الفصل الثاني

أساطير ومعتقدات

إذا كان التعريف الموضوعي للطبقات الأرستقراطية هو أنها نُخَب ذات تسلسل هرمي تتمتع بموجب القانون بمكانة النبالة الوراثية ومجموعة متنوعة من الامتيازات والالتزامات العامة، فإنها قد سعت طوال الوقت إلى تعريف نفسها أيضًا من حيث المعتقدات والسلوك. وقد كان الدخلاء، سواء من المعاصرين أو من المؤرخين، على استعداد لدرجة مذهلة لتقبُّل وتخليد تعريف النبلاء لأنفسهم ولمصدر نشأتهم وما يفعلونه وما يستحقونه. وحتى نقَّاد الأرستقراطية نزعوا إلى صياغة معارضتهم على أساس فشل هذه الطبقة في الرقي لمستوى هُويتها المثالية.

(١) الأصول

يعتقد الأرستقراطيون أنهم وُجدوا منذ قديم الأزل؛ فهم يرون أنفسهم على أنهم أحد مظاهر الميل البشري الطبيعي لتقبُّل قيادة النُّخَب التي ثبت تفوقها، وباعتبارهم المستفيدين منه. فعندما يصف الرجال النبلاء أنفسهم — كما يفعلون دومًا — بأنهم أرستقراطيون أو أعضاء في مجلس شيوخ، فإنهم يشيرون إلى أنهم ينتمون إلى الطبقة نفسها من الناس التي ينتمي إليها حكَّام روما القديمة. بل إن القليلين منهم ادَّعَوا أنهم ينحدرون مباشرة من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ في أواخر العصور القديمة. مع هذا، فإن معظم الطبقات الأرستقراطية الحديثة تعقَّبت هُويتها الجماعية إلى فترة لا تصل إلى أبعد من فترة اضطرابات الغزوات البربرية في أوائل العصور الوسطى. رأى البعض أنهم من سلالة الغزاة، وأن الغزو هو الدليل والمبرِّر الأساسي لتفوقهم. وقد احتكر نبلاء الكومنولث البولندي (قبل اختفائه عام ١٧٩٥م) السُّلطة على نحوٍ أكثر اكتمالًا من أيٍّ من نظرائهم في جميع أنحاء أوروبا. لقد فعلوا هذا بوصفهم أحفاد «السرماتيون» — على حد زعمهم — الذين يُزعم أنهم هزموا السكَّان السابقين واستعبدوهم قرب نهاية الألفية الأولى. أما النبلاء في المجر، جهة الجنوب، فيزعمون زعمًا أكثر منطقيَّةً بأنهم أحفاد المجريين الذين روَّعوا أوروبا الشرقية في نفس هذه الفترة تقريبًا. في الجهة الأخرى من القارة الأوروبية، يمكن تعقُّب جميع أشكال السُّلطة الشرعية والممتلكات في إنجلترا إلى فترة الغزو النورماندي في عام ١٠٦٦م، الذي تَلَتْه إعادة توزيع ويليام الأول أراضي النخب الإنجليزية السابقة على معاونيه الأساسيين. اعتقد بعض الكُتَّاب الفرنسيين في أوائل العصر الحديث أن أصول طبقة النبلاء الخاصة بهم ترجع إلى قرون اضمحلال الإمبراطورية الرومانية السالفة الذكر، وصوَّروهم على أنهم أحفاد الفرنكيين، الذين حلُّوا محل الرومان — تحت حكم كلوفيس (٤٦٦–٥١١م تقريبًا) — بصفتهم حكَّامًا على سكان بلاد الغال المحليين.

لا تستطيع إلا قلة قليلة من هذه المزاعم أن تصمد أمام فحصِ الباحثين وتدقيقهم. كان بعضٌ منها، مثل فكرة الغزو الفرنكي، مثيرًا للجدل منذ لحظة طرحه تقريبًا. ولا يزال هذا حال كثير من أصول النبلاء الأوروبيين في العصر الحديث. لكن حتى إن كانت فكرة الغزو القَبَلي بسيطة للغاية، فعلى الأقل يبدو واضحًا أن النبالة قد انبثقت وتطوَّرت من بوتقة حروب العصور الوسطى ومن الحاجة لتقديم دعم مادي للمحاربين الفرسان. وفي الغرب، اجتمعت العلامات الدالة على النظام الإقطاعي ومصطلحاته، التي تشير الآثار الباقية منه كثيرًا إلى روح الطبقة الأرستقراطية، في الوقت نفسه تقريبًا الذي يُزعم أن السرماتيين والمجريين كانوا يستقرُّون فيه بعيدًا جهة الشرق. لقد أدَّت قلة المعلومات التاريخية عن هذه الفترات وغموضها الدائم إلى فتح المجال أمام اختراع أو تجميل صورة الأسلاف الأبطال. وهذا ما حدث في الحملات الصليبية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ حيث تمكَّن الفرسان من نَيْل سمعة رائعة في أبرز الحملات المسيحية مكانةً: الاستيلاء على الأرض المقدَّسة والدفاع عنها ثم محاولة إعادة الاستيلاء عليها. تعقَّبتْ واحدة من أكثر رُتب الفرسان تفرُّدًا — فرسان القديس يوحنا في القدس، الذين احتفظوا بمقرٍّ مستقلٍّ لهم في جزيرة مالطا حتى عام ١٧٩٨م — أصلها وصولًا إلى هذا الوقت. يمكننا أيضًا أن نجد أسلافًا عظماء بين الفرسان التيوتون الذين سعوا لتنصير الساحل الشرقي لبحر البلطيق بالسيف في القرن الثالث عشر، أو بين أبطال حروب استعادة السيطرة على شبه جزيرة أيبيريا من المسلمين التي استمرت لعدة قرون. خلَّدت طبقاتُ فرسان حصرية وذاتية التجنيد ذكرى هذه الحملات إلى وقت بعيد في القرون التي قلَّ فيها الصراع الديني. لكن عندما أصبحت الأرستقراطية تتعرَّض لهجوم مفتوح، في نهاية القرن الثامن عشر، استحوذت على معارضيها فكرة أن النبالة مستمَدة من الغزو، واستخدموها في قلب الأوضاع ضد النبلاء؛ وعليه، يمكن تصوير النصر المزعوم للفرنكيين، أو في إنجلترا «استعباد النورمانديين»، على أنه اعتداءات دخيلة على حريات محلية أقدم منها.

لا تستطيع كثير من العائلات النبيلة على نحوٍ موثوق تعقُّب خط نسب غير منقطع وصولًا إلى أزمان سحيقة، لكن الحلم بوجود أجيال طويلة من الأجداد العظام أو الأبطال كان واسع الانتشار. يعتز النبلاء بشجرة عائلتهم، وكان علماء الأنساب يحقِّقون دومًا مكاسب جيدة من إعداد أشجار العائلة بناءً على الطلب. لم يكن من اختصاصهم دحض مزاعم مستخدميهم، وتزخر السجلات التاريخية التي يفخر بها الأرستقراطيون بكثير من السلالات الزائفة أو الملفَّقة. كذلك لم يكن الإشباع الشخصي هو النقطة الوحيدة؛ فقد كانت التحالفات لا تقل أهميةً عن عمر شجرة العائلة، وتتمثَّل هذه التحالفات في الزواج البيني الذي يتم بين أسر على القدر نفسه من التميز أو تَفُوقها تميزًا. تعتمد سوق الزواج الأرستقراطي على معرفة «أصل» الأزواج المحتمَلين، وكانت طبقات النبلاء الأكثر حصريةً، مثل نبلاء ألمانيا، تركِّز على الأصل النبيل لطرفَي الزواج كليهما أكثر من التركيز على الأصل النبيل للزوج وحده، ويظهر ذلك في تقسيمات فرعية على شعارات النبالة. كذلك جرى الاعتماد في التمتع بامتيازات معينة على النسب المقبول؛ ففي القرن السادس عشر زاد احتفاظ الحكَّام بسجلَّاتهم الخاصة باعتمادات النبلاء، وكان يسندون هذه المهمة إلى المسئولين عن ابتكار ومنح شعار النبالة، أو الحكَّام المختصين بمنح شعار النبالة، أو علماء الأنساب في البلاط. كانت وظيفة كل هؤلاء تقتضي منهم التشكيك في السلالات تمامًا مثلما تتطلَّب منهم تأكيدها؛ نظرًا لأن الدول والمؤسسات التي تمنح صفة النبالة بشكل حصري لا ترغب في الانتشار الزائد للامتيازات. ومع تقلُّص الامتيازات الأرستقراطية على مدار القرن التاسع عشر، فقدت الدول اهتمامها بتعقُّب المستحقين لهذه الامتيازات، وعندها استحوذ على هذه المهمة ناشرو «ألقاب النبلاء» والتقاويم والمراجع العلمية، ولم يكن جميعهم على القدر نفسه من التدقيق في تسجيل مزاعم النسب أو الاعتراف بها. وحتى أكثرها صرامةً، مثل «دليل جوته الاجتماعي» الألماني عن النبلاء الذي ظل يصدر سنويًّا في الفترة بين عامي ١٧٦٣ و١٩٤٤م، كان عرضة لشكاوى ونقد مستمرَّين بسبب الأشياء التي تُحذف أو الإضافات المثيرة للجدل؛ فيشتهر النبلاء باهتمامهم الزائد بما يُشبع غرورهم أكثر من الحقيقة الموثَّقة أو الدقيقة.

fig5
شكل ٢-١: شعار نبالة يحتوي على ١٦ قسمًا: شعار للنسب، تريرس، مقاطعة كورنوال.

لا شيء يضاهي في أفكار النبالة التميُّز بخطِ نسبٍ ذكوري غير منقطع، لكن هذا من أندر ما يمكن؛ فمن الناحية الديموغرافية، يكون احتمال أن تنجب أي عائلة ورثةً من الذكور لأكثر من ثلاثة أجيال متعاقبة، ضئيل للغاية. وتميل الأولويات الأرستقراطية إلى تقليل هذا الاحتمال أكثر من هذا؛ فقد كانت العائلات دومًا تحدُّ من حجمها من أجل حماية الممتلكات من مطالَبة العديد من الورثة، كما أن وظيفة المحارب التي يشتغل بها النبلاء تُعرِّضهم لأخطار متزايدة. وعاجلًا أم آجلًا، ينتهي الحال حتى بأكثر الزيجات خصوبةً بإنجاب البنات فقط، وبهذا يختفي خط النسب، إلا إذا تزوَّجت واحدةٌ من هؤلاء الوريثات أحدَ أبناء عمومتها يحمل اللقب نفسه، أو إذا غيَّر زوجها لقبه إلى لقبها. وتَدِين كثير من السلالات الأشد تفاخرًا ببقائها لمثل هذه الاستراتيجيات، لكن مصير معظم عائلات النبلاء كان دومًا ما ينتهي بانقراضها عقب بضعة أجيال فقط. بالطبع لم يؤدِّ هذا إلا إلى تعزيز مكانة العدد القليل من العائلات الدائمة الانحسار التي تتميَّز سلالتها بالعراقة وعدم الانقطاع، لكن بالنسبة إلى غالبية العائلات، في أي وقت قد تصبح السلالة الطويلة ليست أكثر من مجرد أسطورة أو طموح؛ وعليه، فإن من الأمور الأسطورية أيضًا التفرُّد الاجتماعي للطبقات الأرستقراطية. فأي مجموعة هشَّة ديموغرافيًّا على هذا النحو لا يمكنها البقاء إلا عن طريق نقل دم جديد بالكامل وبانتظام. وحتى في الأماكن التي أصبحت فيها رتبهم مغلقة رسميًّا، مثل جمهورية البندقية المقدَّسة، فإن «الكتاب الذهبي»، الذي تُسجَّل فيه جميع العائلات النبيلة رسميًّا، كان يُفتح دوريًّا — وإن كان هذا لوقت قصيرًا — من أجل السماح بسد النقص في رتب النخب المتقلِّصة. إن الطبقات الأرستقراطية التي لا تملك آليَّةً لقبول شرعي لوافدين جدد لا يسعها إلا أن تندثر مع الوقت. وهذا ما يحدث في عصرنا الحالي؛ حيث لم يعُد يتم منح مكانة النبالة الأصلية في أي مكان، ولا حتى في بريطانيا العظمى. وبالطبع كان تأثير هذا أن جَعَلَ رتب النبلاء المعترَف بهم أكثر حصريةً من أي وقت، ما دامت موجودة.

(٢) الانضمام للنبلاء

رغم أن الميلاد كافٍ لمنح مكانة النبالة، فإن الأرستقراطيين بطبيعتهم لا يميلون إلى الاعتراف بأن النبالة لا تشير إلى أي سمة أخرى؛ فهم يميلون إلى الاعتقاد بأن أسلافهم قد استحقوا هذا التميز بسببِ ما أظهروه من بسالة وفضيلة، وما قدَّموه من خدمات متميزة للملك و/أو المجتمع. إنهم يحبُّون الاعتقاد بأن هذه النزعات الفطرية إلى حدٍّ ما وراثيةٌ، أو على الأقل تنعكس على نحوٍ جيد على أحفادهم. وهم يعترفون بوجهٍ عامٍّ بأنهم لا يحتكرون مثل هذه الصفات، رغم أنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الاحتمال الأكبر أن توجد هذه الصفات بين أناس ينتمون لفئتهم؛ بمعنى أن «المزايا الاجتماعية تُمنح عن استحقاق بواسطة الوراثة وليس الأفعال.» لدرجة أن بعضًا منهم كان مستعدًّا لتقبُّل فكرة أن الأفراد من عامة الشعب الذين يتضح تَمتُّعهم بمثل هذه الصفات ربما يستحقون الحصول على لقب نبيل اعترافًا بهذا. لكن لم يهتم سوى عدد قليل من الأرستقراطيين بالاعتراف بأن الثروة من أي نوعٍ أحدُ مؤهِّلات الانضمام لرتبتهم.

عمليًّا، لم يكن هناك شيء أكثر أهميةً من ذلك. فإن كانت أصول النبالة عسكرية بشكل أو بآخر، فإنها عكست التكلفة المتزايدة للاستعداد لخوض المعارك. وإذا كان — منذ العصور الوسطى — الجنود والبحَّارة الناجحون المنتمون لخلفيات اجتماعية متواضعة استطاعوا أحيانًا الوصول بعد كفاح لمرتبة النبلاء، فإنهم نادرًا ما كانوا يحقِّقون هذا دون جمع ثروات هائلة من الغنائم أو الجوائز على طول الطريق. في معظم تاريخ طبقة النبلاء، كان الالتحاق بها يُشترى — سواء أكان هذا على نحوٍ مباشر أو غير مباشر — ومن الناحية الاجتماعية كانت إحدى الوظائف التاريخية الأساسية للطبقة الأرستقراطية إعطاءَ الأثرياء الجدد مكانة مرموقة. في الحقيقة كانت عمليات الشراء الواضحة والصريحة أمرًا استثنائيًّا. فلم يكن هناك اعتقاد قطُّ في شرعية مبدأ «المال في مقابل الشرف»، وانتشرت صدمة بين الناس عندما باع لويس الرابع عشر الألقاب وخطابات منح لقب النبلاء في تسعينيات القرن السابع عشر، أو عندما باع عدو مجلس اللوردات، ديفيد لويد جورج، ألقاب النبالة من أجل دعم تمويل حزبه في عشرينيات القرن العشرين. وقُبيل اندلاع الثورة الفرنسية كان نحو ثلثي النبلاء الفرنسيين ينحدرون من سلالة موظفين حكوميين حصلوا على لقب النبالة عن طريق شرائه على مدار القرنين الماضيين. لكن ثمة المزيد من الطرق الأخرى لشراء مكانة النبلاء بخلاف الشراء المباشر. فنادرًا ما كان يتردَّد النبلاء الراغبون في تحسين وضعهم المالي في السعي للزواج من فتيات ثَرِيات من عامة الشعب يقدِّمن مهورًا كبيرة. أُطلق على هذا «إعادة تنميق شعار النبالة» أو «استعادة الأمجاد»، لكن هذا لم يحافظ فقط على تجدُّد ثروات النبلاء، بل أيضًا على تجديد جينات الطبقة الأرستقراطية. على أي حال كان الحصول على مكانة النبالة أمرًا مكلِّفًا؛ فلم يكن باستطاعة أي شخص أن يأمل في الاحتفاظ بهذه المكانة دون تمتعه بثروة هائلة، وكان الحكَّام يحرصون عادةً على عدم منح هذه المكانة لأي شخص يفتقر للقدرة المالية على الاحتفاظ بها؛ ففي عام ١٨٠٨م عندما قرَّر نابليون استحداث طبقة أرستقراطية لها ألقاب من أجل تنميق مزاعمه الاستعمارية المتعجرفة، حدَّد مستوًى أدنى من الثراء لكل درجة في مقياسه لمنح الرتب. وفي القرون السابقة، حاول عدد أكبر من الملوك الشرعيين في إنجلترا وفرنسا بانتظام إجبار الرعايا أصحاب الثروات الهائلة غير المنتمين لطبقة النبلاء بالارتقاء إلى درجة الفرسان أو النبلاء، رغم أن هذا كان أيضًا أحد السبل لاستغلال ثروتهم عن طريق مطالبتهم بدفع ثمن هذا الترقي. مع هذا، لم تكن الغالبية العظمى من أصحاب المستوى المطلوب من الثروة بحاجة إلى مثل هذه الحوافز؛ فقد لفتوا الانتباه بالفعل لأنفسهم عن طريق استثمار ثرواتهم في الأراضي بدلًا من تركها سائلة أو مخبَّأة، وهذا وحده أشار إلى أن لديهم طموحات اجتماعية.

لم يكن الانضمام لإحدى الطبقات الأرستقراطية يتم بسرعة قطُّ، فرغم الحصول على منحة رسمية بلقب النبالة، لم يكن هذا إلا خطوة واحدة على الطريق، رغم أنها بلا شك كانت الخطوة الأهم. كان الاستثمار في الأراضي، وهي من الأصول الأساسية للنبلاء، خطوة أخرى. مع هذا كان تقبُّل الأعضاء الآخرين في طبقة النخبة هو الدليل الوحيد على اكتمال عملية الانضمام بنجاح. ثمة قول مأثور شائع يقول إنه كي يصبح المرء من النبلاء يحتاج الأمر إلى تعاقب ثلاثة أجيال، وحتى عندها لا توجد طريقة لقياس هذا بموضوعية. لكن في النهاية يعالِج الزمن مثل هذه الأمور؛ فقد يتقدَّم لخطبة بنات أحد الوافدين الأثرياء أناسٌ من طبقة النبلاء، وتتحقَّق بالزواج صلات القرابة. يتم تقليد عناصر نمط الحياة الأرستقراطي بعناية، ويُعيَّن الأبناء في وظائف نبيلة، وبمرور الوقت قد تندثر الأصول المتواضعة وربما تُنسى بالكامل. ويمكن حينئذٍ أن يُنظر للصفات المكتسبة بعناء شديد باعتبارها فطرية.

(٣) الاستمرارية

تبقى مكانة النبالة إلى الأبد؛ فقد يفقدها الأفراد في ظروف معينة محدَّدة بوضوح، لكن الصفة التي تنتقل عبر الدم لا يمكن محوها، وهذا ما اكتشفه الثوار الفرنسيون عندما حاولوا إلغاءها في عام ١٧٩٠م. وقد عبَّر أحد الضحايا الغاضبين في هذا الوقت عن ذلك، فقال إن النبلاء «لا يمكن أن يصدقوا أن أي قوة بشرية قد تمنعهم من نقل صفة النبالة إلى نسلهم، تلك الصفة التي حصلوا عليها من الله وحده.» إن أهم واجب شخصي للابن الأول للنبيل هو تخليد السلالة، وبذلك يدعم في المستقبل مجد العائلة المتوارَث من الماضي. لكن الحفاظ على مجد العائلة يعتمد بالتأكيد على الاحتفاظ بثروات مادية مناسبة، وكثيرٌ من ظروف الحياة الأرستقراطية جعل هذا الأمر صعبًا.

في معظم البلدان يرث جميع الأبناء مكانة والدهم. حتى في إنجلترا؛ حيث كانت الألقاب تنتقل وفقًا لنظام البكورة الذكوري الصارم، كان الأطفال الأصغر سنًّا لأب حامل للَّقب يحتفظون بشعار النبالة التابع لأسرتهم، وأحيانًا يحتفظون، لجيل واحد فقط، باللقب الشرفي. لكن في حين كانت الممتلكات في إنجلترا أيضًا تورَّث بنظام البكورة حتى عام ١٩٢٥م، ولم يكن للأطفال الأصغر سنًّا الحق في المطالبة القانونية بها، فإن القوانين الأساسية في معظم الدول الأوروبية كانت تكفل لكل طفل الحصول على جزء من ممتلكات والده. قد يتفاوت الحجم المحدَّد لهذا الجزء كثيرًا، بداية من المساواة الكاملة (وهو ما ساد في أوروبا الشرقية)، وحتى نصيبٍ يكون بالغ الصغر مقارنةً بنصيب الابن الأكبر أو الوريث المختار بوصية. مع هذا فإن النتيجة الحتمية كانت تقسيم ممتلكات الأسرة في كل جيل، وترك إرثٍ لكثير من الورثة يلبِّي بالكاد احتياجاتهم. لم يكن الأبناء الأصغر سنًّا في إنجلترا حتى يحصلون على هذا، ودون موارد مالية مضمونة كانوا ينحدرون إلى رتب العامة. وفي الوقت نفسه قد يجد نظراؤهم في القارة الأوروبية وسلالتهم، الذين يمنعهم القانون أو التحيز أو كلاهما من الاتجاه إلى العمل بالتجارة من أجل الحفاظ على ثرواتهم، أنفسَهم منعزلين في ظروف متواضعة أو ضيقة للغاية؛ مما يجعلهم يشعرون دومًا بأنهم غير جديرين بمكانتهم. وفي الجزر البريطانية، كان من النادر وجود نبلاء فقراء بالفعل؛ فقد تحوَّلوا إلى عامة الشعب. وفي القارة الأوروبية، كانوا يشكِّلون مشكلة اجتماعية أصبحت تشغل الحكومات أكثر وأكثر في الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر.

لا يلغي أيٌّ من هذا الصورةَ التقليديةَ عن ضَيْعات النبلاء الشاسعة والضخمة التي تديرها منازل كبرى. ويمكن العثور على مثل هذه الصورة في معظم الدول قبل القرن العشرين. لكن، رغم أنها كانت لافتة للانتباه، وتمامًا مثل القصور والقلاع التي أقيمت عليها — التي ما تزال هكذا حتى يومنا هذا — فإن متعتها كانت حكرًا على عدد قليل من الأشخاص، وحتى بين هؤلاء كانت مكانة كبير العائلة لا تظل باقية إلا على حساب الإخوة الأصغر سنًّا. كانت الجزر البريطانية مثالًا متطرِّفًا على هذا؛ حيث كان نظام توريث الابن الأكبر يؤيد تجميع الضَيْعات، ودَعَمَه في القرنين السابع عشر والثامن عشر انتشارُ استخدام «مبدأ التوريث الكامل للأرض»؛ وهو أحد أشكال الوقف الذي كان يقيد تصرف أي وريث في ميراث الأسرة طوال ثلاثة أجيال. لكن حتى في الأراضي التي لا ينطبق عليها نظام البكورة، أو في الأماكن التي كانت الأراضي تقتصر فيها على نقل الإقطاعات والألقاب المرتبطة بها (كما في فرنسا)، كان من الممكن في بعض الأحيان تكوين أوقاف ولكن بتكلفة باهظة؛ ففي إسبانيا كان نظام توريث الابن الأكبر، وفي جنوب إيطاليا وأراضي هابسبورج كان نظام الهبة، يسيطر كلٌّ منهما على نقل مساحات شاسعة من أراضي العائلات عبر الأجيال، أيًّا كان مدى سوء إدارة كبير العائلة لها. وبعدما أظهرت الثورة الفرنسية ضعف النبلاء، ظهرت حركات تساعدهم في مقاومة تقسيم ضَيْعاتهم. فتخلَّى النبلاء في بروسيا عن التزامهم طويل الأمد بالميراث القابل للتجزئة، وحصلوا على أعداد متزايدة من الأوقاف حتى عام ١٩١٤م. وحثَّ نابليون أعضاء تسلسله الهرمي الجديد على حماية ما يملكونه من أراضٍ عن طريق نظام التوريث للابن الأكبر. واستمرَّت أسرة البوربون التي استعادت مكانتها في تطبيق هذه الطريقة، حتى إنها حاولت في عام ١٨٢٦م تعميم نظام البكورة على أغنى العائلات، رغم أن هذه الخطوة ثبت أنها بعيدة كل البعد عن الغالبية العظمى التي ما زالت تعيش في ظروف متواضعة.

ظلَّ النبلاء يفضِّلون أكثر الأساليب تقليديةً لتجنُّب التعرض للفقر؛ فيمكن الحد من حجم الأسرة بأساليب غير طبيعية؛ ومن ثم تقليل عدد المطالبات المحتمَلة فيما يتعلَّق بممتلكات الأب. وتوجد بعض الأدلة، منذ القرن السابع عشر، على بدء تطبيق هذا الأمر؛ فالأنصبة الأكبر حجمًا التي يرثها الأبناء الباقون على قيد الحياة تعطيهم أملًا أفضل في زيادتها عن طريق زواج المصالح مع نظراءَ وضعُهم مشابهٌ. وفي الدول الكاثوليكية قبل اندلاع الثورة الفرنسية، كانت المناصب الكنسية، ومناصب الرهبان والأديرة التابعة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية الأكثر ثراءً، يحتلها على نطاق واسع أبناء الأسر الأرستقراطية الذين لم يَعُد لهم الحق في المطالبة بأي شيء من أُسرهم، وحتى في فترةِ ما بعد الإصلاح الديني في إنجلترا في القرن الثامن عشر كثيرًا ما كان الكاهن الريفي هو الأخ الأصغر لأحد ملَّاك الأراضي. كذلك قد يطمح الأبناء الأصغر سنًّا في الارتقاء لمستوى أسلافهم عن طريق الوظيفة الأرستقراطية الأساسية: المهنة العسكرية؛ فقد تولَّى قيادة الجيش الأسطوري لفريدريك العظيم نبلاءُ تربَّوا على الأرض الفقيرة والمقسَّمة دائمًا في كلٍّ من براندنبورج وبروسيا. إلا أنه بالتوغل غربًا كان ضباط الجيش يُعيَّنون عن طريق الشراء؛ ظل هذا يحدث في فرنسا حتى اندلاع الثورة، وفي بريطانيا العظمى حتى عام ١٨٧١م، وأدَّى هذا فعليًّا إلى التغاضي عن كثيرين ممن آمنوا بأن خلفيتهم الاجتماعية وتقاليد عائلتهم تجعلهم مرشحين بارزين لقيادة الرجال في المعارك. كان أسوأ وضع على الإطلاق في جميع العائلات ذات الإمكانيات المتواضعة من نصيب الفتيات؛ فبِدون امتلاك مهور مناسبة، تكون الفتيات غير مؤهَّلات للزواج. حتى أديرة الراهبات كانت تطالب بتقديم مهور من أجل الالتحاق بها. وهكذا شاع النظر إلى الفتيات في العائلات الأرستقراطية، أيًّا كان مستوى ثروتها، على أنهن نوع من البلاء؛ فهنَّ يستنزفن أموال العائلة سواء تزوجن أم لا، وفي كلتا الحالتين لا يفعلْن أي شيء لتخليد لقب العائلة.

مع هذا، كانت أكثر الطرق بداهةً لتجنُّب الفقر هي تلك التي تَجنَّبها النبلاء؛ فبوصفهم ملَّاكًا للأراضي كان بإمكانهم استغلال هذه الأصول البالغة الأهمية بطرق مباشرة ومبتكَرة؛ وحيث إن الابتكارات الزراعية قد حدثت بالفعل، كان النبلاء دومًا يتحمَّلون المسئولية؛ فقد سمع الجميع عن ابتكارات فيكونت تاونسند «الملقَّب بفيكونت اللفت» في إنجلترا في القرن الثامن عشر. ومع هذا، كانت هذه مجرد استثناءات؛ فقد فضَّلت الغالبية العظمى من النبلاء الحياةَ اعتمادًا على الزراعة بطريق غير مباشر، عن طريق تحصيل الإيجارات أو الحصول على مستحقَّات وخدمات من العبيد. وحتى في الأماكن التي لم يُمنعوا فيها رسميًّا من ممارسة التجارة بموجب قوانين الانتقاص من المكانة، كان النبلاء يَعزُفون عن تلويث أيديهم بالتجارة. وقد حرصت الحكومات في القرن الثامن عشر على القضاء على هذا التحيز؛ إذ حثَّ ملك فرنسا مرارًا وتكرارًا النبلاءَ في بلاده على ممارسة تجارة البيع بالجملة، وجعل هذا أمرًا لا يقلِّل من شأنهم. وقد أباح الميثاق الروسي لطبقة النبلاء في عام ١٧٨٥م للنبلاء الدخول في مجال التجارة. وبكافة الحيل والطرق غير المباشرة، ودومًا بتخفٍّ متعمَّد، كان النبلاء أصحاب رأس المال الذي يسمح لهم بالاستثمار يَسعدون بجَنْي ثمار تشغيل هذه الأموال تجاريًّا، سواء في التجارة أو التمويل. هذا ويتزايد ما تكشف عنه الأبحاث الحديثة عن المستويات الاقتصادية التي بلغتها «رأسمالية النبلاء». مع هذا كانت مشكلة النبلاء الفقراء تحديدًا هي عدم امتلاكهم أيَّ نوع من رأس المال؛ فقد حصلت كثير من العائلات النبيلة على مكانتها منذ البداية عن طريق ترك «مكتب التعاملات المالية»، وكانت عودتهم إليه تُعد بمنزلة الاعتراف بفشلهم الاجتماعي. قبل اندلاع الثورة في منطقة بريتاني الفرنسية، كان باستطاعة النبلاء الفقراء «تعطيل حس النبالة لديهم» بينما كانوا يستعيدون ما فقدوه من ثروات أسرتهم بالتجارة، ثم يعودون إليه مرة أخرى بعد إصلاح الضرر. إلا أن هذا كان أمرًا استثنائيًّا إلى حدٍّ كبير؛ ففي واقع الأمر كلما زاد فقر النبيل، زاد احتمال أن يزدري ويتجنَّب وصمة عار التجارة؛ وبذلك يزدري السبيل الوحيد للنجاة من الفقر الأرستقراطي المدقع. سَخِرَ كَمٌّ كبير من الأعمال الأدبية من هذا السلوك؛ فتصرفات البطل الهزلية في رواية «دون كيشوت» (١٦٠٥–١٦١٥م) المبتذلة، التي يغلب عليها في ذات الوقت طابع تصرفات الفرسان، قد تُرجمت إلى جميع اللغات الأوروبية الرئيسية. وقد قال أحد المعلقين القانونيين الفرنسيين في الوقت الذي كُتبت فيه هذه الرواية الساخرة العظيمة: «ليس الفقر عيبًا، ولا يتعارض مع النبالة.» لقد أحدث هذا ببساطة توترًا بين الموارد المالية والتوقُّعات، وهو ما لا يستطيع أيُّ شيء حلَّه. وبعد مرور قرن ونصف من الزمن، لم تقترب المشكلة من الحل. مركيز ميرابو، والد خطيب الثورة الفرنسية الخائن، في عام ١٧٥٦م كتب يقول: «دونَ مالٍ لا يزيد الشرف عن كونه مرضًا.»

(٤) الشرف

رأى النبلاءُ أنفسَهم دومًا أعلى من جميع البشر بفضل شرفهم. يعني هذا استحقاقهم لتقدير عام، لكنه ألزمهم أيضًا بالتصرف بأسلوب يجعلهم جديرين به. إلا أن الشرف كان إحدى الصفات التي يستطيع الجميع التعرُّف عليها، لكن قلة قليلة هي من وجدت تعريفه أمرًا سهلًا. يمكن تعقُّب قدر كبير من هذا المفهوم وصولًا إلى نماذج الفروسية التي ظهرت في ذروة العصور الوسطى بهدف توجيه سلوكيات الفرسان. لقد نشأت الفروسية بوصفها وظيفة عسكرية رسمية؛ وعليه، كانت أكثر الصفات قيمةً هي الشجاعة والجرأة في المعارك. حقَّق أسلاف النبلاء أكثر المآثر مدعاةً للفخر في ساحة المعركة، وكان أكثر عمل مخلٍّ بالشرف هو الجبن. وعقب انتهاء سيطرة الفرسان الخيَّالة على الحروب بوقت طويل، كانت رُتَب الفرسان أو الفروسية الحصرية، بما تشتمل عليه من ملابس خاصة وأشرطة وشارات، ضمن أكثر مظاهر التميز المرغوب فيها. واستمرت رتب جديدة في الظهور على مدى قرون طويلة. فحتى ممارسة المبارزة بالرمح لقضاء وقت الفراغ، تلك الرياضة التي تتسم بعنفها الشديد وخطورتها البالغة، لم تختفِ إلا بعد وقت طويل من فقدانها لقيمتها العسكرية. ولم يتوقَّف النبلاء عن حمل السيوف في حياتهم اليومية — كدليل على استعدادهم للقتال من أجل الدفاع عن شرفهم — إلا في أوائل القرن التاسع عشر. وقد نشأت المبارزة لأول مرة؛ وهي دفع أفراد متماثلين إلى التقاتل، كأسلوب قضائي لتسوية المنازعات بين الفرسان. وعندما تركها المحامون واتجهوا إلى أسلوب التقاضي العادي، استمر النبلاء في تفضيل المبارزات في المسائل المتعلقة بالشرف حتى أوائل القرن العشرين. لم يكن هناك ما يشين النبلاء في تحدِّيهم عامة الشعب، ولم يكونوا يفكِّرون قط في الإعلان عن تحدي مثل هذه المخلوقات الأقل منهم منزلةً. لكن لم يَكُن ممكنًا رفض التحدي عندما يأتيهم من أحد نظرائهم من النبلاء دون المساس بالشرف، حتى عندما كان القانون يحظر المبارزة وكان يتم ملاحقة المنتصر الذي يقتل خصمه بتهمة القتل. ومنذ القرن السابع عشر بذلت الحكومات جهودًا مضنية من أجل قمع المبارزة عن طريق توقيع عقوبات شديدة ورادعة، لكن استمر الناس في تحدي هذه القوانين. عبَّر عن هذا رجل فرنسي في القرن السادس عشر قائلًا: «إن حياتنا وممتلكاتنا مِلك للمَلك. أما أرواحنا فمِلك لله، وشرفنا مِلك لنا؛ فلا سلطة للملك على شرفي.»

في الواقع كان الشرف رخصة لتحدي الملك والاستهانة بقوانينه في مواقف كان النبيل هو الحكم الوحيد فيها. وكما أشار مونتسكيو بعد مرور قرنين قائلًا: «للشرف قوانينه وقواعده ولا يمكن أن ينثني … فهو يتبع هواه الخاص، لا هوًى آخر»، وهو «الشيء الذي يدين به المرء لنفسه أكثر مما يدين به لغيره.» مِن ثَم كانت حياة الأرستقراطيين عامرة بمشاجرات حول الأسبقية في كل شيء؛ من يتحدَّث أولًا، ومن يجلس أعلى من الآخرين، أو يجلس بدلًا من أن يقف، ومن يعترف بمَن، وبأي كلمات وإيماءات. كتبت ابنة أحد النبلاء الإنجليز من مدينة ريجنسبورج، التي كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة في عام ١٧١٦م تقول:

يمكن أن يقضي النبلاء وقتًا ممتعًا بما فيه الكفاية لو قلَّ اهتمامهم بالرسميات؛ لكن بدلًا من الاشتراك معًا في تحقيق هدفِ جعْل هذه المدينة ممتعة لهم قدر استطاعتهم وتحسين مجتمعاتهم الصغيرة، فإن متعتهم لا تتحقَّق إلا بالمشاجرات المستمرة، التي يحرصون على تخليدها عن طريق تركها لخلفائهم … أعتقد أنه من الحكمة أن يبقى المرء محايدًا، لكن إذا تعيَّن عليَّ المُكث بينهم، فإن احتمالات أن أظل هكذا ضعيفة؛ فاحتدام مشاجراتهم يجعلهم غير متحضرين تجاه من يزورون خصومهم.

تبدو هذه المنازعات تافهة للغاية من منظورنا الحديث، وعادةً ما كانت تؤدِّي إلى منافسات تافهة ومخجلة، لكن النبلاء كانوا يرونها أساسية في تصورهم عن أنفسهم. ورغم أن مونتسكيو كان بارونًا من أصل عريق، فإنه كان على استعداد للاعتراف بأن الشرف لم يكن في النهاية أكثر من مجرد نوع من التحيز. ومع هذا فقد قال إن الملوك — عن طريق دعمهم لهذا الجانب — كان بإمكانهم حثُّ النبلاء على «الإقدام على فعل جميع أنواع التصرفات الصعبة، التي تحتاج إلى عزيمة، دون الحصول على أي مكافأة أخرى عدا الشهرة التي تمنحه إياها هذه الأفعال.» في الواقع كان مونتسكيو يرى أن الشرف هو الدعامة الرئيسية للأنظمة الملكية، التي نجحت من خلال إثابة الملك للنبلاء عن طريق الإشادة بهم أو إعطائهم مكافآت، تُعرف أيضًا باسم «المراتب الشرفية»، نظير خدماتهم. قد يكون دافع التشريف دافعًا شخصيًّا، لكن لا بد من إذاعته علنًا حتى يراه الآخرون. وقد كان تراث الفروسية يقضي بأنه، رغم ما يُظهره الرجال الشرفاء في المعارك الشرعية من جرأة وعنف، عليهم أن يتسموا بالتهذيب والتحفظ في الحياة اليومية، والحفاظ على وعودهم، والسعي دومًا للتعامل بإنصاف. ينبغي عليهم أيضًا توفير الحماية للضعفاء، ومراعاة متطلبات التدين. في الواقع كان الرجال الشرفاء يتَّسمون بالفضيلة أيضًا؛ فقد كانت الفضيلة، بوصفها إحدى صفات النبالة، صفةً غيرَ واضحة، ويصعب تعريفها تمامًا مثل الشرف نفسه، وفي نواحٍ كثيرة كان الاثنان متناقضَين؛ فكانت الفضيلة عادةً تشير إلى نوع من الإيثار، في حين كان الشرف يتمحور حول تمجيد الذات. إلا أن كثيرًا من المنظرين أشاروا إلى أن شرف النسب لا يعني شيئًا إذا لم يتَّسم المنتمون إليه بالفضيلة.

كان قانون الفروسية يقضي أيضًا بضرورة معاملة النساء باحترام خاص، أو على الأقل النساء ذوات المكانة المناسبة. لم يكن المبدأ المشين بحق مالك الأرض الإقطاعي بمعاشرة زوجة الفلاح التابع له في الليلة الأولى من زواجه موجودًا إلا في الخيال الشهواني للأساطير، لكن نادرًا ما كان يفكِّر الرجال ذوو السلطة في إغواء الخادمات اللاتي لا حول لهن ولا قوة. وإذا أبدى أحد النبلاء استعدادًا — كملاذ أخير — للزواج من وريثة غنية من العامة من أجل تعويض ما اعترى ثروته من نقصان، فإنه كان دومًا يفضِّل اختيار زوجة من نفس مستواه الاجتماعي. وعندما يصبح للنبلاء المتزوجين عشيقات يتوقَّف احترام الآخرين لهم، وتظهر عليهم علامات الصدمة والاستنكار. عندما يقرِّر الملوك تقليدًا معينًا، وكان هذا شأنهم دائمًا، لم يكن النبلاء يخجلون من أن يحذوا حذوهم. إلا أن شرف زوجات النبلاء — تمامًا مثل شرف الملكات — كان أمرًا مختلفًا؛ فقد كانت وظيفتهن الأساسية هي ولادة ورثة شرعيين، وإذا جَرُؤْنَ على إقامة علاقة مع رجال بخلاف أزواجهن، فإن هذا عادةً يحدث بعد الانتهاء على أكمل وجه من هذه الوظيفة الأساسية. في تقاليد الفرسان، كان أكبر مصدر للخزي والخيانة — بعد الجُبن — هو إغواء زوجة أحد النبلاء. حتى في العلاقات التي تحدث خارج نطاق الزواج، اكتشف الرجال والنساء النبلاء المولد أنه من الأكثر أمنًا لهم أن يقيموا علاقات مع أفراد مساوين لهم في المكانة.

(٥) الخدمة

كان الالتزام القانوني للتابعين بخدمة سيدهم الإقطاعي في الحرب في تراجع كامل في ممالك أوروبا الغربية منذ القرن الثالث عشر. وفي المقابل زادت في روسيا المطالبات بخدمتهم للحاكم طوال الوقت حتى عام ١٧٦٢م. ولم تكن مكانتهم تزيد عن مكانة العبيد إلا قليلًا في أعين نبلاء أقرب جارٍ لروسيا من جهة الغرب؛ وهو الكومنولث البولندي الليتواني؛ ففي هذه الدولة احتفى الشلاختا «بحريتهم الذهبية» التي تقضي بعدم تقديمهم للخدمات. لكن من الناحية العملية، رغم أن ولاءهم الأساسي كان للكومنولث وليس للملك المنتخب، فإنهم كانوا على استعداد لخوض المعارك تمامًا مثل النبلاء في أي مكان؛ حيث كانوا على قناعة تامة بأن وظيفتهم الأساسية هي خدمة المجتمع عن طريق الدفاع عنه بدمائهم. يتألَّف تاريخ كثير من الدول قبل العصور الحديثة نسبيًّا من صدامات متكرِّرة بين الملوك ونبلائهم الثائرين. وبعض الوثائق التأسيسية للحرية السياسية، مثل وثيقة الماجنا كارتا التي انتزعها من الملك جون في عام ١٢١٥م الباروناتُ الأنجلو النورمانية، كانت نتيجة مقاومة النبلاء للانتهاك الملكي لاستحقاقاتهم التقليدية. صحيح أن معظم هذه الخلافات لم تكن نتائجها سامية على هذا النحو، لكن من السهل للغاية أن نرى أن ثورة الطبقات الأرستقراطية تتسم بالأنانية وانعدام المسئولية. فما كان يريده معظم الثوار النبلاء دومًا هو الحفاظ على الطرق التي كانوا يريدون بها تقديم الخدمات تحت إمارة الملك. في هذه الحالات، قد تبدو الثورة مهمة إيجابية؛ دفاعًا فعليًّا عن الشرف.

حتى بعد انحسار النظام الإقطاعي، توقَّع النبلاء في الغرب أن يحصلوا على فرصة القتال تحت قيادة ملوك ميَّالين إلى الحرب؛ فقد كان الملوك المسالمون غير مقبولين. ومع اختفاء الفرسان المسلَّحين والقِلاع الحصينة في أواخر حروب العصور الوسطى، أصبح العثور على دور للنبلاء العاديين أكثر صعوبةً، فيما عدا كونهم فرسانًا مساعدين، وكانت كفاءتهم محل شك، ويُنشرون عادةً على نحو انتحاري في مواجهة الرماح والبنادق الكثيرة التي يستخدمها مرتزقة مدربون. إلا أن ظهور الجيوش الدائمة منذ القرن السابع عشر أوجد الحاجة إلى ضباط على جميع المستويات وفي كافة الفروع العسكرية. كذلك فإن الإمبراطوريات التي تأسَّست حديثًا عبر البحار بدأت في تقديم فرص للإخوة الأصغر سنًّا والأكثر فقرًا لاكتساب شهرة عسكرية. وفي أواخر القرن الثامن عشر كانت جميع الدول الكبرى لديها مؤسسات عسكرية دائمة يستحوذ فيها النبلاء على الرُّتب العليا. وحدها الجيوش الضخمة التي أرعب بها نابليون أوروبا هي فقط التي كان يقودها رجالٌ من أصول عادية، وحتى في هذا الوقت لم تكن تقتصر عليهم. فنظرًا لأن نابليون نفسه كان من النبلاء، فإنه سعى على نحوٍ متزايد لتعيين ضباط من «الأسماء العريقة» للنبلاء القدامى الذين كانت القيادة ضمن تقاليد عائلاتهم. وعلى ما يبدو فإن هزيمته في النهاية على يد جيوش بقيادة نبلاء أيَّدت المزاعم القديمة التي تقول إن الخدمة العسكرية هي الأسلوب البارز الذي كان الأرستقراطيون يخدمون به بلادهم. ولم تبدأ هذه الأسطورة الطويلة الأمد في الانهيار إلا في الحروب الأوروبية التي اندلعت في القرن العشرين.

تمثَّل أحدُ مصادر استياء الأرستقراطيين على مدى القرون في عدم استشارة الحكَّام لهم؛ فقد كان يُنظر إلى إسداء النصيحة على أنها أحد السبل الأخرى الأساسية لتقديم الخدمات. بالطبع لم يكن معظم النبلاء يطمحون قطُّ في الوصول إلى مسامع الملوك، لكن ذوي النفوذ كانوا يعتبرون تقديم المشورة حقًّا وواجبًا في الوقت نفسه؛ فأثناء فترة حكم القُصَّر، توقَّع كبار النبلاء بأن تُعهد السلطة إليهم، جماعيًّا، رغم أن مشاجراتهم على الأسبقية عادةً ما كانت تُفسد كفاءتهم. لكنهم كانوا دائمي الشكوى من الملوك الناضجين؛ لأنهم كانوا يختارون تلقِّي النصح من الوزراء من ذوي الأصول المتدنِّية أو الأشخاص المقربين بدلًا من مستشاريهم «الطبيعيين». إن رجال السلطة في حدِّ أنفسهم، نظرًا لما لديهم من شبكات واسعة من العملاء الذين يسعون للحفاظ عليهم ومكافأتهم، كان من الواضح أنه من مصلحتهم دعم سلطتهم عن طريق الوصول إلى الحاكم؛ فقد كانوا يرون أنه يَدِين لهم بحقهم في خدمته، بدلًا من اعتماده على من رأوا أنهم محدَثو نعمة، مثل أسرة سيسل في العصر الإليزابيثي وعصر جيمس الأول في إنجلترا، أو أسرة لو تيليه أو أسرة كولبير في عهد لويس الرابع عشر في فرنسا، الذين أسسوا شبكاتٍ وأُسَرًا حاكمة منافسة.

ظهرت هذه الأُسر عبر شكل آخر من الخدمة، التي لم يبدأ التأكيد على مساواتها بالبراعة الحربية إلا في القرن السادس عشر. لقد كان مؤسِّسو هذه الأسر رجالًا بيروقراطيين ومتعلِّمين، كرَّسوا حياتهم لإدارة المؤسسة السريعة التوسع في الدول الحديثة الأولى. كان بإمكانهم إدارة الخدمات اللوجستية في الحرب وتبعاتها الضريبية والمالية الجسيمة، لكن دون أن يذهبوا هم أنفسهم إلى أرض المعركة. وقد وطَّد كثيرٌ منهم أقدامه في الخدمة الملكية عن طريق شراء المناصب. في فرنسا، أصبح أصحاب الرتب العليا الحاصلون على لقب النبلاء في نظام الرُّشا المستمر في التوسع يُعرفون في أوائل القرن السابع عشر بالنبلاء ذوي العباءات، في مقابل النبلاء حَمَلَة السيف التقليديين. عمل معظم النبلاء ذوي العباءات قضاةً في المحاكم الملكية، وسرعان ما تزوَّجت أُسرهم من أرستقراطيين ينتمون لنظام الخدمة العسكرية الأقدم. هذا وقد خَدَم كثير من سلالات النبلاء ملوكًا متعاقبين على مدى الأجيال، حتى إلغاء المناصبِ التي تُورَّث القائمةِ على الرشوة في عام ١٧٨٩م. في هذا الوقت كان النبلاء يعملون في الرتب العليا في مجالَي القضاء والإدارة في معظم الدول الأوروبية، وكانوا يرون أنها مهنتهم. إلا أن الأشراف الذين أداروا أقاليم في الجزر البريطانية بوصفهم قضاتها في وقت السلم ينكرون أي إيحاء بأنهم موظفون مدنيون. فعلى العكس من الموظفين الذين يتقاضون أجرًا، كانوا يقدِّمون خدماتهم مجانًا، ويَسعدون فقط بالاعتراف بالتبعات الاجتماعية التي ينطوي عليها تعيينهم في منصب القضاء.

نادرًا ما كان الأرستقراطيون يشعرون بالحاجة لإظهار جدارتهم للخدمة على نحو مسبق؛ فقبل القرن التاسع عشر كان الضباط والموظفون لا يُعيَّنون عن طريق منافسة رسمية ومفتوحة، بل عن طريق المحسوبية؛ فلقد كانت الإجراءات الموضوعية لتقييم مدى الملاءمة غير واردة، وكان الدليل الوحيد على الجدارة أو القدرة يتجلَّى في الأداء، وحتى عند ثبوت عدم كفاءتهم بوضوح، نادرًا ما كان يمكن التخلص من النبلاء بمجرد اعتلائهم أحد المناصب؛ مِن ثَم لا عجب أنَّ فرص تقديم الخدمات كانت تأتي إلى حدٍّ كبير من خلال مؤيدين ذوي سُلطة، كانوا يفضِّلون ترشيح أقاربهم أو معارفهم أو مَن يَدِينون لهم بخدمات. أحاط دومًا بأصحاب السلطة الكبار مجموعاتٌ كبيرة من التابعين — قائمة على أوجُه «التقارب» أو «المصلحة» المتمثِّلة في الخدم المتطلعين — الذين لم يكونوا يتحكَّمون في مصائرهم وحدهم، بل كان يتحكَّم فيها أسيادهم أيضًا. وجذب الأسياد بدورهم مثل هؤلاء الأتباع بإثبات قدرتهم على إشباع طموحاتهم. وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، دعم ذوو النفوذ في الغرب مطالبهم عن طريق استخدام جيوش خاصة واقعية من الخدم، وهو ما أطلق عليه بعض المؤرخين اسم «إقطاعية الأبناء غير الشرعيين». وبالتوغل شرقًا، استمرت مثل هذه الحاشيات لقرن آخر من الزمن، لكن عاجلًا أم آجلًا أسَّس الملوك احتكارًا للسلطة الشرعية. مع هذا فإن شبكات الوصاية ظلَّت مفتاحًا للسُّلطة في الكنيسة والدولة حتى ظهور الاختبارات العامة في القرن التاسع عشر، وما دامت هذه الشبكات قائمة فإن النبلاء هم المستفيدون الأساسيون منها.

تأتي المفارقة من أن النبلاء طالما اشتهروا بالكسل وعدم الرغبة في العمل. وهذا من الأمور الطبيعية؛ نظرًا لعزمهم على عدم تلويث أيديهم بالعمل اليدوي المضني، وازدرائهم للأنشطة المجهدة أو التجارية، وتفضيلهم للراحة التي يتفاخرون بها. إلا أن النبلاء بوجه عام كانوا يطمحون إلى حياة يمارسون فيها أنشطة مشرِّفة. لقد كان قدر كبير من تكاسل الأرستقراطيين عن العمل مفروضًا عليهم، وهي النتيجة الحتمية للفقر المدقع الذي جعل تكاليف الخدمة بعيدة عن متناول طبقة الأشراف ذات الرتبة المنخفضة. وعندما كانت تتاح للأرستقراطيين السبل، عادةً ما كانوا يتحيَّنون أي فرصة لإظهار أن سموَّ مولدهم تدعمه سمات أخرى ذات قيمة للمجتمع بأسره. كذلك كانوا يعلمون — بالطبع — أن نجاحهم فيما يقدِّمونه من خدمات يفتح الطريق أمام حصولهم على مكافآت مادية. لكن أيًّا كان الدافع فإن الأرستقراطيين وطاقاتهم شكَّلا القوة الأساسية المحرِّكة للدول قبل الثورة الصناعية، وما كان لأيٍّ منها أن تُدار — ربما بخلاف الجمهورية الهولندية التجارية — دونهما. ولم يبدأ استحواذهم على السلطة وأدواتها في التلاشي إلا في أثناء القرن التاسع عشر عندما تضاءل كثيرًا حجمُ تميزهم الفطري المزعوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤