الفصل العاشر

إصلاح أنفسنا

لا يمثل القانون سوى جزءٍ واحد فقط من المشكلة؛ فنحن الجزء الأكبر. إن أعرافنا وتوقعاتنا بشأن السيطرة على الثقافة وضعت خلال قرن كان مختلفًا اختلافًا جذريًّا عن القرن الذي نعيشه الآن. إننا بحاجة لصياغة مجموعة من الأعراف التي توجهنا ونحن نخوض تجربة ثقافة القراءة والكتابة ونبني اقتصادات هجينة. إننا بحاجة لوضع مجموعة من الأحكام التي تتعلق بأسلوب التعامل المناسب مع التعبير الذي يتصادف أنه لا يستهوينا. إننا، كمجتمع، في حاجة لوضع تلك المعايير ونشرها.

(١) تهدئة مهووسي السيطرة

إننا على علم بالأعراف التي يفرضها القرن الحالي. ويمكننا العثور عليها إذا فكرنا مرة أخرى في حرية الكتابة. لقد تعلمنا الكتابة ونحن أطفال، ونقيس مستوى التعليم بمستوى جودة تعلمنا للكتابة. وكما أشرت من قبل، هذه سمة شديدة الديمقراطية تميز ثقافتنا الإبداعية: إننا نقول للجميع إن عليهم أن يتعلموا كيف يتحدثون وكذلك كيف ينصتون.

تجلب تلك الخبرة الجوهرية معها توقعات معينة، لا تتعلق فحسب بما يتمتع كل امرئ بحرية القيام به، وإنما تتعلق أيضًا برد الفعل الملائم تجاه ما يكتبه أي امرئ. ببساطة، رد الفعل هذا في جوهره واقعي وقائم على مبدأ عدم التدخل. فعندما يكتب أحدهم رأيًا أحمقَ، فإن الرد اللائق عليه يتمثل في التشكيك في صحة الرأي، لا في حق ذلك الشخص في أن يكتبه. ومع أن القول الزور من الممكن أن يحض على رد فعل قانوني (دعوى تشهير وقذف)، فإن هناك (على الأقل في إطار التقاليد الأمريكية) افتراضًا قويًّا مسلمًا به يقف ضد تدخل الحكومة، إلا إذا كان هذا التدخل ذا ضرورة مطلقة. فالدستور يقيد سلطة الشخصية العامة في رفع قضايا التشهير. والشخص الذي يرد على خطأ ما برفع دعوى قضائية يفقد على الفور تعاطف معظمنا. هذا هو الموضع الذي لا تزال فيه نصيحة والدة الرئيس أندرو جاكسون قوية إلى الآن: «لا تكذب، ولا تأخذ ما ليس لك، ولا تقاضِ أي امرئ افترى عليك الكذب، أو أهانك، أو ضربك. وسوِّ دومًا بنفسك تلك المسائل.»1 على الأقل فيما يتعلق بافتراء الكذب، لا بد أن هذا صحيح.
كما قلت من قبل، تلك الأعراف المتعلقة بمسألة الكتابة تختلف عن الأعراف التي تحكم كثيرًا من الفنون. إن مدى الاستعداد لاستنفار النظام القضائي كي يتعامل مع مسألة الاستغلال السيئ للأفلام أو الموسيقى مذهل حقًّا. وهذا الأمر آخذ في الازدياد، وذلك حسب قول ديفيز جوجنهايم المخرج الحائز على جائزة الأوسكار لي منذ ثماني سنوات مضت:
منذ عشر سنوات … لو أن عملًا فنيًّا عارضًا … تعرف عليه شخص عادي، فإنك ملزم في هذه الحالة بإبراء حق التأليف والنشر الخاص به. واليوم صار الأمر جد مختلف. فالآن أي جزء من عمل فني يكون ممكنًا التعرف عليه من قبل أي شخص … فإنك ساعتها تكون مطالبًا بالحصول على ترخيص به، وأن تسدد مقابل استخدام العمل. الغالبية العظمى من الأعمال الفنية — أي قطعة أثاث، أو عمل نحتي — يجب الحصول على ترخيص قبل استخدامها.2
إننا بحاجة إلى أن تكون الأعراف الحاكمة للنصوص حاكمة للثقافة بشكل عام، ويجب على ذلك التغيير أن يبدأ بالشركات التي لديها الآن هيمنة قانونية على قدر هائل من ثقافتنا، عليها أن تظهر زعامتها. يقسم هنري جنكنز تلك الشركات إلى نوعين:
بداية بالمعارك القانونية حول نابستر، اعتمدت صناعات الوسائط بصورة متزايدة سياسة الأرض المحروقة تجاه مستهلكيها، ساعية نحو تنظيم وتجريم العديد من أشكال إسهام الجماهير التي لم يكن لها من قبل وجود ملحوظ. دعونا نسميهم دعاة الحظر. وحتى تاريخه، لا يزال الموقف الداعي للحظر مهيمنًا على نطاق شركات الوسائط القديمة (السينما، والتلفزيون، وصناعة التسجيلات الصوتية)، رغم أن تلك الجماعات في حالة شروع بدرجات متفاوتة في إعادة فحص بعض من تلك الافتراضات … وفي الوقت نفسه، على الهوامش، تجرب شركات الوسائط الجديدة … أساليب جديدة تعتبر الجماهير مساهمين في إنتاج المحتوى، وأيضًا قواعد وساطة شعبية تساعد في ترويج الامتيازات التجارية. سوف نسميهم نحن دعاة التعاون.3
إن دعاة التعاون هؤلاء يرغمون «شركات الوسائط على إعادة التفكير في الافتراضات القديمة بشأن معنى كلمة استهلاك الوسائط.»4 وبينا هم يكثرون من تجاربهم في الحرية، فسوف يشجعون أيضًا الأعراف التي تؤازر الحرية.

(٢) إظهار التشارك

كما شرحت من قبل، قانون حقوق التأليف والنشر آلي. إنه يبسط سيطرته على ما تبدعه، سواء قصدت إبداعه أم لا، وسواء استفدت منه أم لا. إن الأستاذة الجامعية التي تنشر بحثًا لا تريد أكثر من أن ينسخ الناس بحثها ويقرءوه، غير أن القانون ينص على ألا يكون هناك نسخ إلا بتصريح. والمعلم الذي لديه خطة تدريس مبتكرة لتاريخ الحرب الأهلية لن يحب شيئًا أكثر من أن يستعين آخرون بعمله، وينص القانون على أن الآخرين لا يمكنهم ذلك دون الحصول على تنازل مباشر عن تلك الحقوق. إن جوهر قانون حقوق التأليف والنشر عبارة عن كلمة واحدة جاهزة وبسيطة: ممنوع. أما بالنسبة للعديد من المبدعين، فإن جوهر الإبداع كلمة: لا مانع.

لا حاجة بأحد للتساؤل عن الدافع أو الضرورة التي تلح على أولئك الذين يصرون على وجوب احتفاظهم بكافة الحقوق لأنفسهم. ربما هناك ضرورة تدفعهم إلى هذا. من أنا لأقول كلامًا مختلفًا؟ لكن التسليم بوجود الضرورة أحيانًا ليس معناه مطلقًا التسليم بوجودها طوال الوقت. وكون لوكاس فيلم في حاجة للسيطرة على كافة حقوقها كي تربح من وراء فيلمها العبقري ليس معناه أن أستاذ القانون الذي يكتب مقالًا عن الإفلاس المالي في حاجة لنفس الحماية. وكون محطة إن بي سي في حاجة للسيطرة على الاستغلال التجاري لحلقات إي آر لا يعني بالضرورة أَنَّ لإنْ بي سي الحق في السيطرة على الاستغلال التجاري للمناظرات الرئاسية. فنموذج حق التأليف والنشر ينجح في بعض المواضع، لكن «بعض» المواضع ليس معناها «في كل مكان».

ولدت حركات من أمثال المشاع الإبداعي لمساعدة الناس على رؤية الفارق بين «في موضع ما» و«في كل مكان». تمنح منظمة المشاع الإبداعي للمؤلفين أدوات مجانية — أدوات قانونية (تراخيص حقوق تأليف ونشر) وأدوات تقنية (بيانات وصفية وتقنية تمييز بسيطة) — كي يميزوا إبداعهم وفق درجة الحرية التي يريدون أن يمنحوها في التعامل مع المنتج الإبداعي. وهكذا إن كنت معلمًا، وأردت من الناس أن يتشاركوا معك في عملك، فإن منظمة المشاع الإبداعي تمنحك أداة كي تعلن عن ذلك للآخرين؛ أو كنت مصورًا فوتوغرافيًّا ولا تمانع أن يجمع آخرون أعمالك، لكنك لا تريد أن تأخذ مجلة تايم عملك دون إذنك، فإن منظمة المشاع الإبداعي تعطيك رخصةً بالإعلان عن ذلك. جميع الرخص تعلن صراحةً عن الحريات ذات الصلة في ثلاث طبقات منفصلة؛ الأولى: «صك لعموم الناس» يعبر عن الحريات المرتبطة بالمحتوى في صيغة مقروءة للبشر. والثانية: «الكود القانوني»، وهو الرخص الفعلية لحق التأليف والنشر. والثالثة: البيانات الوصفية المحيطة بالمحتوى التي تعبر عن الحريات التي يحتوي عليها ترخيص حقوق التأليف والنشر بمصطلحات يستطيع الحاسب أن يفهمها، تتعاون تلك الطبقات الثلاث معًا كي تجعل الحريات المرتبطة بالعمل الإبداعي واضحة، ليست جميع الحريات وإنما بعضها، ليست «جميع الحقوق محفوظة» وإنما «بعض الحقوق محفوظة».

خلال السنوات الخمس التي مضت منذ انطلاقة هذا المشروع، مُيزت ملايين الأعمال الرقمية للإشارة إلى هذه الحرية كبديل عن السيطرة. وقد استخدمها البعض لمعاونة أعمالهم على الانتشار، بينما اكتفى البعض باستخدامها كي يقول: «هذه هي صورة الإبداع التي أومن بها.» ومع بدء استخدام الأدوات، بدأت في ترسم ملامح نظام حقوق تأليف ونشر بديل مبني في خصوصية: فما يقرب من ثلثي الرخص تحظر الاستخدام التجاري غير أنها تسمح بالاستخدام غير التجاري، والغالبية العظمى تسمح بعمل المشتقات مجانًا، إلا أن نصف تلك الرخص تشترط أن تطرح تلك المشتقات مجانًا هي الأخرى. هذه صورة لنظام أكثر توازنًا بكثير، بناه متطوعون، بترخيص تلو الآخر، وهو يشير بشيء ما للفنانين الآخرين أيضًا.

هذه الإشارة بالغة الأهمية؛ إذ إنها توضح وجود بديل اختاره المؤلفون والفنانون، لكن يحتاج المزيد إلى إظهار نفس الإشارة، فهناك ميادين بأكملها في حاجة لترسيخ عرف مختلف لحقوق التأليف والنشر، ليس بالضرورة أن يتم هذا عن طريق تعديل تشريعي — أو على الأقل ليس بعد — وإنما عن طريق إجراء تطوعي من أولئك الذين يؤمنون بأن المنحى القانوني يجب أن يكون مختلفًا.

الحقيقة، أنك إذا نظرت إلى التغييرات الخمسة التي اقترحت ضرورة أن يقوم قانون حقوق التأليف والنشر بإجرائها، لوجدت أن منظمة المشاع الإبداعي تمكن بالفعل أربعة من تلك التغييرات من خلال العمل التطوعي لمالكي حقوق التأليف والنشر.
  • أولًا: إن كل ترخيص مشاع إبداعي يرخص على الأقل للتوزيع غير التجاري. وهذا يمثل شوطًا كبيرًا نحو تحرير إبداع الهواة.
  • ثانيًا: إن رخص المشاع الإبداعي تبسط عملية التعرف على من يمتلك حق التأليف والنشر. والأهم من ذلك، أن منظمة المشاع الإبداعي تحتل الآن موقع الصدارة في بناء سجل دولي لحقوق التأليف والنشر، وكلا التغييريْنِ يساعد على إبراء الحقوق في الأعمال المتمتعة بحقوق التأليف والنشر، ومن ثم يساعدان على تحسن أداء سوق تلك الأعمال.
  • ثالثًا: إن رخص المشاع الإبداعي مصممة بهدف التبسيط قدر الاستطاعة من منظومة حقوق التأليف والنشر التي تُبنى عليها. انظر لمنظومة حقوق التأليف والنشر باعتبارها واجهة سطر الأوامر للحاسبات قبل أن يصبح ويندوز أو ماك ذائعي الصيت. إن منظمة المشاع الإبداعي، مثلها مثل ويندوز أو واجهات المستخدمين المعتمدة على الجرافيكس بصفة عامة، تحاول أن تيسر على المستخدم العادي استخدام منظومة حقوق التأليف والنشر. إنها لا تفعل كل شيء، لكنها تفعل نوعيات الأشياء التي من المحتمل أن يحتاج الناس العاديون إلى أن تُنجَز من أجلهم.
  • وأخيرًا: لما كان كل ترخيص مشاع إبداعي يصرح على الأقل بالنسخ للأغراض غير التجارية، فقد ألغينا بذلك تجريم النَّسْخ. فلم يعد السؤال «هل صُنِعت نسخة؟» وإنما صار السؤال، «لأي غرض صُنِعت تلك النسخة؟» وهذا الأمر يقطع شوطًا طويلًا في تبسيط حقوق التأليف والنشر في سياقات الاستخدامات غير المتوقعة أو التي لا يمكن التنبؤ بها، ويجب أن يكون هذا التبسيط هدفًا للكونجرس كذلك.

رغم أنني كنت واحدًا من بين أولئك الذين ساعدوا على تدشين منظمة المشاع الإبداعي، فإنني أول من أزعم أن المشاع الإبداعي ما هو إلا خطوة نحو إصلاح عقلاني لحقوق التأليف والنشر، وليس في حد ذاته الحل النهائي. غير أن ميزته الرئيسية أنه يعمل مع المبدعين على بناء منظومة أفضل لحقوق التأليف والنشر. فعلى النقيض من الجدل المعتاد، الذي يقف فيه المستخدمون في مواجهة مع المبدعين، فإن المشاع الإبداعي إصلاحٌ يتقدم به المؤلفون والفنانون أنفسهم. إننا نقول أي نوع من السيطرة نريد، وخلال ذلك الحوار، نتفاوض حول مقدار السيطرة الذي يعد صحيًّا أو ضروريًّا لكل ثقافة.

يحتاج الأمر اشتراك المزيد من المبدعين في هذا الحوار. يجب أن يطرح المزيد منهم أسئلة على أولئك الذين لا يشاركون عن سبب عدم مشاركتهم. جميعنا في حاجة للعمل من أجل معيار لا يدين حقوق التأليف والنشر، وإنما يدين التطبيق غير الحصيف لحقوق التأليف والنشر. يمكنك أن تؤيد امتلاك المواطنين للأسلحة لكنك تعارض في الوقت نفسه إعطاء السلاح للأطفال. وحالتنا لا تختلف عن هذا.

(٣) إعادة اكتشاف حدود التشريع التنظيمي

لعل التغيير الأخير هو الأكثر أهمية. إنه بالتأكيد الأكثر عمومية. فنحن باعتبارنا ثقافة في حاجة لإعادة اكتشاف فكرة كانت هي المسيطرة عندما كان سوزا يتعلم في بادئ الأمر كيف يصل بصوته للناس: علينا أن نقر بحدود التشريع.

لقد تركنا للتو قرنًا بلغت فيه السلطة الحكومية في جميع أنحاء العالم حدًّا لم تبلغه في أي وقت مضى من تاريخ الإنسانية، وكذلك أيضًا كانت توقعات الناس التي ينتظرونها من الحكومات. فعند نقطة ما في مسار القرن، صار من الطبيعي إلى حد بعيد أن نتخيل أن باستطاعة الحكومة أن تفعل أي شيء، وعند نقطة ما، بدا من البديهي أن العائق الأوحد أمام سلطة الحكومة هو عدم الكفاءة الحكومية.

كثيرون في القرن التاسع عشر كان لهم رأي مختلف تمامًا في الحكومة. فقد اعتقد كثيرون أن الحكومة لا يمكنها أن تفعل سوى القليل، وربما ليس في مقدورها عمل أي شيء، كي تغير من سلوكيات الناس. وعلى حد قول المنظِّر القانوني بالقرن التاسع عشر جيمس سي كارتر:
المعاملات الإنسانية، لا سيما المعاملات الخاصة، لا يمكن أن يحكمها سوى مبادئ العدالة … وهذه المبادئ وجودها مطلق، ولا يمكن أن تكون من نتاج قوانين سنها البشر … إنها مغلفة بالمعاملات التي تعمل على تنظيمها، وتُكتَشف عن طريق تعريض تلك المعاملات للاختبار. والقانون بالتالي علم يعتمد على مشاهدة الحقائق وليس ابتكارًا نرسخه بتشريع، فهذه الوسيلة تتعارض مباشرةً مع كونه علمًا.5
إذا كان للمجتمع أن يتغير أو يتحسن، حسب اعتقاد كارتر، فإن عليه أن يقوم بذلك عن طريق تحسين الفرد. فلا يمكن لتشريع أن «ينشئ» ذلك التغيير، حسبما يعتقد كارتر، إلا أنه «ربما يساعد عليه». وقد صرح كارتر بأن «الرجال لا يمكن أن يصيروا أفضل من خلال أمر قضائي.»6

من أوجه عديدة، كان من الممكن بسهولة وصف أعمالي بأنها دفاع عن التشريعات التنظيمية، فقد ناصر كتابي الأول «الكود المنظِّم وغيره من قوانين الفضاء الإلكتروني» بشدة فكرةَ أنه رغم تشككي، شأن أي فرد في حكومتنا الحالية، فمن المهم بمكان أن تساعد الحكومة على ضمان أن تكون قيم فضاء الإنترنت هي قيمنا نحن، وقد انتقد الليبرتاريون حجتي؛ إذ كانوا مؤمنين بأن أفضل دور للحكومة هو ألا تقوم بأي دور على الإطلاق. وكان زعمهم أن الفضاء الإلكتروني سوف يكون في أفضل حال لو أبعدت الحكومة يدها عنه.

ما زلت أعتقد أن هناك أساليبَ استراتيجية مهمة يمكن من خلالها للحكومة أن تفعل الخير؛ غير أن السنوات القليلة الماضية أقنعتني بأن علينا جميعًا أن نكون أقل تفاؤلًا بشأن قدرة الحكومة على فعل الخير.

عرفت تلك الفكرة (البديهية) طريقها لأول مرة إلى ذهني وأنا أقرأ عن تفاصيل الحرب الأمريكية في العراق. مكتبات كاملة من الكتب نُشرت عن إخفاقات تلك الحرب.7 وفي كتاب تلو آخر، حتى أولئك المتعاطفين مع أهداف الحرب لم يتمكنوا تقريبًا من العثور على أي شيء طيب ليقولوه عن الكيفية التي نفذت بها. غير أنني كلما قرأت المزيد والمزيد من تلك الكتب، كان أكثر ما أذهلني سؤال بدا وكأنه ببساطة لم يُطرح قبل شن تلك الحرب: ما السبب الذي دعا للاعتقاد بأن القدرة الحكومية في استطاعتها تحقيق النجاح في احتلال المجتمع العراقي وإعادة تشكيله من جديد؟

إنني لا أتكلم عن الغزو، فهذا أمر ميسور للغاية؛ فعمليات الغزو يتحقق الانتصار فيها بالدبابات القوية والقنابل الموجهة بدقة، وإنما أتكلم عن كل شيء كان من البديهي أنه لا بد من عمله بعد الغزو؛ بدءًا بالأمن، ومرورًا بالطاقة الكهربائية، والموارد الغذائية، وحتى التعليم. بدا الأمر كما لو كان أولئك الذين يجلسون على قمم القيادة العليا قد افترضوا ببساطة أن باستطاعة الحكومة القيام بكل تلك الأشياء، دون أن يسألوا أنفسهم، ولو مرة واحدة، ما إن كان افتراضهم هذا به أي منطق من عدمه.

والأمر الذي جعل كل هذا يبدو أكثر غرابة، أن ذات الأشخاص الذين كانوا يعملون وفق تلك الرؤية للقدرة التنظيمية الشاملة، كانوا هم أنفسهم الأكثر انتقادًا لقدرة الحكومة على القيام بأي شيء في العديد من السياقات الأخرى. إننا لا نتحدث هنا عن فرانكلين روزفلت، ولا حتى عن العضو الاشتراكي بمجلس شيوخ الولايات المتحدة، بيرني ساندرز، إننا نتكلم عن أناس لا يعتقدون بأن الحكومة قادرة على إدارة خطوط السكك الحديدية، ولكن إذا كانت الحكومة لا يمكنها إدارة خطوط السكك الحديدية، فكيف لها أن تدير شئون مجتمع بأسره؟ وما السبب المحتمل وراء الاعتقاد بأننا نملك ولو قدرًا يسيرًا من القدرة اللازمة على القيام بذلك؟

بالرغم من أن كثيرين تنبئوا بوجود مقاومة، كان الافتراض المسبق وراء الإجراءات الحكومية أن القوة دائمًا يمكنها قهر المقاومة، فإذا قاوم العدو، سوف نشدد نحن هجومنا، وعند نقطة ما، يمكننا أن نقاتل في ضراوة إلى الحد الذي يمكننا من التغلب على العدو، كل ما يلزمنا إرادة قوية وشخصية طيبة.

هناك خلل خطير في هذا الأسلوب في التفكير؛ ففي بلد ديمقراطي، لا يعني المزيد من السلطة المزيد من النجاح، وإنما مثل سيارة تحاول تحرير نفسها من حفرة جليدية، في الديمقراطيات، غالبًا ما يعني المزيد من السلطة هزيمة الذات، فهناك حد لما تستطيع الحكومات عمله لا يمكن ببساطة التغلب عليه بإضافة المزيد من السلطة أو الموارد إلى المشكلة، فعند نقطة ما، إضافة المزيد من التحكم التنظيمي بالتشريعات يقلل من السيطرة الفعلية على الهدف.

هذا ليس كتابًا عن العراق، ولكنني أقترح أن باستطاعتنا تطبيق تلك النقطة الخاصة بالحرب على الحروب الأخرى التي نشنها، هناك الكثير من مثل تلك الحروب التي من الممكن أن تستفيد من اعتبارات كهذه، لكن ما أود العودة إليه هي الحرب التي نشنها على أطفالنا بسبب الطريقة التي يستخدمون بها التكنولوجيا الرقمية.

من جديد، وكما شرحت آنفًا، عندما انطلق التشارك في الملفات بين الأنداد، كان رد فعل الحكومة (وأولئك الذين يحثون الحكومة) أن هذا سلوك سيئ ويجب إخضاعه للتنظيم، وافترضنا أنه إذا حشدت الحكومة من وراء هذا التنظيم قوة كافية — أحكامًا رادعة، وحالات توقيف كافية في الجامعات — فإن هذا السلوك السيئ، في نهاية الأمر، سوف يتوقف.

في حقيقة الأمر، برهنت الأحداث على عكس ذلك؛ فقد مررت الحكومة القانون تلو القانون، وهددت وتوعدت بإجراءات عقابية استثنائية، وتعهدت أطرافًا تنتمي للقطاع الخاص، مثل رابطة صناعة التسجيلات، بتحقيق تلك العقوبات في صورة الآلاف من القضايا المرفوعة أمام المحاكم، بلغت أكثر من سبعة عشر ألف قضية بحلول عام ٢٠٠٦. ولكن حتى الآن، حقق هذا الجهد فشلًا ذريعًا، ليس بسبب إخفاقه في حماية أرباح شركات التسجيلات، فما من شك أنه حقق ذلك بدرجة ما، غير أن فشله الحقيقي في هذه الحرب كان في التأثير الذي أحدثه هذا التشريع الهائل على السلامة الأخلاقية الأساسية لدى أبنائنا. أبناؤنا «قراصنة»، هذا ما نقوله لهم، وهم يصدقونه. ومثل أي إنسان، هم يتأقلمون بطريقة تفكيرهم استجابة لتلك التهمة، فينتهي الأمر بهم إلى أن يعتادوا حياة القراصنة، بعدها تخرج الأمور عن السيطرة. ومثل تجار السوق السوداء في روسيا السوفييتية، يبدأ أبناؤنا يومًا بعد يوم في أقلمة سلوكياتهم مع الإجابة على سؤال بسيط: كيف يمكنني الإفلات من قبضة القانون؟

هذه المخاوف ليست مجرد تكهنات؛ فهناك أدلة مهمة على الصعيدين القانوني والاجتماعي، تؤيد المخاوف من أن الإفراط في التجريم في هذا المجال (المحوري) بعينه من حياة أبنائنا، من الممكن أن تكون له آثاره السلبية على مناحٍ أخرى من حياتهم، وعلى مواقفهم من القانون بصفة عامة. فكلما نظر الأبناء إلى القانون المنظم للثقافة على أنه لا عقل له، أو الأسوأ من ذلك أنه قانون فاسد، فإن ذلك يجعلهم أقل ميلًا لإطاعة تلك القوانين. وكلما نظروا إلى تلك القوانين الخالية من المنطق باعتبارها مؤشرًا دالًا على المنظومة القانونية إجمالًا، صاروا أقل ميلًا لإطاعة تلك القوانين بشكل عام. ونمو تلك العادة في الأذهان، لا سيما أذهان الشباب، والمتمثلة في تحاشي القوانين لأنهم يعتبرونها خطأً أو سخيفة أو ببساطة غيرَ منصفة؛ يُنمي أسلوبًا في التفكير يمكن أن ينسحب على مواضع أخرى غير الموضع الأصلي. بطبيعة الحال، لا يمكن لامرئ أن يزعم أن القوانين المضادة للقرصنة تزيد من معدل وقوع جرائم الاغتصاب أو القتل. ولكن هناك أدلة على أنه إذا اعتُبِرت القوانين المنظمة للثقافة غير منصفة معنويًّا، فإن هذا يعمل على تآكل الظروف الداعمة للقانون داخل نطاق الثقافة بصورة أعم.8
لكنني لا أشعر بتلك المخاوف بسبب إحصائيات تائية داخل انحدار متعدد. وإنما مصدر قلقي هو المئات من الأشخاص دون الثلاثين الذين تحدثوا معي بحرارة حول تلك القضية. فمثلًا بينما كنت أُتم نصَّ كتابي هذا، أرسل لي أحد المراهقين مقالًا كتبه عن «القرصنة». وفي مقاله هذا، بعنوان «من يمرر وجبة الغداء المجانية»، يشرح الأمر بقوله:

يمكنك الحصول على أي أغنية تشاء، وأي لون من ألوان الموسيقى، من أي عهد شئت، وجميعها «مجانية»! فما الذي يمكن أن يكون أفضل من ذلك؟ التاريخ الموسيقي بأكمله بين يديك مقابل سعر شهري مخفض هو صفر! …

إنني أنزل الأغاني دائمًا لهذه الأسباب بعينها. إن الأمر يتم سريعًا، وهو سهل ميسور وأفضل شيء فيه أنه مجاني! الجانب الآخر من الأمر هو الفنانون الذين يخسرون عائدات كان من الممكن أن يحصلوا عليها لو كان أولئك الناس اشتروا الأقراص المدمجة. من الواضح أنه لم يكن بوسع الجميع شراء الأقراص المدمجة، لكن هذا يخلق معضلة أخلاقية بين دعم الفنانين وبين مجرد تناول وجبة غداء مجانية. تقول رابطة صناعة التسجيلات الأمريكية إن هذا غير قانوني، ويقول الفنانون إنها سرقة لأموالهم، بينما يقول أغلب المنتمين للمجتمع المتعلم إنه أمر خطأ تمامًا، ولكن هنا تكمن المشكلة: إنني أتفق تمامًا مع كلا الطرفين.

«قرصنة» الموسيقى، حسبما تسميها الرابطة، شيء أفعله كلما أردت أن أستمع إلى موسيقى جديدة. كل ما أفعله أنني أكتب اسم الفنان أو الأغنية، ثم أنقر على مربع «تنزيل»، وها هي، تظهر الأغنية أمامي وأبدأ في الاستماع إليها. إن الأمر غاية في السهولة. ولكنني الآن أناقش فكرة أعتبرها نوعًا ما أمرًا مسلمًا به، بل إنني لا أفكر مطلقًا فيما كنت سأفعله لو أنني وجدتها قد اختفت ولم تعد متاحة في يوم من الأيام. ففي وقتنا هذا الذي به خيارات كثيرة للغاية لعمل مجموعة موسيقية، أتبع السبيل الأكثر ملاءمة لي والأكثر تدميرًا للفنانين. قيل الكثير في منظومة العدالة، في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت، عن مشروعية تلك الشبكات التي تنشأ بين الأنداد، لكن الواقع أن ملايين من الناس يفعلونه ولم يتوقف عن ذلك إلا قلة قليلة. إنني أقر بهذا الأمر والخزي يملؤني، برغم تعاطفي مع الفنانين وغيرهم ممن يخسرون المال نتيجة تشارك الملفات، فإنني أسهم فيه وأنا مدرك وواعٍ به، ولا أنتوي مطلقًا الكف عنه في المستقبل القريب.

البعض يمكنه تبرير سرقة الموسيقى لأنهم لا يدركون العواقب؛ وهذا ليس هو الحال معي لأنني مدرك تمامًا لها. فأنا أعيش في مدينة نيويورك، وهو مكان تجد فيه آراءً سياسية ليبرالية، مكان كان موطنًا للعديد من مشاهير الموسيقيين طيلة سنوات. وكليتي، ترينيتي، مكان يعج بأناس لديهم ما يكفي من المال لشراء أقراصهم المدمجة، وهناك أيضًا نادٍ يسعى لحض الناس على التجارة في الأقراص المدمجة. غير أنه برغم تأييد الكثيرين لفلسفة تلك المجموعة، فإنه في هذا العصر الرقمي، من الأيسر تمامًا التشارك في الموسيقى على الإنترنت. بل إن لديَّ معلمة جيتار تكتب الأغاني كوسيلة لكسب عيشها، وهي تعتمد على المال الذي يسرقه الناس منها عندما ينزلون الأغنيات من على الإنترنت. إنني أشعر بالذنب من داخلي حيال ذلك، حتى إنني أخفي البرنامج على جهازي الحاسب حتى لا تراه كلما جاءت. وأقول لها إنني أحصل على الأغنيات من أصدقائي؛ لأنني أعلم أنها حتى لو لم تقلها لي مباشرةً، فإنها ستشعر بقدر هائل من خيبة الأمل فيَّ لو علمت بالحقيقة. كل واحدة من تلك الفئات الثلاث التي أنا أشكل جزءًا منها — أبناء نيويورك، وأبناء ترينيتي، وعازفي الجيتار — يعارضون قرصنة الموسيقى أخلاقيًّا، إلا أنني بشكل أو بآخر — باعتباري عضوًا في مجتمع متعلم — قادر على إسكات صوت تلك المعارضة داخلي من أجل الحصول على «وجبة غداء مجانية».

إذن لماذا أواصل أنا، ومعي الملايين من الناس، سرقة الموسيقى من الفنانين كل يوم؟ بالنسبة للبعض، ربما كانت المسألة تتلخص في عدم توقير قوانين حقوق التأليف والنشر، أو هي ببساطة مسألة مادية يستعملها المرء في تبرير «القرصنة» الموسيقية. هناك آخرون ربما لا يعلمون عواقب ذلك على الفنانين، أو يختارون عدم وضع تلك العواقب في الاعتبار. غير أنه لا يزال هناك سبب أكثر تعلقًا بالاستمتاع بذلك وهو سبب أستطيع أن أجد نفسي فيه، يبرر استمرار الناس في تنزيل الموسيقى من الإنترنت. الأمر بشكل ما، نتاج أخلاق مجتمعنا الرأسمالي، ويمكن تلخيصه في عبارة «خذ ما في استطاعتك أخذه»، لكن في الوقت نفسه نظامنا القضائي قال إنه شيء غير مشروع …

المطرب ويرد آل يانكوفيتش يتناول هو أيضًا قضية الأخلاقيات في واحدة من أغانيه، وعنوانها الذي صيغ في إبداع «لا تنزل هذه الأغنية». إنه يستخدم كلمات الأغنية الموحية لإقناع الناس بشراء الأقراص المدمجة، لكنه في الوقت ذاته لا يقف في صف الفنانين أو رابطة التسجيلات تمامًا. إنه يتحدث عن «الذنب» و«الخزي» الذي سيظل ملازمًا لك بعد أن تنزل الموسيقى، لكنه يتحدث بعد ذلك عن رابطة شركات التسجيلات على أنها إمبراطورية الشر التي تحكم على الأطفال والجدات شاءوا أم أَبَوْا. وهو يذكر كذلك جزءًا آخر كان في خلفيتي الذهنية: لماذا يحتاج الفنانون إلى المال أكثر مني وهم في الأصل شديدو الثراء؟ إن وجهة نظره كفنان مشوقة للغاية؛ لأن المرء قد يعتقد أن أغنيته ليست سوى تأييد للفنانين ورابطة صناع التسجيلات، ولكنه بدلًا من ذلك، يرفض أن ينسب الفضيلة لأي من الطرفين، مما يزيد من غموض هذه المسألة.

حسنًا، ها هو الموضوع مطروح أمامك: في الوقت الذي أعارض فيه أخلاقيًّا قرصنة الموسيقى، فإن طرح الموسيقى المجانية يجعل من تلك المعارضة أمرًا فلسفيًّا محضًا. كل ما تبقى لي أن آمل أن يكون ويرد آل في أغنيته قد أخطأ حين وصف في هدوء تطور الأحداث الممكن الوحيد لقرصنة الموسيقى: «سوف تبدأ بسرقة الأغاني، ثم ستسطو على متاجر المشروبات، وتبيع المخدرات، ثم تدهس أطفال المدارس بسيارتك.» وأيضًا ألا أصير بارعًا في العزف على الجيتار بالقدر الذي يجعل موسيقاي تتعرض للسرقة على موقع لايمواير.9

لم يسبق لي أن التقيت بكاتب هذا المقال. غير أنني ألتقي بهذا النوع من الكتاب في كل الأوقات. إنهم طلابي، إنهم يملئون حرم ستانفورد الجامعي، ويكشف موقفهم عن التكلفة المرتبطة بالحرب التي نشنها الآن.

لم يشرح أي سياسي كيف يمكن للفوائد التي نسعى إلى جنْيها من وراء تلك الحرب ضد القرصنة أن تبرر تكلفتها. لم يضع أي سياسي مؤيد لتلك الحرب في اعتباره على الإطلاق البدائل الممكنة لهذه الحرب، ولا تكلفتها. عندما يتعلق الأمر بشن «الحرب» فإننا نصاب بالعمى التام، إننا لا نفكر في التكاليف، وإنما نفكر في أخلاقيات قضيتنا، ولكن كما علمنا التاريخ مرارًا وتكرارًا، فإن الدوافع الأخلاقية لا تضمن تحقيق نتائج أخلاقية. النوايا الطيبة مجرد خطوة أولى، والمسئولية تتطلب أن نضع في الاعتبار، ثم نعيد النظر، في كل خطوة نخطوها بعد ذلك.

إننا كشعب في حاجة لأن نتذكر أن سلطة الحكومة محدودة، وهي ليست محدودة بسبب محدودية تمويلها، أو محدودية ما تملكه من رصاص وذخيرة؛ بل إنها محدودة لأنها تعمل على خلفية من الأخلاقيات الأساسية، وتلك الأخلاقيات تصر على النسبية، فالأب الذي يضرب ابنه بعصا غليظة لأن الطفل لم ينظف غرفته ليس على خطأ في إصراره على أن ينظف الطفل غرفته. إنه مخطئ لأنه مهما كانت صحة الدافع وراء العقاب، فإن وسيلته لا بد دائمًا أن تتناسب مع حجم الخطأ. الأب، والجيش، والحكومة: جميعهم لا بد أن يكونوا على يقين من ألا يعميهم توجههم نحو الحقيقة عن العواقب التي قد تنجم عن أفعالهم، ثمة الكثير والكثير مما يمكن للحكومة أن تفعله. وعندما نجد ذلك الحد، علينا حينئذ أن نعثر على وسائل أخرى لتحقيق الغاية المشروعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤