الفصل الخامس

مقارنة بين الثقافتين

وصفت لتوي ثقافتين ونوعين مختلفين من الإبداع: أحدهما هو إبداع القراءة فقط، ووقوده المهنيون المحترفون، أما الآخر فهو إبداع القراءة والكتابة، ووقوده كل من المحترفين والهواة. كان كلا النوعين مصيريًّا في تطور الثقافة بوجه عام. وكلاهما سوف ينتشر من خلال نضج التقنيات الرقمية. لكنني على الرغم من إيماني بأن كليهما سوف ينمو في العصر الرقمي، فإنه لا تزال هناك فروق مهمة بينهما. وفي هذا الفاصل الموجز، علينا أن نضع في اعتبارنا بعضًا من تلك الفروق. وبعدها — وقبل أن نتحول إلى مناقشة التطور الذي ربما عُد الأكثر تشويقًا — علينا أن نُعمل الفكر في بعض الدروس المستفادة من فهم هاتين الثقافتين.

(١) الفروق في القيمة و«القيم»

تجسد هاتان الثقافتان قيمًا مختلفة.

تتحدث ثقافة القراءة فقط عن النزعة الاحترافية. فرموزها الثقافية تتطلب ثمة احترامًا ما. إنهم يقدمون أنفسهم بوصفهم سلطة، إنهم يعلمون الغير، ولكن ليس عن طريق دعوتهم لطرح تساؤلات. وحتى إذا دعوهم لطرح تساؤلات، فإنهم يوجهون التساؤلات نحو شخص آخر غير المتحدث، أو المؤدي، أو المبدع.

هذا الشكل من الثقافات يتمتع بأهمية مصيرية، سواء بالنسبة لانتشار الثقافة أو انتشار المعرفة. هناك مواضع تكون السلطة مطلوبة فيها؛ فلا يرغب أحد في أن تكون قوانين الكونجرس عرضة للتغيير المستمر من قبل المستخدمين وكأنها موضوعة على موقع ويكي. والأمر عينه يسري على تعليمات إعطاء الدواء، وخطة الطيران لإحدى شركات الخطوط الجوية التجارية.

إذن ثقافة القراءة فقط محورية أيضًا لنمو الفنون. فالقدرة على توجيه العائد التجاري من وراء الموسيقى أو الأفلام أتاحت لكثيرين إبداع ما لم يكن في استطاعتهم، لولا ذلك، أن يبدعوه. وهذه هي الوظيفة الصحيحة لقانون حقوق التأليف والنشر، وهي مبرره الطيب الوحيد. وحيثما نجد أن غياب ذلك القانون الخاص من الممكن أن يعرقل الإبداع، يصير لذلك القانون مبرره المنطقي والبديهي.

وأخيرًا، تيسر ثقافة القراءة فقط سبيل سلامة التعبير، وهي أمر يعتبر — في نظر البعض على الأقل — جوهريًّا. إن الفنانين يريدون أن يكون تعبيرهم موضوعًا في الإطار الذي يقصدونه بالضبط. إن ثقافة القراءة فقط تمنحهم تلك الحرية. إن الأطباء أو شركات الدواء يرغبون في الاطمئنان إلى أن تعليماتهم أو شرحهم الطبي لن يترجم على يد كل من هب ودب. فالضوابط هنا مهمة، وهي ليست شرًّا مطلقًا. ومرة أخرى، ما دام ذلك يمنحنا شيئًا لم نكن لنملكه لولاه — التعبير الفني أو ضمان الجودة — فإن الضوابط من الممكن أن تكون شيئًا طيبًا.1

أما ثقافة القراءة والكتابة فتمتد إلى منحًى مختلف. إنها تمس الحياة الاجتماعية بصورة مختلفة. إنها تمنح الجمهور ما هو أكثر. أو الأفضل من ذلك، إنها تطلب من الجمهور ما هو أكثر. إنها تُعرَض عليهم باعتبارها مسودة. إنها تدعو لرد فعل. وفي ثقافة من هذا النوع، ينمو لدى المواطنين نوع من المعرفة يخول الناس سلطة بنفس القدر الذي يقدم لهم به المعلومة أو الترفيه.

أشاهد هذا الاختلاف مباشرةً في حياتي العملية كمدرس. فعندما يفد الطلبة على كلية الحقوق، يأتي معظمهم من نظام تعليم ينتمي بالأساس لثقافة القراءة فقط. وطوال سنوات أربع (أو أكثر)، يجلس هؤلاء الطلاب في قاعات المحاضرات الفسيحة، وتجلس قبالتهم أستاذة جامعية دورها الأساسي أن تقرأ عليهم نفس المحاضرات التي ألقتها عامًا بعد عام. ثم تطرح سؤالًا: «هل من أسئلة؟» وعادةً ما تتعلق الأسئلة بالنظام، لا بجوهر المادة على غرار: «هل علينا أن نقرأ الفصل الخامس؟» و«هل سيتضمن الامتحان سؤالًا عن الصيغة الشرطية؟»

ربما كانت تلك هي الطريقة الملائمة لتدريس معظم مناهج الدراسة الجامعية. غير أن أفضل تعليم قانوني مختلف عن ذلك اختلافًا جذريًّا؛ فَقاعة الدرس في كلية الحقوق عبارة عن مرافعة؛ فالأستاذ يقدم المصدر لتلك المرافعة، والدرس ما هو إلا منتدى تقدم من خلاله تلك المرافعة، وتُطرح على أولئك الأساتذة أسئلة وتصنع تلك الأسئلة إطارًا لمناقشة ما، ويتطلب البنيان منهم أن يبدعوا أثناء مشاركتهم في المناقشة.

يتحير أولئك الذين لا يعلمون إلا أقل القليل عن أسلوب عمل القانون — بل إنهم يصابون بالذعر في بعض الأحيان — عندما يرون أن هذا هو أسلوبنا المتبع في تدريب المهنيين. إن نموذج الكيمياء الحيوية أكثر جاذبية لهم: «إليكم قائمة بأسماء أشياء عليكم أن تحفظوها عن ظهر قلب. هيا.» غير أن القانون ليس قائمة من اللوائح. فالقانون أسلوب متبع في التحدث والفكر، والأهم أنه مجموعة من الأخلاقيات. في إطار المنظومة الأمريكية، على الأقل، يصاغ القانون أثناء ممارسته عمليًّا. فأسلوب صياغته يعتمد على القيم التي يتشاركها ممارسوه.

هذا الشكل من التربية يعلم الطالب تحمل المسئولية علاوة على تلقينه المادة العلمية ذاتها. إنه ينمي لديه الأخلاقيات إضافةً إلى المعرفة بمجال مهني معين. كما أنه يعبر عن احترام قوي لطلابه أحيانًا: فقد صاروا اعتبارًا من الأسبوع الأول لهم في الكلية جزءًا من الحوار، وهذا الحوار هو محور دراسة القانون. فوجهات نظرهم تحظى بالتوقير، على الأقل طالما أنهم يضعونها في إطار من اللغة القانونية.

جميعنا يؤمن بهذا عند مستوًى ما. جميعنا يؤمن بأن للكتابة أخلاقياتها الخاصة بها، وأنها تفرض تلك الأخلاقيات على الكاتب وعلى ما يكتبه. ومن يعترضون منا على القضاة الذين يفوضون كتبة الجلسات في كتابة الحيثيات ينتقدونهم، ليس بالضرورة لأنهم يريدون قضاةً أفضل لبراعتهم في الكتابة، وإنما لأنهم يريدون آراءً تحمل بصمة القيود المفروضة من مسئولية الكتابة. فالإبداع مسئولية. وتعلمه لا يأتي إلا من خلال ممارسته.

أولئك الذين يدرسون شئون لجان المحلفين يقولون إن لها تقريبًا نفس التأثير على المواطنين الأعضاء فيها؛ إذ تُقدَّم الأدلة للمحلفين، وهم يعملون على دراستها. وأثناء مناقشتها، يدركون أنه قد خولت لهم سلطة استثنائية (أحيانًا). ويوقظ هذا الأمر انتباههم (أحيانًا). إنهم يتفهمون أن أمامهم مسئولية تتجاوز كثيرًا قيمة حياتهم العادية. إنها تجعلهم يفكرون ويتصرفون بطريقة مختلفة، حتى بعد أن يصدروا حكمهم.

هذه الأمثلة تجعلني أنحاز أكثر لوجهة نظري. أظن بطبيعة الحال أن القراءة مهمة. وأنها بطبيعة الحال «جوهرية». غير أن الناس يصلون إلى ما هو أبعد بكثير من الجوهري. وبينما كنت أشاهد أطفالي وهم يشبون عن الطوق، رأيت أن الجزء الذي أعتز به أيما اعتزاز ليس أنهم يقرءون، وإنما أنهم يكتبون. ومنذ أن كان أكبرهم في الثانية من عمره (وقد صار الآن في الخامسة) كنا نحكي له قصص «الغول». وكنا نشعر بالفرحة ونحن نراقب انتباهه بكل حواسه لكل تطور في حبكة تلك الحكايات المؤلفة على عجل. لكن اللحظة التي بدأ فيها لأول مرة يعترض على تحول معين في حبكة القصة، وقدم رؤيته هو، كانت من أسعد لحظات حياتي. فما نود أن نوحي به إليهم هو إرادة الإنشاء الجيد.

أريد أن أرى هذه القدرة مُعبَّرًا عنها ليس بالكلمات وحدها. أريد أن أرى من يعبر عنها بجميع أشكال المعاني الثقافية. أريد أن أشاهده وهو يغير نهاية أغنية يعشقها، أو يغير من سمات إحدى شخصيات فيلم يرى نفسه فيه بقوة، أو يرسم صورة كي يعبر عن فكرة كانت قبل ذلك مجرد فكرة كامنة في عقله الباطن. أريد بداخله هذه القدرة على القراءة والكتابة، بشكل عام. أريده أن يكون ذلك الشخص الذي يمكنه الإبداع من خلال إعادة صياغة الأشياء.

هذا إذن أول فارق بين ثقافتَي «القراءة فقط» و«القراءة والكتابة»: واحدة تركز على تلقي العلم، والأخرى تشدد على تلقي العلم من خلال التحدث؛ واحدة تحافظ على نزاهتها، بينما الأخرى تعلم النزاهة؛ واحدة تشدد على وجود بنيان هرمي، أما الأخرى فتخفي البنيان الهرمي. لا يزعم أحد أننا نحتاج إلى الأولى — أي ثقافة القراءة فقط — بدرجة أقل. ولكن أي امرئ ممن عايشوها يرى أننا بحاجة للمزيد من النوع الثاني.

(٢) اختلافات في القيمة [المادية]

تركز القصة حتى الآن على القيم بمعناها المعنوي الذي نُجِله. واليساريون الذين يروجون للمثل الاجتماعية والتربوية والديمقراطية يعشقون تلك القيم ويهيمون بها حبًّا؛ فهي تتحدث عن نوع من الأشياء من المفترض أن اليساريين يهوونه.

غير أن هناك مبررات أخرى لدعم ثقافة القراءة والكتابة أكثر من مجرد مسألة أن حفنة من محبي الطبيعة يحبونها.

فعلاوة على ترويجها لقيم معينة يعتبرها البعض منا على الأقل مهمة، تروج ثقافة القراءة والكتابة لقيمة اقتصادية.

وحتى نعرف السبب، فكر لثانية في الأجهزة الضرورية لنجاح ثقافة القراءة والكتابة، إنك تجدها في كل مكان. لقد صار حجمها أصغر وأصغر وسعرها أرخص وأرخص. ومع نمو حجم شبكة النطاق العريض، صارت أكثر كفاءة في احتواء المضمون الذي تمكنك من استهلاكه بعد ذلك. لقد أذهلني ذكاؤها الفذ. فأنا لم أعد أشاهد التلفزيون، غير أني صرت أكثر وأكثر ميلًا لمشاهدة جهاز الآي بود خاصتي بعد إيصاله بشاشة. وأنا أنفق مالًا كثيرًا على هذا. وتأمل آبل في أن ينفق الآخرون هم أيضًا مبالغ طائلة.

غير أن القيمة الاقتصادية لهذا النوع من الاستهلاك تعد ضئيلة بالمقارنة بالمستقبل الاقتصادي المرتقب للمحتوى الذي يصنعه المستهلك. فكر في جميع الأجهزة التي تحتاج إليها كي تصنع هذا الفيلم المنزلي لطفلك مثل فيلم سوبرمان؛ على غرار الكاميرا، والميكروفون، والقرص الصلب لتخزين ما حجمه ٥٠٠ جيجا بايت من اللقطات، وجهاز الكمبيوتر السريع لجعل تحميل اللقطات أمرًا ممكنًا. ثم فكر الآن في اتساع النطاق الذي تحتاج إليه كي تشارك الغير في إبداعك هذا، سواء كانوا أسرتك أو أصدقاءك.

هذه نقطة طرحت منذ بعض الوقت، لكنها ربما لم يطرحها أحد على نحو أفضل مما ورد في مقال أندرو أوديليزكو بعنوان «المحتوى ليس مَلِكًا»:2 فبرغم اللغة الطنانة التي تستخدمها صناعة المحتوى، فإن أكثر الإسهامات قيمة في اقتصادنا تأتي من الترابط، لا من المحتوى. المحتوى هو الزنجبيل داخل خبز الزنجبيل، هو مهم دون شك، لكنه لا يمثل شيئًا مقارنةً بأعلى مكونات الخليط قيمة.
إن اليمينيون في حاجة للإقرار بذلك. بينما كنت أشاهد تطور مناظرة عن حقوق التأليف والنشر، دهشت من مدى سرعة افتتان اليمينيين بصناعة المحتوى. ربما دهشت لأنه أثناء تقريع ستيوارت بيكر لي في نقده لكتاب «ثقافة حرة»، يمضي ليبراليون من أمثالي وقتًا طويلًا جدًّا في التحدث إلى ليبراليين مثلي أكثر مما يتحدثون إلى المحافظين. وعلى حد قول بيكر في نقده:
إذا نظرنا لقانون حقوق التأليف والنشر من قرب، لوجدنا أنه لا يحمل سوى شبهًا قليلًا بأنواع الممتلكات التي يقدرها المحافظون حق قدرها. وإنما هو يبدو أشبه ببرنامج حكومي يمتد باستمرار ويدار لصالح جماعة صاخبة جيدة التنظيم وذات مصلحة ما، مثل سوبرفاند مثلًا أو دعم منتجات الألبان، فيما عدا أن المنافع لا تعود على أصحاب المنازل المهددين بالخطر أو المزارعين الكادحين، وإنما على أناس من عينة باربارا سترايسند وإيمينيم … فحقوق التأليف والنشر حلم أي محام؛ برنامج تنظيمي تفرضه دعاوى قانونية خاصة يكون للمدعين فيه جميع المزايا، بدءًا من تعويضات يحصلون عليها دون أن تلحق بهم إصابات، وحتى أحكام بالمسئولية الجنائية تستخلص التعويضات من أي شخص كان في الجوار عندما وقع الاعتداء.3

إن النقطة التي أثارها بيكر نقطة رائعة. ودعوني أضِف إليها: مثلما علمنا الاقتصاديون المحافظون مرة تلو مرة، القيمة في الاقتصاد غالبًا لا تأتي من الاحتكارات التي تحميها الدولة. فالأرجح أن مصدرها وجود منافسة. هناك اقتصاد هائل الحجم وممتلئ بالحيوية من المنافسة التي توجه التكنولوجيا داخل اقتصادنا. إن حقوق الاحتكار التي نسميها حقوق التأليف والنشر لهي قيود معوقة لتلك المنافسة. وإني لأومن بأن تلك القيود ضرورية. غير أنه مثلما هو الحال مع كل شر لا بد منه، يجب أن يكون محدودًا قدر الاستطاعة. ينبغي علينا ألا نوفر الحماية من المنافسة إلا في الأحوال التي يكون هناك فيها مبرر قوي للغاية لتلك الحماية.

ما أقصده بالطبع ليس أن باستطاعتنا، أو أنه من الواجب علينا ببساطة، التضحية بثقافة القراءة فقط من أجل التمكين لثقافة القراءة والكتابة، وإنما العكس: أننا خلال حمايتنا لثقافة القراءة فقط علينا ألا نقتل مستقبل ثقافة القراءة والكتابة.

(٣) اختلافات في القيمة [من حيث «هل يُرجى منه خير؟»]

في شهر يونيو من عام ٢٠٠٧، بدأت الحرب ضد ثقافة القراءة والكتابة. ففي كتاب مختصر ومؤلف ببراعة بعنوان «عقيدة الهواة»، شن أندرو كين، وهو كاتب ورجل أعمال فاشل في مجال الإنترنت، هجمة ضارية على الثقافة التي أمتدحها أنا تحديدًا. وكان محور هجومه أن «ثقافة الهواة» تقتل «ثقافتنا». إن نمو هذا النوع من الإبداع سوف يدمر في نهاية المطاف كثيرًا مما نظن أنه «خير» في مجتمعنا. كتب كين يقول: «لا يمر يوم دون أن يتكشف جديد يدعونا لكي نستريب في مصداقية ودقة وصدق المعلومات التي نحصل عليها من الإنترنت».4 وفي رد على كل المادة المجانية التي يعرضها الإنترنت، يبدي كين قلقًا شديدًا؛ فيحذر قائلًا: «ما نعتبره مجانيًّا، يكبدنا في حقيقة الأمر ثروة طائلة.»5 فويكيبيديا على سبيل المثال «تقتل بدم بارد صناعة المعلومات التقليدية.»6 و«التحول إلى الديمقراطية» الذي أمتدحه «يقوض» على حد زعمه «الصدق، ويفسد الحوار الشعبي، ويقلل من قدر الخبرة والتجربة والموهبة.»7
هناك قدر لا بأس به من المحاكاة التهكمية في كتاب كين؛ إذ بالرغم من أن الكتاب يهاجم الإنترنت بسبب صبيانيته وأخطائه، فإنه هو نفسه يحيرنا بأخطائه الصبيانية.8 (وإليك واحدة من أبرزها: «كل فشل لشركة تسجيلات، أو تسريح لأحد المراسلين، أو إفلاس لمتجر كتب مستقل؛ هو عاقبة لمحتوًى «مجاني» على الإنترنت أنتجه أحد المستخدمين، بدءًا من الإعلانات المجانية لكريجزليست، وحتى مقاطع الفيديو الموسيقية المجانية التي تبثها يوتيوب، وحتى المعلومات المجانية التي تعرضها ويكيبيديا.»9 «كل»؟ يا للهول!)

ولكننا حتى إذا تجاهلنا كين، فإن الفكرة التي طرحها لا يمكن تجاهلها. فهناك كثيرون ممن أعربوا عن خوف مشابه من الأخطار التي يشعرون بوجودها من جراء هذا الشكل الأحدث من الإبداع.

المرة الأولى التي تعرضت فيها لهذا النقد كانت في مؤتمر عقد بجامعة نيويورك عن «الاستخدام العادل». كان مؤتمر الاستخدام العادل مليئا بفنانين ومبدعين يشرحون بالضبط نوع الإبداع الذي أمتدحه. غير أنه في وسط فعاليات هذا المؤتمر، ناشد تشارلز سيمز — محامٍ يعمل في مكتب بروزكاور روز للمحاماة — المبدعين الشباب كي يبتعدوا عن الشكل «الاشتقاقي» من الإبداع. وكانت حجة سيمز في ذلك أن عليهم أن يجعلوا بؤرة اهتمامهم تنصب على شيء يمثل تحديًا حقيقيًّا؛ أي «الإبداع الأصيل»، وقال سيمز:

لا يسعني التأكيد بشكل كافٍ على قوة اعتقادي بأن ما ركز عليه لاري بالفعل بصورة جذرية … [—] هذا الاستخدام الطفيلي المتكرر [—] يعد انحرافًا مروعًا للغاية في موهبة الشباب … أعتقد أنه لو كان لديك صناع أفلام صغار السن، فإن عليك أن تشجعهم على صنع أفلامهم هم، لا على تضييع أوقاتهم سدًى في التلاعب بمقاطع الفيديو التي صنعها أناس آخرون وأنفقوا عليها مبالغ طائلة، كي يبدعوا مادة ليست ببالغة التشويق. هناك إخفاق جذري للخيال …

وأقول إننا، باعتبارنا أعضاء بالأكاديمية، لو شجعنا النشء على أن يعتقدوا أنه بدلًا من الإبداع بوحي من أنفسهم وباستخدام الموهبة التي يمتلكها كل منهم، عليهم أن يكتفوا ببساطة بإعادة استخدام المادة المتاحة لهم في الشوارع، فإننا نبخس بذلك قدر المواهب التي يتمتع بها هؤلاء الصغار.10

هناك عدد من الطبقات لذلك الشكل من أشكال النقد، وعلينا أن نكون حريصين على أن نمزق ذلك النسيج الطبقي.

أوضح هذه الطبقات هو النقد القائل بأن العمل إجمالًا يزيد على كونه مجرد عمل «إبداعي». فلا يوجد وجه للمقارنة بين عشر دقائق ينتجها جيه جيه أبرامز، وعشر دقائق أخرى من أي مادة فيلمية أخرى توضع على موقع يوتيوب؛ فالمزج مجرد «غثاء». ما من شك أن هذا النقد على حق؛ فالغالبية العظمى من عمليات المزج — مثل الغالبية العظمى من الأفلام المصنوعة في المنازل، أو الصور الفوتوغرافية التي يلتقطها المستهلك، أو الغناء تحت الدش، أو المدونات — ليست أكثر من غثاء؛ فمعظم تلك المنتجات سخيفة أو عبارة عن اقتباس، وهي مضيعة حتى لوقت المبدع نفسه، ناهيك عن وقت المستهلك.

غير أنني لا أستطيع أن أفهم مطلقًا ما يريد أولئك الذين يوجهون هذا النقد الوصول إليه انطلاقًا من تلك النقطة. كنت ذات يوم طالبًا بمعهد جوته ببرلين، وبعد مضي أسبوع من دورتنا المكثفة التي استمرت طيلة شهر كامل في اللغة الألمانية، سألت معلمتي عن السبب في عدم تشجيعنا على المزيد من التحدث، فقالت لي: «إن لغتكم الألمانية في الوقت الحالي لا يمكن وصفها إلا بأنها بشعة حقًّا. لو أنكم تحدثتم بها فلسوف ترتكبون جميعًا أخطاء مفزعة؛ لهذا فإنني أعتقد أن أفضل شيء بالنسبة لكم أن تكتفوا بالاستماع.» وما من شك أن تقييمها كان صائبًا. غير أنه من المدهش بالنسبة لمعلمة لغة بمعهد جوته أن غابت عنها ببساطة النقطة التي وددت طرحها.

وكذلك الأمر مع النقاد الزاعمين بأن الغالبية العظمى من الأعمال الممزوجة رديئة. فكروا مرة أخرى في المدونات. إن قيمة المدونات ليست في أنني من المحتمل أن أجد تعليقًا يتجاوز في براعته أفضل تعليق يكتب في جريدة النيويورك تايمز مثلًا. لا لست أعتقد ذلك. لكن ليس هذا هو المهم، فالمدونات ذات قيمة؛ لأنها تمنح الملايين الفرصة للتعبير عن أفكارهم كتابةً، ومع ممارسة الكتابة يتحقق نوع ما له أهميته من الأمانة. إن الثقافة التي تعج بالمدونين تفكر بأسلوب مختلف في شئون السياسة أو الشئون العامة، حتى لو كان السبب الوحيد لذلك أن عددًا أكبر من الناس اضطروا من خلال نظام الاستعراض في الكتابة لبيان لماذا كانت «أ» تؤدي إلى «ب».

لو لم تكن تلك النقطة حقيقية، فلماذا نعلم أطفالنا كيف يكتبون؟ بافتراض أن الغالبية العظمى لن تكتب مطلقًا أي شيء أكثر من رسالة بريد إلكتروني أو قائمة تبضع، فلماذا كان من المهم أن نعذبهم بكتابة المقالات الإبداعية؟ الغالبية العظمى مما يكتبه الطلبة ليس أكثر من ترهات (ثق بي في هذا الأمر)، مثلما هو الحال مع الإنترنت. ما الداعي لإضاعة أوقاتهم (والأسوأ من ذلك، وقتي أنا) في إنتاج مثل تلك النفايات؟

(هذا سؤال بلاغي. أعتقد أنك فهمت المغزى من ورائه.)

هناك طبقة ثانية لهذا النقد أكثر صلة بالموضوع وإن كانت أقل صدقًا؛ فالبعض ينتقد ما أسميه أنا «مزجًا» بزعمهم أنه لا يوجد به مضمون حقيقي. هذه هي شكوى سيمز الحقيقية. حتى لو سلمنا بأن أغلبه غثاء، فإن أفضل هذا المزج، من وجهة نظره، مضيعة للوقت، و«إخفاق جذري للخيال».

غير أن أي شخص يعتقد أن عمليات المزج أو الخلطات لا هي أصيلة ولا هي إبداعية؛ ليست لديه سوى فكرة محدودة للغاية عن الكيفية التي تصنع بها أو عما يجعلها رائعة. إن الأمر يستلزم معرفة غير عادية بالثقافة حتى يمكن عمل مزيج جيد منها. والفنان أو الطالب الذي يتمرن على إتقان المزج يتعلم عن ماضيه ما يفوق كثيرًا ما يتعلمه شخص متمسك بهذا الرأي (وهو رأي من وجهة نظري، ساذج إلى درجة ميئوس منها) في «الإبداع الأصيل». ولعل الأهم من ذلك، أن الجمهور يبحث دومًا عن المزيد كلما قرأ ما كتبه المازج. فعندما يعلم أن الأغنية عبارة عن خليط يعتمد على كل ما جاء قبله، فإن كل ثانية تمر تكون بمنزلة دعوة لفهم الروابط الموضوعة؛ من حيث معناها، وسبب إضافتها. إن الشكل يفرض على الجمهور متطلبات؛ والجمهور يلبي هذه المتطلبات.

ترتبط هذه النقطة ارتباطًا مباشرًا بزعمٍ نادى به ستيفن جونسون في كتابه الرائع، «كل شيء سيئ هو خير لك».11 إن جونسون وهو يرمي إلى الدفاع عن وجهة النظر القائلة بأن التليفزيون صار «ميتًا مخيًّا»، يزعم بأن التليفزيون في حقيقة الأمر صار أكثر — وليس أقل — ثراءً وتعقيدًا بمرور الوقت. ويتعلق السبب في ذلك جزئيًّا بالتكنولوجيا. فبينما لا يكتفي الناس بشراء أجهزة التليفزيون وإنما يشترون كذلك أجهزة دي في دي، يصبح لدى منتجي برامج التليفزيون دافع قوي لمنح جمهورهم اهتمامًا بمبيعات ما بعد البث. فأي برنامج تلفزيوني يمكنه بلوغ أقصى عائدات منه عندما يكون هناك طلب على أجهزة الدي في دي أو إعادة العرض بعد البث الأصلي.
إذن كيف يمكنك خلق ذلك الطلب؟ من سبل ذلك خلق التعقيد. وعلى حسب شرح جونسون، فإن أنجح البرامج التلفزيونية هي تلك التي ضاعفت عدد خطوط الحبكات الدرامية التي تدور من خلالها. وبرغم أن البرامج تكون دائمًا قابلة للاستيعاب عند مشاهدتها مرة واحدة، فإن قلة من المشاهدين هم الذين يستوعبون كل شيء يدور أمامهم في كل حلقة. ومن ثم فإنه يكون لدى الجمهور مبرر لمشاهدته مرة أخرى، وهو ما يعني، إما أن تشتري دي في دي أو تضبط الموجة على قناة إعادة العرض. ومن هنا يحث ذلك التعقيد على استهلاك متتابع. ويعرض هنري جنكنز نقطة ذات صلة بهذا تتعلق بالأفلام:
اعتمدت منظومة هوليوود العتيقة على المط والتطويل حتى تضمن قدرة المشاهدين على متابعة حبكة الرواية في جميع الأوقات، حتى إذا كانت أذهانهم مشتتة أو توجهوا لبعض الوقت إلى الردهة لتناول بعض الفيشار ووقع أثناء ذلك مشهد محوري بالفيلم. أما هوليوود الحديثة فإنها تطالبنا بالإبقاء على أعيننا مفتوحة على الطريق طيلة الوقت، وأن نقوم بأبحاثنا قبل وصولنا إلى السينما.12

من الواضح أنه يمكن التوسع لأكثر من هذا في تلك النقطة. فلا يمكن أن تكون القصة مستعصية على الفهم تماما. لا بد أن هناك بعض النتائج المثمرة من جراء المشاهدة الأولى. غير أن محور الأمر أن تجعل من المرة الأولى، والمرات العشر التالية لها، أمرًا جديرًا بالمشاهدة، أن تجعل مشاهدة المزيج مرة واحدة أمرًا ضروريًّا لكنه ليس بكافٍ.

هذه الاستراتيجية ليست جديدة على التليفزيون. تدبر أيضًا روايات القرن التاسع عشر العظيمة. عندما كتب أديب مثل ديكنز رواياته في صورة مسلسلة (حيث يبدو كل فصل في الأصل وكأنه جزء ينشر في أحد المجلات، قبل اكتمال الرواية كلها)،13 كان يرمي من وراء ذلك إلى اجتذاب الناس لقراءة كل جزء على حدة، ثم إلى جذبهم من جديد لقراءة الكتاب مكتمل الفصول. فعل ديكنز ذلك (وحذا حذوه أدباء كثيرون غيره) عن طريق كتابة قصص بالغة التعقيد ومتشابكة الأحداث بحيث تستحق إعادة قراءتها مرات ومرات.

والمزج عبارة عن فعل الشيء نفسه باستخدام أشكال أخرى من الثقافة. فمثلًا العمل الذي يؤلفه مؤلف موسيقى كلاسيكية عظيم (من أمثال مالر وبيتهوفن)، فإن أفضل عمل ممزوج هو ذلك الذي يدفعك قسرًا للاستماع إليه في المرة الأولى والمرة المائة. والحقيقة أن المرء لا يبدأ في فهم العمل بالقدر الكافي لكي يبدو له منطقيًّا إلا في المرة المائة. وهنا يحتاج الأمر لوجود قوة جذب كافية تجعل المستمع ينصت للعمل للمرة المائة (وهو أمر لم يملكه قط أرنولد شوينبرج). ولكن بمجرد أن يتم اصطيادك، فإنك لا تقاوم من أجل الخلاص. إنك تستمع مرة تلو الأخرى، وفي كل مرة تأمل في مزيد من الفهم.

حتى في حالة الموسيقى غير الكلاسيكية، هذا الأمر ليس بالمستحدث تمامًا؛ إذ لماذا يستمع المرء إلى بوب ديلان ألف مرة، أو إلى ألحان الموسيقى الشعرية التي يصيغها جِف تويدي مرة بعد مرة؟ ليست الموسيقى وحسب هي ما يرغمنا على الاستماع مرارًا وتكرارًا. ففي هذا الشكل الموسيقي، يكون اللحن أفضل ما يكون إذا كان بسيطًا وجذابًا. وإنما هو الشعر الذي يصوره اللحن. إنك تستمع مرة بعد مرة لأنك في كل مرة تفهم الشعر بصورة مختلفة؛ فهو يصير أقرب وأقرب إلى مواءمة السياق.

من هنا فإن الحجة التي تقف في صف المزج — وهو الفن الذي يشكل جوهر ثقافة القراءة والكتابة — ليست متمثلة فحسب في السؤال السلبي: ما الضرر الذي تتسبب فيه؟ وإنما الحجة الدامغة التي تؤيد ما أقول حجة بالغة الإيجابية: أريد لأطفالي أن يستمعوا إلى مزيج صنعته سيلفيا أو لأحدث أعمال فورستونز. أريدهم أن يستمعوا إليه لألف مرة؛ لأن هذا الاستماع أمر إيجابي وارتباطي أكثر بكثير من الألحان الميتة مخيًّا، أو كلمات الأغاني التي تغنيها بريتني سبيرز؛ إن عملها لا يعتمد على أي شيء، سوى المحرم والإباحي. وفي هذا الصدد ربما كانت، من وجهة نظر سيمز، أصلية تمامًا، غير أنها هي أيضًا مقتبسة بالكامل، وشديدة الامتهان للتقاليد التي نشأت عليها. إنك تحترم التقاليد من خلال إدماجها في حياتك، غير أنك تجعل التقاليد ملزمة بأن تدمجها بأسلوب يدفع الجميع نحو الرغبة في مزيد من الفهم لها. وعلى حد تعبير الروائي جوناثان ليذيم: «ما نريده من كل فنان هو أن يفاجئنا، وأن يرينا شيئًا غير مسبوق. ولكن … هذا العمل في حد ذاته مدعوم بالفطرة بالاستجابة والمقاربة والمحاكاة.»14

بعد ذلك توجد طبقة واحدة أخيرة لهذا النقد، وهي أكثر ما يضايقني. ربما كان بعض من تلك الأعمال لا بأس به، هذا ما يقوله النقد، بل إن البعض منه عظيم الجودة. غير أن أيًّا منها لا يرقى في جودته إلى مستوى روائع [اختر أنت الزمن]. ويمضي النقد مدعيًا أن ثقافتنا في حالة انهيار؛ فلم تعد هناك معايير موحدة، ولم تعد هناك جودة. فالذوق والفن يتلاشيان.

خاض كل جيل من قبل تجربة إصرار الجيل الأسبق له على أن الجديد في حالة انحلال، وأن القديم وحده هو الرائع. أفلم تعلمنا تلك التجربة شيئًا؟ ومثلما قال إثيال دي سولا بول منذ ما يقرب من عشرين عامًا: «كل جيل يعتبر أن ثقافته هي تلك القيم والممارسات التي شب وترعرع عليها. تقاليده المحاطة بهالة القداسة هي تلك التي تعلمها في طفولته.»15 فالحديث بطبيعة الحال متدنٍ عن الماضي. فكيف يمكن أن يعد تقدمًا؟
لكن حتى إذا قبلنا بهذا النقد، ما الذي ينبغي عمله حيال ذلك؟ إذا كانت ثقافتنا تنهار لأن ملايين الناس يتخيرون مشاهدة أو صنع أشياء لا تعجب النقاد، فهل ينبغي على الحكومة أن تتدخل نيابة عن الناقد؟ سوف أكون أول من يعترف بأن للدولة دورًا في تنظيم المجتمع، بل إنني حتى مستعد للإقرار بأنه في بعض الأحيان يكون للدولة دور في تنظيم أمور التعبير. فقانون حقوق التأليف والنشر، في نهاية الأمر، عبارة عن تنظيم لعملية التعبير، وهو مبَرَّر لو أنه أنتج حوافز لخلق خطاب ما كان ليوجد بدونه.16

غير أنه ليس في استطاعة أي من تلك التبريرات التي تقدم من أجل تدخل الدولة بتشريعاتها أن تؤيد فكرة أن نتدخل كي نكبح شكلًا من أشكال «الثقافة» تعتقد بعض النُخَب أنها ليست جيدة بقدرٍ كافٍ. فالدعم شيء، والحظر شيء مختلف تمامًا.

غير أنه ربما كان أفضل الردود فاعلية ذلك الذي قدمه لي فيكتور ستون، مهندس موقع سي سي ميكستر حين قال: «أتعلم … سوف ينتهي هذا النقاش في بحر عشرة أو عشرين عامًا. فمع وفاة جيل الكبار، فإن الجيل الذي يليهم … لن يأبه البتة لهذا النقاش. إنهم يعتبرون أن المزج جزء من الموسيقى، وأنه جزء من العملية، وهذا كل ما في الأمر.»

ولسوف يدافعون عنه، على الأقل حتى يظهر شكل جديد من أشكال الإبداع فيحاولون منعه. ويصبح جميعنا في موقف آبائنا الآن.

(٤) الاختلافات في القانون [من حيث «هل هو مسموح؟»]

ينظم القانون الأمريكي لحقوق التأليف والنشر (أو المفترض فيه على الأقل)17 أي عمل إبداعي أنتج بعد عام ١٩٢٣، بحد أقصى من الزمن قدره طيلة حياة المؤلف زائد سبعين عامًا، أو خمسة وتسعين عامًا في الأعمال المملوكة لشركات مساهمة أو الأعمال التي أبدعت قبل عام ١٩٧٨. ويختلف ارتباط هذا التنظيم بثقافة القراءة فقط عن ارتباطه بثقافة القراءة والكتابة. أو ببساطة، القانون الحالي لحقوق التأليف والنشر يؤازر ممارسات ثقافة القراءة فقط، ويقف ضد ممارسات ثقافة القراءة والكتابة. أو بعبارة أخرى، من الواضح أن القانون بصياغته الحالية يحابي أحد نوعي الثقافة على الآخر.

لننظر أولًا في أمر علاقة حقوق التأليف والنشر بثقافة القراءة فقط. كما شرحت من قبل، فإن جوهر ثقافة القراءة فقط — وهو المستخدم، أو المستهلك — يُمنَح الترخيص باستهلاك منتجات الثقافة التي يشتريها. وهو لا يملك ترخيصًا قانونيًّا يتجاوز الترخيص له بالاستهلاك وحسب. وعلى مدار التاريخ التناظري لثقافة القراءة فقط، لم يكن المستخدم يملك أية قدرة تقنية تتعدى القدرة على الاستهلاك.

وجاءت التقنيات الرقمية لتغير من القدرة التقنية. وفي نسختها الأولى، منحت التقنيات الرقمية المستخدمين قدرة تقنية غير محدودة تقريبًا على المزج والخلط بين منتجات ثقافة القراءة فقط. غير أن «قدرة» المستخدم على فعل هذا لا تعني ضمنًا أنه «يجوز» له ذلك. وفي الوقت الذي مكنت فيه الأدوات المستخدمين من أن يفعلوا بثقافة القراءة فقط ما يشاءون، فإن القانون لم يمنح مستخدمي منتجات ثقافة القراءة فقط التصريح بعمل ما طاب لهم أن يعملوه. وإنما حسبما هو مطبق في عالم يعتبر فيه كل استخدام للثقافة بمنزلة نسخة، فقد اشترطت ثقافة القراءة فقط وجود تصريح من مالكي حقوق التأليف والنشر قبل السماح بالتعديل على منتجات ثقافة القراءة فقط.

تلك الفجوة بين ما يسمح به القانون وبين ما تسمح به التكنولوجيا كان يمكن رأبها، إما بتعديل القانون أو بتغيير التقنية. شهدت السنوات الخمس الماضية تغيرات في كليهما، غير أن كلًّا منهما كان يهدف إلى تشديد السيطرة على المحتوى، لا إضعافها. ومع تطور ثقافة القراءة فقط وسط عالم رقمي، منحت التقنيات الرقمية لمالك حق التأليف والنشر فرصة متزايدة إلى ما لا نهاية للسيطرة بدقة على الأسلوب الذي يُستهلَك بواسطته محتوى حق التأليف والنشر. في أبشع صورها، تمكنت تقنيات إدارة الحقوق الرقمية من السيطرة على عدد مرات الاستماع إلى أغنية ما قمت بتنزيلها، وعلى موقع تخزين تلك الأغنية، وعلى ما إذا كان من الممكن تبادلها مع شخص آخر أم لا، وعلى المدة الزمنية التي سيظل من حقك خلالها الاستماع إليها. واستطاعت التقنية أن تمكن مالك حق التأليف والنشر من تطبيق أي شكل تقريبًا من أشكال السيطرة يمكنك تخيله.

ويؤيد قانون حق التأليف والنشر هذه السيطرة في العصر الرقمي بسبب حقيقة تبدو بسيطة وإن كانت ليست كذلك تتعلق بمعمار قانون حق التأليف والنشر، ومعمار التقنيات الرقمية. ينظم القانون عمليات «النسخ» أو «صنع النسخ». لكنك في كل مرة تستخدم فيها العمل الإبداعي في سياق رقمي، تصنع التقنية نسخة منه. فعندما «تقرأ» الكتاب الإلكتروني، فإن الآلة تنسخ نص الكتاب من على قرص جهازك الصلب، أو من قرص صلب موجود على شبكة ما، إلى ذاكرة حاسبك الآلي. تقع تلك النسخة تحت طائلة قانون حق التأليف والنشر. وعندما تشغل قرصًا مدمجًا على حاسبك، يُنسخ التسجيل إلى الذاكرة وهو في طريقه إلى سماعات الرأس التي تضعها على أذنيك أو إلى السماعات. أيًّا كان ما ستصنعه بالمحتوى، فإن تصرفاتك تقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر. فكل تصرف يجب عندئذ تبريره إما بأن يكون مرخصًا به أو أن يكون بموجب «الاستخدام العادل».

نظرًا لأن كل استخدام يقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر، فإنني أقول إن قانون حقوق التأليف والنشر يؤيد التقنيات المستخدمة في تطبيقات ثقافة القراءة فقط؛ إذ لو قضت تكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية بأنه ليس باستطاعتك قراءة كتاب إلكتروني سوى مرتين فقط، فإن كل ما تفعله التقنية في الواقع هو أنها تنفذ حقًّا يمنحه قانون حقوق التأليف والنشر لمالك تلك الحقوق. إن قانون حقوق التأليف والنشر ينطبق على كل مرة تقرأ فيها كتابًا إلكترونيًّا. وما لم تكن محميًّا بموجب الاستخدام العادل، فإنك في كل مرة تقرأ فيها كتابًا إلكترونيًّا تكون في حاجة للحصول على ترخيص من مالك حقوق التأليف والنشر.

غير أنه من الأمور الحاسمة أن ندرك أن هذا التحكم أعظم بصورة جذرية من السيطرة التي يمنحها قانون حقوق التأليف والنشر لمالك حقوق التأليف والنشر في عالم التكنولوجيا التناظرية. وهذا التغير في مجال السيطرة لم يكن مصدره قرارًا من الكونجرس بحاجة مالك حق التأليف والنشر إلى مزيد من القدرة على التحكم. وإنما جاء التغير بسبب حدوث تغير في المنصة التي ندخل من خلالها على ثقافتنا. لقد تعاظمت التغيرات التقنية تعاظمًا هائلًا، وتعاظم كذلك بصورة هائلة مجال السيطرة التي منحها قانون حقوق التأليف والنشر لملاك حق التأليف والنشر على استخدام العمل الإبداعي.

في العالم المادي، لا يمنح قانون حقوق التأليف والنشر لمالك تلك الحقوق أي سيطرة قانونية على عدد مرات قراءة الكتاب الذي يملك حقوقه؛ وهذا لأنك عندما تقرأ كتابًا في الفضاء الواقعي، فإن تلك «القراءة» لا تنتج نسخة. ولما كان قانون حقوق التأليف والنشر لم يُخرَق هنا، فلا حاجة بأحد لأي ترخيص بقراءة الكتاب، أو إعارته، أو بيعه، أو استخدامه في إبهار أصدقائه. في العالم المادي، يُخرَق قانون حقوق التأليف والنشر عندما تأخذ كتابًا إلى متجر تصوير المستندات وتصنع منه خمسين نسخة لأصدقائك، وهذا ما من شك أنه استخدام ممكن، غير أنه ليس بالاستخدام المعتاد. أما الاستخدامات العادية للكتاب فإنها لا تخضع لأي تنظيم من قبل القانون؛ فالاستخدامات المعتادة «غير خاضعة للتنظيم».

ولكن في العالم الرقمي، تنظَّم تلك التصرفات بصورة مختلفة؛ فالاشتراك مع الغير في قراءة كتاب ما تتطلب ترخيصًا؛ فلكي تقرأ كتابًا أنت في حاجة لتصريح بذلك، ولكي تنسخ فقرة من الكتاب كي تضعها في ورقة اختبار الفصل الدراسي أنت في حاجة لتصريح؛ فجميع الاستخدامات العادية للعمل الإبداعي خاضعة الآن للتنظيم بالقانون؛ لأن جميع الاستخدامات العادية تقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر؛ لأنه — مرة أخرى — أي استخدام يعد بمنزلة نسخ.18

ومن ثم فإن ثقافة القراءة فقط في العصر الرقمي متاحة أمام إحكام السيطرة بأسلوب لم يكن ممكنًا قط في عصر التكنولوجيا التناظرية؛ فالقانون يفرض المزيد من التنظيم، والتقنية يمكنها فرض مزيد من التنظيم بأسلوب أكثر فعالية، وتستطيع التقنية السيطرة على كل استخدام. إن القانون يصدِّق على السيطرة التي تفرضها التقنية على كل استخدام. ويمكن التحكم التام في استخدام العمل المحمي بحقوق التأليف والنشر في الفضاء الرقمي إلى أقصى مدى يرغب فيه مالك حق التأليف والنشر وبموجب «الاستخدام العادل». وبهذا المفهوم، يدعم القانون ثقافة القراءة فقط أكثر من أي وقت مضى.

أما علاقة القانون بثقافة القراءة والكتابة فإنها مختلفة. كما أسلفنا بالقول فإن مجرد إعادة الكتابة في السياق الرقمي يتسبب في إنتاج نسخة؛ وهذه النسخة تقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر. وبمجرد الوقوع تحت طائلة هذا القانون، فإنه يشترط إما وجود ترخيص أو ادعاء مشروع بالاستخدام العادل. الرخص نادرة الوجود، والدفاع عن الزعم بوجود استخدام عادل باهظ التكلفة. وهكذا فإن استعمال الشيء في ظل ثقافة القراءة والكتابة هو أمر بطبيعته الافتراضية مخالف للقانون. وبالتالي فإن ثقافة القراءة والكتابة من المفترض مسبقًا أنها غير مشروعة.

طيلة معظم فترات التاريخ الأمريكي كان من النادر جدًّا أن يقوم مواطنون عاديون بالوقوع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر. وطيلة أغلب فترات التاريخ الأمريكي، كانت ممارسة ثقافة القراءة والكتابة لا تقع تحت طائلة هذا الشكل من التنظيم التجاري. والسبب من جديد كان مزيجًا من معمار قانون حقوق التأليف والنشر ومعمار تقنيات الثقافة. من عام ١٧٩٠ حتى عام ١٩٠٩، لم ينظم قانون حقوق التأليف والنشر «النُّسَخ»، بل كان جوهر تنظيمه «الطبع وإعادة الطبع والنشر والبيع.» لم يكن هؤلاء المنخرطون في ثقافة القراءة والكتابة «يطبعون، أو يعيدون طبع، أو ينشرون، أو يبيعون.» غير أن هذا اللب حدث به توسع في عام ١٨٧٠، عندما أضاف القانون إلى مجال تطبيقه تنظيم ما نسميه بالأعمال المقتبسة. غير أنه حتى في ذلك الحين، لم يكن القانون عامًّا، بل كان مختصًّا بأنشطة محددة، ومرة أخرى كانت تلك الأنشطة تجارية في المقام الأول. وقد كتب الأستاذ الجامعي توني ريس يقول: «وبحلول عام ١٨٧٣، شمل لب موضوع حماية حقوق التأليف والنشر «أي كتاب، أو خريطة، أو شكل بياني، أو مؤلَّف درامي أو موسيقي، أو نقش، أو قطع، أو طباعة، أو صورة فوتوغرافية أو صورة سالبة لهذه الأعمال، أو تلوين، أو رسم، أو صباغة، أو تمثال، أو نحت، و… نماذج أو تصميمات يقصد إتقانها باعتبارها من أعمال الفنون الجميلة».»19 ومرة أخرى نكرر أن تلك ليست من صنوف الأعمال التي يصنعها مبدعو القراءة والكتابة العاديون.
وفي عام ١٩٠٩، تغير القانون. ولأول مرة، استخدمت كلمة copy — في المصطلح copyright — التي تعني «نسخة» بمعناها العام، وكان المقصود منها تلك الحقوق التي يتمتع بها أي مالك لحقوق التأليف والنشر، بما فيها مالك حقوق نسخ الكتب. حتى ذلك الحين، كان الحق الحصري في «النسخ» قاصرًا على أعمال على شاكلة التماثيل، غير أنه ليس معممًا على أعمال كالكتب مثلًا. (ومن ثم، فإنك لكي تحصل على نسخة من تمثال فإن هذا يستلزم الحصول على تصريح بذلك من مالك الحق، ولكن لكي تطبع كتابًا ما، لم يكن ذلك مطلوبًا.) غير أن مراجعي تشريع عام ١٩٠٩ نسوا هذا التمييز، ومنحوا ملاك حقوق التأليف والنشر «المظهر الخارجي للحق في ممارسة نشاط كانت أهميته في ازدياد مستمر خلال القرن الجديد.»20 وبمرور الوقت، بدأت الكلمة تنسحب على كل تقنية يتم «نسخها». ومن ثم، ومع اتساع نطاق التقنيات التي مكنت الناس من «النسخ»، اتسع أيضًا المجال الفعال للحماية التشريعية.21

هذا التوسع التلقائي في التشريع لم يلاحَظ في الواقع من قبل الكونجرس؛ فالكونجرس لم يكن يقصد التوسع، ولا هو أوقفه، وأولئك الذين استفادوا من ذلك التوسع كانوا سعداء بتلك الاستفادة. أما أولئك الذين كان من المحتمل أن يضاروا منه فقد أخفقوا في ملاحظة أن حدود حرياتهم — أي حريتهم في القراءة والكتابة — كانت تتقلص شيئًا فشيئًا.

كانت هناك، بالطبع، استثناءات مهمة. في أواخر عقد الستينيات، قدمت لنا زيروكس تكنولوجيا تصوير المستندات. وفي منتصف السبعينيات، قدم خبراء التكنولوجيا للمستهلكين جهازًا مصممًا كي يسجل البرامج التلفزيونية. ومن ثم قام هذا الجهاز بنسخ المحتوى المحمي بقانون حقوق التأليف والنشر دونما تصريح من مالك المحتوى. وفي عام ١٩٧٦، أقامت ديزني ويونيفرسال دعوى قضائية ضد صانع هذا الجهاز؛ وهو سوني. وبعدها بثمانية أعوام، أجازت المحكمة العليا عملية النسخ؛ حيث وجدت أن تصرفات المستهلكين محمية بموجب مبدأ «الاستخدام العادل».22
وعلى نفس النحو، في الثمانينيات، ازدادت بشكل رهيب أعداد أجهزة نسخ شرائط الكاسيت. وشكا مالكو المحتوى من أن الناس يستخدمون تلك الأجهزة في نسخ المحتوى المحمي بحقوق التأليف والنشر دونما حصول على تصريح من مالك حق التأليف والنشر. وأمر الكونجرس بإجراء دراسة مستفيضة على تلك الممارسة. وانتهت تلك الدراسة إلى أن ٤٠٪ ممن بلغوا العاشرة من أعمارهم أو جاوزوها سجلوا موسيقى خلال العام المنصرم؛ وأن مسجلي الشرائط أبدوا اهتمامًا أكبر بالموسيقى من غير المسجلين؛ وأن معظم ما قاموا به كان مجرد «تغيير في الموضع»؛ بمعنى تغيير موضع المادة المحمية بحقوق التأليف والنشر، وأن تسجيل الشرائط حل محل بعض المبيعات وروج لمبيعات أخرى، وأن كلًّا من ناسخي الشرائط وغير الناسخين كانوا يؤمنون «بأنه من المقبول نسخ مصنف سبق تسجيله، سواء لاستعمال الشخص نفسه أو لإهدائه لصديق.»23

كل واحد من تلك النزاعات لم يكن نزاعًا بحق مع جوهر ثقافة القراءة والكتابة. لعل الشرائط المختلطة كانت استثناءً من ذلك؛ فالعديد من أصدقائي شبوا عن الطوق معتقدين أن الإبداع في المختارات كان يعد من بين الأصعب والأهم لأي شخص على دراية ما بالثقافة الشعبية. لكن تلك الشرائط لم تكن الهدف الحقيقي لمالكي حقوق التأليف والنشر، وإنما كانت مخاوفهم تتعلق باستخدام تلك التقنيات في تغيير وجه سوق كانوا يظنون أنهم يمتلكونها. لقد كانت تكنولوجيا تتنافس مع حقوق التأليف والنشر. أو بعبارة أخرى، كانت التكنولوجيا تنافس ثقافة القراءة فقط. وبرغم تلك المنافسة، تُرِكت التكنولوجيا وحيدة إلى حد بعيد.

إلا أنه عندما تزحف ثقافة القراءة والكتابة نحو الإنترنت، تتبدل الأمور تبدلًا هائلًا. أول شيء، أن التقنيات الرقمية، حسبما شرحت من قبل، تفجر حالة من الطلب على ثقافة القراءة والكتابة. تتزايد أعداد من يستخدمون التكنولوجيا في قول الأشياء، ولا يشترط أن يكون هذا بالكلمات. فالموسيقى تخضع للمزج؛ وتتكاثر أعداد مقاطع الفيديو المُخلَّطة؛ وتبدأ المدونات في بناء ثقافة تدور حول فكرة التعليق على تلك المكونات.

الأمر الثاني أن التقنيات الرقمية تغير أيضًا من أسلوب تفاعل ثقافة القراءة والكتابة وحقوق التأليف والنشر. فلأن كل استخدام للعمل الإبداعي ينتج فعليًّا نسخة منه، صار كل استخدام لعمل إبداعي يقع من الناحية الفنية تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر. ورغم أن كثيرًا من تلك الاستخدامات يمكن أن تندرج تحت فئة الاستخدام العادل، أو تستخدم رخصًا علانية أو خفية، من قبل مالك حقوق التأليف والنشر، فإن النقطة الحرجة التي علينا أن نقر بها أن هذا لا يزال يمثل تغييرًا هائلًا في تاريخ حقوق التأليف والنشر الأمريكي. فللمرة الأولى، تنظم القوانين شئون المواطنين العاديين على نطاق عام. وللمرة الأولى، تطول يد تلك القوانين من لا يعد محترفًا وإنما من الهواة؛ فهي تعرِّض الهاوي للوقوع تحت طائلة القانون الذي ظل طيلة تاريخه مخصصًا للمحترفين دون غيرهم.

هذه أهم نقطة علينا أن ندركها فيما يختص بالعلاقة بين القانون وثقافة القراءة والكتابة. فللمرة الأولى، تطال يد القانون هذه الثقافة وتنظم شئونها. ليس هذا لأن الكونجرس فتح باب النقاش فقرر أن هذا الشكل من أشكال الإبداع في حاجة للتنظيم بقانون، وإنما ببساطة لأن معمار قانون حقوق التأليف والنشر تفاعل مع معمار التقنية الرقمية؛ كي ينتجا توسعًا هائلًا في المدى الذي تصل إليه يد القانون.

وينعكس هذا التغير أيضًا في صورة أوضح على الثقافة الاحترافية ذاتها. ولنأخذ مثلًا الأسلوب الذي ينظِّم به القانون عمل الموسيقى. لعل أكثر الألوان التي تميز الموسيقى الأمريكية هي موسيقى الجاز. يؤلف موسيقيو الجاز موسيقاهم عن طريق البناء فوق إبداع من سبقوهم. وهم يستمعون إلى أعمال الغير، ثم يعيدون صياغتها. «الارتجال عنصر جوهري في الشكل.» والحقيقة أن هذا اللون من الموسيقى اشتهر «بارتجاليته الجماعية.»24 كما يشتهر عظماء موسيقيي الجاز بقدرتهم على الارتجال. لويس أرمسترونج «في الأساس أعاد تأليف ألحان البوب التي كان يعزفها.»25

هناك مكافئ معاصر للجاز يسميه البعض «موسيقى اللابتوب»، ويسميه آخرون ببساطة «انتقاء العينات». يؤلف الموسيقيون هذه الموسيقى عن طريق الحصول على تسجيلات صوتية لموسيقيين آخرين وعمل مزيج منها. ولعل جيرل توك من بين الأمثلة على ذلك. ومن الأمثلة الأخرى: دين جراي، شيتمات، الأعجوبة التاسعة، وديمروز، وغيرهم.

كان القانون متساهلًا إلى حد لا بأس به بشأن إبداع موسيقيي الجاز.26 غير أن القانون لم يكن متسامحًا البتة مع إبداع موسيقى اللابتوب المعاصرة. في سلسلة من القضايا التي بدأت خلال الثمانينيات، واجه منتقو العينات نظامًا قضائيًّا معاديًا باضطراد يصر على أن أي استخدام للمصنفات المسجلة يشترط له الحصول على ترخيص من مالك حقوق التأليف والنشر. جاءت ذروة تلك السلسلة عام ٢٠٠٤، عندما أصدرت الدائرة السادسة لمحكمة الاستئناف حكمها بأن كل عينة مستخدمة في التسجيل الممزوج تقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر. ولا يوجد «أدنى» استثناء في حقوق التأليف والنشر (بما يعني ببساطة أن مقدار «النسخ» كان بالغ الضآلة بحيث لا يقع تحت طائلة قانون حقوق التأليف والنشر). يسمح لمنتقي العينات بتفادي الحصول على ترخيص للعينة التي يستخدمونها.27 بدءًا من موسيقى الهيب هوب، التي كانت أول من أدخل انتقاء العينات إلى الثقافة الشعبية، تواصلت المسيرة حتى وصلت إلى موسيقى اللابتوب التي تعزف اليوم، فلا يوجد عمل إبداعي يمكن توزيعه خاليًا من غطاء قانوني يظلله.

لعلك تعتقد أن الفنانين توَّاقين لإنهاء تلك الحالة من الجنون. والحقيقة أنه في أوساط المحامين على الأقل، يعد هذا الجنون نوعًا من نظام اليانصيب. فالمحامون يكرسون جهدًا غير عادي للتعرف على العينات المستخدمة دون تصريح والمأخوذة من تسجيلات ناجحة. والتهديد الآتي من مساءلة قانون حقوق التأليف والنشر هائل؛ ولهذا فإن العائد من وراء إنهاء خصومة المتقاضين هائل أيضًا. والنظام يحب هذه اللعبة؛ ولهذا فإن اللعبة لا تنتهي أبدًا.

لكن الأمر يزيد على كونه مجرد لعبة. فهناك ظلم بَيِّن في التفرقة القانونية هنا، لا سيما إن كان يؤثر على الطبقة الناشئة من الفنانين. فلماذا يكون القانون صارمًا هكذا بينما التكنولوجيا الآن في أوج تشجيعها للإبداع؟ ولماذا يكون مستحيلًا تمامًا على فنان من هارلم يمارس الشكل الفني المنتمي للعصر أن يسوق إبداعه، لأن تكاليف التفاوض والحصول على التصريح من مالكي الحقوق باهظة إلى درجة لا يصدقها عقل؟

والإجابة هنا هي: لا يوجد سبب مقنع، خلا القصور الذاتي والقوى التي تحب أن ترى العالم متجمدًا على ما هو عليه.

هل يمكننا تخيل حركة تنهض بنا من هذا العالم نحو عالم أفضل؟ هل نحن محبوسون في عصور الظلام؟ سوف نتدبر قليلًا الإجابات على تلك التساؤلات في ختام هذا الكتاب.

أما ما أكتفي بطرحه الآن فهو ببساطة أن ندرك أن القانون يؤيد بشدة ثقافة القراءة فقط، في الوقت الذي يعادي فيه بشدة ثقافة القراءة والكتابة. ومع كل ما تصنعه ثقافة القراءة والكتابة من خير، فإن علينا كمجتمع أن نقرر على الأقل إن كان ذلك الانحياز ضد إبداع القراءة والكتابة أمرًا له منطق يبرره، وما إن كان يجب أن يستمر أم لا.

(٥) دروس من الثقافتين

وصفت لتوي ثقافتين من ثقافات الإبداع. وناديت بأن لكليهما أهمية وقيمة. ولكن توجد اختلافات بينهما. وفي الفصل السابق شرحت بعضًا من تلك الاختلافات. ما الذي يمكننا تعلمه من هاتين الثقافتين؟ وما الدروس المستفادة من أسلوب تفاعلهما معًا؟

(٥-١) ثقافة القراءة فقط مهمة وذات قيمة كبيرة

قلت أشياء كثيرة طيبة عن ثقافة القراءة والكتابة. وليس معنى ذلك أنه لا يوجد مقدار مماثل من الخير في ثقافة القراءة فقط.

عند تشييده لمكتبة الكونجرس، كان جيفرسون يأمل، حسبما خطت المكتبة في شعارها الذي ترفعه، «في مواصلة جمع المعرفة والإبداع العالميين والحفاظ عليهما من أجل الأجيال القادمة.» هذا المدخل مهم؛ لأنه يعلمنا شيئًا عن ماضينا وعن تنوع الثقافات التي تعيش من حولنا، وأول خطوة لكي نتعلم أن نستمع وننصت، وثقافة القراءة فقط ضرورية من أجل تلك الخطوة الأولى.

(٥-٢) ثقافة القراءة فقط سوف تزدهر في العصر الرقمي

خلال أغلب فترات تاريخنا، كان الوصول المتاح للجميع مجرد حلم غير متحقق من أحلام جيفرسون. لكنه صار الآن ممكنًا. فمع انخفاض تكلفة الحصول على المعلومة، سوف يكون هناك حافز سوقي لبناء أكبر «مكتبة» في تاريخ الإنسانية. ومثل أفضل المكتبات التي شيدت في ماضينا، ستكون مهمة هذه المكتبة أن تكفل حصول البشر على المعلومة. ليس بالضرورة أن يكون هذا مجانًا؛ إذ إنه في حالات كثيرة، لا توفر كلمة «مجاني» حوافز كافية لبناء تلك القدرة على الوصول. بدلًا من هذا، سوف تزدهر ثقافة القراءة فقط؛ وسوف يصبح متاحًا الوصول لمزيد من الثقافة بأسعار أرخص مما كانت عليه في أي حقبة من حقب التاريخ الإنساني.

(٥-٣) ثقافة القراءة والكتابة مهمة وذات قيمة كبيرة هي الأخرى

غير أن تاريخ التنوير لا يقتصر على مجرد تاريخ تعليم أطفالنا القراءة. إنه أيضًا تاريخ تعليمهم الكتابة. إنه تاريخ محو الأمية، تلك القدرة على الفهم التي لا تأتي من مجرد الإنصات السلبي، وإنما تأتي كذلك من الكتابة. منذ نعومة أظفار الثقافة الإنسانية، كان الآباء يعلمون أطفالهم إبداع القراءة والكتابة؛ أي إننا علمناهم كيف يضيفون إلى الثقافة الموجودة حولنا عن طريق الاستنباط من تلك الثقافة أو نقدها. عبر هوسلر العضو بفرقة نيجاتيفلاند لي عن هذا بقوله: «بطبيعة الحال يبني البشر على ما جاء قبلهم في أي شيء ينشئونه. هذا أمر بديهي تمامًا.» لقد شجعناهم على البناء عليها. لقد أرغمناهم على اكتساب المعرفة بالثقافة التي من حولهم، ونحن نختبر أطفالنا على أساس من تلك المعرفة، ونحن نكافئ المتعلم من كل جيل. إننا نكافئه على «الكتابة».

طيلة أغلب فترات التاريخ الإنساني، كان النص هو المعرفة الديمقراطية الوحيدة؛ ففي أغلب فترات التاريخ الإنساني، كانت الكلمات هي الشكل الوحيد من أشكال التعبير، وكانت متاحة للجميع دون استثناء. وجاء القرن العشرون ليمنحنا نطاقًا غير عادي من الأنماط الجديدة من «الكتابة». ولكن حتى السنوات الأخيرة من ذلك القرن، لم تحظَ أي من تلك الأشكال بالديمقراطية على النحو الذي كانت تتمتع به النصوص؛ فلم يتمكن سوى القلة من الذهاب إلى معاهد السينما، وهناك قلة محدودة نسبيًّا تتاح لها الموارد التي تتعلم من خلالها كيفية التسجيل والتحرير. ولعل أبرز تأثير للثورة الرقمية أنها نسفت تلك العوائق التاريخية التي تقف في وجه التدريس. كل شكل مهم من أشكال الكتابة صار الآن ديمقراطيًّا. من الناحية العملية، يمكن لأي شخص أن يتعلم كيف يكتب بأشكال واسعة التنوع. والتحدي الآن يكمن في التمكين لذلك الاكتساب للمعرفة، ليس فقط عن طريق بناء التقنيات التي يتطلبها، وإنما عن طريق ضمان الحرية التي يحتاجها.

ولذا أنادي من جديد — كما سبق أن فعلت في الفصل الثاني — بالتفكر قليلًا في أمر الحرية. تذكر عندما تعلمت كيف تكتب. تذكر لجوءَك للاقتباس، أو إدخال عبارة من أقوال الآخرين ضمن موضوعك، أو الرجوع إلى ما كتبه الغير، أو النقد؛ ما الحريات التي اعتبرتها أمرًا مسلمًا به عندما صنعت كل تلك الأمور؟ هل طلبت الإذن لكي تقتبس؟ هل أخطرت الشخص الذي وضعته هدفًا لنقدك عندما انتقدته؟ هل حدث يومًا أن وجدت صعوبة في أن تقتبس من مقال لبوب ديلان عن الحرب؟

والإجابة على كل تلك التساؤلات بالطبع «كلا». لقد نشأنا ونحن مؤمنون بأن الحريات التي نحتاج إليها كي نمارس الشكل الخاص بنا من الكتابة أمورًا مسلمًا بها. لقد أنشأنا، وتشاركنا في إبداعنا مع الغير ممن سيقرءونه (آبائنا، ومعلمينا، لو حالفنا الحظ). إننا لم نتشكك مطلقًا في الحق في الإنشاء بهذه الطريقة، مجانًا.

إن أطفالنا يرغبون في نفس القدر من الحرية في استخدام أشكالهم من الكتابة، ليست كتابة الكلمات فحسب، وإنما الكتابة بالصور والأفلام والموسيقى. إن التقنيات التي نقدمها لأبنائنا تمنحهم مساحة من القدرة على إنشاء ما لم نكن نملكه من قبل. لقد منحناهم عالمًا يتجاوز حدود الكلمات. هذا العالم جزء مما أسميه ثقافة القراءة والكتابة. إنه متصل بما شكل على الدوام جزءًا من ثقافة القراءة والكتابة؛ المعرفة بالنصوص. لكنه يفوق هذه المعرفة. إنها قدرة الهواة على خلق الجديد في سياقات لم يكن يعلمها من قبل سوى المحترفين.

(٥-٤) هل يعتمد ازدهار ثقافة القراءة والكتابة على القانون ولو جزئيًّا على الأقل

إن قانون حقوق التأليف والنشر على حاله الآن مثبط لتلك الأشكال الجديدة من المعرفة. لا أقصد أنه يمنع الأطفال من المزج؛ فلا يوجد قانون على وجه الأرض قادر على هذا، وإلا لكان هناك قانون يحرم الاقتباس مثلًا. وإنما ما أقصده أن القانون بنصه الحالي سوف يوقف تطور مؤسسات المعرفة التي لا بد من وجودها لو أردنا لهذه المعرفة الانتشار. سوف تتوارى المدارس خجلًا؛ لأن من المفترض أن المزج أمر غير مشروع قانونًا. كما ستتوارى الشركات خجلًا؛ لأن مالكي الحقوق لا يزالون متحمسين لاستخدام القانون في تهديد المنتفعين الجدد. فالغموض بشأن حرية الانخراط في هذا الشكل من أشكال الإبداع لن ينجم عنه سوى خنق استعداد المؤسسات نحو معاونة هذا الشكل المعرفي على التطور. إن ثقافة القراءة والكتابة لا يمكنها سوى أن تتوسع في مفهوم «الكتابة». غير أن الثقافة القانونية سوف ترغم المؤسسات على جعل الكتابة بعيدًا عن هذا الشكل الجديد من أشكال التعبير.

(٥-٥) المسلك الراهن للقانون يجمع بين كونه تدميريًّا وانهزاميًّا؛ إذ إنه يدمر قيمًا أهم من الأرباح التي تجنيها الصناعات الثقافية

لا يمكننا، كمجتمع، أن نقتل هذا الشكل الجديد من الإبداع، كل ما في استطاعتنا هو أن نجرمه. لا يمكننا أن نمنع أبناءنا من استعمال التقنيات التي نقدمها لهم كي يصنعوا توليفات من الثقافة المحيطة بهم. يمكننا فقط أن ندفع هذه التوليفات كي تعمل تحت الأرض. لا يمكننا أن نحول أطفالنا إلى شخصيات سلبية بالطريقة التي كنا نتعامل بها مع الثقافة المحيطة بنا، إن كل ما يمكننا عمله أن نحولهم إلى «قراصنة»؛ إذن هل هناك منطق من وراء ذلك التجريم؟

هنا يقدم لنا التاريخ درسًا مهمًّا. منذ ما يقرب من عشر سنوات، بدأ الباحثون والنشطاء يدعون لاستجابة من الجهات التشريعية لما اصطلحوا في نهاية المطاف على تسميته «التشارك في الملفات من الند للند». لم نَدعُ لمزيد من العقوبات على التشارك غير القانوني في الملفات، وإنما دعونا لعدم التجريم. وهناك مجموعة واسعة من المقترحات طالبت الكونجرس بإنشاء عملية ترخيص إجبارية للتشارك في الملفات بين شخص وآخر. وبموجب ذلك الترخيص، فإن إجراء تبادل الموسيقى على سبيل المثال لن يمثل أي خرق لأي قانون من قوانين حقوق التأليف والنشر. وإنما سيؤثر بدلًا من ذلك على مقدار التعويض الذي سيتم تقاضيه مقابل التشارك في الملفات.

كان أكثر تلك المقترحات طموحًا ذلك الذي تقدم به ويليام فيشر الأستاذ بجامعة هارفرد. وبموجب خطة فيشر، يمكن للكونجرس على سبيل المثال أن يسمح بتداول ملفات الموسيقى بحرِّية.28 من شأن هذا أن يرسي تقنيات لأخذ عينات يتم التعرف بها على من حصل على ماذا. وبعدها، وبناءً على ذلك البرهان الدال على حجم الشعبية، يتم تعويض الفنانين عن إبداعهم من خلال ضريبة تفرض على التقنيات الرقمية بأكثر الطرق الممكنة من حيث الكفاءة؛ وبذا تستطيع مادونا أن تحقق دخلًا أكبر من دخل لايل لوفيت؛ ويستطيع لايل لوفيت أن يحقق دخلًا أكبر مما أحققه أنا.
هناك العديد من السبل التي يمكن أن ننتقد بواسطتها تلك المقترحات. وفي الوقت الذي تقدمت فيه باقتراح من عندي، فقد انتقدت أيضًا مقترحات عديدة أخرى. لكن إذا نظرنا للفترة السابقة على امتداد السنوات العشر الأخيرة وتخيلنا كيف كان من الممكن للأمور أن تسير بصورة مختلفة لو كان الكونجرس قد سن تلك التشريعات بناء على أي من تلك المقترحات، فسوف تتضح لنا حقائق عدة:
  • أولها: أن الحرب على التشارك في الملفات حققت فشلًا ذريعًا. وعلى حد تعبير أحد المقالات:
    أكثر من ٥ مليارات أغنية جرى تبادلها على مواقع تشارك الند للند [في عام ٢٠٠٦] في حين أن مبيعات الأقراص المدمجة — وهو المنتج الرئيسي المحقق للعائد في تلك الصناعة — لا تزال في حالة تراجع؛ إذ هبطت بنسبة تقترب من ٢٠٪ خلال هذا العام وحده. وطبقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن مؤسسة جوبيتر للأبحاث، فإن الأمور لا تتغير إلا للأسوأ. ويذكر التقرير ما يلي: «المستهلكون صغار السن بدءوا يومًا بعد يوم يتخلون عن شراء الألبومات الموسيقية، ويفضلون على ذلك تداول الملفات فيما بينهم، بمعدل يبلغ أربعة أضعاف شعبيةِ شراءِ الموسيقى المسجلة رقميًّا، وذلك في أوساط الشباب بين الخامسة عشرة، والرابعة والعشرين.»29
    الصورة أصدق أنباءً من الكلمات. وباستخدام البيانات المقدمة (مجانًا في لفتة كريمة) من مؤسسة بيج شامباين أونلاين ميديا لقياسات الوسائط على شبكة الإنترنت، يمكننا عمل رسم بياني لمتوسط أعداد المنتفعين بخاصية التشارك في الملفات اعتبارًا من أغسطس ٢٠٠٢ إلى أكتوبر ٢٠٠٦ (انظر الشكل التالي). يشير العامود الرمادي اللون إلى التوقيت الذي أصدرت فيه المحكمة العليا قرارها في قضية مترو جولدوين ماير ضد جروكستر؛ والتي اعتبرت فيه أنَّ تشارُك الملفات من الند للند أمرًا غير مشروع.30 وكما هو واضح، أيًّا كان ما سيفعله القانون، فإنه لن يكون ذا تأثير كبير على ما يفعله المتشاركون في الملفات.
    figure
    مستخدمي خاصية تشارك الند للند — الولايات المتحدة الأمريكية.
  • ثانيًا: لو كان مبدأ الترخيص الإجباري طُبِّق، لحصل الفنانون على أموال أكثر على مدى السنوات العشر الأخيرة مما حصلوا عليه بالفعل. ربما أوقف التشارك القانوني شيئًا من حجم النمو في المبيعات القانونية. غير أن هناك قدرًا هائلًا من المحتوى المتداول «بصورة غير قانونية» كان من شأنه، في ظل هذا البديل، أن يستوجب على أقل تقدير الحصول على تعويض لصالح الفنانين.
  • ثالثًا: لو كانت الشركات التجارية مطلقة اليد في الاعتماد على تلك الرخص، لحدث انفجار في الابتكار في مجال تلك التقنيات. فلم يكن الأمر ليقتصر على بعض القلة التي تمكنت من إبرام صفقات مع صناعة التسجيلات الموسيقية التي أصابها الرعب. فكل من امتلك فكرة كان سيصبح في إمكانه نشرها، بما يتفق مع شروط الترخيص الإجباري. وهكذا، كان الابتكار في موضوع توزيع المحتوى سيصير أكبر حجمًا كذلك.
  • رابعًا: والأهم، لو أننا امتلكنا منظومة للرخص الإجبارية منذ عقد من الزمان، لما صار لدينا جيل من الأطفال والناشئة الذين شبوا على خرق القانون. وحسبما أشارت دراسة مسحية أجريت مؤخرًا على يد مكتب الأبحاث التسويقية إن بي دي جروب، فإن «أكثر من ثلثي إجمالي ملفات الموسيقى [لطلبة الجامعات] تم الحصول عليها عن طريق غير قانوني.»31 ولو كان القانون تغير عندما تداولوا المحتوى، لكان سلوكهم حينها صار قانونيًّا، ولم يكن سلوكهم بالتالي عُد مدانًا، ولم يكونوا اعتبروا أنفسهم «قراصنة»، وإنما كان سيسمح لهم بأن يعيشوا طفولتهم مثلما عشتها أنا؛ عندما كان ما «يفعله الأطفال الطبيعيون» لا يمثل جريمة.

ومرة أخرى لا أقصد من وراء ما قلته أن أقدم مرافعة تؤيد عدم تجريم جميع السلوكيات غير المشروعة التي ترتكب في الوقت الراهن. فسواء سطا الأطفال على البنوك أم لم يفعلوا، فإنه ينبغي تجريم السطو على البنوك. وجرم الاغتصاب يصبح أكبر ولا يخففه أنه أمر متكرر الحدوث. وإنما أطلب منك أن تزن بين أمرين كلاهما سيئ: فما فعله صناع سياساتنا على مدى ما يربو على عشرة أعوام مضت إلى الآن لم يمنع بالفعل تداول الملفات، وهو لم يقدم العون في الحقيقة لكثير من الفنانين، كما أنه لم يحفز على ظهور مجموعة واسعة من الابتكارات، كل ما فعله بالتأكيد أنه أوجد جيلًا من «القراصنة».

زِن هذا الشر أمام البديل: لو كان هناك ترخيص إجباري، لكان الفنانون حصلوا على مزيد من المال؛ ولأتيحت أمام الشركات (خارج منظومة صناعة التسجيلات) فرصة أكبر للابتكار؛ ولما صار أولادنا «قراصنة».

لا ريب أن شخصًا ما كان سيخسر شيئًا ما في هذا السيناريو البديل؛ إنهم المحامون بالتأكيد، وربما شركات التسجيلات أيضًا. كان المحامون سيخسرون إيرادات غير عادية تجنيها مهنتنا من خلال التقاضي المتعلق بالتشارك غير القانوني في الملفات. وربما خسرت شركات التسجيلات أيضًا لأنها كانت ستتنازل عن الحق الحصري لمصلحة التعويض الإجباري. لكن حتى تلك الخسارة غير مؤكدة، بل من المفهوم جيدًا أن المنظومة الإجبارية كانت ستضمن لصناعة التسجيلات مزيدًا من المال، يفوق في حقيقة الأمر ما حصلت عليه بالفعل.

إنني أطرح هذا الحل الموازي لا لتأييد تشارك الملفات من الند للند. إنني أقف مؤيدًا لموقفي الذي طرحته في كتابي «ثقافة حرة»؛ وهو أن «القرصنة» إثم، وهو موقف كررته مرات عدة في ذلك الكتاب.32 وإنما أطرح حلًّا موازيًا كي أتساءل عما إذا كنا نرغب في تكرار هذا الخطأ من جديد أم لا. وهل ستنشب خلال السنوات العشر المقبلة حرب أخرى تطول لعقد من الزمان ضد أولادنا؟ وهل ينبغي علينا أن ننفق المزيد من مواردنا على الاستعانة بخدمات المحامين وأخصائيي التقنية، كي نصنع أسلحة أفضل نشن بها حربًا على أولئك الذين يمارسون ثقافة القراءة والكتابة؟ أوَلَمْ نتعلم أي شيء من الإخفاق التام للسياسة التي رسمت حدود حقوق التأليف والنشر على مدى العقد الماضي؟
إني أومن بذلك لذات السبب الذي جعل صناعة المحتوى في غاية الحرص على تطبيق قانون حقوق التأليف والنشر. وحسبما شرح الأمر ميتش بينوول وكاري شيرمان اللذان يعملان باتحاد صناعة التسجيلات الأمريكي:
ليست خسارة المبيعات الحالية هي ما يقلقنا، وإنما العادات التي تشكلت في الكليات والتي ستبقى ملازمة لأولئك الطلبة طيلة حياتهم. إنها لحظة يمكن أن نتعلم منها، فرصة لتعليم أولئك الطلبة تحديدًا أهمية الموسيقى في حياتهم، وأهمية احترام وتقدير قيمة الموسيقى باعتبارها ملكية فكرية.33

صحيح تمامًا؛ إذن ما القواعد التي ينبغي علينا بذل جهد شاق من أجل تطبيقها؟

إن الحجة التي تؤيد إصلاح مسلكنا القانوني تجاه عملية المزج أقوى بألف مرة من سياق تشارك الملفات من الند للند: إنها مسألة المعرفة. إن علينا أن نشجع على انتشار المعرفة، على الأقل ما دامت لن تخنق أشكالًا أخرى من الإبداع. ولا يمكن قبول الرأي القائل بأن السماح للأطفال بمزج الموسيقى سوف يؤذي أي شخص. وما لم يتمكن شخص ما من بيان إمكانية حدوث ذلك، فإن على القانون ببساطة أن يفسح الطريق. إننا بحاجة لإلغاء تجريم الإبداع حتى لا نواصل تجريم جيل كامل من أبنائنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤