الفصل الأول

«قبل سقراط»

تبدأ الفلسفة حين يَطرح المرء سؤالًا عامًّا، وعلى النحو ذاتِه يبدأ العلم. ولقد كان أولُ شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون؛ فالفلسفة والعلم — كما نعرفهما — اختراعان يونانيَّان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي أنتجَت هذا النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدثٌ لم يَظهر له نظير قبله ولا بعده؛ ففي فترة قصيرة لا تَزيد عن قرنَين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيلٍ لا ينقطع من الروائع التي أصبحَت منذ ذلك الحين مِقياسًا عامًّا للحضارة الغربية.

إن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس الملطي Thales of Miletus في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ولكن على أي نحو سارت الأحداث قبل ذلك، حتى تُهيِّئ لهذا الظهور المناجي للعبقرية اليونانية؟ سنحاول، بقدر استطاعتنا، أن نَهتديَ إلى إجابة عن هذا السؤال. وسوف نَستعين بعلم الآثار، الذي خطا خطوات عملاقة منذ بداية هذا القرن، من أجل جمع شتات الصورة التي تَكشف لنا، إلى حدٍّ معقول، عن الطريقة التي وصل بها العالم اليوناني إلى ما هو عليه.

إن الحضارة اليونانية حضارةٌ متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم الأخرى؛ إذ سبقتها حضارتا مصر وبلاد ما بين النهرَين بعدة ألوف من السنين. ولقد نما هذان المجتمعان الزراعيَّان على ضفاف أنهار كبرى، وكان يحكمهما ملوك مؤلَّهون، وأرستقراطية عسكرية، وطبقة قوية من الكهنة كانت تُشرِف على المذاهب الدينية المعقَّدة التي كانت تعترف بآلهة متعدِّدين. أما السواد الأعظم من السكان، فكانوا يزرعون الأرض بالسُّخْرة.

ولقد توصلَت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريقُ فيما بعد، ولكن لم تتمكَّن أيٌّ منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة. على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعًا إلى افتقار العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية؛ لأن العامِلَين معًا كان لهما دورُهما بلا شك، وإنما الذي يُهِمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تُساعد على ممارسة المغامرة العقلية.

ففي مصر كان الدين معنيًّا إلى حدٍ بعيد بالحياة بعد الموت؛ فالأهرامات كانت صُروحًا جنائزية، ولقد كان الإلمام ببعض المعارف الفلَكية لازمًا من أجل الوصول إلى تنبُّؤٍ دقيق بفيضان النيل، كما أن طبقة الكهنة في ممارستها للحكم الإداري استحدثَت شكلًا من أشكال الكتابة بالصور، ولكن لم تتبقَّ بعد ذلك مواردُ تكفي للتطور في الاتجاهات الأخرى.

أما في بلاد ما بين النهرَين، فقد حلت الإمبراطوريات السامية الكبرى محل السومريين الأسبق منها، الذين اقتبس أولئك عنهم الكتابة المسمارية. وفي الناحية الدينية كان الاهتمام الرئيسي مُنصبًّا على السعادة في هذا العالم، وكان تسجيل حركات النجوم وما صاحبه من ممارساتٍ للسحر والتنجيم موجَّهًا من أجل هذه الغاية.

وبعد فترةٍ ما، بدأَت تنمو مجتمعات تِجارية، كان أهمها سكان جزيرة كريت، وهي مجتمعات لم يتمَّ إلقاء الضوء عليها من جديد إلا في وقتٍ قريب. والأرجح أن الكريتيين جاءوا من الأراضي الساحلية لآسيا الصغرى، وأصبحت لهم الغلَبة بسرعة على جميع جُزر بحر إيجه، وفي أواسط الألف الثالثة قبل الميلاد أدت موجة جديدة من المهاجرين إلى نمو غير عادي للثقافة الكريتية. فشُيِّدت قصور فخمة في كنوسوس Cnossus  وفايستوس Phaestos، وأخذت السفن الكريتية تجوب البحر المتوسط من أقصاه إلى أقصاه.
ومنذ عام ١٧٥٠ق.م. أدت سلسلة متكررة من الزلازل والثورات البركانية إلى إطلاق موجة هجرة من كريت إلى المناطق المجاورة في اليونان وآسيا الصغرى. وأدَّت مهارة الكريتيين في الحِرَف اليدوية إلى تغيير ثقافة سكان المناطق القارية. وأفضل موقع يكشف عن هذا التأثير في اليونان هو ميسناي Mycenae في الأرجوليد Arogolid، وهو الموطن التقليدي لأجاممنون Agamemnon. كما أن الذكريات التي يَرويها الشاعر هوميروس تتعلق بالعصر الكريتي، وحوالي ١٤٥٠ق.م. ضرب كريت زلزال عنيف وضع حدًّا مفاجئًا للسيطرة الكريتية.
ولقد كانت أرض اليونان الأصلية قد استُوعِبَت من قِبَل موجتَين متتاليتَين من الغزاة؛ أولاهما كانت موجةَ الأيونيين، الذي أتوا من الشمال حوالي عام ألفَين ق.م، ويبدو أنهم اندمجوا تدريجيًّا في السكان الأصليين، وبعد ثلاثمائة عام جاء غزو الأخاي Achaean الذين كوَّنوا هذه المرةَ طبقةً حاكمة. وكانت سادة ميسناي (الكريتيون) وإغريق هوميروس ينتمون بوجهٍ عام إلى هذه الفئة الحاكمة.
ولقد كانت تربط الكريتيِّين–الآخيِّين روابطُ تِجارية بجميع أرجاء البحر المتوسط، ولم تؤدِّ كارثةُ عام ١٤٥٥ق.م. في كريت إلى قطع هذه الروابط، وهكذا نجد الكريتيين من بين «شعوب البحر» التي هدَّدَت مصر حوالي عام ١٢٠٥ق.م، وكان المصريون يُطلِقون عليهم اسم «بليست Peliset»، وكان هؤلاء هم الفلسطينيون Philistines الأصليون الذين استمَد هؤلاء منهم اسمَ الأرض التي استقروا فيها، وهو «فلسطين».
وحوالي ١١٠٠ق.م. أدى غزوٌ آخر إلى تحقيق ما عجزت عنه كوارثُ الطبيعة؛ ذلك لأن الغزوات الدورية Dorian جعلَت اليونان ومنطقة بحر إيجه بأكملها فريسة في أيدي قبائل همجية غازية شديدة البأس، وكان الآخيُّون قد استنفدوا طاقتهم قبل ذلك في حروب طروادة في أوائل القرن الثاني عشر ق.م، فلم يستطيعوا الصمود أمام تلك الهجمة، كما أصبح الفينيقيون هم أسيادَ البحر، ودخلت اليونان عندئذٍ مرحلة من الظلام. وفي هذه الفترة تقريبًا اقتبس الإغريق الحروف التي كانت قد عُرِفت لدى التجار الفينيقيِّين من قبل، بإضافة حروف متحركة إليها.

والواقع أن اليونان الأصلية بلد خشن في مظهره وفي مناخه؛ إذ توجد سلاسلُ من الجبال القاحلة تقسم الأرض، مما يجعل الانتقال البري من وادٍ إلى وادٍ أمرًا عسيرًا.

ومن ثَم فقد نمَت في السهول الخصبة مجتمعاتٌ محلية منفصلة، وحين كانت الأرض تعجز عن إعاشة الجميع كان البعض منهم يشد عصا الترحال عبر البحر لإنشاء مستوطنات. وهكذا تناثرت المدن اليونانية على سواحل صقلية وجنوب إيطاليا والبحر الأسود منذ أواسط القرن الثامن حتى أواسط القرن السادس ق.م، ومع نشوء المستوطنات ازدهرت التجارة، وعاد اليونانيون إلى الاتصال بالشرق.

أما من الناحية السياسية، فقد مرت اليونان بعد غزو «الدوريين» بسلسلةٍ من التغيرات، كان أولها سيادة النظام الملكي، ثم انتقلت السلطة تدريجًا إلى أيدي الأرستقراطية، التي أعقبتها فترة من حكم الملوك غير الوارثين، أو الطغاة Tyrants، وفي النهاية انتقلت السلطة السياسية إلى المواطنين، وهذا هو المعنى الحرفي للفظ «الديمقراطية». ومنذ ذلك الحين أخذ حكم الطغاة والديمقراطية يتناوبان، وكان في استطاعة الديمقراطية المباشرة أن تظل قائمة ما دام المواطنون جميعًا قادرين على التجمع في ساحة السوق، وهو نوع من الديمقراطية لم يعد له في عصرنا وجود إلا في بعض المقاطعات الصغيرة من سويسرا.
ولقد كان أقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس، وهو رجل لا نعرف عنه شيئًا مؤكدًا، بل إن البعض يعتقدون أنه كانت هناك مجموعة متعاقبة من الشعراء أُطلِق عليها هذا الاسم في وقتٍ لاحق. وعلى أية حال، فإن ملحمَتَي هوميروس العظيمتَين، الإلياذة والأوديسية، قد تم تأليفهما على ما يبدو حوالي عام ٨٠٠ق.م، أما حرب طروادة، التيتدور حولها الملحمتان، فقد نشبت بعد عام ١٢٠٠ق.م. بقليل، هكذا تُقدِّم الملحمتان وصفًا جاء بعد الغزو «الدوري Dorian» لحدثٍ وقع قبل الغزو الدوري، ومن هنا كانتا تنطويان على قدرٍ من عدم الاتساق.
وترتدُّ الملحمتان في صورتهما الراهنة إلى الصيغة المعدَّلة التي ترجع إلى عهد بيزستراتوس Peisistratus، الطاغية الأثينيِّ في القرن السادس ق.م، ولقد عمل هوميروس على تخفيف الكثير من وحشية العصر السابق، وإن كانت آثارٌ من هذه الوحشية قد ظلت باقية، بل إن الملحمتَين تعكسان الموقف العقلي لطبقة حاكمة متحررة؛ فالجثث فيها تُحرَق ولا تُدفَن، كما نعرف أنه كان يحدث في عصور الحضارة الميسينية (الكريتية). أما مجمع الآلهة في جبل أولمب فهو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية في هاتَين الملحمتَين تكاد تكون بلا فاعلية، على حين تظهر فيها بوضوح عاداتٌ راقية، مثل إكرام الضيوف الغرباء. وقد تتسرب من آنٍ لآخر عناصرُ أكثر بدائية، كالتضحية بالبشر على صورة قتل الأسرى في مواسم أو طقوس معينة، ولكن ذلك لا يحدث إلا في أوقاتٍ نادرةٍ جدًّا، أي إن لهجة هاتَين الملحمتَين تخلو — على وجه الإجمال — من التطرف.

والحق أن هذا يرمز، على نحوٍ ما، لتوتر الروح اليونانية؛ فهذه الروح يتنازعها عنصران؛ أحدهما: عقلي منظم، والآخر: غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة. وعند هوميروس يبدو هذا العنصر خاضعًا للسيطرة إلى حدٍّ بعيد، أما في العصور اللاحقة، وخاصةً مع تجدد الاتصالات بالشرق، فإنه يعود فيحتل مكان الصدارة، وهو يرتبط بعبادة ديونيزوس أو باخوس، الذي كان في الأصل واحدًا من آلهة تراقية، على أن هذا الضرب من الوحشية التي ترقى إلى مرتبة التقديس قد خضع لمؤثرات هذبته، وخففت من غُلَوائه بفضل شخصية أسطورية هي شخصية أورفيوس، الذي يُقال إن جماعة من عباد باخوس السكارى قد مزقوه إربًا. وتتجه التعاليم الأورفية إلى الزهد، وتؤكد النشوة العقلية، آملةً بذلك أن تصل إلى حالة من «الوجد» أو الاتحاد بالإله، وبذلك تكتسب معرفة صوفية يستحيل التوصُّل إليها على أي نحوٍ آخر. ولقد كان للعقيدة الأورفية — في صورتها الأرقى هذه — تأثير عميق في الفلسفة اليونانية، ويظهر هذا التأثير أولًا عند فيثاغورس، الذي يُوفِّق بينها وبين نزعته الصوفية الخاصة. ومن هذا المصدر الأول وجَدَت عناصرُ منها طريقَها إلى أفلاطون، والجانب الأكبر من الفلسفة اليونانية، بقدر ما كانت هذه الفلسفة بعيدة عن الطابع العلمي البحت.

غير أن العناصر الأكثر بدائية ظلت باقية حتى في التراث الأورفي، والواقع أنها هي مصدر التراجيديا اليونانية؛ ففي هذه التراجيديا نجد الكاتب يتعاطف دائمًا مع أولئك الذين تنتابهم عواطفُ وانفعالات عنيفة. ولقد كان أرسطو على حق حين وصف التراجيديا بأنها عملية تطهر Catharsis، أي تطهير للانفعالات.
هذا الطابع المزدوج للشخصية اليونانية هو الذي أتاح لها في النهاية أن تغير العالم بصورةٍ حاسمة. وقد أطلق «نيتشه» على هذَين العنصرَين اسم العنصر الأبولوني والديونيزي، وهما عنصران لم يكن في استطاعة أي واحدٍ منهما بمفرده أن يُفجِّر الطاقة العجيبة للحضارة اليونانية؛ ففي الشرق كان العنصر الصوفي يُسيطر بلا منازع، ولكن ما أنقذ اليونانيين من الوقوع في براثن هذا العنصر وحده، هو ظهور المدارس العلمية في أيونية. ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ، من جهةٍ أخرى، أن الدقة العلمية وحدها كانت — شأنها شأن التصوف — عاجزةً عن إحداث ثورة عقلية؛ إذ يحتاج الأمر إلى سعي متحمس ومنفعل وراء الحقيقة والجمال، وهذا بالضبط ما جلبه التأثير الأورفي. لقد كانت الفلسفة عند سقراط طريقًا للحياة، ولنذكر في هذا الصدد أن كلمة «النظرية» Theory في اليونانية كانت تعني في البداية شيئًا أشبه «بتأمل منظر طبيعي»، وبهذا المعنى استخدمها هيرودوت. وهكذا يمكن القول إن ما أعطى الإغريقَ القدماء مكانتَهم الفريدة في التاريخ هو ميلهم إلى حب الاستطلاع الذي لا يرتوي، والذي يَدفع المرء إلى القيام ببحثٍ مشبوب بالانفعال، يكون مع ذلك موضوعيًّا نزيهًا.
إن حضارة الغرب التي انبثقت من مصادر يونانية، مبنية على تراث فلسفي وعلمي بدأ في ملطية Miletus منذ ألفَين وخمسمائة عام، وهي في هذا تختلف عن سائر حضارات العالم الكبرى؛ فالمفهوم الرئيسي الذي يَسري عبر الفلسفة اليونانية بأسرها هو مفهوم «اللوجوس Logos»، وهو لفظ يدل على معانٍ كثيرة، من بينها «الكلام» و«النسبة أو المقياس». وهكذا توجد رابطة وثيقة بين اللغة الفلسفية والبحث العلمي، ويترتب على هذا الارتباط مذهب في الأخلاق يرى الخير في المعرفة، التي هي تطهير للانفعالات حصيلة البحث المجرد عن الهوى.

لقد قلنا من قبل إن طرح أسئلة عامة هو بداية الفلسفة والعلم. فما شكل هذه الأسئلة إذن؟ يمكن القول — بأوسعِ معنًى ممكن — إنها بحثٌ عن النظام فيما يبدو للعين غير المدرَّبة سلسلةٌ من الأحداث العشوائية المتخبطة. ومن المفيد أن نتنبه إلى الأصل الذي استمدت منه فكرة النظام لأول مرة؛ ففي رأي أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي، لا يعيش بمفرده، بل في مجتمع. ويقتضي ذلك، حتى على أكثر المستويات بدائية، نوعًا من التنظيم، ومن هذا المصدر استُمِدَّت فكرة النظام؛ فالنظام هو أولًا وقبل كل شيء نظام اجتماعي، وبطبيعة الحال فقد اكتُشِفَت في الطبيعة، منذ أقدم العصور، تغيرات منتظمة؛ كتعاقب الليل والنهار، ودورة الفصول، ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تُفهَم لأول مرة إلا في ضوء تفسير بشري ما؛ فالأجرام السماوية آلهة، وقُوى الطبيعة أرواح، صنَعها الإنسان على صورته.

وإن مشكلة البقاء لَتعني في المحل الأول أن على الإنسان أن يحاول تشكيلَ قُوى الطبيعة وفقًا لإرادته، ولكن قبل أن يتحقق ذلكم بطرقٍ نستطيع اليوم أن نصفها بأنها عِلمية، مارَس الإنسانُ السحر. والواقع أن الفكرة العامة الكامنة من وراء العلم والسحر كانت واحدة؛ ذلك لأن السحر إنما هو محاولة للحصول على نتائج خاصة على أساسِ طقوسٍ محددة بدقة. وهو مبنيٌّ على الاعتراف بمبدأ السببية، أي المبدأ القائل إنه إذا توافرت نفس الشروط المسبقة، ترتبت عليها نفس النتائج. وهكذا فإن السحر شكلٌ أوَّلي للعلم Proto-science. أما الدين فينبثق من مصدر آخر؛ ففيه تُبذَل محاولة للوصول إلى نتائج مضادة للتعاقب المنتظم أو معاكسة لها، فهو يمارس عمله في نطاق المعجزات، التي تنطوي ضِمنًا على إلغاء السببية، وهكذا فإن طريقتَي التفكير هاتَين مختلفتان كلَّ الاختلاف، برغم أننا كثيرًا ما نجدهما ممتزجتين في الفكر البدائي.

ومن خلال الأنشطة المشتركة التي تمارسها الجماعات سويًّا، تنمو وسيلة الاتصال التي نُطلِق عليها اسم اللغة، والتي تنحصر مهمتها الأساسية في أن تُتيح للناس العملَ من أجل هدف مشترك؛ فالفكرة الأساسية فيها هي فكرة الاتفاق، وهذه الفكرة ذاتها يمكن أن يُنظَر إليها بالمثل على أنها نقطة بداية المنطق. وهي تنشأ من أن الناس عند تبادل الاتصال بينهم يَصِلون آخرَ الأمر إلى اتفاق، حتى لو اكتفَوا بأن يتفقوا على الاختلاف، ولكن أجدادنا كانوا عندما يصلون إلى مثل هذا الطريق المسدود، يُسوُّون المسألة بممارسة القوة، فعندما تُجهِز على مُحدِّثك، يستحيل أن يُناقِضك. غير أنهم كانوا أحيانًا يلجَئون إلى بديلٍ آخر، هو متابعة المسألة بالمناقشة، إن كانت تقبل المتابعة على الإطلاق، وهذا هو طريق العلم والفلسفة.

وللقارئ أن يَحكم بنفسه على مدى تقدمنا في هذه الناحية منذ عصور ما قبل التاريخ.

إن فلسفة اليونانيين تكشف طوال مراحلها عن تأثير عدد من الثنائيات. وقد ظلت هذه الثنائيات، في صورةٍ أو أخرى، تُشكِّل حتى اليوم موضوعات يكتب عنها الفلاسفة أو يتناقشون حولها. وأساس هذه الثنائيات جميعًا التمييز بين الصواب والخطأ، أو الحقيقة والبطلان. ويرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، في الفكر اليوناني، ثنائيتا الخير والشر، والانسجام والتنافر أو النزاع، ثم تأتي بعد ذلك ثنائية المظهر والحقيقة، التي ما تزال حية إلى حدٍّ بعيدٍ في يومنا هذا. وإلى جانب هذه نجد مسألَتَي العقل والمادة، والحرية والضرورة. وهناك فضلًا عن ذلك مسائلُ كونية تتعلق بكون الأشياء واحدة أم كثيرة، بسيطة أم معقدة، وأخيرًا ثنائية الفوضى والنظام، والحد واللامحدود.

والحق إن الطريقة التي عالج بها الفلاسفة الأوائل هذه المشكلات هي طريقة ذات دلالة بالغة؛ فقد تنحاز إحدى المدارس إلى أحَد طرَفَي الثنائية، ثم تظهر بعدها مدرسة أخرى تُثير اعتراضاتٍ وتتخذ وجهة النظر المضادة. وفي النهاية تأتي مدرسة ثالثة، وتقوم بنوعٍ من الحل الوسط الذي يتجاوز الرأيَين الأصليَّين. والواقع أن هيجل قد توصل أولَ الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة «معركة الأرجوحة» هذه بين المذاهب المتنافسة لدى الفلاسفة السابقين لسقراط.

وهناك صلات متبادلة — على أنحاءٍ ما — بين كثيرٍ من هذه الثنائيات، على أننا سوف نتجاهل هدف الدقة التامة فنعزل كلًّا منها عن الأخريات حتى نكشف عن مختلف أنواع المشكلات التي كانت تعالجها الفلسفة؛ فثنائية الصواب والخطأ قد نُوقِشَت في المنطق. أما مسائل الخير والشر، والانسجام والتنافر، فتنتمي إلى الأخلاق. وأما مشكلات المظهر والحقيقة، والعقل والمادة، فيمكن النظرُ إليها على أنها هي المشكلات التقليدية لنظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا.

وأخيرًا فإن الثنائياتِ المتبقيةَ تنتمي — بدرجاتٍ متفاوتة — إلى مبحث الوجود (الأنطولوجيا). وبطبيعة الحال فليس في هذه التقسيمات فواصلُ قاطعة، بل إن الحدود الفاصلة بينها قد تُعْبَر، وربما كان عبور الحدود هذا من السمات المميزة للفلسفة اليونانية.

لقد ظهرت أول مدرسة للفلاسفة العلماء في ملطية Miletus، وهي مدينة كانت تقع على ساحل أيونية، وكانت مركزًا نشطًا للتبادل التجاري، توجد في جنوبها الشرقي قبرص وفينيقيا ومصر. وفي شمالها بحر إيجه والبحر الأسود، وإلى الغرب عبر بحر إيجه توجد أرض اليونان الأصلية وجزيرة كريت. ولقد كانت ملطية تتصل اتصالًا وثيقًا في الشرق بإقليم ليديا Lydia، وعن طريقه تتصل بإمبراطوريات ما بين النهرَين. ومن ليديا تعلم أهل ملطية سكَّ عملات ذهبية تُستخدَم نقودًا، وكان ميناء ملطية يزخر بأضرعة من بلادٍ متعددة، كما كانت مخازنه تمتلئ سلعًا من كافة أرجاء العالم. ومع وجود النقود بوصفها وسيلة عالمية لاختزان القيمة ومبادلة سلعة بأخرى، لم يكن من المستغرب أن نجد الفلاسفة الملطيين يطرحون أسئلة عن الأصل الذي جاءت منه الأشياء جميعًا.
ولقد نُسِب إلى طاليس Thales الملطي قولُه: «إن الأشياء جميعًا جاءت من الماء.» وعلى هذا النحو بدأت الفلسفة والعلم، ولقد كان طاليس في نظر التراث اليوناني واحدًا من الحكماء السبعة، ويَذكر لنا هيرودوت أنه تنبأ بكسوفٍ للشمس، وقد حسَب الفلكيون موعد هذا الكسوف فوجدوا أنه حدث في عام ٥٨٥ق.م؛ ومن ثَم فقد اعتُبِر ذلك التاريخ فترةَ نضوج هذا الفيلسوف، وليس من المرجَّح أن يكون طاليس قد كوَّن نظرتَه عن الكسوف الشمسي، بل لا بد أنه كان على دراية بالسِّجلات البابلية المتعلقة بهذه الظاهرة، ومن ثَم فقد عرف متى يبحث عن الكسوف، ومن حسن الحظ أن ذلك الكسوف بالذات كان من الممكن رؤيته في ملطية؛ مما ساعد على تحديد عصر طاليس بدقة، كما ساعد بلا شك على ذيوع شهرته. وبالمثل فإن من المشكوك فيه جدًّا أن يكون قد تمكن من أن يُثبِت هندسيًّا نظريات تطابق المثلثات، ولكنه تمكن بلا شك من تطبيق القاعدة العملية التي كان يستخدمها المصريون القدماء في قياس ارتفاع الهرم لكي يهتدي بواسطتها إلى المسافة التي تبعد بها السفن في البحر، ومسافة الأشياء الأخرى التي يستحيل الوصول إليها. وهكذا كانت لديه فكرة عن إمكان تطبيق القواعد الهندسية على نطاقٍ عام، وفكرة التعميم هذه فكرة يونانية أصيلة.

كذلك نُسِب إلى طاليس قوله إن للمغناطيس نفسًا؛ لأنه يُحرِّك الحديد، أما عبارته الأخرى القائلة إن الأشياء كلها مليئة بالآلهة، فليست مؤكدة بالقدر نفسه، ومن الجائز أنها نُسِبت إليه على أساس عبارته السابقة، ولكن يبدو أنها تجعل العبارة الأولى غيرَ ذات موضوع؛ لأن القول بأن للمغناطيس نفسًا لا يكون له معنًى إلا إذا لم تكن للأشياء الأخرى نفوس.

ولقد ارتبط اسم طاليس بقصصٍ كثيرة، ربما كان بعضها صحيحًا؛ فقد قيل إنه عندما وُوجِه بتحدٍّ في إحدى المناسبات، أبدى عبقريته العلمية بالتحكم في سوق زيت الزيتون؛ ذلك لأن معرفته بالأرصاد الجوية قد دلَّته مقدمًا على أن المحصول سيكون وفيرًا، فاستأجر كل المعاصر التي أمكنه أن يضع يده عليها، وعندما حان الوقت أجَّرها بالسعر الذي يريد، فربح بذلك مالًا وفيرًا، وأثبت للساخرين أن الفلاسفة يُمكِنهم لو شاءوا أن يَكسبوا المال بوفرة.

على أن أهم آراء طاليس هو قوله إن العالم يتألف من الماء، وهي عبارة ليست مُسرِفة إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى، ولا هي مجرد نتاج للخيال المنفصِل عن المشاهدة، فقد تبين في عصرنا هذا أن الهيدروجين، الذي هو العنصر المولِّد للماء، هو العنصر الكيمائي الذي يمكن تخليق جميع العناصر الأخرى منه.١ والواقع أن الرأي القائل إن المادة كلها واحدة، هو فرض عِلمي جديرٌ بالاحترام. أما عن الملاحظة فإن وجود المرء قريبًا من البحر يُيسِّر عليه ملاحظةَ عَملية تبخُّر المياه بواسطة الشمس، وتجمع بخار الماء على السطح لكي تكون سحبًا تتحلَّل مرة أخرى على صورة أمطار. ووفقًا لهذا الرأي تكون الأرض نوعًا من الماء المركز، صحيحٌ أن تفاصيل هذا قد تبدو عندئذٍ مسرفة في الخيال، غير أن من الإنجازات التي تدعو إلى الإعجاب أن يكتشف مُفكِّر أن هناك مادةً تظل على ما هي عليه برغم اختلاف الحالات التي تتجمَّع بها.

ولقد كان الفيلسوف الملطي التالي هو أنكسيمندر، الذي يبدو أنه وُلِد حوالي عام ٦١٠ق.م. ولقد كان مثل طاليس مخترعًا ومتمرسًا في المسائل العلمية؛ فهو أول راسمٍ للخرائط، وهو زعيم مستوطنة من المستوطنات الملطية على ساحل البحر الأسود.

وقد انتقد أنكسيمندر نظرية طاليس الكونية، فما الداعي إلى اختيار الماء؟ إن المادة الأصلية التي صُنِعَت منها الأشياء لا يمكن أن تكون واحدة من الصور المحددة لهذه المادة؛ ومِن ثَم ينبغي أن تكون شيئًا مختلفًا عن هذه كلها، شيئًا أساسيًّا أسبقَ منها؛ ذلك لأن أشكال المادة المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع، فيتنازع الحارُّ ضد البارد، والرطبُ ضد الجاف؛ فهي تتعدى دوامًا كلٌّ على الأخرى، أو ترتكب «ظلمًا» بالمعنى اليوناني الذي تدل فيه هذه الكلمة على اختلال التوازن. ولو كان أيٌّ من هذه الأشكال هو المادةَ الأساسية لتغلَّب على الأشكال الأخرى منذ وقتٍ طويل. إن المادة الأصلية هي ما يُسمِّيه أرسطو بالعلة المادية، وقد أطلق عليها أنكسيمندر اسم «اللامحدود»، أي إنها تجمُّع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات، ومن هذا الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخِرَ الأمر.

ولقد كانت الأرض في رأي أنكسيمندر أسطوانة تطفو بلا قيود، نوجد نحن على وجه أحد طرَفَيها، وهو يفترض فضلًا عن ذلك أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى. ولفظ «عالم» يدل هنا على ما نُسميه الآن باسم «المجرة». وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركةٌ محورية تجذب الأرضَ نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطةٍ واحدة، ويُمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يَظهر منه إلا الصمام. وبطبيعة الحال فمن الواجب أن نتذكر أن الهواء كان في نظر اليونانيين في ذلك الحين قادرًا على حجب الأشياء وإخفائها.

أما رأي أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان «حديثًا» إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترة طويلة من الرعاية والحماية جعلَته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائمًا على ما هو عليه الآن، لما تمكن من البقاء. وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفًا، أي لا بد أنه تطور من حيوان يستطيع أن يرعى نفسه في وقتٍ أسرع. وهذه حجة في الإثبات يُطلَق عليها اسم «برهان الخلف Reduction ad absurdum» وفيها تستدل من افتراضٍ معين على نتيجة واضحة البطلان، وهي في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورةً رفضُ ذلك الافتراض. ولو كانت هذه الحجة سليمة؛ أعني لو أن الإنسان كان دائمًا على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء — وهي نتيجة أعتقد أنها صحيحة — لأصبح في استطاعة هذه الحجة، دون أي برهانٍ آخر، أن تثبت أن هناك بالفعل نوعًا من العملية التطورية المستمرة.

غير أن أنكسيمندر لم يكتف بهذه الحجة، بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيَّد ذلك بملاحظاتٍ عن حفرياتٍ باقية، كما أيده بملاحظة الطريقة التي تُطعِم بها أسماكُ القرش صغارها. وبناءً على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك. أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يُبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألة لم يَقُم عليها دليل!

أما ثالث المفكرين المشاهير في ملطية فهو أناكسيمنيس Anascimenes الذي لا نعرف شيئًا محددًا عن الزمن الذي عاش فيه، سوى أنه كان آخرَ الفلاسفة الثلاثة زمنيًّا. وتُعَد نظرياته في نواحٍ معينة خطوةً إلى الوراء بالقياس إلى أنكسيمندر، ولكن على الرغم من أن تفكيره كان أقلَّ ميلًا إلى المغامرة، فإن آراءه في مجملها كانت أقدرَ على الاستمرار. إنه يرى مثل أنكسيمندر أن هناك مادة أساسية، غير أن هذه في نظره مادة محددة، هي الهواء؛ فأشكال المادة المختلفة التي نراها حولنا تنشأ من الهواء عن طريق عمليتَي التكاثف والتخلخل. ولما كانت هذه طريقة أخرى للتعبير عن الفكرة القائلة إن جميع الاختلافات إنما هي اختلافات في الكم أو المقدار، فلا بأس على الإطلاق عندئذٍ من أن نقول بمادة واحدة تكون هي الأساس. وهو يرى أن الهواء هو قوام النفس، وهو يحفظ للعالم حياته مثلما يحفظ لنا حياتنا، وهذا رأي سيقول به الفيثاغوريون فيما بعد. أما في نظريته الكونية فقد سار أناكسيمنيس في الطريق الخطأ. ومن حسن الحظ أن الفيثاغوريين قد اقتفَوا أثر أنكسيمندر في هذه الناحية، ولكنهم في بقية النواحي كانوا أميلَ إلى التأثر بأناكسيمنيس، وهو بمعنًى ما أمرٌ له ما يُبرره؛ فقد كان أناكسيمنيس آخرَ ممثِّل لهذه المدرسة، وهو الذي حمل تراثها كله.

وفضلًا عن ذلك، فإن نظريته في التكاثف والتخلخل كانت هي التي ختمت بحق نظرة المدرسة الملطية إلى العالم.

لقد كان فلاسفة ملطية رجالًا ذوي مزاج يختلف عن أولئك المتخصصين الذين نُطلِق عليهم الفلاسفة في أيامنا هذه؛ فقد كانوا منهمكين في الشئون العمَلية للمدينة، وكانوا قادرين على مواجهة كافة الاحتمالات. ولقد رأى البعض أن نظريات أنكسيمندر قد عرَضَت في ثنايا دراسة عن الجغرافيا بالمعنى الواسع، وكانت العناوين الباقية لدينا من دراسات أصبحت الآن مفقودة تعني «تفسيرات للطبيعة المادية للأشياء». وهكذا كان نطاق اهتمامهم واسعًا، وإن لم تكن طريقة المعالجة على الأرجح شديدة العمق. ولا شك أن احتجاج الفيلسوف هرقليطس فيما بعد إنما كان منصبًّا على هذا النوع من «الإلمام من كل شيءٍ بطرَف».

غير أن الأسئلة التي تُطرَح، في الفلسفة، تَفوق في أهميتها الإجابات التي تُقدَّم، ومن هذه الزاوية كانت مدرسة ملطية جديرة بالشهرة التي أحرزَتها. كذلك لم يكن المستغرَب أن تكون أيونية، التي أنجبَت هوميروس، هي أيضًا مهدَ العلم والفلسفة؛ ذلك لأن الدين عند هوميروس كما رأينا كان ذا طابع أوليمبي، وظل محتفظًا بهذا الطابع. وفي مثل هذا المجتمع الذي لا تثقل عليه النزعة الصوفية كثيرًا، تتوافر للنظر العلمي فرصة أكبر، وعلى حين أن كثيرًا من مدارس الفلسفة اليونانية التالية كان لها من الصوفية نصيب، فينبغي أن نذكر دائمًا أنها كانت جميعًا مَدينة بالفضل للملطيين.

إن المدرسة الملطية لم تكن مقيدة بأية حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة السابقين لسقراط أنهم كانوا جميعًا على خلاف مع التراث الديني السائد. وهذا يصدق حتى على مدارس كالفيثاغورية، التي لم تكن في ذاتها معارضة للدين. ولقد كانت الممارسات الدينية لليونانيين ككلٍّ مرتبطةً بالأعراف السائدة في «دول المدينة» المختلفة، ومن هنا فإن الفلاسفة عندما كانوا يسيرون في طرق خاصة بهم، لم يكن من المستغرب أن يدخلوا في نزاعٍ مع عقائد الدولة في مدنهم، وهو مصير يتعرض له جميع أصحاب العقول المستقلة في كل زمانٍ ومكان.

وعلى مسافة قريبة من ساحل أيونية تقع جزيرة ساموس Samos، ولكن على الرغم من القرب المكاني، فإن تقاليد الجزر كانت في نواحٍ هامة أكثرَ محافظة من تقاليد المدن الواقعة في قلب البلاد ذاتها؛ ففي الجزر يبدو أن بقايا حضارة بحر إيجه الغابرة ظلت تمارس تأثيرها طويلًا، وهذا فارق ينبغي أن نأخذه في حسباننا في بحوثنا التالية. فعلى حين أن أيونية التي أنجبت هوميروس ومدرسة ملطية القديمة لم تكن على وجه الإجمال ميالة إلى أن تأخذ الدين بجدية، فإن عالم الجزر كان منذ البداية أكثر استعدادًا لتقبل التأثير الأورفي الذي انطبع على ما تبقى من معتقدات حضارات كريت وبحر إيجه.

لقد كانت الديانة الأولمبية مسألة قومية لا تنطوي على عقائد دينية راسخة بالمعنى الدقيق، أما الأورفية فكانت لها نصوصها المقدسة، وكانت تربط بين معتنقيها برباطٍ من المعتقدات المشتركة، وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة طريقًا للحياة، وموقفًا منها بالمعنى الذي سيعتنقه سقراط فيما بعد.

ولقد كان رائد هذه الروح الجديدة في الفلسفة هو فيثاغورس، الذي كان مواطنًا لجزيرة ساموس، ونحن لا نعرف الكثير عن تاريخ حياته وتفاصيلها، ولكن يقال إن فترة ازدهاره كانت حوالي عام ٥٣٢ق.م، أيام حكم الطاغية بوليكراتيس Polycrates. ولقد كانت مدينة ساموس منافسة لملطية وغيرها من مدن الأرض اليونانية الأصلية التي سقطت في أيدي الغزاة الفرس بعد أن استولوا على سارديس Saradis في عام ٥٤٤ق.م، وكان بوليكراتيس لوقتٍ ما حليفًا وثيقًا لأمازيس Amasis، ملك مصر، وهذا هو بالطبع أصل الرواية القائلة إن فيثاغورس سافر إلى مصر، ومنها استمد معارفه الرياضية، وأيًّا كان الأمر فإن فيثاغورس قد رحل عن ساموس؛ لأنه لم يستطع أن يتحمل حكم بوليكراتيس الاستبدادي، واستقر في كروتون Croton، وهي مدينة يونانية في جنوب إيطاليا، حيث أنشأ الجماعة التي تُنسَب إليه، وقد عاش في كروتون عشرين عامًا حتى سنة ٥١٠ق.م، وبعد أن قامت ثورة ضد مدرسته انسحب إلى ميتابونتيون Metapontion، حيث عاش حتى وفاته.

لقد كانت الفلسفة عند مفكري ملطية — كما رأينا من قبل — مسألة عَملية إلى حدٍّ بعيد، وكان في استطاعة الفلاسفة أن يكونوا رجال عمل، بل كانوا بالفعل كذلك. أما في التراث الفيثاغوري فقد برزت وجهة النظر المضادة، فهنا أصبحت الفلسفة تأملًا منعزلًا للعالم، ويرتبط ذلك بالتأثير الأورفي الذي يتجسد في النظرة الفيثاغورية إلى الحياة؛ ففي هذه النظرة يتوزع الناس بين ثلاث شعاب في الحياة، وكما أن هناك ثلاثةَ أنواع من الناس يحضرون الألعاب الأولمبية، فكذلك توجد في المجتمع ثلاثة أنواع من الناس، أدناها هم أولئك الذين يبيعون ويشترون، ويليهما المشتركون في المسابقات، وأخيرًا المتفرجون الذين يحضرون لكي يشاهدوا، أي «الناظرون» بالمعنى الحرفي (المستمَد من النظر).

هؤلاء الآخرون هم الذين يُعادِلون الفلاسفة. وطريقة الحياة الفلسفية هي الوحيدة التي تحمل قدرًا من الأمل في التغلب على تقلبات الحياة، وتُتيح لنا الخلاص من دوامة الميلاد من جديد؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يؤمنون بأن الروح تمر بسلسلة متعاقبة من حالات التناسخ.

هذا الجانب من التراث كان يرتبط بعددٍ من المحرمات والنواهي البدائية، أما التقسيم الثلاثي لأنماط الحياة، فسوف نجده مرة أخرى في جمهورية أفلاطون، بل سنجد فيها بالفعل قدرًا كبيرًا من التعاليم الفيثاغورية، وآراء المدارس السابقة لسقراط؛ ذلك لأن من الممكن القولَ إن أفلاطون يقدم إلينا مركبًا جامعًا للصراعات المذهبية بين الفلاسفة الأوائل.

ومن جهةٍ أخرى، فإن المدرسة الفيثاغورية قد أدت إلى ظهور تراث علمي، ورياضي على وجه التخصيص؛ إذ كان علماء الرياضة هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية، وعلى الرغم من العنصر الصوفي الناشئ عن حركة الأحياء الأورفية، فإن هذا الجانب العلمي للمدرسة لم يَلحقه أي تشويه من جراء هذه الأفكار الدينية الأورفية، ولهذا يصبح العلم نفسه عندهما مصطبغًا بالصبغة الدينية، على الرغم من أن اتخاذ الأسلوب العلمي في الحياة هو ذاته أمر ذو مغزًى ديني.

ولقد كانت الموسيقى من العوامل الهامة في الجانب التطهيري لأسلوب الحياة هذا، ومن الجائز جدًّا أن اهتمام الفيثاغوريين بالموسيقى كان راجعًا إلى تأثيرها التطهيري هذا. وأيًّا كان الأمر فقد اكتشف فيثاغورس العلاقات العددية البسيطة لِما نُسمِّيه الآن بالمسافات الموسيقية. فالوتر المشدود يُصدر الصوت الثامن (الأوكتاف) إذا قُسِم طوله إلى النصف، وبالمثل فإذا أُنقِص الطول إلى ثلاثة أرباع، حصلنا على الصوت الرابع، وإذا أُنقِص إلى الثلثَين حصلنا على الخامس. والصوتان الرابع والخامس معًا يصنعان الثامن (الأوكتاف)، أي × = . إن هذه المسافات تُناظر النِّسبَ القائمة في العلاقة التوافقية ٢: ٤ / ٣: ١. ولقد حاول البعض أن يربط بين المسافات الثلاث للوتر المشدود وبين طرق الحياة الثلاثة. ومع أن هذا لا بد أن يظل ضربًا من التخمين، فمن المؤكد أن الوتر المشدود سيلعب منذ الآن دورًا أساسيًّا في الفكر الفلسفي اليوناني؛ ذلك لأن فكرة الانسجام، بمعنى التوازن، والتوفيق بين الأضداد؛ كالمرتفع والمنخفض، والجمع بينها عن طريق الضبط الصحيح للنغم، ومفهوم الوسط أو الطريق الأوسط في الأخلاق، ونظرية الأمزجة الأربعة، كل هذه ترجع في النهاية إلى الاكتشاف الذي توصل إليه فيثاغورس، وسوف نجد الكثير من هذه الأفكار عند أفلاطون.

ومن المحتمل جدًّا أن الكشوف في ميدان الموسيقى هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الأشياء كلها أعداد، بحيث يتحتم علينا، من أجل فهم العالم المحيط بنا، أن نهتديَ إلى العدد في الأشياء. وما أن ندرك البناء العددي، حتى تتحقق لنا السيطرة على العالم، وتلك فكرة عظيمة الأهمية، وعلى حين أن دلالتها قد ضاعت مؤقتًا بعد العصر الهلينستي، فقد عاد الاعتراف بها مرةً أخرى بعد أن أدت حركة إحياء المعرفة إلى بعث اهتمام متجدد بالمصادر القديمة، وقد أصبحَت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. كذلك فإننا نجد لدى فيثاغورس لأول مرة اهتمامًا بالرياضيات لا ينبعث أساسًا من الاحتياجات العملية، صحيح أنه كانت لدى المصريين القدماء بعض المعارف الرياضية، ولكن هذه المعارف لم تتجاوز ما كانوا يحتاجون إليه لبناء أهراماتهم أو لقياس مساحة حقولهم. أما اليونانيون فهم الذين بدَءوا بدراسة هذه المسائل «حبًّا في البحث ذاته» على حد تعبير هيرودوت، وكان فيثاغورس واحدًا من أسبقهم في هذا الميدان.

وقد استحدث فيثاغورس طريقة لتصوير الأعداد بوصفها تنظيمات من النقط أو الحصى، وتلك في الواقع طريقة في الحساب ظلت باقية، بصورةٍ أو بأخرى، وقتًا طويلًا من بعده، بل إن الكلمة اللاتينية التي تدل على عملية الحساب Calculation تعني «التعامل مع الحصى».٢
وترتبط بذلك دراسة سلاسل حسابية معينة؛ فإذا رتبنا صفوفًا من الحصى، بحيث يحتوي كل صف منها على واحدة تَزيد عما قبله، بادئين بالواحد؛ عندئذٍ نحصل على عدد «مثلث». وقد أوليت أهمية خاصة إلى هذا العدد المثلث Tetraktys الذي يتألف من أربعة صفوف، والذي يثبت أن ١ + ٢ + ٣ + ٤ = ١٠، وبالمثل فإن مجموع الأعداد الفردية المتعاقبة يساوي عددًا «مربعًا»، ومجموع الأعداد الزوجية المتعاقبة يُساوي عددًا «مستطيلًا».
وفي الهندسة اكتشف فيثاغورس النظرية المشهورة القائلة إن المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربَّعَي الضلعَين الآخرَين، وإن لم نكن نعرف طبيعة البرهان الذي أثبتها به، وهنا نجد مثلًا آخر لمنهج التعميم والبرهان، على عكس القواعد العَملية المكتسَبة بالخبرة. على أن اكتشاف هذه النظرية قد أدى إلى إشكال هائل في المدرسة الفيثاغورية؛ ذلك لأن من نتائجها أن المربع المقام على وتر المربع يساوي ضعف المربع المقام على ضلعه، ولكن أي عدد «مربع» لا يمكن تقسيمه إلى عددَين مربعَين متساويَين؛ ولذا فإن المشكلة لا يمكن حلها عن طريق ما نُسميه الآن بالأعداد الجذرية Rational. فالوتر لا يتناسب قياسًا مع الضلع، ولا بد لحل هذه المشكلة من نظرية في الأعداد الصماء Irrational، وهي النظرية التي وضعها فيثاغوريون متأخرون. ومن الواضح أن اسم «الصماء» في هذا السياق يرجع إلى هذا الإشكال الرياضي المبكر. وتقول إحدى الروايات إن واحدًا من أعضاء الجماعة الفيثاغورية قد أُغرِق في البحر لأنه باح بهذا السر.
ولقد ارتكز فيثاغورس في نظريته عن العالم على تعاليم الفلاسفة الملطيين مباشرة، وجمع بينها وبين نظرياته الخاصة في الأعداد. فالأعداد في الترتيبات التي ذكرناها من قبل تُسمَّى «أحجار الحدود»، وهي تسمية ترجع قطعًا إلى الأعداد، إن هذا المفهوم كان مرتبطًا بقياس الحقول، أهمية «الهندسة» قياس الأرض geometry بالمعنى الحرفي للكلمة؛ ففي رأي فيثاغورس أن الهواء اللامحدود هو ما يحافظ على تميز الوحدات، والوحدات هي التي تجعل اللامحدود قابلًا للقياس. وفضلًا عن ذلك فاللامحدود هو ذاته الظلمة، والحد هو النار، وهو تصور نابع، كما هو واضح من رؤية السماء والنجوم. وقد اعتقد فيثاغورس شأنه شأن الملطيين أن هناك عوالمَ كثيرة، وإن كان من غير المحتمل، تبعًا لنظرته إلى العدد، أن يكون قد وصفها بأنها عوالمُ لا تُعَد ولا تُحصى. وقد توسع فيثاغورس في فكرة أنكسيمندر، فذهب إلى أن الأرض كرة، وتخلى عن نظرية الدوامة التي قال بها الملطيون. غير أن القول بنظرية في مركزية الشمس كان لا بد أن ينتظر مجيء فيلسوف لاحق، كان بدوره من سكان ساموس.
ولقد كان اهتمام الفيثاغوريين بالرياضيات هو الذي أدى إلى ظهور نظرية سنصادفها فيما بعد، هي نظرية المثل أو نظرية الكليات universals. فحين يبرهن الرياضي على نظرية خاصة بالمثلثات، فإنه لا يتحدث عن أي شكل محدد مرسوم في مكانٍ ما، وإنما يتحدث عن شيءٍ يراه بعين العقل، ومن هنا ينشأ التمييز بين المعقول والمحسوس، وفضلًا عن ذلك فإن النظرية التي يتم إثباتها تكون صحيحة بلا قيد أو شرط، وتظل صحيحة في كل زمان. وحسبُنا أن نسير خطوة واحدة بعد ذلك لنصل إلى الرأي القائل إن المعقول وحده هو الحقيقي والكامل والأزلي، على حين أن المحسوس ظاهري، ناقص، زائل، فتلك إذن نتائجُ مباشرة للفيثاغورية ظلت مسيطرة على الفكر الفلسفي، فضلًا عن الفكر اللاهوتي، منذ ذلك الحين.

ولنذكر أيضًا أن الإله الرئيسي عند الفيثاغوريين كان أبولو، على الرغم مما في معتقداتهم من عناصر أورفية، ولقد كان التيار الأبولوني هو الذي ميز اللاهوت العقلاني في أوروبا من صوفية الشرق.

وهكذا تزعزعت أركان العقيدة الأولمبية القديمة تحت تأثير الفيثاغوريين الأوائل، وظهرت محلها نظرة دينية جديدة، على أن زينوفان Xenophanes قد شن هجومًا أعنف بكثير على الآلهة التقليدية. وقد وُلِد زينوفان هذا على الأرجح في عام ٥٦٥ق.م. في أيونية، وهرب إلى صقلية عندما جاء الغزو الفارسي في عام ٥٤٥ق.م، ويبدو أن هدفه الرئيسي كان استئصال مجموعة آلهة الأوليمبي التي اتخذ كلٌّ منها صورة الإنسان، كما أنه عارض النزعة الصوفية التي سادت حركة الأحياء الأورفية، وتهكم على فيثاغورس.
أما الشخصية التالية في ذلك التراث الفلسفي فهي شخصية هرقليطس Heracleitus الذي كان ينتمي إلى مدينة إفسوس Ephesus، والذي كانت فترة ازدهاره هي نهاية القرن السادس. ونحن لا نكاد نعرف عن حياته شيئًا باستثناء انتمائه إلى أسرة أرستقراطية. غير أن بعض الشذرات من كتاباته ظلت باقية، ومنها ندرك بسهولة لماذا لُقِّب بلَقَب «الغامض»؛ ففي أقواله نغمة الكلمات التنبئية، وشذرات مقتضبة رشيقة، حافلة بالمجازاة الحية. فهو يقول مثلًا عن دورة الحياة والموت: «إن الزمن طفل يلعب النرد، والقوة الملكية إنما يتحكم فيها طفل.» وهو في هجماته المترفعة على الجهلاء يُطلِق العِنان لازدرائه في عباراتٍ لاذعة: «ما أشبه الحمقى حين يسمعون بالصم! وعليهم يَصدُق المثل القائل إنهم غائبون في حضورهم.» كما يقول: «الأعين والآذان شهود مُضلِّلون للناس إن كانت لهم نفوس لا تفهم لغتها».

ولكي يذكرنا بأن الإنجازات القيمة تُكلِّف عملًا وجهدًا جمًّا؛ يقول: «من يبحثون عن الذهب يحفرون من التراب الكثير، ولا يجدون إلا القليل.» أما أولئك الذين يجدون في ذلك صعوبة، فإنه يرفض موقفهم قائلًا: «إن الحمير تُفضِّل التِّبن على التِّبْر.» ولكن حتى على الرغم من موقفه هذا، فإنه يستبق فكرةً عبَّر عنها سقراط فيما بعد بكلمة مشهورة، هي الفكرة القائلة إننا لا ينبغي أن نُفرِط في التباهي بما نعلم «أن الإنسان أمام الله وليد رضيع، كالطفل في عين الرجل.»

ولو تأمل المرء آراء هرقليطس عن كثب لاستطاع فهمها على نحوٍ أوضح؛ فعلى الرغم من أن هرقليطس لم تكن لديه الميول العملية التي اتسم بها الأيونيون السابقون له، فإن جذور تفكيره النظري كانت ترجع إلى تعاليم الأيونيين وفيثاغورس معًا؛ فقد سبق أن قال أنكسيمندر إن الأضداد المتنافسة تعود إلى اللامحدود، كيما تُكفِّر عن تعدياتها كلٍّ على الآخر، ومن جهةٍ أخرى قال فيثاغورس بفكرة الانسجام. ومن هذَين العنصرَين وضع هرقليطس نظرية جديدة، هي أهم كشفٍ وإسهام له في الفلسفة، وهي النظرية القائلة إن قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الأضداد؛ فمِن وراء صراع الأضداد، وفقًا لمقاديرَ محسوبة، يَكمُن انسجامٌ خفي أو تناغم، هو جوهر العالم.

على أن هذه الفكرة الكونية لا تظهر للعيان في كثيرٍ من الأحيان؛ لأن الطبيعة تُحب الاختفاء، بل يبدو أن رأيه هو أن التناغم ينبغي، بمعنًى ما، أن يكون شيئًا لا تُدرِكه العين على الفور؛ «فالتناغم الخفي أفضل من الواضح»، بل إن الناس كثيرًا ما يتغافلون عن وجود الانسجام، «إن الناس لا يعرفون كيف يتفق ما هو متباين مع ذاته، إنه تناغم لتوترات متضادة، كتناغم القوس والقيثارة.»

وهكذا، فإن الخلاف والصراع هو المبدأ المحرك الذي يحفظ للعالم حياته؛ «لقد كان هوميروس على خطأ حين قال: ليت الصراع يختفي من بين الآلهة والناس! إذ إنه لم يدرك أنه كان يدعو بذلك لدمار العالم، فلو استُجيب لدعائه هذا، لفَنِيَت الأشياء جميعًا.» وبهذا المعنى المنطقي، لا بالمعنى العسكري، ينبغي أن نفهم عبارته القائلة إن «الحرب أبو الأشياء جميعًا.»٣ هذا الرأي يحتاج إلى مادة أساسية جديدة تنطوي على تأكيد لأهمية الفاعلية والنشاط. وهكذا سار هرقليطس في طريق الفلاسفة الملطيين من حيث المبدأ، لا من حيث التفاصيل، فاختار النار؛ «الأشياء جميعًا تتبادل مع النار، والنار مع الأشياء جميعًا، كما تُتبادَل السلع مع الذهب، والذهب مع السلع.» هذا التشبيه التِّجاري يكشف عن مَغزى النظرية؛ فلهَبُ المصباح الزيتي يبدو كما لو كان شيئًا ثابتًا، مع أن الذي يحدث طَوال الوقت هو أن الزيت يُستهلَك بالتدريج، والوقود يتحول إلى لهب، والسناج يترسب من احتراقه، وهكذا فإن كل ما يحدث في العالم إنما هو عملية تنطوي على مبادلات من هذا النوع، ولا شيء يظل على حاله أبدًا، «إنك لا تستطيع أبدًا أن تنزل في النهر نفسِه مرتَين؛ لأن مياهًا جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع.» ومن أجل هذا النوع من التشبيه نَسب الكُتَّاب المتأخرون إلى هرقليطس تلك الكلمةَ المشهورة: «كل الأشياء في صيرورة.» كما كان سقراط يُلقِّب أتباع هرقليطس بلقَب «المتدفقين».

ومن المهم أن نضع العبارة السابقة في مقابل شذرة أخرى لهرقليطس تقول: «إننا ننزل في النهر نفسه، ولا ننزل فيه، إننا نكون ولا نكون»؛ إذ يبدو للوهلة الأولى أن من المستحيل التوفيقَ بين هذه العبارة الأخيرة وبين سابقتها، غير أن القول الأخير ينتمي إلى جانبٍ آخر من النظرية؛ فمِفتاحها يكمن في نصفها الثاني؛ إذ إن عبارة: «إننا نكون ولا نكون» إنما هي تعبير غامض عن القول إن أساس وحدة وجودها هو التغير الدائم، أو إذا استخدمنا اللغة التي اصطنعها أفلاطون فيما بعد، إن وجودنا صيرورة دائمة. وكذلك الحال في مثال النهر؛ فإذا نزلتُ اليوم في نهر التيمز، ثم نزلت مرةً أخرى غدًا، فإنني أنزل في النهر نفسه، ومع ذلك فإن النهر الذي أنزل فيه ليس نفس النهر. وأعتقد أن النقطة التي أرمي إليها هي من الوضوح بحيث لا يحتاج القارئ إلى أن يمارس التجرِبة بنفسه. وهناك عبارة أخرى تتضمن هذا المعنى نفسَه، وهي «الطريق الصاعد هو نفسه الطريق الهابط»، فهذا شيء لاحظناه من قبل في حالة اللهب، إذ إن الزيت يصعد، والسناج يهبط، وكلاهما جزء من عملية الاحتراق، ومن الجائز جدًّا أن العبارة ينبغي أن تُؤخَذ أولًا وقبل كل شيء بمعناها الحرفي، فالطريق المنحدر يتجه إلى أعلى وإلى أسفل، تبعًا للاتجاه الذي تسير فيه، وهنا تُذكِّرنا نظرية الأضداد عند هرقليطس بأن السمات التي تبدو متعارضة هي في واقع الأمر أجزاء أساسية من موقفٍ ما. ولقد كان من أقوى العبارات التي استخدمها هرقليطس للتعبير عن هذه الفكرة قوله: «الخير والشر واحد»، وهي عبارة لا تعني بالطبع أن الخير والشر هما نفس الشيء، بل تعني عكس ذلك؛ فكما أن المرء لا يستطيع تصور طريق صاعد بدون طريق هابط، فكذلك لا يستطيع المرء أن يفهم فكرة الخير من غير أن يفهم فكرة الشر في الوقت ذاته. والواقع أنك لو أزلت الطريق الصاعد، بإزالة المنحدر مثلًا، فإنك بذلك تقضي أيضًا على الطريق الهابط، وكذلك الحال في الخير والشر.

وإلى هذا الحد يمكن القول إن النظرية القائلة إن الأشياء كلها في صيرورة ليست جديدة حقًّا؛ فقد كانت لأنكسيمندر آراء مماثلة تمامًا، ولكن تفسير هرقليطس للسبب الذي من أجله تظل الأشياء كلها، رغم هذه الصيرورة على ما هي عليه، يمثل تقدمًا بالقياس إلى الفلاسفة الملطيين. ولقد استُمِدت الفكرة الرئيسية عن التناسب من فيثاغورس، فعن طريق المحافظة على النسب الصحيحة يعمل التغير الدائم على الاحتفاظ بالأشياء كما هي. وهذا يصدق على الإنسان مثلما يصدق على العالم؛ ففي الطبيعة تتحول الأشياء وفقًا لنسب، وكذلك الحال في النفس البشرية التي تحدث فيها تحولات بين الجافِّ والرطب. فالنفس الرطبة تتدهور وتتعرض لخطر الانحلال إن لم تمنع النارُ ذلك، وهي ملاحظة لا تخلو من الصواب حين يكون الأمر متعلقًا بإنسان لا يكف عن الشراب. ومن جهةٍ أخرى فإن «النفس الجافة هي الأحكَم والأفضل»، وإن كان من الواجب ألا نفرط في جانب الفضيلة بدوره؛ لأن النار الزائدة قد تقتل النفس كما تقتلها الرطوبة الجامحة. ومع ذلك يبدو أن الفناء بالنار قد اعتبر نهاية أعظم، ما دامت «الميتات الأعظم تنال حظوظًا أعظم»؛ وعلة ذلك هي — على الأرجح — أن النار هي الجوهر الأزلي. «هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم يصنعه واحد من الآلهة أو البشر، وإنما كان منذ الأزل، وهو الآن، وسيكون دائمًا نارًا لا تخبو أبدًا، تشتغل بقدر، وتنطفئ بقدر».

أما عن عمليات الطبيعة، فإنها كلها تجري وفقًا للنسب الخاصة بها، فليس من الواجب أن ننظر إلى الصراع بين الأضداد على أنه ظلم، كما اعتقد أنكسيمندر، بل إن الظلم يكمن في تجاهل النسب، «إن الشمس لن تتجاوز نسبها»، ولو فعلت للاحقَتْها أيدي ربات العدالة (إرينييس Erinyes)، غير أن النسب ليست جامدة تمامًا، وكل ما هو مطلوب هو ألا تتجاوز حدودها؛ فمن الممكن أن تتذبذب في حدود معينة، وهذا ما يُعلِّل تلك الظواهر الدورية؛ كالليل والنهار في الطبيعة، واليقظة والنوم في الإنسان، وما شابهها من التغيرات. وقد يجد المرء لديه ميلًا إلى أن يربط فكرة النسب المتذبذبة بفكرة تكوين الفيثاغوريين للأعداد الصماء عن طريق كسور مستمرة تتألف من تقريبات متعاقبة تزيد وتنقص بالتناوب عن القيمة المحددة، غير أننا لا نعرف إن كان الفيثاغوريون الأوائل توصلوا إلى هذه الطريقة بالفعل أم لا، وعلى الرغم من أنها كانت بالقطع معروفة أيام أفلاطون، فإننا لا نستطيع أن ننسب هذه المعرفة عن ثقة إلى هرقليطس.

ولقد كان هرقليطس، شأنه شأن زينوفان، يحتقر العقيدة الشائعة في أيامه، وذلك في صورتَيْها الأوليمبية والأورفية؛ ففي رأيه أن الطقوس والقرابين ليست هي التي تجعل الناسَ فضلاء، وهكذا أدرك بوضوحٍ الطابَع السطحي والبدائي للممارسات الشعائرية. «عبثًا ما يفعلون حين يُطهِّرون أنفسهم بأن يرشوها بالدماء، مثلهم في ذلك كمثل من يغسل رجلَيه من الطين، بأن يَغمسهما في الوحل، وهو منظر لو رآه أحد لحكم على صاحبه بالجنون»، وهكذا فإن السير في هذا الاتجاه لا يجلب أي نوع من الفضيلة.

ولكن هناك طريقة يُمكن بها بلوغ الحكمة، هي إدراك المبدأ الكامن في الأشياء. هذه الصيغة هي انسجام الأضداد، وهي صيغة لا يدركها الناس برغم أنها تتكشَّف في كل مكان. «إن الصيغة التي أقول بها تغيب عن عقول الناس قبل أن يسمعوها وبعد أن يسمعوها؛ ذلك لأنه رغم أن الأشياء جميعًا تحدث وفقًا لهذه الصيغة، فإن الناس يبدون وكأنهم لا يعرفون عنها شيئًا، حتى عندما يُصادفون أقوالًا وأفعالًا كتلك التي أوضحتها عندما ميزت كل شيء وفقًا لنوعه وحددت ما يكونه»، فإذا لم نعرف هذه الصيغة فلن يفيدنا أي قدر من التعلم. «إن تعلم أشياء كثيرة لا يُعلِّم الفهم.» وتلك نظرة سنجدها فيما بعد عند هيجل، وكان مصدرها الأول هو هرقليطس.

وإذن فالحكمة إنما تكون في إدراك الصيغة الكامنة التي هي مشتركة بين الأشياء جميعًا، وعلينا أن نلتزم بهذه الصيغة كما تلتزم المدينة بقوانينها، بل إن علينا أن نلتزم بها بمزيدٍ من الدقة؛ لأن الصيغة المشتركة تسري على نحو شامل، على حين أن القوانين قد تختلف من مدينة لأخرى، وهكذا فإن هرقليطس يؤكد الطابَع المطلق لما هو مشترك، على عكس فكرة النسبية التي كانت تنمو في ذلك العصر نتيجة للمقارنات التي كانت تُجرَى بين العادات المتباينة للشعوب المختلفة؛ فالموقف الهرقليطي مضاد للرأي البرجماتي الذي قال به السفسطائيون، والذي أعرب عنه بروتاجوراس Protagoras فيما بعد بقوله: «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا.»
ولكن على الرغم من أن الصيغة الكلية الشاملة، أو اللوجوس Logo موجودة في كل مكان، فإن الكثيرين يعجزون عن رؤيتها، ويسلكون وكأن لكل منهم حِكمتَه الخاصة به، وهكذا فإن الصيغة العامة أبعدُ ما تكون عن الرأي الشعبي أو العام، وبسبب هذا العجز (عن إدراك الصيغة العامة) يحتقر هرقليطس العامة؛ فهو أرستقراطي بالمعنى الحرفي للكلمة، أي بمعنى مَن يؤيد سلطة المتفوقين أو الأفاضل؛ «خير لأهل إفسوس، أعني كلَّ رجل بالغ منهم، أن يشنقوا أنفسهم، ويتركوا المدينة للصِّبية الذين لم تَنبت لِحاهم؛ ذلك لأنهم نبذوا هرمودورس Hermodorus، أفضلهم جميعًا، قائلين: لا نود أن يكون بيننا من هو أفضل منا، ولو كان ثمة شخص كهذا، فليكن الأفضلَ في مكانٍ آخر وبين أناس آخرين.»

ومن المؤكد أن فكرة هرقليطس عن نفسه كانت رفيعة، وهو أمر يجوز لنا أن نعذره عليه، وعلى أية حال، فباستثناء هذا الغرور الشخصي، فإنه يظهر أمامنا مفكرًا ضخمًا، جمع بين أهم تصورات السابقين له، وكان له تأثير حيوي على أفلاطون.

إن نظرية الصيرورة عند هرقليطس تَلفِت الانتباهَ إلى أن الأشياء جميعًا يَسْري عليها نوع من الحركة، ولكن التحول التالي في الفلسفة اليونانية ينتقل بنا إلى الطرَف المضاد، ويُنكِر الحركة على إطلاقها.

لقد كان من السمات التي تشترك فيها كل النظريات التي عرضناها من قبل، أنها تبذل محاولة لتفسير العالم عن طريق مبدأ واحد، وبالطبع فإن الحلول تختلف من مدرسةٍ إلى أخرى، ولكن كل مدرسة كانت تدعو إلى مبدأ أساسي واحد فيما يتعلق بالتركيب الذي تتألف منه الأشياء جميعًا، ولكن أحدًا لم يَتصدَّ حتى الآن لاختبار وجهة النظر العامة هذه بطريقةٍ نقدية. وكان الناقد الذي أخذ هذه المهمةَ على عاتقه هو بارمنيدس Parmenides.
إننا لا نعرف عن حياة بارمنيدس إلا أشياء قليلة هامة، شأنه في ذلك شأن الكثيرين غيره؛ فقد كان من مُواطني إيليا Elea، في جنوب إيطاليا، أسس مدرسة سُمِّيت بالمدرسة الإيلية، نسبةً إلى المدينة. وكانت فترة نضجه هي النصف الأول من القرن الخامس، وإذا صحت رواية أفلاطون، وكذلك زينون تلميذ بارمنيدس فإنه زار أثينا، حيث قابلا معًا سقراط حوالي عام ٤٥٠ق.م، ولقد كان بارمنيدس وأنبادقليس Empedocles، من بين الفلاسفة اليونانيين جميعًا، هما وحدهما اللذان عرَضا نظرياتهما بصورةٍ شعرية، وكان عنوان قصيدة بارمنيدس هو «في الطبيعة»، وهو نفس العنوان الذي كان يُطلَق على الكثير من الكتابات الأخرى للفلاسفة الأقدمين، وهذه القصيدة تنقسم قسمَين؛ أولهما: «طريق الحق»، ويتضمن نظريته المنطقية التي تُهِمنا هنا قبل غيرها، أما في الجزء الثاني: «طريق الظن» فيَعرِض مذهبًا في الكون ذا طابع فيثاغوري في أساسه، وإن كان يقول بصراحةٍ تامة إننا يجب أن ننظر إلى هذا كله على أنه وهم. ولقد كان بارمنيدس ذاتُه منتميًا في البداية إلى النظرية الفيثاغورية، غير أنه تخلى عنها عندما صاغ انتقاداته العامة، وهكذا فإن هذا الجزء من قصيدته يقصد به أن يكون تَعدادًا للأخطاء التي تحرَّر منها.

يبدأ نقد بارمنيدس من نقطة ضعف كانت تشترك فيها النظريات السابقة كلها؛ تلك هي التعارض بين الرأي القائل إن الأشياء جميعًا قوامها مادة أساسية ما، والقول في الوقت ذاته بوجود مكان فارغ، فنحن نصف المادة بقولنا «إنها موجودة»، والمكان الفارغ بقولنا «إنه غير موجود»، ولقد كان الخطأُ الذي وقع فيه الفلاسفة السابقون جميعًا هو أنهم تحدثوا عما هو غير موجود كما لو كان موجودًا، بل إن هرقليطس يبدو كما لو كان قد قال إنه يوجد ولا يوجد في آنٍ معًا، وفي مقابل هذا كله أكد بارمنيدس ببساطة «أنه موجود»؛ ذلك لأن ما لا يوجد لا يمكن حتى التفكير فيه، إذ لا يستطيع المرء أن يفكر في لا شيء، كما أن ما لا يمكن التفكير فيه لا يمكن أن يوجد؛ ومِن ثم فإن ما يمكن أن يوجد يمكن التفكير فيه، هكذا كان الاتجاه العام للحُجة التي استند إليها بارمنيدس.

هذه الحجة تؤدي فورًا إلى بعض النتائج؛ فعبارة «إنه موجود» تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة، أما المكان الفارغ فهو ببساطة غير موجود، لا داخل العالم ولا خارجه، وفضلًا عن ذلك فلا بد أن يوجد من المادة في مكانٍ ما بقدر ما يوجد في مكانٍ آخر، وإلا لتوجب أن نقول عن مكانٍ ذي كثافةٍ أقل إنه ليس موجودًا بمعنًى ما، وهو محال. ولا بد أن يكون هذا الموجود حاضرًا بالتساوي في جميع الاتجاهات، ويستحيل أن يمتد إلى ما لا نهاية؛ إذ لو صح ذلك لكان معناه أنه غير مكتمل، ثم إن هذا الموجود غير مخلوق، وهو أزلي؛ لأن من المحال أن ينشأ من لا شيء، ويرتد إليه بعد فنائه، أو أن ينشأ من شيءٍ ما، ما دام لا يوجد إلى جانبه شيء. وهكذا نصل إلى صورة للعالم على أنه كرة مادية مُصمَتة، متناهية، متجانسة، بلا زمانٍ ولا حركة ولا تغيير. والحق إن تلك ضربة قاصمة لتصورنا العادي، غير أنها هي النتيجة المنطقية لمذهب مادي واحديٍّ متسق مع نفسه، فإن كان ذلك يجرح حواسنا، فالعيب عيب حواسنا، وينبغي علينا أن نستبعد التجرِبة الحسية بوصفها خدَّاعة، وهذا بعينه ما فعله بارمنيدس؛ فهو إذ مضى بالنظرية الواحدة حتى نهايتها المريرة، قد أرغم المفكرين التالين له على أن يبدءوا بداية جديدة، والحق إن الكرة «الكونية» التي تحدَّث عنها بارمنيدس إنما هي مثال لما كان يَعنيه هرقليطس حين قال إن الصراع لو انتهى لانتهى معه العالم.

ومن الجدير بالملاحظة أن نقد بارمنيدس لا يمس نظرية هرقليطس لو نظر إليها نظرة صحيحة؛ ذلك لأن الرأي القائل إن الأشياء قوامها النار، ليس في واقع الأمر أساسيًّا لنظرية هرقليطس، بل إن دوره كان مجازيًا من حيث إن اللهب إنما هو وسيلة واضحة ملموسة لتمثيل الفكرة الهامة القائلة إنه لا شيء يظل ساكنًا، وإن الأشياء كلها في تغيرٍ دائم، ولقد شرحنا من قبل كيف ينبغي تصور عبارةٍ مثل: إنه يكون ولا يكون في إطار مذهب هرقليطس، وواقع الأمر أن نظرية هرقليطس كانت بالفعل تنطوي على نقدٍ ضمني للميتافيزيقا اللغوية عند بارمنيدس.

إن نظرية بارمنيدس، في صورتها اللغوية، ترتد ببساطة إلى القضية التالية: إنك حين تفكر أو تتكلم، فأنت تفكر أو تتكلم عن شيءٍ ما، ويترتب على ذلك ضرورةً وجودُ أشياء خارجية مستقلة تفكر فيها وتتكلم عنها. وهذا أمر يمكنك أن تقوم به في مناسباتٍ مختلفةٍ عديدة، ومن ثم فإن موضوعات الفكر أو الكلام ينبغي أن توجد دائمًا، ولما كان من المحال ألا توجد هذه الموضوعات في أي وقت، فلا بد أن التغير مستحيل، ولكن ما أغفله بارمنيدس هو أنه، وفقًا لرأيه، لا يستطيع أن يُنكِر أي شيءٍ ما دام هذا الإنكار معناه أنه يتكلم عما هو غير موجود. ولكن لو كان الأمر كذلك، لما استطاع في الوقت ذاته أن يؤكد أو يثبت شيئًا، وبذلك يصبح كل حديث، وكل مقال، وكل فكر مستحيلًا، ولا يبقى إلا «أنه موجود»، تلك الصيغة الفارغة التي تُعبِّر عن مجرد الهوية.

ومع ذلك فإن هذه النظرية تُعبر عن مسألةٍ هامة؛ هي أننا إذا استطعنا أن نستخدم كلمةً ما بطريقةٍ معقولة فلا بد أن يكون لها معنًى، ولا بد أن يكون ما تَعنيه موجودًا بمعنًى أو بآخر، أما المفارقة فإنها تختفي لو عدنا بذاكرتنا إلى هرقليطس، والواقع إننا حين نتأمل المسألة بمزيدٍ من الوضوح، لن نجد أحدًا يقول بالفعل «إنه لا يكون» (بالمعنى المطلق)، وإنما يقول فقط «إنه لا يكون من نوعٍ ما»، فإذا قلت «العشب ليس أحمر»، فلست أعني أن العشب لا يكون، بل أعني فقط أنه لا يكون على نحوِ ما تكون أشياء أخرى، والواقع إنني لا أستطيع أن أقول ذلك لو لم تكن لدي أمثلة أقدمها لأشياء أخرى حمراء، كالحافلات (الباصات) مثلًا، وهكذا فإن ما يود هرقليطس أن يقوله هو أن ما هو أحمرُ اليوم، قد يصبح أخضرَ غدًا؛ إذ إنك قد تصبغ الحافلة الحمراء بطِلاءٍ أخضر.

وهذه النقطة تؤدي إلى إثارة السؤال العام عن الشروط التي تكون الألفاظ بموجبها ذاتَ معنًى، وهو سؤال أضخم من أن يُجاب عنه ها هنا، ومع ذلك فإن إنكار بارمنيدس للتغير هو أصل كل النظريات المادية التالية. فضمير الغائب الذي نُسِب إليه الوجود في عبارة «إنه موجود»، هو ما أصبح يُطلَق عليه فيما بعد اسم «الجوهر»، أي المادة التي لا تتغير ولا تفنى، والتي يقول الماديون عنها إنها هي التي تتألف منها الأشياء جميعًا.

لقد كان بارمنيدس وهرقليطس هما القطبَين المتنافرَين من بين مُفكِّري العصور السابقة لسقراط، ومن الجدير بالذكر أن الفلاسفة الذريِّين — فضلًا عن أفلاطون — قد أوجدوا مركبًا يجمع بين وجهتَي النظر المتعارضتَين هاتَين؛ فمن بارمنيدس أخذوا الجزئيات الأولية الثابتة التي قالوا بها، ومن هرقليطس أخذوا فكرة الحركة التي لا تنقطع. وهذا في الواقع واحد من أوضح وأقدم الأمثلة التي أوحت بالجدل الهيجلي من بداية الأمر، فمن المؤكد أن التقدم العقلي تصدق عليه الفكرة القائلة إنه ينشأ عن مركب من هذا النوع، يأتي بعد بحث دءوب في موقفَين متطرفَين متعارضَين.

ولقد كان النقد الذي وجَّهه بارمنيدس يَستدعي اتخاذ موقف جديد من مسألة تركيب العالم، وهذا ما قام به أنبادقليس Empedocles من مدينة أكراجاس Acragas، وهو بدوره فيلسوف لا نعرف إلا القليل عن تاريخه، وإن كان قد بلغ مرحلة النضج في النصف الأول من القرن الخامس ق.م، ولقد كان أنبادقليس، من الوجهة السياسية، في جانب الكثرة، وروي عنه أنه كان زعيمًا ديمقراطيًّا، وفي الوقت ذاته كان لديه عنصر صوفي يبدو أنه ارتبط بالتأثير الأورفي للفيثاغوريين؛ ذلك لأن أنبادقليس، شأنه شأن بارمنيدس، كان على ما يبدو مفتونًا بالتعاليم الفيثاغورية، ثم انشق عنها فيما بعد كما فعل بارمنيدس أيضًا، وتُحكَى عنه روايات ظلت محفوظة حتى الآن، وتَدخل في باب الخوارق والمعجزات؛ إذ تقول الأسطورة إنه كان يستطيع التأثيرَ في الطقس، وبفضل خبرته الطيبة نجح في مكافحة وباء الملايا الذي انتشر في مدينة سيلينوس Silenus، وقد خُلِّدَت ذكرى هذا الحادث فيما بعد على نقود سُكَّت في هذه المدينة.

ويُقال إنه كان يَعد نفسه إلهًا، وعندما مات ساد الاعتقاد بأنه رُفِع إلى السماء، بينما يقول آخرون إنه قفز داخل بركان أتنا، وإن كان هذا يبدو أمرًا لا يُصدَّق؛ إذ يستحيل أن يقوم سياسي جدير بهذا الاسم بالقفز في بركان.

ولقد أراد أنبادقليس أن يُوفِّق بين المذهب الإيلي وبين شهادة الحواس المعتادة، فقال بكل المواد التي جرَّب الفلاسفة من قبله أن يجعلوها أساسية، وأضاف إليها مادة رابعة. وقد أطلق على هذه المواد اسم «جذور» الأشياء، ثم أسماها أرسطو فيما بعد بالعناصر، وتلك هي نظرية العناصر الأربعة المشهورة، وأعني بها الماء والهواء والنار والتراب، وهي النظرية التي سيطرت على علم الكيمياء طوال ما يقرب من ألفَي عام، وما زالت آثار منها باقيةً في اللغة العادية حتى يومنا هذا، كما هو الحال حين نتكلم عن ثورة العناصر، وهذه النظرية هي في حقيقتها مزيج من مجموعتَين من الأضداد؛ الرطب والجاف، والحار والبارد.

ولنلاحظ أنه لا يكفي، من أجل التصدي لانتقاد بارمنيدس، زيادةُ أنواع المواد التي نَعُدها أساسية، وإنما ينبغي بالإضافة إلى ذلك أن يكون هناك شيءٌ يجعل الموادَّ الأساسية تمتزج على أنحاءٍ شتَّى.

وهذا ما يُحقِّقه المبدآن الفعالان اللَّذان قال بهما أنبادقليس، وهما المحبة والنزاع؛ فالوظيفة الوحيدة لهذَين المبدأَين هي الجمع والتفريق، على الرغم من أنه اضطُرَّ إلى أن يتحدث عنهما كما لو كانا بدورهما ماديَّين؛ لأن فكرة الفاعلية بطريقٍ غير مادي لم تكن قد ظهرت بعد؛ ولذا قال إن هذَين المبدأَين ماديَّان أو جوهريان، وأضافهما إلى العناصر الأربعة الأخرى ليكون المجموع ستة. وهكذا فعندما تتفرق العناصر الأربعة، يحتل «النزاع» الفراغَ القائم بينها، على حين أنها حين تتحد تربط بينها المحبة برِباطٍ وثيق، ونود في هذا الصدد أن نشير إلى أن هناك بعض المبررات للرأي القائل إن المبدأ الفعال ينبغي أن يكون ماديًّا؛ ذلك لأن العلم الحديث وإن كان قد طور الفكرة القديمة وهذبها، ما زال يرى أن المبدأ الفعال يجب أن يكون له مصدرٌ مادي في مكانٍ ما، حتى لو كان هذا المكان مغايرًا لذلك الذي يُمارِس فيه فاعليته.

ولقد رأينا من قبل أن أناكسيمنيس قد نظر إلى الهواء على أنه مادي، وإن لم نكن نعرف الأسباب التي بَنى عليها رأيه هذا، أما أنبادقليس فإنه يقف على أرضية مختلفة؛ لأنه اكتشف الحقيقة القائلة إن الهواء مادة، وقد تَوصل إلى ذلك عن طريق إجراء تَجارِبَ على الساعات المائية؛ ولذا كان مما يَلفِت النظرَ أنه في الوقت الذي استخدم فيه السابقون له كلمة «الهواء Air» نراه هو يُسمِّي هذه المادة «أثير Aether» والكلمتان معًا يونانيَّتان، وقد اكتَسبَت الكلمةُ الثانية مكانة علمية جديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما اقتضت النظرية الكهربية المغنطيسية وسيطًا ما لنقل الموجات.

على أن أنبادقليس برغم استحداثه لهذه التجديدات، قد احتفظ بجانبٍ لا يُستَهان به من النظرية الإيلية، وهكذا نظر إلى المواد الأساسية على أنها أزلية لا متغيرة، ولا تقبل في ذاتها مزيدًا من التفسير. وما زالت هذه الفكرة الأخيرة بدورها تُشكِّل مبدأً هامًّا في التفسير العلمي، وإن يكن ذلك مبدأً لا يُصرَّح به في أحيانٍ كثيرة.

فلتتأمَّل مثلًا مألوفًا: إن المرء لو فسَّر الظواهر الكيميائية على أساس الذرات، لكان من الواجب أن تظل هذه الذرات ذاتها بلا تفسير. أما إذا أراد تفسيرها، فلا بد أن ينظر إليها على أنها تتألف من جزئيات أصغر لا تُفسَّر بدورها.

وهكذا فإن ما يوجد موجود، كما كان الأمر من قبل، ولا يمكن أن ينشأ شيء عما لا يوجد، أو يتحول شيء موجود إلى شيءٍ غير موجود، وهذا كله ينتمي إلى المادية الإيلية بوضوح وصراحة. على أننا نود أن نشير هنا إلى مسألةٍ عامة لم تتمكَّن فيها تلك الصيغة المعدَّلة التي وضَعها أنبادقليس للمذهب المادي من أن تتخلص من النقد الذي وجَّهه بارمنيدس؛ تلك المسألة هي أن مجرد الاعتراف بالتغير يُحتِّم على المرء الاعترافَ بوجود الفراغ بدوره؛ ذلك لأن إمكان التغير معناه أن من الممكن بنفس القدر أن تتناقص كمية المادة في أي مكانٍ معين إلى أن لا يتبقى منها شيء. ومن هنا فإن زيادة عدد العناصر لا يكفي وحده. وهكذا فإن لبارمنيدس كلَّ الحق في إنكار إمكان التغير ما دام قد أنكر إمكان وجود مكان خالٍ. ولا يمكن القول إن أنبادقليس يساعدنا في التغلب على هذه الصعوبة، وسوف نرى فيما بعد كيف حل أنصار مذهب الذرة هذه المشكلة.

لقد عرَف أنبادقليس أن الضوء يستغرق وقتًا في الانتقال، وأن ضوء القمر غيرُ مباشر، وإن لم يكن في وسعنا أن نُحدِّد المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات. وكان مذهبه في الكون مبنيًّا على سلسلة من الدورات يبدأ بها مسار العالم، بحيث يكون «النزاع» في الخارج والمحبة في الداخل، وتكون العناصر الأربعة متماسكة. وبعد ذلك يعمل «النزاع» على طرد المحبة حتى تتفرق العناصر المتعددة تفرقًا تامًّا، وتصبح المحبة خارج العالم، وبعد ذلك يحدث العكس حتى نصل مرةً أخرى إلى نقطة البدء. وترتبط نظرية الحياة عنده بهذه الدورة؛ ففي المرحلة الأخيرة للدورة، عندما تتغلغل المحبة في الكون الكروي، تتكون أجزاء الحيوانات المختلفة متفرقة، وبعد ذلك حين يعود النزاع مرة أخرى إلى الخارج، تحدث تجمعات عشوائية خاضعة لمبدأ بقاء الأصلح، وحين يبدأ النزاع في الدخول مرة أخرى، تحدث عملية تمايز. ويمثل عالمنا مرحلة متقدمة من هذه العملية، يحكمها بدورها مبدأ تطوري هو مبدأ بقاء الأصلح.

وأخيرًا ينبغي أن نُنوِّه باهتمام أنبادقليس بالطب وعلم وظائف الأعضاء؛ فقد أخذ عن الطبيب ألكمايون الكروتوني Alcmaeon of Craton، وهو من أتباع الفيثاغورية، النظريةَ القائلة إن الصحة توازن سليم بين المكونات المتضادة، وأن المرض يحدث حين تصبح الغلَبة لأحد هذه المكونات. وبالمثل أخذ بنظرية المسامِّ، أو الممرات التي يتنفس من خلالها الجسمُ بأكمله، وهذه المسامُّ هي التي تجعل لدينا إدراكًا حسيًّا. ويُهمُّنا بوجهٍ خاص أن نشير إلى نظريته في الأبصار، التي ظلت سائدة وقتًا طويلًا، والتي تقول بتلاقي مؤثرات منبثقة من الشيء المرئي مع شعاع من النار صادر عن العين.

أما آراؤه الدينية فكانت تسير وفقًا للتراث الأورفي، وكانت منقطعةَ الصلة بفلسفته، ومن ثَم فليس لنا أن نُقيم لها وزنًا، ولكن قد يكون مما له أهميته أن نُشير إلى أنه يبدو في كتاباته الدينية معتنقًا آراء لا يمكن التوفيق بينها وبين نظريته في العالم، والواقع أن هذا النوع من التضارب شائع إلى أبعد حد، وخاصةً بين أولئك الذين لا يُخضِعون معتقداتهم لاختبار نقدي. صحيحٌ أن من المستحيل اعتناقَ مثل هذه الآراء المتعارضة معًا في لحظةٍ واحدة، ولكن الناس لا يجدون غضاضة في أن يؤمنوا الآن بشيءٍ ما، ويؤمنوا غدًا بعكسه، دون أن تنتابهم أدنى ريبة في أن يكون ثَمة تعارض بين الموقفَين.

لقد وصلنا في قصتنا الآن إلى قلب القرن الخامس ق.م، والواقع أن قدرًا غيرَ قليل مما ينبغي أن يُناقَش تحت عنوان «الفلسفة السابقة لسقراط»، هو في الحقيقة معاصر لسقراط، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يكون من الممكن تجنُّبُ قدر معين من التداخل؛ ذلك لأن المرء يُضطَر من أجل تقديم عرضٍ مترابط إلى الخروج من آنٍ لآخر عن إطار الترتيب الزمني البحت. وتلك صعوبة تَعترض كلَّ بحث تاريخي؛ لأن التاريخ نادرًا ما يكترث براحة المؤرخ الذي يُتابع الأحداث وفقًا لترتيب حدوثها.

فلنُلقِ الآن بنظرةٍ عامةٍ موجزة إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية لليونان في القرن الخامس، على الرغم من أننا سنحصر اهتمامنا بعد قليل في أثينا وحدها.

لقد اكتسب اليونانيون، بفضل حروبهم مع الفرس، وعيًا عميقًا بالروابط المشتركة التي تجمع بينهم؛ أعني روابط اللغة والثقافة والقومية، ومع ذلك فقد ظلت دولة المدينة هي محورَ الاهتمام إلى حدٍّ بعيد؛ فإلى جانب التراث، الذي ينتسب إليه كلُّ الناطقين باللسان اليوناني، ظلت العادات المحلية لكل مدينة حيةً بقوة، ومحتفظةً بهويتها. صحيحٌ أن هوميروس قد يكون ميراثًا مشتركًا، ولكن إسبرطة كانت تختلف عن أثينا بقدر ما يختلف السجن عن ساحة اللعب، وهما بدورهما كانتا تختلفان عن كورينثة Corinth أو طيبة Thebes، ولقد اتخذ تطور إسبرطة مسارًا خاصًّا بها؛ ذلك لأن زيادة عدد الإسبرطيين دفعَتهم إلى إخضاع قبيلة المسينيين Messenians المجاورة، وتحويلها إلى جماعة من الخدم، وترتب على ذلك تحولُ دولة إسبرطة إلى معسكر حربي.
كانت حكومة إسبرطة تتألف من مجلس شعبي ينتخب مجلسًا للشيوخ، ويُعيِّن اثنَين من المستشارين أو المشرفين، كما كان هناك ملكان، واحد من كل أسرة عريقة، ولكن السلطة الفعلية كانت في أيدي المستشارين، أما النظام التعليمي فكان الهدف منه هو تكوينَ جنود منضبطين فحسب، ولقد كان الفرسان الإسبرطيُّون مشهورين في طول اليونان وعرضها. وكانوا بالفعل يشكلون قوة هائلة، والواقع أن صمود ليونيداس Leonidas ورجاله الثلاثمائة أمام جحافل الفرس بقيادة زيرزيس Xerxes في ثرموبيلا Thermopylae ينبغي أن يُعَد من أروع الأحداث التاريخية، ومن جهةٍ أخرى لم يكن الإسبرطيون من أولئك الذين يغرقون في العواطف إلى حد الضعف والاستخذاء؛ فقد كان نظامهم صارمًا، وكان من الضروري كبحُ جِماح المشاعر الخاصة. أما الأطفال المشوهون فكانوا يُترَكون في العراء، حتى لا يَعتريَ الوهنُ قوةَ الجنس كله. وكان الأطفال يُؤخَذون من والديهم في سنٍّ مبكرة، ويُربَّون في مؤسسات تشبه الثُّكنات العسكرية، كما كانت الفتيات يُعامَلن بطريقةٍ تشبه في عموميَّتها معاملة الفتيان، أما المركز الاجتماعي للمرأة، فكان مبنيًّا على المساواة إلى حدٍّ بعيد، ومن هنا فإن قدرًا كبيرًا من أوصاف المدينة المثالية عند أفلاطون مُستوحًى من النموذج الإسبرطي.
أما مدينة كورينثة، على البرزخ اليوناني، فكانت تحتل مكانة مسيطِرة في ميدان التجارة والنقل، وكانت تحكمها حكومة أقلية من النخبة (أوليجاركية)، وقد انضمت إلى الرابطة البلوبونيزية تحت قيادة إسبرطة، وقد أسهم الكورينثيون بكتائبهم في الحروب الفارسية، ولكنهم لم يُمارسوا القيادة. وكانت اهتماماتهم تِجارية في الأساس، كما أن كورينثة قد اشتهرت، لا بوصفها موطنًا للمفكرين والسياسيين، بل بسبب ما فيها من أمكان اللهو، كذلك كانت هي المصدرَ الذي خرج منه مستوطنو واحدة من أعظم المستعمرات اليونانية، وهي مدينة سراقوزة في صقلية. وكانت هاتان المدينتان تتبادلان التجارة فيما بينهما بنشاط، وكذلك تتبادلانها مع بقية أرض اليونان بوجهٍ عام، وذلك على طول الممر البحري المأمون في خليج كورينثة، وفي صقلية كان اليونانيون يجاورون مباشرة مدينة قرطاجة الفينيقية القوية، وقد حاول الفينيقيون، بالتنسيق مع الغزو الذي قام به زيرزيس Xerxes (ملك الفرس) لليونان، أن يجتاحوا الجزيرة في عام ٤٨٠ق.م. غير أن ضخامة موارد سراقوزة وقيادة طاغيتها جيلا Gela جعلا هذه المحاولة تُخفق بصورةٍ نهائيةٍ تمامًا، كما استطاع سكان الأرض اليونانية أن يَرُدوا خطر الغزو الذي قام به ملك الفرس العظيم.

ولا شك أن حلول أثينا بالتدريج محلَّ كورينثة خلال القرن الخامس قد ساعد على إشعال نار الحرب البلوبونيزية، وكانت كارثة حملة سراقوزة هي التي أدَّت في النهاية إلى أفول نجم أثينا.

أما مدينة طيبة Thebes القديمة، التي ترتبط بأساطير أوديب المشهورة القديمة، فتقع في سهول بويوتيا Boeotia إلى الشمال الغربي من أثينا، ولقد كانت طيبة بدورها تخضع خلال القرن الخانس لحكم أقلية أرستقراطية، ولم يكن دورها خلال الحروب الفارسية مُشرِّفًا على الإطلاق، صحيحٌ أن إحدى كتائب طيبة قد أُبيدَت مع قوات «ليونيداس»، ولكن أهل طيبة انتقلوا إلى الحرب في صف الفُرس في بلاتايا Plataea بعد أن اكتسح زيريس أرضهم، ومن هنا فقد عاقبَتها أثينا على هذه الخيانة بحرمانها من مركزها القيادي في «بويوتيا»، ومنذ ذلك الحين كان الأثينيون يُبْدون قدرًا من الاحتقار لأهل طيبة، ولكن مع نمو قوة أثينا، انحازت إسبرطة إلى طيبة من أجل موازنة هذه القوة النامية. وفي الحرب البلوبونيزية صمدت طيبة أمام أثينا على الرغم من أن المناطق الريفية المجاورة لها قد اجتِيحت، ومع ذلك فعندما انتصرت إسبرطة تحوَّل انحياز طيبة مرةً أخرى، وقدمَت العون إلى أثينا.
ولقد كانت معظم دول المدن تُسيطر على الإقليم المجاور لها مباشرة، بحيث كان في استطاعة أهل الريف أن يزرعوا أرضهم، ولكن سلطة الحكم كانت تتركز في المدينة. أما في الحالات التي كان من الممكن فيها المشاركةُ في الشئون العامة كما هي الحال في الدول الديمقراطية، فقد كان جميع المواطنين يشاركون. وكان الناس ينظرون شزرًا إلى الرجل الذي لا يهتم بالسياسة ويصفونه بأنه «أبله Idiot» وهي في اليونانية تعني «متهالك على مصالحه الخاصة.»
ولم تكن التربة اليونانية صالحة للزراعة على نطاق واسع. وهكذا أصبح من الضروري، مع زيادة السكان، استيرادُ الغِلال من بلادٍ أخرى، وكان المصدر الرئيسي لتزويد اليونان بالغلال هو الأراضيَ الواقعة على حدود سواحل يوكسين Euxine، حيث أُقيمَ على مر القرون عددٌ كبير من المستعمرات اليونانية. وفي مقابل ذلك كانت اليونان تُصدِّر زيت الزيتون والخزف.

ولا شك أن النزعة الفردية القوية لدى اليونانيين تتجلى في موقفهم من القانون؛ فهُم في هذه الناحية معتمدون على أنفسهم كل الاعتماد، ومغايرون تمامًا لمعاصريهم في آسيا. ففي البلاد الآسيوية كانت سلطة الحاكم تستند إلى قوانين تُعَد مُنزَّلة من السماء، على حين أن اليونانيين كانوا يعترفون بأن القوانين من صنع الإنسان لأجل الإنسان. فإذا لم يَعُد أي قانون متفقًا مع عصره، أمكن تغييره بموافقة الشعب، ولكن ما دام القانون يرتكز على دعم الشعب، فإن طاعته واجبة. ولقد كان المثل الكلاسيكي لاحترام القانون هذا هو رفضَ سقراط أن يهرب من حكم الإعدام الذي قضت به عليه المحكمة الأثينية.

وفي الوقت ذاتِه كان ذلك يعني أن لدى المدن المختلفة «قوانين مختلفة»، بحيث لم تكن هناك سلطة تستطيع تسوية المنازعات بينها بطريقةٍ سلميَّة.

وهكذا كانت اليونان منقسمة على نفسها، بفعل المنافسات الداخلية والنزعة الفردية التجزيئية، إلى حدٍّ ما يسمح لها في أي وقتٍ بتحقيق الاستقرار بوصفها أمة موحدة، فوقعت تحت سيطرة الإسكندر الأكبر، ثم روما فيما بعد، وبرغم ذلك كانت هناك مؤسسات ومُثل عُليا مشتركة أتاحت استمرارها بوصفها وحدة ثقافية. ولقد تحدثنا من قبل عن الملحمة القومية (بوصفها عاملًا في التوحيد الثقافي)، ولكن كانت هناك روابطُ أخرى غيرها؛ فقد كان اليونانيون جميعًا يُقدِّسون معبد دلفي في التلال الواقعة شمال خليج كورينثة، وكانوا يحترمون نبوءة دلفي بقدرٍ ما.

كانت دلفي مركز عبادة الإله أبولو، الذي يرمز لقوتَي النور والعقل، وتروى الأسطورة القديمة أنه قتل البيثون Python، وهو الحية الأسطورية التي ترمز للظلام، وتخليدًا لهذا العمل بنى الناس معبدًا في دلفي، وفي هذا المعبد كان أبولو يقوم بحماية منجزات الروح اليونانية، وعلى نحوٍ مُوازٍ لذلك، فإن عبادة أبولو تتضمن اتجاهًا أخلاقيًّا مرتبطًا بطقوس التطهير. وكان الإله ذاته قد اضطُر إلى أن يُكفِّر عن الدنس الذي لحقه بعد انتصاره على الحية الأسطورية، وأصبح الآن يحمل الأمل للآخرين ممن دنَّسوا أنفسَهم بالدم، ولكن هناك استثناء لا يغتفر؛ هو قتل الأم، والواقع أن من العلامات الملفتة للنظر على نمو ثقة الأثينيين بأنفسهم أن نجد أورست Orestes في تراجيديا إسخليلوس، يُبرَّأ أخيرًا من هذه التهمة بفضل الإلهة أثينا، والإله إيروباجوس Aeropagus الذي كانت حياته تنطوي بمعنًى ما، على مفارقة زمنية، أما المعبد الرئيسي الثاني لأبولو فكان يقع في جزيرة ديلوس Delos التي كانت نقطةَ الْتِقاء دينية للقبائل الأيونية، وظلت لفترةٍ ما مركزًا لبيت المال في رابطة المدن الديلية (نسبةً إلى ديلوس).

وهناك مؤسسة عظيمة أخرى كانت تجمع شمل اليونانيين جميعًا، وهي الألعاب التي تُقام على جبل أوليمبيا، في غرب البلوبنير، وكانت هذه الألعاب تُجرَى مرة كل أربع سنوات، وكان لها الأولوية على أي عمل آخر، حتى الحرب ذاتها، فلم يكن هناك شرف أعظم من إحراز نصر أوليمبي. وهكذا كان الفائز يُتوَّج بإكليلٍ من الغار، وتُصنَع له مدينته في معبدها الخاص في أوليمبيا تمثالًا لتخليد ذكرى هذا الحدث، وكانت المرة الأولى التي أُجرِيَت فيها هذه المسابقات هي عام ٧٧٦ق.م، ومنذ ذلك الحين أصبح اليونانيون يَحسبون الزمن بالألعاب الأوليمبية.

والواقع أن الألعاب الأوليمبية كانت علامة حية على القيمة التي كان اليونانيون يعزونها إلى الجسد. وهذه القيمة مثل آخر واضح على ما يتميزون به من حرص على الانسجام؛ فللناس أبدانٌ مثلما أن لهم عقولًا، وكلاهما في حاجةٍ إلى مِران وتدريب. وهذه الحقيقة تجعلنا نتذكر جيدًا أن مُفكري اليونان لما يكونوا ينتمون إلى ذلك النوع من مثقَّفي البرج العاجيِّ الذي وَرِثه عالمنا الحديث من تراث المدرسيين في العصور الوسطى.

وأخيرًا ينبغي علينا أن نُضيف كلمة عن نظام الرِّق؛ فكثيرًا ما كان يُقال إن اليونانيين لما يُفلحوا في العلوم التجريبية؛ لأن إجراء التجارِب كان يَعني تدنيس المرء ليدَيه، وهو عمل كان مقصورًا على العبيد. غير أنه لا يوجد حكمٌ أكثر تضليلًا من هذا الاستنتاج السريع؛ فالشواهد تدل بوضوح على العكس، كما يتضح من سجلات إنجازاتهم العِلمية ومن آثار النحت والعمارة المتبقية في عصرهم.

وعلى أية حال فمن واجبنا ألا نُبالِغ في أهمية العبيد في حياتهم، على الرغم من أنه كان هناك إحساس متحذلق بأن السادة لا يستخدمون أيديَهم، صحيح أن أولئك الذين كانوا يَستخرجون الفِضة من مناجمها في لوريون Laurion كانوا يُعانون مصيرًا لا إنسانيًّا، ومع ذلك يمكن القول على وجه الإجمال إن جموع العبيد في المدن لم تكن تُعامَل بقسوةٍ متعمَّدة؛ وذلك لأسبابٍ منها أن العبد كان ذا قيمة كبيرة، وخاصةً لو كان يُتقِن حِرفةٍ ما، وقد تحرَّر كثير من العبيد. أما نظام الرِّق على نطاقٍ ضخم فينتمي إلى عصرٍ لاحقٍ بالنسبة إلى القرن الخامس اليوناني.
وربما كان أعجب ما يتسم به القرن الخامس ق.م. هو التدفق المفاجئ للتجرِبة والإبداع العقلي، وهذا يَصْدق على الفنون كما يَصدق على الفلسفة؛ فعلى حينِ أن النحت في القرن السابق كان لا يزال يحتفظ بالنزعة الشكلية الجامعة للأصول المصرية الفرعونية التي تأثر بها، نجد الحياة قد دبَّت فيه فجأة في القرن الخامس. وفي الأدب تحولت الطقوس الشكلية المميزة للعصور السابقة إلى الطابع الذي يزداد مرونة للدراما الأتيكية Attie، وأصبح كل شيءٍ في تمددٍ واتساع، بحيث لم يعد ثمة هدفٌ بعيد المنال أمام الإنسان، وخير ما يُعبِّر عن هذا الإحساس العارم بالثقة بالنفس هو الكورس المشهور في مسرحية «أنتيجوني» لسوفوكليس: «كم في الحياة من مخلوق جبار، ولكن الإنسان أعظمها جبروتًا»، ولكن هذا النوع من الشعور غاب في العصور التالية، وإن كان قد عاد مرةً أخرى إلى الحياة خلال عصر النهضة الحديثة؛ ففي كتابات أديب النزعة الإنسانية الإيطالي، ألبرتي Alberti، نجد آراء مشابهة إلى حدٍّ بعيد عن مكانة الإنسان، ولا شك أن عصرًا يتسم بكل هذا القدر من الحيوية لا يمكن أن يُدرك حدوده. غير أن الثقة بالنفس يمكن أن تُؤديَ إلى الغرور والفوضى؛ ولذا بدأ سقراط، في المراحل المتأخرة من القرن الخامس، يذكر الناس بصورة الخير.

هذا إذن هو الإطار الذي بلَغَت فيه الحضارة اليونانية أوجَ عظَمتها، لقد كانت تلك الحضارة القائمة على مبدأ كامن فيها هو مبدأ الانسجام، معرضة للتمزق بفعل الصراعات الداخلية، وربما كان هذا في النهاية هو الذي زاد من عظمتها؛ ذلك لأنها برغم أنها لم تتمكن أبدًا من إقامة دولة تضم اليونانيين جميعًا، قد قهرَت كلَّ من غزَوْا أرض اليونان وما زالت إلى اليوم تُشكِّل الإطارَ الذي تدور فيه حضارة الغرب.

كان أول الفلاسفة الذين عاشوا في أثينا هو أناكساجوراس Anaxagoras الذي ظل هناك قرابة ثلاثين عامًا، منذ نهاية الحروب الفارسية حتى أواسط القرن. ولقد كان أناكساجوراس من حيث المولدُ أيونيًّا من مدينة كلازوميناي Clazomenae، وكان من حيث اهتماماتُه وريثًا للمدرسة الأيونية في ملطية. وكانت بلدته الأصلية قد وقعَت في قبضة الفُرس في وقت الثورة الأيونية، ويبدو أنه وفد إلى أثينا مع الجيش الفارسي، وتروي الأخبار أنه كان معلمًا وصديقًا لبريكليز Pericles، بل يرى البعض أن يوريبيدس Euripides كان في وقتٍ ما واحدًا من تلاميذه.
ولقد كانت أهم الموضوعات التي تشغل أناكساجوراس الموضوعات العِلمية والبحث في الكونيات. ولدينا على الأقل دليل واحد على أنه كان ملاحِظًا دقيقًا؛ ففي ٤٦٨-٤٦٧ق.م. سقطَت كتلة كبيرة من صخور الشهب في نهر إيجوس Aigospotamos، وكانت هذه الواقعة من الأسباب التي جعلَته يقول إن النجوم تتكون من صخور ساخنة متوقدة.

وعلى الرغم من أنه كان لأناكساجوراس أصدقاء من ذوي النفوذ في أثينا، فقد أثار غضب الأثنيين المحافظين ضيِّقي الأفق؛ ذلك لأن الفكر المستقل غير الشعبي هو عمل محفوف بالمخاطر، حتى في أفضل العصور، وعندما يتصادم مع المتحيزات التي يؤمن بها أولئك الذين يتخيلون أنهم خير العارفين، فمن الممكن أن يصبح خطرًا حقيقيًّا على كل من يخرج عن الخط المألوف، ومما زاد الطينَ بِلةً أن أناكساجوراس كان في شبابه متعاطفًا مع الفرس، والواقع أن هذا نمط يبدو أنه لم يطرأ عليه تغير كبير طوال الأعوام الألفين والخمسمائة الأخيرة، وعلى أية حال فقد حُوكِم أناكساجوراس بتُهمتَي الضلال والانحياز للفرس، ولسنا موقنين بنوع العقوبة التي كان من الممكن أن تُوقَّع عليه، أو بالطريقة التي أفلت بها من هذه العقوبة، ولكن من الجائز أن صديقه بريكليز قد انتزعه من السجن وهرب به بعيدًا.

وقد انتقل فيما بعدُ ليعيش في لامبساكوس Lampsacus، حيث واصل الاشتغال بالتدريس حتى وفاته. ومن حسن الحظ أن مُواطني هذه المدينة قد نظروا إلى الأعمال التي كان يمارسها نظرة أكثر استنارة، ولا بد أن أناكساجوراس كان الفيلسوفَ الوحيد في التاريخ الذي كانت المدارس تُعطَّل في الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاته. وقد عرَض أناكساجوراس تعاليمه في كتابٍ بقيت لنا شذرات منه في مصادر أخرى، ولقد ذكر سقراط الذي حُوكِم بدوره فيما بعد بتهمة الضلال، ذكَر لقُضاته أن الآراء غير المألوفة التي اتُّهِم باعتناقها إنما هي في الواقع آراء أناكساجوراس، الذي كان من الممكن لأي شخص شراءُ كتابه مقابل «دراخما» واحدة.

ولقد كانت نظرية أناكساجوراس، شأنها شأن نظرية أنبادقليس من قبل، محاولةً جديدة للتصدي للنقد الذي وجهه بارمنيدس، ولكن بينما نظر أنبا دقليس إلى كل طرف من أطراف زوجَيِ الأضداد الحار والبارد، والجاف والرطب، على أنه مادة أساسية؛ نجد أناكساجوراس يعتقد على العكس من ذلك أن كلًّا من هذه مُتضمَّن بنسبة متفاوتة في كل قطعة ضئيلة من المادة، مهما صغر حجمها، ولكي يُثبِت قضيته هذه قال بفكرة قابلية المادة للانقسام إلى ما لا نهاية؛ ذلك لأن مجرد تَجزُّؤِ الأشياء إلى قطع أصغر لا يُؤدي في رأيه إلى ظهور شيء مختلف؛ إذ إن بارمنيدس قد أثبت أن ما هو كائن لا يمكن بأي حال ألا يكون، أو أن يصبح ما لا يكون، والواقع أن الافتراض القائل إن المادة قابلة للانقسام إلى ما لا نهاية هو افتراض طريف، وكانت هذه أولَ مرة يظهر فيها، أما كون هذا الافتراض خطأً فهو أمر لا يُهِمنا في هذا السياق، والأمر الذي يبرزه هذا الافتراض هو فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية، التي تنطبق بالفعل على المكان، وهكذا يبدو أن لدينا ها هنا نقطةَ بدءٍ أمكَن انطلاقًا منها تطويرُ فكرة المكان الفارغ عند الذريين فيما بعد. وأيًّا كان الأمر فإننا لو سلمنا بهذا الافتراض لظل نقد أناكساجوراس لأنبادقليس صحيحًا إلى هذا الحد.

أما الاختلافات بين الأشياء فترجع إلى تغلُّب أحد الضدَّين على الآخر، وهكذا استطاع أناكساجوراس أن يقول إن الثلج هو بقدرٍ ما أسود، وإن كان الأبيض هو الذي يَسود. وهذه فكرة تبدو فيها لمسة هرقليطية؛ فالأضداد تتلاقي، ويمكن أن يتحول أي شيء إلى أي شيءٍ آخر، وفي ذلك يقول أناكساجوراس: «إن الأشياء الموجودة في العالم لا تنقسم ولا يُقتطَع بعضها من بعض بضربة فأس» كما يقول: «في كل شيء يُوجَد قدر من كل شيء، إلا العقل Nous، بل إن هناك أشياء يُوجَد فيها العقل بدوره».

هذا «النوس» أو العقل الذي يذكره ها هنا هو المبدأ الفعال الذي يَحُل محلَّ المحبة والنزاع عند أنبادقليس، ولكنه يظل ينظر إليه على أنه مادة، وإن تكن مادة شديدة الرقة والشفافية، ويختلف «النوس» عن المواد الأخرى في كونه نقيًّا غير مختلط، وهو الذي يبعث الحركة في الأشياء. وفضلًا عن ذلك فإن وجود «النوس» هو ما يميز الحي من غير الحي.

أما بالنسبة إلى أصل هذا العالم، فإنه يعرض رأيًا يُشبِه في نواحٍ معينة الأفكارَ التي أصبحت تُطرَح حول هذا الموضوع في وقتٍ أحدثَ بكثير؛ فالنوس يُطلِق حركة دوامة في مكانٍ ما، وحين تكتسب هذه الحركة مزيدًا من القوة، تنفصل الأشياء المختلفة تبعًا لمقدار كتلتها، بحيث إن القِطَع الثقيلة من الصخور، التي يقذفها دوران الأرض، تبتعد أكثر من غيرها. ونظرًا لأنها تتحرك بسرعة كبيرة، فإنها تبدأ في التوهج، وهذا يُفسِّر طبيعة النجوم، ولقد كان أنكساجوراس، شأنه شأن الأيونيين، يؤمن بوجود عوالم كثيرة.

وفيما يتعلق بالإدراك الحسي، فقد استحدث ببراعةٍ المبدأَ البيولوجي القائل إن الإحساس يتوقف على الأضداد، فالإبصار مثلًا هو سقوط النور على ضده، وهو الظلام، والإحساسات الشديدة الكثافة تُسبِّب ألمًا وضيقًا، وتلك آراء ما زالت شائعة في علم وظائف الأعضاء.

وهكذا فإن أناكساجوراس قد أتى في نواحٍ معينة بنظريةٍ أدقَّ من نظرية سابقه، وهناك على الأقل تلميحات إلى أنه حاول بعناءٍ أن يهتديَ إلى مفهوم للمكان الخالي، ولكن على الرغم من أنه يبدو أحيانًا كما لو كان يريد أن يجعل من «النوس» قوة فاعلة غير مادية، فإنه لا ينجح في ذلك كل النجاح. وعلى ذلك فإن النقد الأساسي الذي وجهه بارمنيدس لم يجد لديه، كما لم يجد لدى أنبادقليس، إجابةً عنه. ومع ذلك فإن اقتراحه القائل بقابلية التقسيم إلى ما لا نهاية يُمثِّل تقدمًا جديدًا في تفسير طريقة تكوين العالم. وتبقى بعد ذلك خطوة الاعتراف بأن قابلية التقسيم تنتمي إلى المكان، وبذلك يُهيَّأ المسرح لظهور المذهب الذري.

وإنه لمن الخطأ أن يتصور المرء أن أناكساجوراس كان ملحدًا، ومع ذلك فإن تصوره للإله كان فلسفيًّا، ولا يتمشى مع ديانة الدولة في أثينا، وقد كانت آراؤه التي لا تُساير الدين الشائع هي التي جلَبَت عليه تهمة الضلال؛ ذلك لأن الإله كان عنده معادلًا «للنوس»، أي المبدأ الفعال الذي هو أصل كل حركة، ومثل هذا الرأي كان خليقًا بأن يُنظَر إليه شزرًا من جانب السلطة الحاكمة؛ إذ إنه يُثير بالطبع شكوكًا حول جدوى الممارسات الشعائرية السائدة، ومن ثَم فإنه يمَس سلطة الدولة …

إننا على الأرجح لن نعرف أبدًا السبب الذي من أجله طُرِد فيثاغورس ومدرسته من مدينة كروتون Croton في عام ٥١٠ق.م، ومع ذلك فليس من العسير أن نُدرِك الجوانب التي يمكن أن تكون المدرسة قد خاضت فيها نزاعًا مع المواطنين الصالحين؛ ذلك لأننا ينبغي أن نتذكر أن فيثاغورس انغمس بالفعل في السياسة، كما كانت عادة الفلاسفة اليونانيين، والواقع أنه على الرغم من أن الفلاسفة يُعامَلون بعدم اكتراث متسامح من جانب بقية البشر، فإن ما يَلفِت النظر حقًّا أنهم عندما يُدْلون برأيٍ نقدي ينجحون في تعكير المياه الآسنة للسياسة الاحترافية، فلا شيء يثير حنَقَ الحاكمين أكثر من الإشارة إلى أنهم قد لا يكونون حكماء بقدر ما يتصورون، ولا شك في أن أسبابًا من هذا النوع هي التي جعلت أهل كروتون يَحرقون المدرسة الفيثاغورية. غير أن حرق المدارس، أو حتى الرجال أنفسهم، قد أثبت على الدوام أنه وسيلة عاجزة للقضاء على الرأي المتمرد؛ ذلك لأن الكارثة التي لحقت بالمدرسة الأصلية قد أدت إلى نشر آرائها على نحوٍ أوسع من أي وقتٍ مضى، وذلك بفضل جهود أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة من أعضاء المدرسة، والذين عادوا شرقًا إلى اليونان.
ولقد رأينا من قبلُ أن مؤسس المدرسة كان في البدء من أتباع فيثاغورس، ولكن النظرية الفيثاغورية في العدد قُدِّر لها أن تتلقى ضربة مُدمِّرة بعد وقتٍ قليل على يد الفيلسوف الإيلي زينون Zeno؛ لذلك فإن من الواجب أن نُدرِك ما تنطوي عليه هذه النظرية.
لقد نظر الفيثاغوريون إلى الأعداد على أنها تتألف من وحدات، وكان ينظر إلى الوحدات التي تُمثِّلها نقاطٌ على أنها ذات أبعاد مكانية، وتبعًا لهذا الرأي تكون النقطة وحدةً ذات موقع، أي لها أبعاد من نوعٍ ما، أيًّا كانت. هذه النظرية في العدد صالحة تمامًا للتعامل مع الأعداد الجذرية؛ فمن الممكن دائمًا أن نختار للتعبير عن الوحدة عددًا جذريًّا، بحيث يكون أي عدد من الأعداد الجذرية عبارة عن حاصل ضرب للوحدة يُمثِّل عددًا صحيحًا، ولكن هذا الرأي يواجه مأزقًا عندما تُصادفنا أعداد صماء (غير جذرية)؛ لأن هذه لا يمكن أن تُقاس على هذا النحو. ومن الجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية التي نترجمها بكلمة «صماء» كانت تعني «غير قابل للقياس»، لا «مفتقرًا إلى العقل»،٤ وذلك في نظر فيثاغورس على الأقل، ولكي يتغلب الفيثاغوريون على هذه الصعوبة، اخترعوا طريقة الاهتداء إلى هذه الأعداد التي يستحيل الوصولُ إليها، عن طريق سلسلة متعاقبة من التقريبات، وقِوام هذه الطريقة هو إيجاد الكسور المتصلة التي تحدَّثنا عنها من قبل؛ ففي مثل هذا التعاقب تَزيد الخطوات المتتالية عن العلامة المحددة مرة، وتقل عنها مرة، بمقادير تتناقص باستمرار، ولكن العملية لا نهائية في أساسها، والعدد الأصم الذي نستهدفه هو الحد النهائي للعملية، والفكرة من هذا التدريب هي أننا نستطيع الوصول إلى تقريبات جذرية تقترب بنا من الحد بقدر ما نريد. والواقع أن هذه السمة مماثلة لتلك التي ينطوي عليها مفهوم الحد في العصر الحديث.
figure
المثلثات، عدد مثلثيٌّ من أربعة سطور الرمز الذي كان يقسم به الفيثاغوريون.

وهكذا يُمكن وضع نظرية للعدد على أسس كهذه. ومع ذلك فإن فكرة الوحدة تُخفي خَلطًا أساسيًّا بين العدد المنفصل والكم المتصل، ويتضح هذا بمجرد تطبيق النظرية الفيثاغورية على الهندسة، وسوف نرى الصعوبات المترتبة على ذلك حين نناقش النقد الذي وجهه زينون.

أما الفكرة الرئيسية الأخرى، التي خلفتها الرياضيات الفيثاغورية، فهي نظرية المثل، والتي تبناها سقراط وزادها تطويرًا. وقد انتقد الإيليون هذه النظرية بدورها، هذا إذا اعتمدنا على شهادة أفلاطون، وقد أشرنا من قبل تلميحًا إلى الأصل الرياضي لهذه النظرية. فلنتأمل مثلًا نظرية فيثاغورس الهندسية، إن من غير المجدي رسْمَ شكل دقيق غايةَ الدقة لمثلث قائم الزاوية والمربعات المقامة على أضلاعه، ثم الانتقال إلى قياس مساحات هذه المربعات؛ ذلك لأن الرسم لن يكون دقيقًا بصورةٍ كاملة مهما توخَّينا الدقة فيه، بل إن من المستحيل أن يكون كذلك؛ فليست مثلُ هذه الأشكال هي التي تُقدم برهانًا على النظرية، بل إننا نحتاج من أجل مثل هذا البرهان إلى شكلٍ كامل، من ذلك النوع الذي يمكن تخيله، ولكن لا يمكن رسمُه. وأي رسم فِعلي ينبغي أن يكون نسخةً للصورة الذهنية تتفاوت في مدى مطابقتها لها. وهذا بالضبط هو لب نظرية المثل التي كانت جزءًا معروفًا من مذهب الفيثاغوريين المتأخرين.

ولقد رأينا كيف استحدث فيثاغورس مبدأً للانسجام من الكشف المتعلق بالأوتار المنغَّمة. ومن هذا الكشف ظهرت النظريات الطبية التي تنظر إلى الصحة على أنها نوع من التوازن بين الأضداد، وقد مضى الفيثاغوريون المتأخرون بهذه الفكرة مرحلة أبعد، وطبقوا مبدأ الانسجام على النفس. فالنفس تبعًا لهذا الرأي هي تناغم البدن، بحيث تصبح النفس مرتبطة بالحالة السليمة للجسم. وعندما ينهار تنظيم الجسد، يتحلل الجسد، وتتحلل النفس بدورها، ومن الممكن تصورُ النفس على أنها الوتر المشدود لآلة موسيقية، بينما الجسم هو الإطار الذي يُشَد عليه هذا الوتر، فإذا ما تحطَّم الإطار ارتخى الوتر وفقدَ تناغمه، ولا شك أن هذا الرأي مختلف كل الاختلاف عن الأفكار الفيثاغورية الأقدم عهدًا حول هذا الموضوع؛ إذ يبدو أن فيثاغورس كان يؤمن بتناسخ الأرواح، على حين أن الأرواح أو النفوس تبعًا لهذا الرأي الأحدث عهدًا، تموت كما تموت الأجساد.

وفي ميدان الفلَك قال الفيثاغوريون المتأخرون بفرضٍ جريء غاية الجُرأة، وتبعًا لهذا الرأي لا يكون مركز العالم هو الأرض، بل نار مركزية، وما الأرض إلا كوكب يدور حول هذه النار، ولكن هذه الأخيرة غير مرئية؛ لأن الجانب الذي نعيش فيه من الأرض بعيد دائمًا عن المركز، وقد نظروا إلى الشمس بدورها على أنها كوكب، يتلقى نوره بالانعكاس من النار المركزية. ولقد كانت تلك خطوة طويلة في اتجاه الفرض القائل بمركزية الشمس، والذي قال به أرسطرخس Aristarchus فيما بعد. ولكن الشكل الذي صاغ به الفيثاغوريون نظريتَهم ظلت تعترضه صعوبات جمة، مما حدا بأرسطو إلى العودة إلى الرأي القائل بأن الأرض مسطحة. ونظرًا إلى ما كان لأرسطو من سلطة هائلة في نواحٍ أخرى، فإن هذا الرأي وليس الرأي الصحيح هو الذي أصبح سائدًا في العصور التالية التي نُسِيَت فيها المصادر الأصلية.

أما بالنسبة إلى نمو النظريات المتعلقة بتكوين الأشياء، فإن الفيثاغورية كانت تَعترف بصفة تجاهلها كثير من المفكرين السابقين أو أساءوا فهمها، تلك هي فكرة الفراغ، التي يستحيل بدونها تقديم تفسير معقول للحركة. وهنا أيضًا نجد النظرية الأرسطية تعود فيما بعد إلى الرأي المتخلف القائل إن الطبيعة تُبغِض الفراغ، أما إذا شئنا أن نهتديَ إلى اتجاه التطور الصحيح للنظرية الفيزيائية، فعلينا أن نرجع إلى أصحاب المذهب الذري.

وخلال ذلك حاولت المدرسة الفيثاغورية أن تستوعب جوانب التقدم التي حقَّقها أنبادقليس، وبطبيعة الحال فإن نظرتهم الرياضية لم تسمح لهم بأن يَقبلوا العناصر الأربعة التي قال بها، بوصفها العناصرَ النهائية. وبدلًا من ذلك وضَعوا حلًّا وسطًا أرسى نظرية رياضية في تكوين المادة، وهكذا أصبحوا ينظرون إلى العناصر على أنها تتألف من جزئيات لها شكل الأجسام الجامدة المنتظمة، وقد طور أفلاطون هذه النظرية أبعد من ذلك في محاورة «طيماوس». أما كلمة «العنصر» ذاتها فيبدو أن هؤلاء الفيثاغوريين المتأخرين هم الذين نحتوها.

وهكذا فإن أيًّا من المحاولات المادية الرامية إلى الرد على نقد بارمنيدس لا يمكن، حتى هذه المرحلة، أن تُعَد مرضية من جميع الجوانب؛ فمهما كانت نقاط الضعف في النظرية الأولية ذاتها، يظل من الصحيح أن مجرد إكثارٍ من المواد الأساسية لا يُمكن أن يُقدِّم إلينا حلًّا، وقد أمكن التدليل بقوة على هذه النقطة عن طريق سلسلة من الحجج تَقدَّم بها أتباع بارمنيدس، وعلى رأسهم زينون، الذي كان ينتمي إلى بلدٍ بارمنيدس ذاتها، وكان تلميذًا له. وقد وُلد زينون حوالي عام ٤٩٠ق.م. والشيء الهام الوحيد الذي نعرفه عنه، إلى جانب كونه قد اهتم بالشئون السياسية، هو أنه هو وبارمنيدس قد قابلا سقراط في أثينا. وهذه واقعة يَرويها أفلاطون، وليس ثمة سبب يدعو إلى تكذيبه.

إن النظرية الإيلية — كما أوضحنا من قبل — تؤدي إلى نتائجَ مذهلة، ولهذا السبب بُذِلَت عدة محاولات لإصلاح عيوب المذهب المادي. ولقد كان ما حاول زينون القيام به هو أن يُبيِّن أنه إذا كان المذهب الإيلي يصدم الحسَّ العادي للإنسان، فإن النظريات المنافسة له، التي تزعم تذليل هذه العقبة، تُؤدي إلى صعوبات أغرب. وهكذا فإنه، بدلًا من أن يُقدم دفاعًا مباشرًا عن بارمنيدس، تصدى للمعارضة على أرضها، وهو يبدأ باتخاذ موقف الخصم، ثم يُبيِّن بالحُجة الاستدلالية أن هذا الموقف ينطوي على نتائج ممتنعة، ومن ثَم فمن المحال الدفاعُ عن الموقف الأصلي، وبذلك يسقط هذا الموقف.

هذا النوع من الحجج مُشابِه لبرهان الخلف reduction ad absurdum الذي تحدثنا عنه عند الكلام عن نظرية التطور عند أنكسيمندر. غير أن بينهما اختلافًا هامًّا؛ ففي برهان الخلف المألوف يستدل المرء من بطلان النتيجة على أن إحدى المقدمات لا بد أن تكون باطلة. أما زينون فقد حاول أن يُثبِت أن من الممكن استخلاصَ نتيجتَين متناقضتَين من افتراض معين، وهذا يعني أن النتيجتَين ليستا باطلتَين فحسب، بل هما مستحيلتان. وهو يستنتج من ذلك أن الافتراض الذي تلزم عنه هاتان النتيجتان هو ذاته مستحيل، هذا النوع من الحجج يسير في طريقه دون أية مقارنة بين النتائج والوقائع، ومن ثَم فهو بهذا المعنى جدلي تمامًا، أي إنه ينتمي إلى ميدان السؤال والجواب. والواقع أن زينون كان أولَ مَن استخدم الحُجة الجدلية بطريقة منهجية. وكان لهذه الحجة دور عظيم الأهمية في الفلسفة، وقد اقتبسها سقراط وأفلاطون من الإيليين وطَوَّراها بطريقتهما الخاصة، ومنذ ذلك الحين أصبحت لها مكانة هامة في الفلسفة.

لقد كانت حجج تزينون في أساسها هجومًا على التصور الفيثاغوري للوحدة، وترتبط بذلك حجج ضد الفراغ وضد إمكان الحركة.

فلنتأمل أولًا حُجة تُثبِت عدم صحة فكرة الوحدة، إن تزينون يقول إن كل ما يوجد لا بد أن يكون له حجم، وإلا لما وُجِد أصلًا، فإذا سلَّمنا بذلك، كان من الضروري أن نُسلِّم به بالنسبة إلى كل جزء، بحيث يكون من الضروري أن يكون لهذا الجزء بدوره حجم. وهو يمضي قائلًا إن إصدار هذا الحكم مرة يُساوي إصداره بصورةٍ دائمة. وتلك طريقة مبسَّطة في إدخال فكرة قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية؛ إذ لا يمكن أن يُقال عن أي جزء إنه هو الأصغر، فإذا كانت الأشياء كثيرة، كان من الضروري أن تكون صغيرة وكبيرة في آنٍ معًا. بل إن من الضروري أن تكون صغيرة إلى حد ألا يكون لها حجم؛ لأن قابلية الانقسام إلى ما لا نهاية تُثبِت أن عدد الأجزاء لا متناهٍ. مما يقتضي وحدات بلا حجم، ومن ثم فإن أي مجموع لهذه الوحدات بلا حجم أيضًا، ولكن الوحدة ينبغي أن يكون لها حجم ما في الوقت ذاته، ومن ثم فإن الأشياء كبيرة إلى حدٍّ لا متناهٍ.

وترجع أهمية هذه الحجة إلى أنها تُثبِت أن نظرية العدد الفيثاغورية تُخفِق في ميدان الهندسة؛ ذلك لأن فيثاغورس يرى أننا لو تأملنا خطًّا، فينبغي أن نكون قادرين على أن نذكر عدد الوحدات الموجودة فيه، ولكن من الواضح أننا إذا سلمنا بفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فإن نظرية الوحدات تنهار فورًا، ومع ذلك فمن المهم أن ندرك أن هذا لا يُثبِت خطأَ فيثاغورس، بل إن ما يثبته هو استحالة القول بنظرية الوحدة وبفكرة قابلية القسمة إلى ما لا نهاية في آنٍ واحد، أو بعبارةٍ أخرى أنهما لا تجتمعان، بل يجب التخلي عن إحداهما. فإذا كانت الرياضة تقتضي قابلية القسمة إلى ما لا نهاية، فلا بد من التخلي عن الوحدة الفيثاغورية. وهناك نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، وتتعلق ببرهان الخلف ذاته؛ فالقضية الواحدة ذات المعنى لا يمكن أن تكون لها نتائج مباشرة متناقضة فيما بينها، بل إن المتناقضات لا تتولد إلا حين تُضاف إليها قضايا أخرى، كما يحدث في حالة وجود حُجَّتَين، عندما تكون القضية المضافة في إحدى الحجتَين متناقضة مع القضية المضافة في الأخرى، وهكذا فإن لدينا في الحالة التي نبحثها الآن حُجتان؛ أُولاهما: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات بلا حجم، ومن ثَم فليس للأشياء حجم، والثانية: هي أن الأشياء كثيرة والوحدات لها حجم، ومن ثَم فللأشياء حجم لا مُتناهٍ. أما المقدمتان الإضافيتان المتناقضتان فهما أن الوحدات بلا حجم، وأنها ذات حجمٍ ما؛ ففي كلتا الحالتَين تكون النتيجة واضحةَ الامتناع. ويترتب على ذلك أن في مقدمتَيْ كل حجة شيئًا ما خطأً. وهذا الشيء الخطأ هو التصور الفيثاغوري للوحدة.

ولكي يدعم زينون موقف بارمنيدس المعارض لفكرة الفراغ، نراه يتقدم بحُجةٍ جديدة. فإذا كان المكان موجودًا وجب أن يكون متضمَّنًا في شيءٍ ما، وهذا الشيء لا يمكن إلا أن يكون مكانًا آخر، وهكذا إلى غير حد. ولما كان زينون يرفض هذا التسلسل الذي لا يتوقف، فإنه يستنتج أنه ليس ثَمة مكان، ولكن ما يعنيه هذا الموقف حقيقة هو إنكار الرأي القائل إن المكان وعاء (حاوٍ) فارغ. فمن الواجب في رأي زينون ألا نُميِّز بين الجسم وبين المكان الذي يَشغله، ولكن لن يكون من الصعب أن نُدرِك أن فكرة الوعاء (الحاوي) يُمكن بسهولة أن تنقلب ضد نظرية «الكرة Sphere» كما قال بها بارمنيدس؛ ذلك لأن القول إن العالم كرة متناهية، يعني في هذه الحالة أنه موجود في مكانٍ فارغ. وإذا كان زينون يسعى هنا إلى الحفاظ على نظرية أستاذه، فمن المشكوك فيه أن يكون مجرد الكلام عن الكرة المتناهية أمرًا له معنًى، إذا لم يكن يوجد خارج هذه الكرة شيء.
هذا النوع من الحجج الذي يمكن تَكراره مرة تلو الأخرى، يُسمَّى بالتسلسل الشيء ما لا نهاية Infinite Regress، وهو لا يؤدي دائمًا الشيء تناقض، بل إن أحدًا لا يستطيع في أيامنا هذه أن يَعترض على الرأي القائل إن كل مكان هو جزء من مكانٍ أكبر. أما في حالة زينون فإن التناقض يظهر لمجرد أنه يُسلِّم بأن «ما هو موجود» لا متناهٍ، فتكون النتيجة هي أن يُواجه ما يُسمَّى بتسلسل الشيء ما لا نهاية يستحيل أن نجد منه مخرجًا.

هذا النوع من الحجج التسلسلية التي يستحيل الخروج منها هو في الواقع شكل من أشكال برهان الخلف. وما تثبته هذه الحجج هو أن أساس الحجة يتناقض مع قضية أخرى معينة نُسلِّم بأنها صحيحة.

على أن أشهر حجج زينون هي مفارقات الحركة الأربع، وعلى رأسها حكاية أخيل والسلحفاة. وهنا أيضًا نجده يدافع عن بارمنيدس بطريقةٍ غير مباشرة، ويُلقي عبء الرد على الفيثاغوريين الذين يتعين عليهم أن يُقدِّموا شيئًا أفضل ما دامت نظريتهم تعجز عن إيجاد تفسير للحركة بدورها. وتقول الحجة إنه لو تسابق أخيل والسلحفاة في سباق تتابع فمن المستحيل أن يلحق أخيل بمنافسته. فلو فرضنا أن السلحفاة بدأت تسير مسافةً ما في المضمار، فإنه في الوقت الذي يجري فيه أخيل حتى يصل الشيء النقطة التي بدأت منها السلحفاة، تكون هذه قد تحركت مسافة ما الشيء الأمام. وحين يجري أخيل الشيء هذا الموقع الجديد تكون السلحفاة قد انتقلت الشيء نقطة أبعد قليلًا. وهكذا ففي كل مرة يصل فيها أخيل الشيء موقع السلحفاة السابق، تكون هذه المسكينة قد تحركت بعيدًا. صحيحٌ أن أخيل يقترب منها أكثر فأكثر، ولكنه لن يلحقها أبدًا.

وعلينا أن نتذكر أن هذه الحجة موجهة ضد الفيثاغوريين، ومن ثَم فإنه يتبنى موقفهما وينظر إلى الخط على أنه مؤلَّف من وحدات أو نقط؛ لذلك فإن النتيجة إنما تريد أن تقول إنه مهما كان بُطء حركة السلحفاة، فلا بد أن تقطع مسافة لا متناهية قبل أن تُجرِيَ السباق. فتلك إذن صورة أخرى للحُجة القائلة إن الأشياء لا نهائية في حجمها، وبرغم أنه ليس من الصعب أن نُبيِّن وجه الخطأ في تلك النتيجة، فلا بد أن يكون واضحًا تمامًا أن الحُجة لا تشوبها أية شائبة من حيث هي ردٌّ على النظريات الفيثاغورية المتعلقة بالوحدة. والطريقة الوحيدة لتِبْيان الخطأ في تلك النتيجة، إنما تكون عن طريق وضع نظرية في السلاسل اللامتناهية بعد التخلي عن هذه النظرة إلى الوحدة. فإذا كانت لدينا مثلًا سلسلة تتألف من حدود تتناقص بنسبةٍ ثابتة، كما هي الحال في أطوال المراحل المتعاقبة للسباق، فإننا نستطيع أن نحسب في أي موضعٍ سيلحق أخيل بالسلحفاة، ويُعرَف مجموع هذه السلسلة بأنه عدد لن يَزيد عنه أبدًا مجموعُ أي عدد من الحدود، مهما كان مقداره، ولكن مجموع عدد كبير بما فيه الكفاية من الحدود يقترب منه إلى أي مدًى نشاء. أما مسألة أن هذا العدد ينبغي أن يكون واحدًا، وواحدًا فقط بالنسبة إلى أية سلسلة معينة، فيجب أن نُقرِّرها هنا دون برهان. ويُوصَف نوع السلاسل المتضمَّن في السباق بأنه سلسلة هندسية، وهو موضوع يستطيع أي شخص لديه إلمام بأوَّليات الرياضة في أيامنا هذه أن يُعالجه، ولكن ينبغي أن نذكر أن العمل النقدي الذي قام به زينون هو بعينه الذي جعل من الممكن وضع نظرية سليمة في الحكم المتصل، ترتكز عليها تلك المجموعات التي تبدو لنا اليوم أشبهَ بلعب الأطفال.

وهناك حجة أخرى تنطوي على مفارقة، وتُسمَّى أحيانًا بحجة «حلبة السباق»، تكشف عن الجانب الآخر للهجوم الديالكتيكي. وتقول الحجة إن المرء لا يستطيع أبدًا أن يَعبُر حَلْبة السباق من أحد طرَفَيها إلى الآخر؛ لأن هذا يعني أن عليه عبورَ عدد لا نهائي من النقاط في زمنٍ متناهٍ. أو بعبارةٍ أدقَّ فقبل الوصول إلى نقطة لا بد أن يعبر نصف المسافة الموصلة إليها، ثم نصف النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذن فليس في وُسع المرء أن يبدأ الحركة على الإطلاق. وهذه الحجة مقرونة بحجة أخيل والسلحفاة التي تُبيِّن أن المرء ما إن يبدأ حتى يستحيل أن يتوقف، تهدم الفرض القائل إن الخط المستقيم يتألف من وحدات كثيرة إلى حدٍّ لا متناهٍ.

ويُقدِّم زينون حُجتَين أُخريَين لكي يُثبِت أن الافتراض القائل بأنه لا يوجد إلا عددٌ متناهٍ من الوحدات في الخط الواحد لن يؤدي إلى أصلِ الوضع. فلنأخذ أولًا ثلاثة خطوط متوازية ومتساوية، تتألف من نفس العدد المتناهي من الوحدات، ولنفرض أن واحدًا منها ساكن، والآخران متحركان في اتجاهَين متضادَّين بسرعةٍ متساوية، بحيث يقع الثلاثة كلٌّ بحِذاء الآخر عندما يمر الخطان المتحركان أمام الخط الساكن. هنا نجد أن السرعة النسبية للخطَّين المتحركَين هي ضعف السرعة النسبية لكلٍّ منهما بالقياس إلى الخط الساكن. وتعتمد الحجة بعد ذلك على افتراض آخر بأن هناك وحداتٍ زمانيةً مثلما أن هناك وحداتٍ مكانية. وعلى ذلك فإن السرعة تُقاس بعدد النقاط التي تتحرك عبر نقطة محدَّدة خلال عدد محدد من اللحظات؛ ففي الوقت الذي يمر فيه أحد الخطَّين المستقيمَين بنصف طول الخط الساكن، يمر بالطول الكامل للخط المتحرك. ومن هنا فإن الزمن الأخير ضعف الأول، ولكن لكي يصل الخطان إلى موقعهما بمحاذاة كل منهما فإنهما يستغرقان زمنًا واحدًا، وهكذا يبدو أن الخطَّين المتحركَين يتحركان بضِعف السرعة التي يتحركان بها، وبالطبع فإن الحجة معقدة إلى حدٍّ ما؛ لأننا لا نفكر عادة على أساس لحظات بقدر ما نفكر على أساس مسافات، ولكنها تُمثل نقدًا سليمًا تمامًا لنظرية الوحدات.

وأخيرًا، فهناك حجة السهم؛ ففي أية لحظة يحتل السهم الطائر، وأخيرًا مساويًا لذاته، ومن ثَم فهو ساكن. وإذن فهو على الدوام ساكن، وهذا يثبت أن الحركة لا تستطيع حتى أن تبدأ، على حين أن الحجة السابقة أثبتَت أن الحركة أسرع دائمًا مما هي. وهكذا فإن زينون إذ هدم النظرية الفيثاغورية في الكَم المنفصل على هذا النحو، قد أرسى دعائم نظرية في الكم المتصل. وهذا بعينه هو ما نحتاج إليه من أجل الدفاع عن نظرية بارمنيدس في الفلك الكري المتصل.

أما الفيلسوف الإيلي المشهور الآخر فهو مليسوس Melissus من ساموس، الذي كان معاصرًا لزينون، ونحن لا نعرف عن حياته سوى أنه كان قائدًا عسكريًّا خلال التمرد الذي حدث في ساموس، وأنه هزم الأسطول الأثيني في عام ٤٤١ق.م، ولقد أدخل مليسوس تعديلًا إيجابيًّا في نقطة هامة؛ فقد رأينا من قبل أن زينون اضطُرَّ إلى إعادة تأكيد رفضه للفراغ، ولكن لو صح ذلك لكان من المستحيل أن يُوصَف الموجود بأنه فلك كري متناهٍ؛ إذ إن هذا الوصف يوحي بأن ثمة شيئًا خارجه، هو المكان الخالي. وهكذا فإن استبعاد الفراغ يُحتِّم علينا أن ننظر إلى الكون المادي على أنه لا متناهٍ في جميع الاتجاهات، وهذا هو الاستنتاج الذي انتهى إليه مليسوس.

ولقد ذهب مليسوس في دفاعه عن «الواحد» الذي قالت به المدرسة الإيلية، إلى حد استباق النظرية الذرية؛ فهو يرى أنه لو كانت الأشياء كثيرة، لوجب أن يكون كلٌّ منها مماثلًا «للواحد» عند بارمنيدس؛ ذلك لأنه لا شيء يظهر من العدم أو يفنى فناءً تامًّا. وهكذا فإن النظرية الوحيدة المقبولة، والتي تقول بوجود الكثرة، هي تلك التي نتوصل إليها بتفتيت الفلك الكري الذي قال به بارمنيدس إلى أفلاكٍ صغيرة، وهذا بعينه هو ما فعله الذريُّون.

لقد كان جدل زينون في أساسه هجومًا هدامًا على آراء الفيثاغوريين، وقد وضع هذا الجدلُ في الوقت ذاته أسسَ الجدل عند سقراط، ولا سيما بالنسبة لمنهج الفرض، الذي سنتحدث عنه فيما بعد. كذلك فإن المرء يجد ها هنا للمرة الأولى استخدامًا منهجيًّا لحُجة مكثَّفة في مسألةٍ محددة، وأغلب الظن أن الإيليين كانوا متبحِّرين في الرياضيَّات الفيثاغورية؛ لأن هذا هو الميدان الذي يتوقع المرء أن يجد فيه تطبيقات لهذه الطريقة المنهجية، غير أننا للأسف لا نعرف إلا القليل عن الطرق الفعلية التي كان الرياضيون اليونانيون يُجرون بها تحليلاتهم، ولكن يبدو من الواضح أن النموَّ السريع للرياضيات خلال النصف الثاني من القرن الخامس، كان مرتبطًا بقدرٍ ما بظهور قواعدَ راسخة للحوار وتبادل الحُجج.

كيف نستطيع على أي نحو تفسيرَ العالم المتغير من حولنا؟ من الواضح أن مِن طبيعة التفسير ألا تكون أسُسه ذاتُها متغيرة، ولقد كان أول مَن طرحوا هذا السؤال هم الملطيون الأوائل، وقد رأينا كيف عملت المدارس التالية بالتدريج على تحوير المشكلة وزيادة دقتها. وفي النهاية كان مُفكِّر آخر من ملطية هو الذي قدم الرد النهائي على هذا السؤال، لقد كان ليوقبوس Leucippus الذي لا نعرف عنه شيئًا آخر ذا أهمية، هو أبو المذهب الذري. والنظرية الذرية نتيجة مباشرة للمدرسة الإيلية، وقد كاد مليسوس أن يهتديَ إليها خلال مساره الفلسفي.

إن النظرية إنما هي توفيق بين الواحد والكثير؛ فقد أدخل ليوقبوس فكرة الجزئيات المكونة التي لا تُحصى، والتي يَشترك كلٌّ منها مع فلك بارمنيدس في أنه جامد، صُلب، لا ينقسم. هذه هي «الذرات»، وهي تعني (في أصلها اليوناني) الأشياءَ التي لا يمكن تجزئتها، هذه الذرات تتحرك دومًا في فراغ. وكان يفترض أن تركيب الذرات جميعًا واحد، وإن اختلفت في الشكل. ولقد كان معنى عدم قابلية الانقسام في هذه الجزئيات هو أنها لا يمكن أن تتفتَّت ماديًّا، أما المكان الذي تَشغله فهو بالطبع قابلٌ للانقسام رياضيًّا بغير حدود. والسبب الذي يجعل الذراتِ لا تُرى بالطريقة العادية هو أنها صغيرة إلى حدٍّ هائل، وبذلك أصبح من الممكن الآن تقديمُ تفسير للصيرورة أو التغيُّر؛ فالطابع المتغير دومًا للعالم، ينشأ من إعادة ترتيب الذرات وتشكيلها.

ولو عبَّرنا عن موقف الذريين بلغة بارمنيدس، لقلنا إن رأيهم مفاده أن ما لا يكون يُماثل في حقيقته ما هو كائن، وبعبارةٍ أخرى فإن الفراغ موجود. أما ما هو هذا الفراغ فأمرٌ يصعب التعبير عنه. وفي هذه الناحية لا أعتقد أننا اليوم تقدمنا كثيرًا عن اليونانيين؛ فكل ما يُمكِننا أن نقوله عن ثقةٍ هو أن المكان الخاليَ هو ما يَصدُق عليه علم الهندسة بمعنًى ما. والواقع أن الصعوبات السابقة للمذهب المادي إنما نشأت من إصراره على أن كل شيء ينبغي أن يكون جسميًّا.

والوحيد الذي كانت لديه فكرة واضحة عما قد يكونه الفراغ هو بارمنيدس، الذي أنكر وجوده بالطبع. ومع ذلك فمن المفيد أن نتذكر أن عبارة «ما لا يكون كائن» لا تنطوي على تناقض في الألفاظ في اللغة اليونانية. ويكمُن الحل في وجود كلمتَين يونانيتَين تُعبِّران عن النفي؛ إحداهما: تقريرية (خبرية)، كما في قولي: «لا أحب س»، والأخرى: فرَضية (إنشائية)، وتُستخدَم في الأوامر والرغبات وما شاكلها. وأداة النفي الفرضية (الإنشائية) هذه هي التي تُستخدَم في عبارة «ما لا يكون» أو «اللاوجود»، كما يستخدمها الإيليون. ولو كانت أداة النفي التقريرية (الإخبارية) هي التي استُخدِمت في «ما لا يكون كائن» لكان ذلك بالطبع تناقضًا صارخًا. أما في الإنجليزية٥ فلا وجود لهذا التمييز، ومن هنا كانت ضرورة هذا الاستطراد.

لقد تساءل الكثيرون: هل كانت النظرية الذرية عند اليونانيين مبنيةً على الملاحظة، أم أنها كانت مجردَ رمية من غيرِ رامٍ، ولم يكن لها أساس سوى التأمل الفلسفي؟ والجواب عن هذا السؤال ليس على الإطلاق بالبساطة التي قد يبدو عليها؛ فأولًا يتضح مما قيل أن النظرية الذرية هي الحل الوسط الوحيد المعقول بين موقف الإنسان العادي وبين النظرية الإيلية؛ إذ كانت هذه النظرية الأخيرة نقدًا منطقيًّا للمذهب المادي السابق. ومن جهةٍ أخرى فقد كان ليوقبوس ملطيًّا، وكان على إلمامٍ واسع بنظريات مُواطنيه الكبار الذين سبقوه في الظهور، وتشهد على ذلك آراؤه في الكونيات؛ إذ إنه عاد إلى الآراء السابقة التي قال بها أنكسيمندر، بدلًا من أن يسير في طريق الفيثاغوريين.

ومن الواضح أن نظرية أناكسيمنيس في التكاثف والتخلخل قد بُنِيَت، إلى حد ما، على ملاحظة ظواهر مثل تكثف الأبخرة على الأسطح الملساء. وهكذا فإن المشكلة كانت تكمن في إدماج النقد الإيلي في نظرية عن الجزيئات. أما مسألة اتصاف الذرات بالحركة الدائمة، فمن الممكن أن يكون قد استوحاها من هذه الملاحظة ذاتها، أو من تراقص الغبار في شعاع من الضوء. وعلى أية حال فإن نظرية أناكسيمنيس لا يمكن تطبيقها بالفعل إلا إذا تصورنا مجموعات من الجزئيات متفاوتة في درجة الكثافة التي تتجمع بها، وهكذا فليس من الصحيح قطعًا أن المذهب الذري اليوناني كان مجرد تخمين موفق، ولنذكر أنه عندما قام الكيميائي Dalton بإعادة إحياء النظرية الذرية في العصر الحديث، كان على وعي بالآراء اليونانية في الموضوع، ووجد أن هذه الآراء تُقدِّم تفسيرًا لملاحظته بشأن النسب الثابتة التي تتجمع بها المادة الكيميائية.
غير أن هناك سببًا أعمق لقولنا إن النظرية الذرية لم تكن كشفًا عشوائيًّا. هذا السبب يتعلق بالبناء المنطقي للتفسير ذاته؛ إذ ما معنى تفسيرنا لشيءٍ ما؟ إنه بيان للطريقة التي يكون بها ما يحدث، نتيجة لتشكيل متغير لأشياء. فإذا ما أردنا تفسير تغير في شيءٍ مادي، وجب علينا أن نفعل ذلك بالإشارة إلى الترتيبات المتغيرة لمكونات فرضية تظل هي ذاتها بغير تفسير. وهكذا فإن القوة التفسيرية للذرة تظل سليمة ما دامت الذرة ذاتها لا تُتخَذ موضوعًا للبحث. ولكن بمجرد أن يحدث ذلك تصبح الذرة موضوعًا للبحث التجريبي، وتصبح العناصر التفسيرية هي الجزئيات الأصغر من الذرة، التي تظل بدورها بلا تفسير. وقد أسهب الفيلسوف الفرنسي إميل مايرسون E. Meyerson في مناقشة هذا الوجه من أوجه النظرية الذرية. وهكذا فإن النظرية الذرية تتفق مع بناء التفسير السببي.
ولقد أدخلت تطورات هامة على النظرية الذرية على يد ديمقريطس Democritus الذي كان من مواطني أبديرا Abdera، وكان في أوج شهرته حوالي عام ٤٢٠ق.م، وكان من أهم آرائه التمييزُ بين الأشياء كما هي عليه في حقيقتها، والأشياء كما تبدو لنا. وهكذا فإن العالم المحيط بنا يتألف، حقيقة وفقًا للتفسير الذري، من ذرات في فراغٍ فحسب، على حين أن هذا العالم يتكشَّف لنا في تَجرِبتنا على أنحاءٍ شتى. وهذا يؤدي إلى تمييز آخر بين ما أُطلِق عليه بعد ذلك بوقتٍ طويل اسم الكيفيات الأولية والكيفيات الثانوية. أما الأولى فهي الشكل والحجم والمادة، وأما الثانية فهي الألوان والأصوات والطعوم وما شابهها، وبعد ذلك تُفسَّر هذه الأخيرة على أساس الأولى التي تنتمي إلى الذرات نفسها.

وسوف نلتقي بالنظرية الذرية مرارًا خلال رحلتنا في هذا الكتاب. أما الحدود التي لا تستطيع هذه النظرية أن تتعداها، فسوف نناقشها في المواضع المناسبة، وحسبنا الآن أن نُشير إلى أن المذهب الذري ليس حصيلةَ تأمُّل خيالي، وإنما هو إجابة جادة عن السؤال الذي أثاره الفلاسفة الملطيون، وهي إجابة استغرق إعدادُها مائة وخمسين عامًا.

وإلى جانب أهمية النظرية الذرية بالنسبة إلى العلم الطبيعي، فقد أدت أيضًا إلى نظرية جديدة عن النفس، فالنفس كأي شيء آخر تتألف من ذرات، ولكنها ذرات ألطف من غيرها، وتتوزع على كافة أنحاء الجسم. وتبعًا لهذا الرأي يكون الموت تحللًا، ولا يكون هناك وجود للخلود الشخصي، وهي نتيجة استخلصها أبيقور وأتباعه فيما بعد. أما السعادة وهي غاية الحياة، فقِوامها أن تكون النفس في حالةٍ متوازنة.

وفي الوقت الذي كانت فيه المدارس الفلسفية تنمو خلال القرن الخامس، ظهرَت جماعة من الناس كانت بمعنًى ما على هامش الفلسفة. هؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم عادة اسم السفسطائيين، الذين يُشير إليهم سقراط بازدراء، بوصفهم أولئك الذين يجعلون الحُجة الأضعف تبدو وكأنها هي الأقوى. ومن المهم أن نعرف كيف ظهرت هذه الحركة، وماذا كانت وظيفتها في المجتمع اليوناني.

إن التغير المستمر في ساحة المعركة الفلسفية قد جعل من الصعب تبيان الجانب الذي قد يكون على حق، ومثل هذه المسائل التي تظل معلقة، هي أمور لا يتوافر لدى الأشخاص العمليين وقتٌ للانشغال بها. فأية مسألة لا يتم حسمها، هي شيء لا جدوى منه بالنسبة إلى من يريدون إنجاز الأمور، حتى يُمارسوا فاعليتهم، ولقد كانت هذه على وجه الإجمال هي الأزمةَ التي وجد السفسطائيون أنفسَهم فيها؛ فالنظريات المتعارضة للفلاسفة لم تكن تُبشِّر بإمكان قيام أية معرفة على الإطلاق، وفضلًا عن ذلك فإن التجرِبة المتزايدة للاحتكاك بالشعوب الأخرى أثبتَت أن هناك فجواتٍ يستحيل عبورها بين عادات الشعوب المختلفة. وقد روى هيرودوت حكايةً حول هذا الموضوع؛ ففي بلاط ملك الفرس العظيم، جاءت وفود من قبائل الأقاليم المختلفة التي تخضع لإمبراطورية الفرس، وكان كل وفد منها يشهق فزعًا كلما سمع عن المراسم الجنائزية لدى الوفد الآخر، فالبعض كان يحرق موتاه، والبعض الآخر كان يُحنِّطهم، وفي النهاية اقتبس هيرودوت بيتًا للشاعر بندار Pindar يقول فيه إن العُرف هو الملك الذي يحكم الجميع. ولما كان السفسطائيون يرون أن المعرفة لا يمكن اكتسابها، فقد أعلنوا أنها ليست بذات أهمية، والمهم هو الرأي المفيد، وبالطبع فإن هذا القول ينطوي على قدرٍ من الصواب؛ ففي أداء الشئون العملية يكون النجاح بالفعل هو العاملَ الذي يطغى على غيره، ولكن سقراط يتخذ في هذه المسألة بدورها موقفًا مضادًّا تمامًا. فيما كان اهتمام السفسطائيين مُنصبًّا على الممارسة العمَلية السليمة، رأى سقراط أن هذه الممارسة لا تكفي، وأن الحياة التي لا تخضع لفحص عقلي دقيق لا تستحق أن تُعاش.

ولقد قام السفسطائيون بمهمة تقديم تعليم منظم في الوقت الذي لم تكن فيه اليونان تعرف عن هذا التعليم إلا أقلَّ القليل؛ إذ كانوا معلمين جوَّالين يُقدِّمون دروسًا تعليمية على أساس احترافي. وكان من الأمور التي عابها عليهم سقراط تقاضيهم أجورًا، على أن المرء قد يشعر حقًّا بأن سقراط لم يكن في هذه المسألة منصفًا؛ إذ إن مُحترفي الكلام أنفسهم يحتاجون إلى أن يأكلوا من آنٍ لآخر، ومع ذلك ينبغي أن نشير إلى أن التراث الأكاديمي ينظر إلى الأجور على أنها نوع من الحماية التي تُتيح للأستاذ أن ينسى المشكلات المادية.

ولقد كانت الموضوعات التي يهتم بها السفسطائيون في تعليمهم تختلف من فردٍ لآخر، وكان أكثر أنشطتهم احترامًا هو تقديم تعليم أدبي، ولكن كان هناك آخرون يُعلِّمون موضوعاتٍ ذاتَ قيمة عمَلية مباشرة، فمع انتشار الدساتير الديمقراطية في القرن الخامس، أصبح من الضروري للمرء أن يتعلم الخطابة، وقد اضطلع بهذه المهمة مُعلِّمون للفصاحة والبلاغة، وبالمثل كان هناك معلمون للسياسة يُلقِّنون تلاميذهم فنون إدارة شئون المجالس. وأخيرًا كان هناك معلمون للجدل أو النقاش كان في استطاعتهم أن يجعلوا الحجة السيئة تبدو وكأنها هي الأفضل. ولهذا الفن فوائدُ واضحة في المحاكم، حيث يتعين على المتهم أن يُدافع عن نفسه، وقد استطاع معلموه أن يُعلموا الناس كيف يُحورون الحجج ويُفحمون الخصوم.

ومن المهم أن نُميز بين هذا النوع من الجدل الخطابي وبين الجدل الفلسفي (الديالكتيك)، فالذين يُمارسون الأول يضعون الفوز نُصبَ أعينهم، على حين أن أصحاب الجدل الفلسفي يُحاولون الوصول إلى الحقيقة، وهذا في الواقع هو الفرق بين المجادلة والمناقشة.

وعلى حين أن السفسطائيين قد قاموا في ميدان التعليم بمهمةٍ لها قيمتها، فإن نظرتهم الفلسفية كانت مُعادية للبحث العقلي؛ ذلك لأن تلك النظرة كانت مَشوبةً بالشك اليائس، وكانت تُشكِّل موقفًا سلبيًّا من مشكلة المعرفة، ويتلخص هذا الموقف في الكلمة المشهورة لبروتاجوراس القائلة: إن «الإنسان مقياس كل شيء، الأشياء الموجودة على أنها موجودة، والأشياء غير الموجودة على أنها غير موجودة»، وهكذا فإن رأي كل إنسان صحيح بالنسبة إليه، ولا يمكن البتُّ في الخلافات بين الناس على أساس الحقيقة؛ فلا عجب إذن أن نجد السفسطائي تراسماخوس Thrasymachus يُعرِّف العدالة بأنها مصلحة الأقوى.

وعلى ذلك، فبالرغم من أن بروتاجوراس يتخلى عن البحث عن الحقيقة، يبدو أنه يعترف بأن رأيًا معينًا يمكن أن يكون أفضل من رأيٍ آخر بالمعنى البرجماتي، وإن كان هذا الموقف يتعرض للنقد المنطقي العام الذي يُوجَّه إلى البرجماتية؛ ذلك لأننا لو سألنا أي الرأيين هو الأفضل بالفعل لوجدنا أنفسنا نعود مرة أخرى إلى فكرة الحقيقة المطلقة، وعلى أية حال فإن بروتاجوراس هو المؤسس الأول للبرجماتية.

وهناك قصة طريفة تكشف عن الطريقة التي أصبح الناس ينظرون بها إلى السفسطائيِّين؛ فقد كان بروتاجوراس مقتنعًا بأن طريقة تعليمه فعالة إلى أقصى حد، ومِن ثَم فقد طلب إلى أحد تلاميذه أن يدفع له أجره من حصيلة أول قضية يترافع فيها. غير أن الشاب بعد أن استكمل تدريبه لم يبدأ في ممارسة مهنته. فلجأ بروتاجوراس إلى القضاء ليسترد أجره، مستندًا أمام المحكمة إلى أن تلميذه يجب أن يدفع؛ إما عن طريق الاتفاق السابق لو كسب التلميذ، وإما عن طريق الحكم القضائي لو خسر. غير أن المتهم أعطاه في الرد حقه وزيادة؛ إذ أعلن أنه لا ينبغي أن يدفع شيئًا؛ إما عن طريق الحكم القضائي لو كسب، وإما عن طريق الاتفاق السابق لو خسر.

لقد كانت كلمة «السفسطائي» ذاتها تعني رجلًا حكيمًا، ونظرًا إلى أن سقراط بدوره كان معلمًا، فلم يكن من المستغرَب أن يُطلِق عليه أولئك الذين لم يعرفوه في عصره حق المعرفة اسم السفسطائي، ولقد بيَّنا من قبلُ مدى خطأ هذه التسمية، ومع ذلك فإن التمييز لم يُعترَف به على الوجه الصحيح إلا في عصر أفلاطون، ولا جدال في أن الفلاسفة والسفسطائيين يستثيرون بمعنًى مُعيَّن ردود أفعال متشابهة لدى الجماهير.

والواقع أن أصحاب العقليات غير الفلسفية كانوا منذ أقدم العهود يتخذون موقفًا عجيبًا وغير متسق من الفلسفة بوجهٍ عام، فهم من جهةٍ يميلون إلى التعامل مع الفلاسفة بتسامح مَشوب بالرقة والعطف بوصفهم حمقى لا ضرر منهم، وأناسًا ذوي أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رءوسهم في السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة لا صلة لها بالهموم الحقيقية للناس، ولا يكترثون بالأمور التي ينبغي أن يهتم بها المواطنون العقلاء، غير أن التفكير الفلسفي يمكن أن يكون له من جهةٍ أخرى تأثيرٌ يُزعزِع بعمق كلَّ ما هو سائد من عُرفٍ وتقاليد، وفي هذه الحالة يُنظَر إلى الفيلسوف، بعين الشك، على أنه شخصٌ خارج عن العرف المألوف، يُعكِّر صفو التقاليد والأعراف، ولا يُبدي موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التي تبدو صالحة في نظر كل من عداه.

ذلك لأن أولئك الذين لم يعتادوا النقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يُناقش أحدٌ معتقداتهم التي يعتزون بها، ويكون رد فعلهم مصحوبًا بالكراهية والعداء. وهكذا اتُّهِم سقراط بنشر تعاليمَ هدامة، شأنه شأن السفسطائيين بوجهٍ عام، ومُعلِّمي الجدل الخطابي بوجهٍ خاص.

١  يرتكب رَسل هنا ما نعتقد أنه خطأ منهجي ينبغي تجنبه، وهو قراءة كشوف متأخرة في أقوال فلاسفة قدماء، فحتى لو تصادف أن تحققَت بعضُ أقوال القدماء في عصورٍ لاحقة، فإن طريقة الكشف في الحالتَين مختلفة كل الاختلاف؛ إذ هي تأملية في حالة الفلاسفة، وتجريبية دقيقة في حالة العلماء المتأخرين. وعلى ذلك لا ينبغي أن ننسب فضلًا لرأي فيلسوف، أو لأي نص قديم، لو تصادف أنْ حقَّقه العلمُ فيما بعد، ما دام هذا الرأي، أو ذاك النص، لم يَقُم في البداية على أي أساس علمي دقيق (المترجم).
٢  كلمة Calculus في اللاتينية تعني «حصاة» (المترجم).
٣  على الرغم من أن كلمة «الحرب» مؤنثة في اللغة العربية، فلم يكن من الممكن في ضوء المعنى المقصود أن نقول: «الحرب أمُّ الأشياء جميعًا»؛ لما تحمله كلمة «أم» من ارتباطات عاطفية لا وجود لها في النص (المترجم).
٤  هذه المقارنة أصلحُ للغة الإنجليزية، حيث نجد الكلمة التي تدل على العدد الأصم Irrational تعني في الوقت ذاته اللاعقلي (المترجم).
٥  وفي العربية أيضًا (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤