الفصل التاسع

قال جرانت وهم يستقلون السيارة في طريقهم إلى خارج ويكهام: «لا أريد أن أظهر في سالكوت الآن. هل هناك طريق آخر يؤدي إلى ضفة النهر؟»

«لا يوجد أيُّ طريق آخر إلى ضفة النهر، في واقع الأمر. لكن ثمة مسارًا بين الحقول طوله ميل واحد تقريبًا يمتدُّ من سالكوت إلى المكان الذي خيَّما فيه. لكن بإمكاننا الوصول إلى هناك بالسهولة نفسها تقريبًا من على الطريق الذي يربط بين ويكهام وكروم، عبر الحقول. أو بإمكاننا الانعطاف نحو طريق ضيق نسبيًّا يُؤدِّي إلى بيتس هاتش، ثم نسير عبر ضفة النهر من هناك. زورقاهما راسيان على مسافة ربع ميلٍ بعد بيتس هاتش.»

«على كل حال، أفضل السير عبر الحقول من الطريق الرئيسي. سيكون من المثير أن نرى كم يطول المسير فيه. لأيِّ نوعية من القرى تنتمي قرية بيتس هاتش؟»

«إنها ليست بقرية على الإطلاق. إنما هي طاحونة مُتهدِّمة وبضعة أكواخ كان العمال يأوون إليها هناك. وهذا هو سبب ذهاب ويتمور وسيرل إلى سالكوت سيرًا على الأقدام للحصول على شَرابهم المسائي هناك.»

«فهمت.»

أخرج رودجرز البارع خريطة صغيرة من صندوق سيارته، وراح يتدارسُها. بدا إلى عين جرانت التي اعتادت المدينة أن الحقل الذي توقَّفوا أمامه يشبه كل حقل مرُّوا به منذ أن غادروا ويكهام، لكن المفتش قال: «ينبغي أن تكون قبالتنا هنا، على ما أعتقد. أجل؛ هذا هو مكان تخييمِهما؛ وهذا هو مكاننا نحن.»

وعرض الخريطة على جرانت. كان الطريق يمتدُّ شمالًا وجنوبًا من ويكهام وحتى كروم في الجنوب. وفي غربه يمتدُّ نهر راشمير، مُستتِرًا عن الأعين في واديه، في الاتجاه الشمالي الشرقي ليلتقيَ بالطريق عند ويكهام. وعند النقطة التي يقِفون فوقها الآن، كان النهر ينحني على نفسه في حلقة واسعة على أرض الوادي المُنبسِطة. وعند النقطة التي يعود فيها إلى اعتداله، كان ويتمور وسيرل قد حدَّدا مكان مخيمهما. وفي الجانب الأقصى من الوادي، حيث يعود مُستوى النهر ليتساوى مع مستواهما، تقع سالكوت سانت ماري. كان كل من مخيمهما وقرية سالكوت يقعان على الضفة اليُمنى للنهر، بحيث تفصل بين مخيمهما والقرية أرض طينية مساحتها أقل من ميل.

لدى وصول الرجال الثلاثة إلى الحقل الثالث من عند الطريق، أصبح الريف مساحة مفتوحة تحت أنظارهم؛ بحيث أصبح الجزء ذو الصلة من نهر راشمير واضحًا أمامهم كما كان مبينًا على خريطة رودجرز: أرضية خضراء مُنبسطة يدور عبرها نهر راشمير وكأنه وشاح بلون أخضر قاتم، ومجموعة مكتظَّة من الأسطح والحدائق على الجانب الأقصى؛ حيث تقع سالكوت سانت ماري وسط أشجارها؛ كما توجد كتلة وحيدة تقف عند أعلى النهر من الخلف جهة الجنوب، وكانت تلك بيتس هاتش.

سأل جرانت: «أين يقع خط السكك الحديدية من هنا؟»

«ليس هناك خط سكك حديدية أقرب إلى هنا من ذلك الموجود في ويكهام. بمعنى آخر، لا تُوجد محطة للقطارات. يمرُّ خط السكك الحديدية على الجانب الآخر من الطريق الرابط بين ويكهام وكروم؛ وليس في الوادي على الإطلاق.»

«هل يوجد الكثير من الحافلات على طريق ويكهام كروم؟»

«أوه، أجل. لكنك لا تبغي بذلك الإشارة إلى أنَّ الشاب قد فرَّ من هنا، أليس كذلك؟»

«أنا أبقي هذه الاحتمالية نصبَ عيني. فنحن لا نعرف عنه شيئًا، في نهاية المطاف. وأعترف أن هناك احتماليات أكثر ترجيحًا.»

تقدمهما رودجرز عبر المنحدر الطويل وصولًا إلى ضفة النهر. وحيث انحرف النهر في الاتجاه الجنوبي الغربي، كانت تُوجد شجرتان ضخمتان تقطعان خط أشجار الصفصاف المقلمة الرءوس: شجرة صفصاف طويلة وشجرة دردار. وتحت شجرة الدردار رسا زورقا كانو. وكانت آثار الوطء على العشب لا تزال واضحة.

قال رودجرز: «هذا هو المكان. فرد السيد ويتمور حقيبة نومِه تحت شجرة الصفصاف الكبيرة تلك، ووضع سيرل حقيبة نومه بالقرب من الجانب الآخر من شجرة الدردار حيث يُوجد تجويف بين جذورها يبدو كمأوًى طبيعي. لذا كان من الطبيعي ألا يعرف السيد ويتمور أنه غير موجود هناك.»

تحرك جرانت إلى حيث توجد حقيبة نوم سيرل، وراح يتفحَّص الماء.

«كم تبلغ شدة التيار هنا؟ إن كان قد تعثر في تلك الجذور في الظلام وسقط في الماء برأسه، فماذا سيحدث؟»

«إن تيار نهر راشمير شنيع. أقرَّ بذلك. كما تكثر به الحفر وتيارات السحب من تحت الماء. وقاعُه كما يدعوه قائد الشرطة «طيني سحيق». لكن سيرل يُجيد السباحة. أو هكذا يقول والتر ويتمور.»

«أكان متَّزنًا؟»

«في كامل اتزانه.»

«إن كان قد نزل إلى الماء وهو غير واعٍ إذن، أين تتوقَّع أن نجد جثته؟»

«بين هنا وسالكوت. يتوقَّف ذلك على كمية المطر. لم نحظَ إلا بالقليل من المطر مؤخرًا حتى إنك ستجد مستوى الماء في النهر مُنخفِضًا، لكن وقعت عاصفة مطيرة في تانستول يوم الثلاثاء على نحو مفاجئ، فأتى تيار نهر راشمير شديدًا قويًّا.»

«فهمت. وماذا حدث لأمتعة التخييم؟»

«أرسل والتر ويتمور من أخذها إلى تريمنجز.»

«أظنُّ أن مُتعلِّقات سيرل الطبيعية لا تزال في تريمنجز.»

«أتوقع ذلك.»

«ربما من الأفضل أن أُلقيَ نظرة عليها الليلة. إن كان هناك شيء يُثير الاهتمام بين أشيائه فقد اختفى الآن، لكنها قد تُوحي بشيء. أتعرف إن كان سيرل على علاقة جيدة مع سكان سالكوت الآخرين؟»

«في الواقع، سمعت أن مشكلة قد حدثت قبل أسبوعَين. قذفه رجل يعمل راقصًا بكوب جعة.»

سأل جرانت: «لماذا؟» وقد علم من هو الرجل الذي يعمل راقصًا من دون صعوبة. فقد كان تسجيل مارتا لتاريخ سالكوت موثوقًا.

«لم يكن يروقه الانتباه الذي يوليه توبي توليس إلى سيرل، هكذا يقولون.»

«وهل كان يروق سيرل؟»

قال رودجرز: «كلا، إن كانت كل التقارير صحيحة»، وقد استرخى وجهه متبدلًا من القلق إلى التندر لحظة واحدة فقط.

«إذن لم يكن يروق توليس كثيرًا أيضًا؟»

«ربما لم يكن يروقه.»

«أظن أنك لم تحظَ بالوقت الكافي لتُحقِّق في حُجَج الغياب.»

«كلا. لم نعرف أن هذه القضية قد تصبح أكثر من مجرد قضية اختفاء بسيطة إلا في ساعة مبكرة من المساء. حتى ذلك الحين كان الأمر مجرَّد عملية بحث وتفتيش بسيطة. وحين عرفنا بما تتكشف عنه الأمور أردنا مساعدة خارجية وأرسلنا إليكم.»

«أنا مسرور أنكم أرسلتم إلينا سريعًا. من المفيد كثيرًا أن نكون موجودين حين ترفع الأشرطة عن مسرح الواقعة في اللحظات الأولى. والآن، لا أظنُّ أن هناك شيئًا آخر بإمكاننا القيام به هنا. من الأفضل أن نعود إلى ويكهام، وسأتولى أنا زمام الأمور.»

أوصلهم رودجرز إلى فندق وايت هارت، وتركهم مؤكدًا لهم أنه سيُقدِّم لهم أي مساعدة يحتاجونها ما دامت في حدود سلطته.

قال جرانت بينما يصعدان السلم ليستعرضا غرفتيهما في البناية: «إنه رجل بارع. ينبغي أن يعمل في إدارة سكوتلانديارد»، وكانت حوائط الغرف مزينة ببُسُط من الصوف مزينة بآيات من الكتاب المقدس وورق حائط به نقوش من الزهور.

وقال ويليامز وهو يختار أضيق الغرفتين في حزم: «إنه لأمر غريب، أليس كذلك؟ أن يختفي شخص في المروج الإنجليزية كما لو كان يُمارس خدعة الحبل. ماذا حدث له في اعتقادك، يا سيدي؟»

«لا أعرف شيئًا بشأن «خدعة الحبل»، لكني أشمُّ في الأمر رائحة خدعة قوية. الآن ترى الشيء، وفي اللحظة نفسها يختفي ولا تراه. خدعة تشتيت الانتباه التي كان يمارسها السحرة القدماء. هل رأيت من قبل خدعة قطعِ جسد امرأة بمنشار إلى نصفين يا ويليامز؟»

«رأيتها كثيرًا.»

«هناك رائحة قوية لخدعة كهذه. أم أنك لا تشمُّ هذه الرائحة؟»

«لا أتمتَّع بأنفٍ مثل أنفك، يا سيدي. كل ما أرى هو أمر غريب. ليلة ربيعية في إنجلترا، وشاب أمريكي يختفي في نطاق ميل واحد بين القرية والنهر. أتظن أنه قد فر حقًّا يا سيدي؟»

«لا يسعني التفكير في سبب كافٍ يدفعُه لذلك، لكن ربما كان لدى ويتمور تفسير لذلك.»

فقال ويليامز بنبرة جافة: «أتوقَّع أنه سيهتم للغاية بفعل ذلك.»

لكن كان من الغريب للغاية أن والتر ويتمور لم يُبدِ أي اهتمام بتقديم أي فرضية من هذا القبيل. بل على النقيض، رفض تلك الفرضية. قال إن من العبث الواضح الإشارة إلى أن سيرل غادر من تلقاء نفسه. فبعيدًا عن حقيقة أنه كان في غاية السعادة، فقد كانت لديه صفقة مربحة للغاية يتطلع إليها. لقد كان سيرل مُتحمسًا أيما حماس إزاء الكتاب الذي يعملان عليه معًا، وكان من المُستبعَد الإشارة إلى أنه قد غادر بهذه البساطة.

ذهب جرانت إلى منزل تريمنجز بعد موعد العشاء، آخذًا في اعتباره ببراعة وذكاء حقيقة أن العشاء لا بدَّ أنه يقدم في وقت متأخر كثيرًا يوم البث الإذاعي. وكان قد أرسل رسالة يسأل فيها إن كان بإمكان السيد والتر ويتمور أن يقابل آلان جرانت، ولم يذكر سبب الزيارة إلى أن قابل والتر وجهًا لوجه.

كانت أولى الأفكار التي واتته حين رأى والتر على الطبيعة هي كم أنه بدا أكبر سنًّا بكثير مما كان يتوقع؛ ثم تساءل ما إن كان والتر يبدو أكبر سنًّا بكثير مما كان يبدو عليه يوم الأربعاء. فكر جرانت في نفسه أن والتر يبدو مشوشًا؛ هائمًا. حدث له شيء لا ينتمي للعالم الذي كان يعرفه ويُدركه.

لكنه تلقَّى إفصاح جرانت عن هُويته في هدوء.

إذ قال، وهو يقدم له علبة السجائر: «كنت شبه مترقب مجيئك. ليس أنت شخصيًّا، بالطبع. إنما مُمثِّل عمَّا أصبح يُعرف بالجهات العليا.»

ومن ثم سأله جرانت عن رحلتِهما عبر نهر راشمير، حتى يحثه على التحدث؛ فإنك إن حملت رجلًا على الحديث مطولًا بما يكفي، فإنه يفقد سلوكه الدفاعي. كان ويتمور يُدخن الكثير من السجائر إلا أنه يتحدَّث بحرية إلى حدٍّ كبير. وقبل أن يصل بالفعل في حديثه إلى زيارتهما لحانة سوان مساءَ يوم الأربعاء، انحرف به جرانت في الحديث. فقد كان من المُبكِّر جدًّا أن يسأله عن تلك الليلة.

قال جرانت: «أنت حقًّا لا تعرف الكثير عن سيرل، على ما أظن. هل سبق أن سمعت به قبل أن يظهر في حفل روس؟»

«كلا، لم أسمع به من قبل. لكن هذا ليس بأمرٍ غريب. فالمصورون الفوتوغرافيون كُثُر. وهم منتشرون وشائعون كشيوع الصحفيين تقريبًا. لم يكن ثمة سبب يدعو لأن أكون قد سمعت به من قبل.»

«ليس لديك سبب يجعلك تعتقد أن هويته قد تكون مختلفة عما صرح به، أليس كذلك؟»

«أجل، بكل تأكيد. ربما لم أسمع به من قبل قط، لكن لا شك أن الآنسة إيستون-ديكسون سمعت به من قبل.»

«الآنسة إيستون-ديكسون؟»

«إنها إحدى الكاتبات المحليات هنا. تكتب القصص الخيالية والحكايات الخرافية وتُدمن مشاهدة الأفلام. ولا يقتصر الأمر على السمع، بل تملك له صورة.»

فقال جرانت، وقد بدا مُندهشًا ومسرورًا: «صورة؟»

«في إحدى مجلات الأفلام تلك. لم أطلع عليها بنفسي. لكنها تحدثت عنها ذات ليلة حين أتت على العشاء.»

«والتقت بسيرل حين أتت إلى العشاء؟ وتعرفت عليه؟»

«هذا صحيح. وحدث بينهما تآلف رائع. كان سيرل قد التقط صورًا لحيواناتها التي تعمل في التمثيل، وكان لديها أيضًا نسخ من تلك الصور.»

«إذن ليس لديك أدنى شكٍّ في هُوية سيرل التي يصرح بها.»

«ألاحظ أنك تستخدم صيغة المضارع أيها المفتش. هذا يسرني.» لكنه بدا ساخرًا أكثر منه مسرورًا.

«هل لديك نظرية بشأن ما يُمكن أن يكون قد حدث، يا سيد ويتمور؟»

«بعيدًا عن العربات النارية الأسطورية ومقشَّات الساحرات، كلا. إنه لأمر مُحيِّر تمامًا.»

وجد جرانت نفسه يُفكِّر في أن والتر ويتمور، أيضًا، يميل إلى الظن بوجود حيلة في الأمر.

وأكمل والتر يقول: «في اعتقادي أن أكثر التفسيرات منطقية، هو أنه ضلَّ طريقه في الظُّلمة وسقط في النهر في بُقعة ما، حيث لا يُمكن لأحد أن يكون قد سمعه.»

فسأله جرانت بالنَّبرة نفسها التي استخدمها والتر في حديثه: «ولماذا لا تتَّفق مع هذه النظرية؟»

«حسنًا، أول الأسباب في الواقع، أن سيرل كان يملك عينين كعيون القطط. لقد خيمت بالخارج معه لأربع ليالٍ، وأعرف هذا جيدًا. كان مُذهلًا في القدرة على الرؤية في الظلام. وثانيًا أنه كان يتمتَّع بفراسة وإدراك رائع بمحيطه. وثالثًا أنه كان في كامل وعيه حين غادر حانة سوان؛ وذلك وفقًا لكل الإفادات. ورابعًا أن الطريق مستقيم من سالكوت وحتى ضفة النهر حيث كنا نُخيِّم، ومحاط بأسيجة من شجيرات قصيرة من بدايته وحتى نهايته. لا يُمكن للمرء أن يضلَّ طريقه هناك؛ لأنك لو ابتعدت عن السياج الشجري تدخل في حقلٍ محروث أو به محصول ما. وأخيرًا، وعلى الرغم من أنها شهادة تستند إلى أقوال الآخرين، كان سيرل يُجيد السباحة إلى حد كبير.»

«هناك إشارة يا سيد ويتمور إلى حدوث خلاف بينك وبين سيرل مساء يوم الأربعاء. فهل هذا صحيح؟»

قال والتر: «ظننت أننا سنأتي على ذكر هذا الأمر عاجلًا أو آجلًا.» ثم ضغط السيجارة التي كان يدخنها في المنفضة حتى أصبحت حطامًا مشوهًا.

فحثه جرانت قائلًا: «حسنًا، حدثني عن هذا الخلاف؟» إذ بدا أنه لم يكن لديه شيء يضيفه.

«حدث ما يُمكن أن نُطلِق عليه إمم … «مشاحنة» بحسب ما أظن. كنت … شاعرًا بالضيق. لا شيء أكثر من ذلك.»

«ضايقك إلى الحد الذي جعلك تتركه في الحانة وتعود بمفردك.»

«يروقني أن أصبح بمفردي.»

«وأخلدت إلى النوم من دون أن تنتظِر عودته.»

«أجل. لم أرِد أن أتحدَّث إليه أكثر من ذلك في تلك الليلة. أقول لك إنه ضايقني. ظننتُ أنني في الصباح سأكون في مزاج أفضل وأنه سيُصبح أقل استفزازًا.»

«هل كان مُستفزًّا؟»

«أعتقد أن هذه هي الكلمة المُناسبة.»

«بشأن ماذا؟»

«لا يتحتَّم عليَّ إطلاعُك على هذا.»

«لا يتحتَّم عليك إطلاعي على أي شيء، يا سيد ويتمور.»

«أجل، أعرف أنه لا يتحتَّم عليَّ شيء. لكنني أريد أن أكون عونًا بقَدرِ ما يُمكنني. يعلم الله أنني أريد أن ينكشِف غموض هذا الأمر بأسرع ما يُمكن. الأمر فقط أن ما اختلفنا بشأنه يعدُّ شخصيًّا وغير ذي صلة. وليس له أيُّ تأثير بأيِّ حالٍ على أي شيء حدث لسيرل ليلة الأربعاء. بالتأكيد لم أترصَّد له في طريق عودته، ولم أدفع به في النهر، ولم أُعرِّضه لأيِّ شكلٍ من أشكال العنف.»

«أتعرف أحدًا من المرجَّح أنه يرغب في ذلك؟»

تردَّد ويتمور؛ لا شكَّ أنه كان يُفكِّر في سيرج راتوف.

ثم قال بعد فترة طويلة: «ليس بهذا الشَّكل من العنف.»

«أي شكل تقصد؟»

«ليس بشكل الترصُّد له في الظُّلمة.»

«فهمت. النوع المألوف إذن كتوجيه لكمة له. عرفت أن شجارًا قد وقع بينه وبين سيرج راتوف.»

فقال والتر: «كل شخص يتعامل مع سيرج راتوف في الحياة ولا يتشاجر معه لا بد وأن يكون غير طبيعي.»

«هل تعرف أحدًا قد يحمل ضغينة لسيرل؟»

«لا أعرف أحدًا في سالكوت. ولا أعرف أي شيء عن أصدقائه أو أعدائه في أي مكان آخر.»

«هل لديك اعتراض إن تفقَّدت مقتنيات سيرل؟»

«ليس لديَّ اعتراض، لكن ربما يكون لدى سيرل. ماذا تتوقَّع أن تجد، أيها المفتِّش؟»

«لا شيءَ على وجه التحديد. إن مُقتنيات المرء تكشف الكثير، وهذا ما تأكَّدتُ منه خلال عملي. إنما أبحث فقط عن شيء قد يُشير إلى أيِّ شيء؛ أي مساعدة بأي شكل في مثل هذا الموقف المحير.»

«سأصحبك إلى الطابق العلوي الآن، إذن؛ إلا إن كان هناك شيء آخر تودُّ أن تسألني عنه.»

«كلا، شكرًا لك. لقد كنتَ عونًا كبيرًا. وكنت أتمنى لو أنك تثق بي بما يكفي لتُطلعَني على سبب الشجار …»

فقال ويتمور بنبرة حادَّة: «لم يقعْ شجار!»

«أستميحُك عذرًا. أقصد، الطريقة التي أغضبك بها سيرل. من شأن هذا أن يكشف لي عن سيرل أكثر مما قد يكشف لي عنك؛ لكن ربما أفرطتُ في توقعاتي بأنك قد تتفهم هذا.»

وقف ويتمور بجوار الباب، يُفكِّر في ذلك. ثم قال بنبرة بطيئة: «كلا. كلا، أنا أتفهم ما تقصد. لكن إخباري إياك قد يتضمن … كلا، لا أعتقد أن بإمكاني إخبارك.»

«أفهم أنك لا تستطيع. لنصعد إلى الطابق العلوي.»

وبينما يخرجان من المكتبة حيث دار بينهما اللقاء إلى الردهة البارونية، كانت ليز قد خرجت لتوِّها من حجرة الاستقبال وتعبر الردهة في طريقها إلى السلم. وحين رأت جرانت توقَّفَت وأضاء وجهها سرورًا.

وقالت: «أوه! أتيت تحمل أخبارًا عنه!»

وحين نفى جرانت ذلك، وقال إنه لا يحمل أي أخبار، بدت ليز متحيرة.

وقالت في إلحاح: «لكنك أنت من قدمه، في ذلك الحفل.»

كانت هذه أنباء جديدة على والتر، وشعر جرانت بأن والتر قد فُوجئ بذلك. واستطاع أيضًا أن يشعر باستيائه من تلك الفرحة الغامرة على وجه ليز.

قال والتر بنَبرة باردة وخبيثة بعض الشيء: «هذا، يا عزيزتي ليز، هو المفتِّش المحقق جرانت من إدارة سكوتلانديارد.»

«من إدارة سكوتلانديارد! لكن … لقد كنتُ موجودًا في الحفل!»

فقال جرانت، وقد شعر بأن الأمر مُسلٍّ: «ليس من غير المُعتاد أن يبدي رجال الشرطة اهتمامًا بالفنون. لكن …»

«أوه، من فضلك! لم أقصد الأمر بهذا الشكل.»

«لقد مررتُ فقط على الحفل لأصطحب صديقة لي. وكان سيرل يقف عند الباب ويبدو تائهًا لأنه لم يكن يعرف شكل الآنسة فيتش. لذا أخذته إليها وقدمته. هذا كل ما في الأمر.»

«والآن أتيتُ هنا لكي … لكي تحقق …»

«لأحقق في اختفائه. ألديكِ أي افتراضات حيال هذا، يا آنسة جاروبي؟»

«أنا؟ كلا. ولا حتى فرضية بدائية. إن الأمر يبدو غير منطقي فحسب. إنه غير مفهوم على نحو مثير للدهشة.»

«إن لم يكن الوقت متأخرًا بالنسبة إليك، هل لي أن أحدثك قليلًا بعد أن أنتهي من تفقُّد متعلقات سيرل؟»

فقالت، وقد بدت مُرهَقة: «أجل، بالطبع إن الوقت ليس مُتأخِّرًا. لم تدقَّ الساعة العاشرة بعد. منذ وقوع هذا الأمر أصبح الوقت يمر ببطء شديد. إنه أشبه بتدخين … تدخين القنب، أليس كذلك؟ هل تبحث عن شيء مُعيَّن، أيها المفتش؟»

فقال جرانت: «أجل. الإلهام. لكنني أشك أنني سأجده.»

«سأكون في المكتبة حين تنزلان. أتمنى أن تجد شيئًا يمكنه مساعدتك. من المريع أن يتعلق المرء بخيط واهٍ بهذا الشكل.»

فكر جرانت بشأن ليز جاروبي وهو يتفقَّد مُتعلِّقات سيرل — ليز «العزيزة اللطيفة» بالنسبة إلى مارتا — وعلاقتها بمَن قال عنه ويليامز إنه «يفتقد الجرأة». لا يُمكن للمرء أبدًا أن يعرف ما تراه المرأة في رجل ما، وكان ويتمور شهيرًا بالطبع بالإضافة إلى أنه زوج صالح مُحتمَل. لقد قال هذا لمارتا وهما يغادران الحفل في ذلك اليوم. لكن إلى أي مدى كانت مارتا محقة بشأن قدرة سيرل على مضايقة الآخرين؟ إلى أي مدى كان شعور ليز جاروبي بجاذبية سيرل؟ إلى أيِّ مدى يعتبر ترحيبها الحار في الردهة سرورًا من أجل سلامة سيرل المتخيلة، وإلى أيِّ مدى كان مجرد ارتياح من عبء الشكوك والكآبة؟

راحت يدُه تقلب أشياء سيرل في كفاءة تلقائية، لكن ذهنه كان مشغولًا بتحديد كم الأسئلة التي سيطرحها على ليز جاروبي حين يُعاود النزول للطابق السُّفلي.

كان سيرل يقيم في حجرة بالطابق الأول في البرج المسور الذي يبرُز من يسار الباب الأمامي ذي الطراز التيودوري؛ لذا كانت الحجرة تحتوي على نوافذ من ثلاث جهات. كانت حجرة واسعة عالية السقف، وبها فرش مُتميِّز من المتاجر على طريق توتنهام كورت، كما كانت زاهية الألوان بطريقة مبالغ فيها بعض الشيء وتُوحي بالتواضُع بالنسبة إلى سعتها التي تتَّخذ الطراز الفيكتوري. لم يكن أحد يُقيم في الغرفة لذا لم تحمل طابعًا شخصيًّا، ومن الواضح أن سيرل لم يفعل أي شيء ليُضفي عليها من طابعه الشخصي. وقد استرعى هذا انتباه جرانت باعتباره أمرًا غريبًا. فنادرًا ما رأى حجرة، تخلُو من لمحات جمالية، وقد أقام بها شخص لفترة طويلة. لقد وضعت فرشات شعر على الطاولة، وكتب إلى جانب السرير، لكن لم يكن هناك أي أثر يدل على مالكها. يمكن لهذه الحجرة أن تكون في واجهة أحد المتاجر.

بالطبع كُنست الحجرة ورُتبت منذ آخر مرة أقام بها أحد قبل ستة أيام. لكنه نفس الإحساس. لكنه نفس الإحساس.

كان هذا الإحساس قويًّا لدرجة أن جرانت توقَّف ينظر حوله ويتفكَّر في الأمر. فكر في كل الحجرات التي فتشها طوال حياته. كانت جميعها — حتى غرف الفنادق منها — تحمل عبق آخر من أقام فيها. لكن هنا لم يكن هناك شيء سوى الفراغ. خواء بلا طابع شخصي. لقد احتفظ سيرل بشخصيته لنفسه.

وقد لاحظ جرانت — كما لاحظت ليز في ذلك اليوم الأول — كم كانت ملابسه وأمتعته باهظة الثمن. وبينما كان يتفقَّد المناديل في الدرج العلوي لاحظ أنها لا تحمل علامات طريقة الغسيل، فتعجب قليلًا. ربما صُنعت في المنزل. كانت القمصان والملابس الداخلية تحمل علامات، إلا أنها كانت قديمة وعلى الأرجح أمريكية.

وبالإضافة إلى حقيبتَين جلديتين، كان هناك صندوق من الصفيح مطلي بورنيش أسود يبدو وكأنه صندوق ألوان ضخم، كُتِب على غطائه اسم «إل سيرل» بأحرف بيضاء. كان هناك قفل مثبت على الصندوق لكنه كان مفتوحًا، فرفع جرانت غطاءه في شيء من الفضول، ليجد أنه يعج بالمواد الفوتوغرافية التي يملكها سيرل. كان الصندوق مصنوعًا وفقًا لتصميم صندوق ألوان، بغطاء علوي صُنع بحيث يمكن رفعه. رفع جرانت الغطاء العلوي بسبابتيه وراح يعاين القسم السُّفلي منه. كان القسم السفلي من الصندوق ممتلئًا إلا من مساحة خاوية على شكل مُستطيل بدا أن شيئًا أُخِذ منها. وضع جرانت الغطاء الذي كان يمسك به وذهب يكشف عن تجهيزات التخييم التي أُعيدَت من عند ضفة النهر. لقد أراد أن يعرف ما الذي يلائم تلك المساحة المستطيلة الفارغة.

لكن لم يكن هناك شيء يلائمها.

من بين التجهيزات كانت هناك كاميرتان صغيرتان وبعض أفلام التصوير الخام. ولم يُلائم أي منها المساحة الخاوية في الصندوق الصفيحي لا فُرادى ولا مجتمعة. وكذلك لم يكن هناك أي شيء بين الأغراض يُلائمها.

عاد جرانت ووقف يُفكِّر برهة في تلك المساحة الخاوية. لقد أُخِذ شيء أبعاده زهاء ١٠ بوصات في ٣٫٥ في ٤ بوصات من ذلك الصندوق. وقد أُخِذ فيما كان الصندوق في وضعيته الحالية. فقد كان أي رفع للصندوق من موضعه سيتسبَّب في إزاحة الأشياء الأخرى من مكانها الذي رتبت فيه وكانت ستشغل المساحة الخاوية.

سيسأل جرانت عن ذلك حين ينزل إلى الطابق السفلي.

في تلك الأثناء، وبعد أن عاين الغرفة مُعاينة سريعة، أخذ جرانت يعاينها الآن بمزيد من التفصيل. وعلى الرغم من ذلك، كاد ألا يلحظ شيئًا مهمًّا للغاية. فقد تفقَّد جرانت على نحو سريع درج المناديل وربطات العنق غير المرتَّب نوعًا ما وكان على وشك إغلاقه حين لفت انتباهه شيء بين ربطات العنق فمدَّ يده وأخرجه.

كان الشيء هو قفاز امرأة. قفاز امرأة يدها صغيرة للغاية.

قفاز بحجم يد ليز جاروبي.

بحث جرانت عن الفردة الثانية له لكنه لم يجد شيئًا. كان القفاز يُمثل الغنيمة المعتادة لدى المتحابين.

إذن كان الشاب الوسيم واقعًا في الغرام إلى الحدِّ الذي يدفعه لسرقة أحد قفازات محبوبته. وجد جرانت في هذا شيئًا لطيفًا بشكل غريب. فقد كانت تلك لمحة من العصر الفيكتوري. أما في هذه الآونة فإنَّ الوقوع في الغرام وسرقة تذكار من المحبوب يتخذ أشكالًا أكثر شرًّا.

وأيًّا كان ما يثبته هذا القفاز، فمن المؤكد أنه يثبت أن سيرل كان ينوي العودة. فالمرء لا يترك تمائم العشق المسروقة في درج ربطات العنق على مرأى غرباء قد لا يتفهمون الأمر.

إن السؤال الذي ينبغي الإجابة عنه الآن هو: لمن يكون هذا القفاز، وكم كان يعني لسيرل؟

وضع جرانت القفاز في جيبه ونزل إلى الطابق السفلي. كانت ليز تنتظرُه في المكتبة كما وعدت، لكنه لاحظ أن هناك من كان يجلس معها وانصرف. فلا يُمكن لفرد واحد أن يُدخن كل هذا القدر من السجائر كما تُشير أعقاب السجائر في المنفضة. واستنتج جرانت أن والتر ويتمور كان يتشاور معها بشأن مسألة التحقيق الشُّرَطي هذه.

لكن ليز لم تنسَ أنها السكرتيرة وموظفة الاستقبال الرسمية لمنزل تريمنجز، فطلبت إحضار بعض المشروبات. رفض جرانت أن يتناول من الشراب لأنه في الخدمة الآن، لكنه أقر لها صنيعها نيابة عنه.

قالت ليز وهي تُشير إلى صحيفة ويكهام تايمز المفتوحة على الطاولة (والتي تصدر مرةً واحدةً أسبوعيًّا كل يوم جمعة): «أعتقد أن هذه هي البداية وحسب.» كان عنوانًا صغيرًا في مكانٍ غير بارز من الصحيفة يقول «شاب مفقود». وقد أشاروا إلى والتر بالمذيع الشهير السيد والتر ويتمور، من منزل تريمنجز، بسالكوت سانت ماري.

فقال جرانت: «أجل. ستتناول الصحافة اليومية الأمر يوم غد.»

سيقولون غدًا في الصفحة الأولى: «رفيق ويتمور مات غرقًا». «لغز ويتمور». «اختفاء صديق ويتمور».

«سيُصبح هذا سيئًا كثيرًا بالنسبة إلى والتر.»

«أجل. إن الإعلام يُعاني نوعًا من التضخيم. وقوته لا تتناسب بتاتًا مع قيمتها.»

«ماذا حدث له في رأيك، أيها المفتش؟ أقصد لليزلي؟»

«في الواقع، في وقت ما كان افتراضي أنه قد اختفى بمحضِ إرادته.»

«طوعًا! لكن لماذا؟»

«ما كنتُ لأعرف هذا من دون أن أعرف المزيد عن ليزلي سيرل. ألا تظنِّين، على سبيل المثال، أنه من النوع الذي يمزح ويُطبِّق المزاح عمليًّا؟»

«كلا. كلا بكلِّ تأكيد. لم يكن من ذلك النوع على الإطلاق. كان هادئًا للغاية و… ويتمتَّع بذوق رائع. ما كان ليرى شيئًا مرحًا في تطبيق المزاح عمليًّا. بالإضافة إلى ذلك، إلى أين يُمكنه الذهاب ليختفي وقد خلَّف كل أمتعتِه؟ لم يكن معه شيء سوى ما يرتديه بالفعل.»

«بخصوص تلك الأمتعة. هل صادف أن رأيتِ من قبل ما بداخل الصندوق الصفيحي المطلي بالورنيش الخاص به؟»

«صندوق التصوير الفوتوغرافي. أظن أنني قد رأيته ذات مرة. لأنني أتذكر كيف كان كل شيء مرتبًا بصورة منمقة.»

«لقد أُخِذ شيء من القسم السفلي منه، ولا يمكنني أن أجد شيئًا يناسب المساحة الخاوية. في رأيك، أيُمكنكِ أن تُحدِّدي ما هو مفقود؟»

«أنا واثقة من أنه لا يُمكنني ذلك. فليس بمقدوري أن أتذكَّر أي شيء بالتفصيل. إنما أتذكر الأناقة والنظام وحسب. كان الصندوق يحتوي على مواد كيميائية وشرائح، وأشياء من هذا القبيل.»

«هل كان يُبقي الصندوق مُغلقًا؟»

«كان به قفل. أنا واثقة من هذا. فبعض الأشياء به كانت سامة. لكنني لا أظنُّ أنه كان يبقيه مغلقًا طوال الوقت. أهو مغلق الآن؟»

«كلا. وإلا لما عرفت شيئًا عن المساحة الخاوية فيه.»

«كنت أظن أن بإمكان رجال الشرطة فتح أي شيء.»

«بإمكانهم ذلك، لكنه غير مسموح لهم دون إذن.»

ابتسمت ليز قليلًا وقالت: «دائمًا ما كنت أقع في المشكلات بسبب ذلك في المدرسة.»

قال جرانت: «بالمناسبة، أيُمكنكِ التعرف على هذا القفاز؟» ثم أخرجه من جيبه.

فقالت، وقد بدا عليها شيء من الاهتمام: «أجل. يبدو وكأنه أحد قفازاتي. أين وجدته؟»

«في درج مناديل سيرل.»

خطر بذهن جرانت أن الأمر يُشبه تمامًا لمس كائن الحلزون. من حيث الانغلاق والانسحاب الفوريين. ففي لحظة كانت تتحدَّث بصراحة وبلا تحفُّظ. والآن أصبحت مُتخوِّفة ومُتحفِّظة.

ثم قالت بنبرة مختنقة: «شيء غريب. لا بدَّ أنه وجده وكان ينتوي إعادته إليَّ. فأنا أحتفِظ بزوج احتياطي من القفازات في صندوق السيارة، زوج مُتوسِّط الجودة، وأقود بزوج قديم. ربما سقطت مني إحدى فردتَي الزوج المُتوسِّط الجودة في يومٍ ما.»

«فهمت.»

«وهذا القفاز هو بالتأكيد من الزوج الذي أحتفظ به في صندوق السيارة. إنه مُناسِب بما يكفي للزيارات والتسوق، لكنه ليس بالفخامة الكافية لأرتديه يوميًّا.»

«أتُمانعين لو احتفظت به بعض الوقت؟»

«كلا، بالطبع لا أمانع. أهو «دليل»؟» قالتْها وقد بذلت جهدًا كبيرًا لتبدو لطيفة.

«ليس بالضبط. لكن أي شيء في غرفة سيرل له أهمية محتملة في الوقت الراهن.»

«في رأيي أن هذا القفاز سيُضلُّك أكثر مما سيُساعدك، أيها المفتش. لكن لتحتفظ به على أي حال.»

راقت جرانت تلك اللمحة من الشجاعة، وكان مسرورًا باستعادتها السريعة لرباطة جأشها. فهو لا يستمتع أبدًا بمداعبة الحلزونات.

«أيُمكن للسيد ويتمور أن يُحدِّد ما هو الشيء المفقود من ذلك الصندوق؟»

«أشك في ذلك، لكن يُمكننا أن نرى.» ثم توجهت نحو الباب لتستدعيَ والتر.

«أو أي شخص آخر في المنزل؟»

«حسنًا، لن تستطيع الخالة لافينيا ذلك. فهي لا تعرف حتى ما يُوجد في أدراجها. وأيضًا لن تستطيع أمي؛ لأنها لا تذهب إلى حجرة البرج أبدًا إلا حين تُطلُّ برأسها فقط داخل الحجرة لترى إن كان قد جرى تنظيفها وترتيب السرير. لكن بإمكاننا أن نسأل العاملين.»

أخذهم جرانت إلى حجرة البرج وأراهم ما كان يقصد بالمساحة الخالية. ما الذي كان يوجد في تلك المساحة المستطيلة الخاوية؟

قال والتر مقترحًا: «هل من المُمكن أن تكون مادة كيميائية قد استخدمها بالفعل؟»

«لقد فكَّرت في ذلك، لكن كل المواد الكيميائية الضرورية لا تزال في مكانها ولم يستخدم أيًّا منها. ألا يُمكنكم أن تُفكِّروا في شيء رأيتموه معه يُمكِن له أن يملأ هذه المساحة الفارغة؟»

لم يكن بإمكانهم ذلك؛ وكذلك لم يكن بإمكان الخادِمة أليس.

قالت أليس إن أحدًا لم يكن يُنظِّف غرفة السيد سيرل غيرها. وهناك سيدة تدعى السيدة كلامب تأتي من القرية كل يوم لتُقدِّم المساعدة، لكنها لم تكن تنظف غرف النوم. كانت تُنظِّف السلم والممرات والمكاتب ومثل هذه الأماكن فقط.

أخذ جرانت يراقب وجوههم ويخمن. خلا وجه ويتمور من أي تعبيرات كما لو كان لاعب بوكر محترفًا؛ ولم تُبدِ ليز اهتمامًا كبيرًا تجاه هذه الأحجية، لكنها بدت شبه منزعجة؛ أما أليس فقد بدا على وجهها الخوف من مسئوليتها المحتملة عن اختفاء شيء من الصندوق أيًّا كان.

لم يكن جرانت يحرز تقدمًا.

ذهب ويتمور إلى الباب الأمامي برفقة جرانت، وقال وهو يحدق في الظلام: «أين سيارتك؟»

رد جرانت: «تركتها على الطريق، طابت ليلتك وشكرًا لك على مساعدتك.»

ثم تحرك جرانت نحو الظلام وانتظر حتى أغلق والتر الباب. ثم التف حول المنزل وذهب إلى المرأب. كان لا يزال مفتوحًا، وكان به ثلاث سيارات. فتش جرانت في صناديق السيارات الثلاث لكنه لم يجد فردة قفاز في أيٍّ منها. لم يكن هناك أي قفازات في أي منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤