قوس قُزح

اجتمعت الأسرة على هيئة مجلسٍ للشورى. ذلك تقليد جميل مُتَّبع من زمن بعيد بفضل حكمة الوالدين: حسن دهمان وهو من رجال التربية وعلم النفس، والسيدة نظيرة وهي مفتِّشة كبيرة بوزارة الشئون، والغرض منه تربوي لإشراك الأبناء في تحمُّل المسئولية وتفهُّم الحياة، فضلًا عن أنَّه يجعل من العقل المحرك الأوَّل لسلوكهم. وقالت الأمُّ: نحن نجتمع لمناقشة مسألة «طاهر».

وطاهر هو الابن الأصغر، في المرحلة الثانوية، يحب ابنة زميل لأبيه تُقاربه في السن، ولما كانت أسرة الفتاة على وشك الانتقال إلى بلد عربي لعدة سنوات، فقد أراد طاهر أن يخطب البنت قبل السفر، وقال سمير وهو أكبر الأبناء وطالب بكلية الهندسة: أعتقد أن الخِطبة بالنسبة لطاهر سابقة لأوانها.

وقالت هدى، وهي طالبة بكلية الحقوق: طاهر متقلب في عواطفه، رأيي التريث.

والتفت حسن دهمان بوجهه الجاد نحو طاهر، وقال: أودُّ أن أسمع رأيك.

وبوجه متجهِّم، وهو يركِّز بصره في تهاويل السجادة تجنبًا لالتقاء الأعين، قال طاهر: ما فائدة الكلام ما دام العقل سينتصر في النهاية؟

وطال الأخذ والردُّ، ثم أُخِذَت الأصوات، وانتصر العقل كما تنبأ طاهر، وقال الأب معلقًا على النتيجة الحكيمة: هذا هو عين العقل.

هذه الجملة «إكليشيه» يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفَّقة. ومنها يقف طاهر موقفًا غير ودي؛ إذ إنه طالما عانى المتاعب باسم العقل. ولكن العقل يلعب دورًا خطيرًا في حياة الأسرة كأنه معبود. بفضل توجيهه ساد الأسرةَ نظام عجيب فهي ساعة دقيقة. البيت آية في الترتيب والأناقة كأنَّه وجه ذو ملامح أبدية. سقوط عود كبريت، أو تزحزُح مقعدٍ عن موضعه، أو ارتفاع في درجة صوت الراديو عن الحدِّ المرسوم يعَدُّ من الحوادث المزعجة التي تتطلب علاجًا سريعًا. أوقات الطعام والاستيقاظ والنوم والعمل والراحة تخضع لدقة فلكية، ويقول حسن دهمان عن ذلك كله: هذا هو عين العقل.

ولكلِّ فرد في الأسرة دفتر توفير، ونوع من الكتب يلائمه، وحتى الأغاني والبرامج الإذاعية والتليفزيونية تتقرر بعد تشاور ونقاش، ولدى مواجهة أي مسألة هامَّة ينعقد مجلس الأسرة ويدلي كلٌّ برأيه، ويُفحَص هذا الرأي بكل عناية ودقَّة سواء تعلق بنوع الدراسة، أم الحب، أم الصداقة، أم السياسة. أجل، لا يفلت من هذا النظام شيء، ثم يقول حسن دهمان بكل ارتياح: هذا هو عين العقل.

وعقارب الساعة آيات في الدقة إلا العقرب الصغير، فهو مصدر قلق لوالديه.

– ألا تخجل من نفسك يا طاهر؟

لكنَّه ينظر بغرابة إلى ما حوله. لا يريد أن يتحمس لشيء، ويحضر مجلس الأسرة وهو كاره، ويتحفز للمعارضة بسبب وبلا سبب. نشاز في أوركسترا العائلة. ويغالب ضحكة مريرة في أحايين كثيرة. وبلغ به الاستهتار مرة أن اقتحم المطبخ، وتناول غداءه قبل موعده المحدد بنصف ساعة.

وقال له والده: ولكن هذا شذوذ لا مبرر له يا بني!

ولمَّا لم يجد منه استجابة من أي نوع سأله: ألا زلت تفكر في الخطبة؟

فأجاب ببساطة: كلا، الجوع هذه المرة لا الحب.

ولمَّا ذهب همست نظيرة هانم في أذن زوجها: آخر العنقود يا عزيزي.

فتساءل الرجل مغضبًا: هل نرضى بالهزيمة؟

– كلا، ولكن الأمر يتطلب عناية مضاعفة.

وآمن طاهر بأن «هذا هو عين العقل» تطارده حيث ذهب. إنَّها تطوقه في الظاهر والباطن. إنَّه غريق في نسيجها المحكم، حتى الحب والطرب والحزن. وسمع لجريان الدم في أطرافه صوتًا، فأيقن أن شيئًا سيحدث. وشاركه إحساسه مَن يعيشون حوله، ولكن في صمت متبادل. ويومًا وهو في الفرندا المطلة على الحديقة الصغيرة حدث شيء. كان موسم الامتحانات يقترب، وسمير وهدى مكبَّان على المذاكرة. وكان الأب يكتب بحثًا، والأم تقرأ مجلة أمريكية. وبكى طاهر، كان في الفراندا يذاكر. وشعر بأنَّ الحِمل فاق احتماله وأنَّ الدنيا لا شيء. وترك الكتاب فوق الترابيزة وراح ينظر في لا شيء، وحزن حزنًا عميقًا، ثم انصهرت الكآبة فذابت دموعًا. وكتم البكاء أول الأمر أن يسمعه أحد. ثم تدافعت الدموع بغزارة مذهلة، فنَشَج ثم نحَبَ. وغلبه ذلك فاستسلم للنحيب حتى هُرِع إليه الجميع. وقفوا مبهوتين، وجاءت أمه بماء فغسلت وجهه، وظل يبكي بحركات بلا صوت وبلا دموع. وأسند رأسه إلى صدر أمه؛ فتلقَّتْه بحنان، وهي تتساءل بقلق: تُرى هل جاوزت الحدَّ «المعقول» في إظهار الحنان الذي يعتمل في صدرها؟ ثم هدأ طاهر تمامًا، فجلس واجمًا ولم يبقَ من الانفعال الغريب إلا نظرة حزينة بكل معاني الكلمة. وساد الصمت وارتسمت الأسئلة في الأعين القلقة. وسألته أمه: ما لك يا طاهر؟

أجاب دون أن ينظر إلى أحد: لا شيء.

ارتسمت الدهشة والاحتجاج مكان الأسئلة، وقال له سمير: خبِّرنا بما يحزنك!

وقالت هدى بحرارة: يجب أن نعرف ذلك.

ولكن الأب أشار إليهما بالخروج فخرجا، ثم سأله برقة: ماذا بك يا بني؟

– قلتُ لا شيء!

– أيام الامتحانات أيام مرهقة للأعصاب؟

– كلَّا .. كل شيء طيب.

وغادر الأب الحجرة ليمنح الأم فرصة أطيب، ولكن طاهر لم يقل شيئًا. ولم يكن يعرف أكثر مما قال؛ ولذلك لم يستخلص أحد منه جديدًا لا في تلك الليلة ولا في الأيام التالية. ونصحه والده بالتريض في الشوارع المحيطة بمسكنهم ساعة كل يوم قبل أن يجلس للمذاكرة. واعتبر الحادث عرضًا من أعراض الإرهاق العصبي. ولم يعد أحد يذكره، ثم نسوه تمامًا.

ويومًا قال حسن دهمان باهتمام: دعوت مديرنا الجديد إلى سهرة لطيفة في حديقتنا الصغيرة.

وخاطبت الأم الأبناء قائلة: يجب أن نظهر بالمظهر اللائق، وأن تمكثوا معنا قليلًا ثم تنصرفوا للمذاكرة، وسيتوقف على لباقتكم نجاح الحفلة.

وتساءل طاهر: أهو صديقك يا بابا؟

فتفكر الرجل مليًّا، ثم قال: الصداقة نعمة كبيرة، وعلينا أن نستزيد منها كلما وسعنا ذلك، والمدير العام مجرد زميل أكبر، ولكنه سيكون غدًا صديقًا، والحياة الاجتماعية تطالبنا بواجبات نافعة لا بدَّ منها.

وقال طاهر لنفسه: هذا هو عين العقل. وكان المدير الجديد قصيرًا بدينًا ضخم الوجه، والرأس أصلع، ويتكلم ببطء شديد. وأنعم طاهر فيه النظر وهو يقاوم رغبة شريرة في الضحك. وأعجبه منظر أمه وهُدى وهما في كامل زينتهما، وتابع أحاديث أسرته الطليَّة بدهشة. وسمع والده يستشهد بالشعر أكثر من مرة، وسمع أمه وهي تعلق على شكوى المدير من كثرة نسيانه قائلة: تلك آيةُ العبقرية يا سعادة البيه.

وانسحب سمير وهدى في الوقت المناسب، ولكن طاهر لم يبرح مجلسه، ورغم إشارات أمه الخفية لم يبرح مجلسه، ولما لاحظ أبوه تطلعه إلى المدير قال له: آن لك أن تذهب يا طاهر.

فتساءل طاهر: ألا أقول شعرًا يا بابا؟

وقطب الأب على حين سأله المدير: أأنت شاعر؟

– كلَّا، ولكني أحفظ الشعر.

– إذن أسمعني لأعرف ذوقك.

فقال طاهر بانتصار: علو في الحياة وفي الممات.

– شِعر مشهور.

– قيل لمناسبة شنق رجل!

فضحك المدير قائلًا: شِعرٌ جميلٌ. أما المناسبة فسيئة جدًّا!

عند ذاك ضحك طاهر. شعر بأن الحمل فاق احتماله، وأن الدنيا لا شيء وراح ينظر في لا شيء. وحزن حزنًا عميقًا. ثم انفجر ضاحكًا. وبادره أبوه فأخذه من يده ومضى به خارجًا. وعند نهاية السهرة ناقش الوالدان مشكلة طاهر طويلًا فاتفق رأياهما على أنها بحاجة إلى علاج حقيقي، ولكنهما رأيا أن الأوفق تأجيل ذلك إلى ما بعد الامتحان.

ويومًا ارتفع صوت هدى في البيت وهي تنادي في شبه استغاثة صائحة: ماما .. تعالي انظري ماذا فعل طاهر! وهُرع إلى حجرة الشاب كل مَن سمع النداء. رأوا الحجرة في أغرب منظر. منظر لا يخطر على بال إنسان. حشية السرير قد طُرحت فوق المكتب، والكتب والأوراق قد صُفَّت فوق خشب السرير. والصوان انعكس وضعه فالتصق بابه بالجدار. وقُلِبَت المقاعد على ظهورها. وطُوِيَت السجادة الصغيرة ثم عُلقت بدوبارة بسلك المصباح الكهربائي. وندت عن الأم صرخة رثاء، وهتف الأب: كارثة .. كارثة وربِّي!

وسألوه جميعًا عمَّا فعل؟ وكان يقف وسط الحجرة هادئًا وباسمًا، فلم يزد عن أن تساءل بدوره: ولمَ لا؟

وصاحت الأم: أنت تمزق قلبي.

فقال برقة: آسف على إزعاجكم.

فقال الأب بحسرة: غير معقول .. غير معقول.

– لمَ لا يا بابا؟ كنت أقوم بتجربة، ولو أمهلتموني لكان ذلك عين العقل.

وغادر الحجرة إلى الفراندا، وتبعه والده، فوجده واقفًا ينظر إلى السماء باهتمام بالغ. ونظر الرجل حيث ينظر، فلم يرَ شيئًا فازداد انقباضًا، ثم سأله برقة: أتعبت رقبتك، لمَ تنظر هكذا إلى السماء؟

وأهمله طاهر حتى كرر سؤاله مرتين، ثم قال بضجر: إني أحسدها على ما تنعم به من حرية!

فقال الأب محذِّرًا: لكنها مستقَرُّ أدق نظام في الوجود، النظام الذي لا يخطئ.

فانزعج طاهر وخفض عينيه غاضبًا.

– ألا تحب النظام يا طاهر؟

فقال بحدة: لا أحب لشيء أن يتكرر مرتين.

– لكنها الفوضى يا بني.

فهتف الشاب: ما أجملَ هذا!

وتشاور الوالدان فأجمعا على وجوب البدء في العلاج دون إبطاء، ولو ضاع العام الدراسي. واتفقا على أن يستشيرا طبيبًا باطنيًّا أول الأمر، على أن يذهبا بعد ذلك إلى طبيب أعصاب إن نصح الباطني بذلك، ثم إلى طبيب نفساني إن لزم الحال.

وكان الوالدان في الحديقة يستقبلان بعض الضيوف، وسمير وهدى يذاكران، عندما سمع الجميع ضجة في الطريق وتدافُعَ أقدام في الداخل وصراخ الخادمين.

وتبين أن النار مشتعلة في الطابق العلوي. وانطلقوا جميعًا إلى الطريق وأحد الخادمين يحمل طاهر بين يديه. وجاءت المطافئ فأخمدت النار قبل أن تستفحل. وقال طاهر في التحقيق ببساطة مذهلة: نعم، أنا الذي سكبت البترول وأشعلت النيران.

ولما سُئِلَ عن السبب أجاب بالبساطة نفسها: لا أتذكر.

ثم لاذ بالصمت.

وانطلقت سيارة المستشفى. جلس طاهر مقيد اليدين والقدمين بين والديه، على حين جلس أمامهم مندوب المستشفى: كم رأينا من حالات أشد من هذه، ثم عاد أصحابها كأعقل ما يكون.

وأراد الأب أن يقول: «إن ذهاب العقل كارثة لا تُعادلها كارثة.» ولكنه لم ينبس، وساءل نفسه: «ما معنى هذا؟! وهل ثمة خطأ؟» كان بيته — وما زال — معبدًا للعقل وللنظام، فكيف تسلل إليه الفساد؟ وحزَّ الألم في نفسه، حتى تتابعت تأوهاته الباطنية، وحتى حسد زوجته على سخاء عينيه. ولحظ الابن العزيز بطرف عينه فرآه قد أغمض عينيه، فعضَّ على شفته.

وتطوع المندوب للتخفيف من كآبة الجو؛ فقال: المستشفى خير مكان له، فلا تحزنا لذلك الإجراء الذي لا بد منه.

ولم تكن لدى حسن دهمان رغبة في الكلام، ولكنه أراد أن يجامل الرجل بقدر ما يستطيع، فتمتم وهو من الحزن في غاية: صدقت يا سيدي، هذا هو عين العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤