرته، حتى في ذهنِه. ولم يخطر له أن يتساءل في ذهنِه كيف يمكن لوسامة جعلت أحدهم يُفكِّر في الملاك الساقط، أن تؤثِّر على فتاة شابة مخطوبة إلى مذيع في هيئة الإذاعة البريطانية.

قاد والتر السيارة نحو المنزل بسرعة أكبر من المعتاد، وركن السيارة وأخذ حلوى ليز المفضَّلة من مكانها في صندوق القفازات، ودخل ليُقدِّمها لها ويحصل منها على قُبلة من أجل اهتمامه بها وبُعد نظره. كما كان والتر يحمل أخبارًا جيدة تتمثَّل في إعجاب كورماك روس بفِكرة الكتاب وأنه على استعداد لأن يدفع لهم لقاءها مبلغًا مجزيًا من المال. لم يكن والتر يُطيق الانتظار حتى يبلغ حجرة الاستقبال.

كانت الردهة ذات الطراز الباروني هادئة وباردة أثناء عبوره إياها، وقد تعبَّأت برائحة الملفوف والراوند المَطهو، رغم وجود أبواب عتيقة مبطَّنة بالجوخ الأخضر. وفي غرفة الاستقبال، والتي كانت دافئة ومُبهجة كعادتها، لم يكن هناك أحد سوى لافينيا، جالسة وقدماها على الحاجز الحديدي عند المدفأة وقد وضعت على ركبتَيها إصدارات اليوم من المجلات الأسبوعية الثقافية الرفيعة المُستوى.

قالت لافينيا وهي تطلُّ بوجهِها من وراء مجلة «ووتشمان»: «إنه لأمر غريب، كم هو من انعدام الأخلاق أن يتكسَّب المرء الأموال من الكتابة.»

«مرحبًا خالة فين. أين الآخرون؟»

«اعتاد ذلك التافه أن يُؤله سيلاس ويكلي حتى ذهب وجنى لنفسِه ثروة. إم بالطابق العلوي، حسبما أظن. أما الآخرون فلم يعودوا بعد.»

«لم يعودوا؟ من أين؟»

«لا أعلم. لقد خرجُوا بعد الغداء في تلك السيارة الصغيرة الكريهة المملوكة لبيل مادوكس.»

«بعد الغداء.»

««التكرار اللَّزِج لأسلوبٍ ما كونه يفتقر إلى حدة الذهن وكأنه ملصق إعلاني.» ألا يُصيبونك بالغثيان! أجل، لم أكن في حاجة إلى ليز ظهيرة اليوم؛ لذا خرجوا. إنه يوم رائع، أليس كذلك؟»

«لكن لم يتبقَّ إلا عشر دقائق حتى موعد العشاء!»

فقالت لافينيا، وعيناها تتبعان المذبحة المنصوبة لسيلاس: «أجل. يبدو أنهم سيتأخَّرُون.»

إذن لم تستمِع ليز إلى البرنامج! كان والتر يتحدَّث إليها ولم تكن تستمع إليه حتى. ومن ثم أصابه الذهول. إنَّ حقيقة أن السيدة العجوز من ليدز، والطفل في المُستشفى في بريدجووتر، وحارس الفنار في اسكتلندا لم يكونوا يستمعون أيضًا لم تُشكِّل له أي فارق. كانت ليز تستمع إليه «دائمًا». كان من واجبها أن تستمِع. فهو والتر خطيبها، وإن كان يتحدَّث إلى العالم فالواجب أن تستمِع. والآن خرجت ليز في ابتهاج مع ليزلي سيرل وتركته يتحدَّث إلى الهواء. خرجت ليز تتسكَّع في الأرجاء من دون تفكير، خرجتْ يوم جمعة، في وقت إذاعة برنامجه، خرجت مع سيرل إلى مكان لا يعلمه إلا الله، مع شخص لم تعرفه سوى منذ سبعة أيام، وظلا في الخارج حتى هذه اللحظة. لم تكن موجودة بالمنزل حتى تحصل على الشوكولاتة التي عاد من طريقه كي يُحضرها لها. كان هذا عملًا شنيعًا.

ثم وصل القس. لم يتذكَّر أحد أنه سيأتي على العشاء. كان من تلك النوعية من الرجال. وتحتَّم على والتر أن يقضي خمس عشرة دقيقة أخرى مع ديدان الأرض في حين أنه كان قد حصل منها على أكثر من كفايته. كان القس قد استمع إلى برنامجه وانبهر به كثيرًا؛ حتى إنه لم يستطع أن يتحدَّث عن أيِّ شيء آخر.

ثم دخلت السيدة جاروبي، وحيَّت القسَّ في سرعة بديهة جديرة بالثَّناء، ثم ذهبت لتتدبر إضافة البازلاء المعلَّبة إلى الطبق الرئيسي وغلاف من العجين الحلو للراوند المطهو.

وبحلول الوقت الذي كان الثنائي المفقود فيه قد تأخَّرا عشرين دقيقة وقرَّرت السيدة جاروبي ألا تنتظرهما، غيَّر والتر موقفه وقرَّر أن ليز قد ماتت. ما كانت ليز لتتأخَّر قطُّ على العشاء. إنها ترقد ميتة في حفرة في مكانٍ ما. ربما كانت السيارة قد انقلبت بها. فسيرل أمريكي ومن المعروف أن الأمريكيِّين جميعهم متهورون في القيادة ولا يتمتَّعون بالصبر في الأزقة الإنجليزية. على الأرجح أنهما اصطدما بشيء ما بعد أن اجتازا إحدى الزوايا بسرعة.

أخذ والتر يُداعب حساءه، وقد انقبض قلبه فزعًا، وهو يستمع إلى القس يتحدث عن علم الشياطين. كان والتر قد سمع من قبل كل ما قاله القسُّ عن هذا الموضوع، لكن كان الابتعاد عن موضوع الديدان مبعث ارتياح على الأقل.

وعند اللحظة التي انقبَضَ فيها قلبه وانكمش حتى أصبح في حجم ثمرة عتيقة للغاية من عيش الغراب، أمكنهم سماع أصوات سيرل وليز تنضح بالبهجة والمرح في الردهة. دخلا لاهثَين يشعان بهجة. راحا يكيلان الاعتذارات الارتجالية عن تأخُّرهما وأبديا استحسانهما لقرار الأسرة بعدم تأخير موعد العشاء من أجلهما. قدمت ليز سيرل إلى القس لكنها لم تفكر في أن تقول أي كلمة خاصة إلى والتر قبل أن تنكبَّ على حسائها وكأنها لاجئة تتضور جوعًا. قال كلٌّ من ليز وسيرل إنهما جابا أنحاء كثيرة؛ إذ شاهدا تويلز آبي أولًا والقرى المتاخمة؛ ثم التقيا بعد ذلك ببيتر مايسي وذهبا ليُشاهِدا جياده وأوصلاه إلى كروم؛ وبعد ذلك تناولا الشاي في مقهى ستار آند جارتر في كروم، وكانا على وشك مغادرة كروم حين وجدا إحدى دور السينما تعرض فيلم «سرقة القطار الكبرى»، وبالطبع لم يكن بمقدور أحد أن يرفض فرصة مشاهدة هذا الفيلم. كان عليهما أن يُشاهدا عدة عروض حديثة قبل بدء عرض الفيلم — وهذا هو الأمر الذي أخرهما — لكن الفيلم كان يستحق الانتظار.

شغل سرد لأحداث فيلم «سرقة القطار الكبرى» مُعظَم وقت تناول أطباق السمك.

قالت ليز، وهي تلتقط بعضًا من الخبز: «كيف كان البرنامج، يا والتر؟»

كان من السيئ للغاية أنها لم تقل: «أنا آسفة لأنني لم أستمع لبرنامجك، يا والتر»؛ لكن كانت القشة الأخيرة حين لم تولِ أمر البرنامج من ذهنها إلا ذلك الجزء الذي لم يكن مشغولًا بإعادة ملء طبق الخبز أمامها.

إذ قال والتر: «سيُخبركِ القسُّ. فقد استمع إليه.»

وأخبرهم القس عن البرنامج «بحماس». وقد لاحظ والتر أن ليز وليزلي سيرل لم يستمعا في الواقع. ففي إحدى اللحظات أثناء سرد القس، التقت عينا ليز بنظرات سيرل بينما كانت تمرر له شيئًا وابتسمتْ له ابتسامتها السريعة الودودة. كانا مسرورَين كثيرًا بنفسَيهما، وببعضهما، وباليوم الذي قضياه معًا.

ثم سأل سيرل حين انتهى القس أخيرًا من حديثه: «ماذا قال روس عن الكتاب؟»

فقال والتر: «سُرَّ كثيرًا بالفكرة»، وكان يأمُل حقًّا لو أنه لم يبدأ هذه الشراكة مع سيرل.

وقالت السيدة جاروبي: «هل سمعت بما يخططان له، أيها القس؟ سيكتبون كتابًا عن نهر راشمير. من منبعه وحتى مصبه في البحر. سيكتبه والتر وسيزوده سيرل بالرسوم والصور التوضيحية.»

أشاد القس بفكرة الكتاب وأشار إلى كلاسيكيتها. وسأل إن كانا سيفعلان ذلك على صهوة فرسة أم حمار.

فأجاب والتر: «سيرًا على الأقدام حتى أوتلي، أو بالقُرب منها. ومن هناك نُكمل طريقنا عبر المياه.»

قال القس: «عبر المياه؟ لكن نهر راشمير يعجُّ بالنتوءات في المساحات الأولى منه.»

فأخبراه عن زوارق الكانو. ورأى القس أن هذه الزوارق تُمثل وسيلة معقولة بالنسبة إلى نهر مثل راشمير، لكنه تساءل من أين يمكنهما الحصول عليها.

قال والتر: «لقد تحدَّثت إلى كورماك روس عن هذا اليوم، واقترح أننا قد نجد بعضها عند متجر كيلنر، وهم صانعو القوارب الصغيرة في ميناء مير. إنه يصنع لجميع أنحاء العالم. فجو كيلنر هو من صمم ذلك الطوف الذي يتحوَّل إلى خيمة قابلة للطيِّ والذي استخدمه أورينوكو في آخر رحلاته، ثم قال بعدها إنه كان سيجعل منه طائرة شراعية أيضًا لو كان قد فكر في ذلك وقتها. كنت سأَقترح أن نذهب أنا وسيرل إلى ميناء مير غدًا ونقابل كيلنر؛ هذا إن لم يكن مشغولًا بخُطَط أخرى.»

فقال سيرل: «لا بأس. لا بأس.»

ثم سأل القس سيرل إن كان يهوى صيد السمك. فأجاب سيرل بالنَّفي، لكن القس كان يهوى هذا. كان اهتمام القس ينصبُّ، بعد علم الشياطين مباشرة، على صيد السمك باستخدام طعم دراي فلاي. ومن ثم، وخلال ما تبقَّى من وقت العشاء، أخذوا يستمعُون إلى القس يتحدث عن طعوم دراي فلاي، وكانوا يُبدون تجاه ذلك اهتمامًا ضعيفًا كالذي يولونه لموضوعات مثل خلط الأسمنت، أو مضغ العلكة، أو حياكة كعب جورب؛ موضوعات تحظى باهتمام تقليدي فقط. وانصرف كل منهم إلى استخدام الجزء غير المشغول من ذهنِه بطريقتِه الخاصة.

قرَّر والتر أنه سيترك العلبة البيضاء الصغيرة التي تحتوي على الشوكولاتة فوق طاولة الردهة، حيث وضعها أثناء دخوله لتناول العشاء، حتى تسأل عنها ليز؛ حينها سيخبرها بما تحويه على نحو غير مبال. وارتأى أنها ستعض أناملها من الندم لأنه فكر فيها بينما نسيتْه هي تمامًا.

وأثناء خروجهم من حجرة الطعام رمق والتر جانب الردهة بنظرة سريعة ليتأكد من أن العلبة الصغيرة لا تزال بمكانها. وقد كانت كذلك بالفعل. لكن يبدو أن ليز، أيضًا، وضعت شيئًا على الطاولة وهي في طريقها لتناول العشاء. صندوق كبير مسطح من الحلوى من عند أغلى صناع الحلوى في كروم. يبلغ وزن هذا الصندوق أربع باوندات على الأقل. كان مكتوبًا عليه «ملبس» بخط يدوي ذهبي غير واضح على سطحه ذي اللون الأصفر الباهت، وكان الصندوق مربوطًا بقطعة طويلة من شريط عريض، يتخذ في آخره شكل عقدة تنمُّ عن البهرجة والبذخ. ظلَّ والتر ينظر إلى كلمة «الملبس» المتكلفة والشريط المبهرج بشكل يدعو إلى الأسف. كان الشيء برمَّته ينم عن ذوق شنيع. يا له من أسلوب أمريكي للغاية أن يشتري شيئًا كبيرًا ومبهرجًا. جعل هذا والتر يشعر بالتقزُّز للغاية من النظر إليه.

ما جعله يشعر بالتقزُّز، بالطبع، ليس هو صندوق الحلوى.

بل كان مُتقززًا نتيجة شعورٍ أقدم من وقت اختراع الحلوى.

وبينما كان والتر يصبُّ شراب البراندي لسيرل والقس ولنفسه ليتناولوه مع القهوة بحث في ذهنه عن شيء يُشعره بالارتياح، ووجده.

ربما يُقدم لها سيرل صناديق الحلوى الباهظة، لكن كان والتر هو من يعرف حلواها المفضلة.

أو — هل يعرف سيرل هذا أيضًا؟ ربما لم يتصادف أنَّ صانع الحلوى في كروم كان لديه ملبس الشوكولاتة.

ثم صبَّ والتر المزيد من زجاجة البراندي. فهو في حاجة إلى جرعة إضافية منه الليلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤