كلمة في السر

فؤاد أبو كبير موظف قديم أوشك أن يستوفي مدة خدمته، وهو مَثَل حسن للموظف، مثال في اتزانه فهو محترم حقًّا، ودءوب على العمل، فهو حمار شغل، ولم تزايله هذه الصفة يومًا منذ التحق بالخدمة بالكفاءة وهو ابن عشرين. وقد انطبع بالروتين حتى تغلغل في روحه وسرى في سلوكه، حتى السلوك غير الرسمي، فهو يرجع إلى بيته كل يوم حوالي الثالثة، يتغدى وينام حتى الخامسة، ثم يمضي إلى القهوة حوالي السادسة فيدخن النارجيلة، ويتكلم في الكادر والسياسة، ثم يلعب النرد، وأخيرًا يعود إلى بيته عند الحادية عشرة فيتعشى خفيفًا، ويصلي ثم ينام.

وهو زوج منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، وزوجه التي تزوجها عن قرابة وحب تقاربه في السن، وقد أنجب منها خمس بنات وولدًا واحدًا تخرج منذ أعوام طبيبًا، والجميع متمتعون بنعمة الحياة الزوجية الموفقة.

ولتوفيقه في الوظيفة؛ إذ حاز رِضا الرؤساء وبلغ الدرجة الثالثة الإدارية، فضلًا عن توفيقه في الذرية، كان يخاف العين، ويتقي شرها بالدعاء والصلاة، ولكنه كان بصفة عامة رجلًا سعيدًا، وحتى ما أصابه من ضغط لم يستطع أن يُفسِد عليه حياته، وإن فرض عليه مضايقات في العلاج وحرمانًا من بعض الأطعمة الشهية.

وذات يوم شعر بنشاط غريب طارئ. نشاط غريب كأيام زمان. ربَّاه .. نشاط غريب انقطع العهد به من سنين، كأيَّام زمان تمامًا، فما الذي حدث؟ وابتسم الرجل وهو يهز رأسه، ابتسم عن طاقم نضيد وهزَّ رأسًا أبيض ناصعًا، وعابثه النشاط في أويقات متفرقة وبخاصة عند اليقظة الباكرة، وإذن فهي وثبة حقيقية لا وهم، وابتسم الرجل وأوشك أن يضحك عاليًا. ولم تستطع خبرته الحكومية أن تمده برأي في المسألة، وقال لنفسه: إن هذا أمر غير معقول، وغير مصدق، ألمْ ينقضِ العمر؟

ونتيجة لذلك وجد نفسه تتابع الموظفات باهتمام لم يؤثر عنها من قبل. نظرة جديدة غير نظرة الأبوة السابقة، وكأنه كان يراهن لأول مرة، وخلال أسبوع رأى فيهن ما لم يرَ طيلة عام أو أعوام، ومجرد مرور إحداهن في مجال بصره أصبح كافيًا لقلقلة حواسه وزلزلة قلبه، فراح يقول لنفسه في ذهول: اللهمَّ لطفك ورحمتك، ماذا جرى؟

وخطر له وهو متربع على الكنبة قبل النوم أن يتناول زوجته بنظرة. كانت الولية تستمع إلى الراديو بغير اهتمام، وجسمها مدفون في جلباب بيتي فضفاض، ومنديل رأسها معقود بإهمال سمح لخصلات بيضاء مشعثة أن تبرز فوق الحاجب والأذن بصورة تستحق الرثاء، وفي عينيها استكنت نظرة خاملة لا تنشد إلا السلامة، ووشَى شدقاها بالفراغ، إلى أن الآلام الروماتزمية المتقطعة قد طبعت على وجهها علامات ثابتة كالذعر. رمقها بيأس ثم رفع عينيه إلى صورة تذكارية من شهر العسل، صورة نصفية لهما ملونة، تمثلهما جنبًا إلى جنب في احتشام محبَّب لا كعرسان هذه الأيام، آه .. فوزية كانت جميلة حقًّا، وكم كان هو بدينًا فخمًا! وقال لها دون تمهيد وبلهجة لم تخلُ من احتجاج: قلت لك مائة مرة: ركبي طاقم أسنان!

وضحت في عينيها دهشة تنبئ بالحقيقة التي لا يجهلها، وهي أنه لم يطلب منها ذلك ولا مرة واحدة، وغمغمت والدهشة لم تفارقها: طاقم أسنان!

وحقيقة أخرى لا يجهلها أيضًا، وهي أن الأيَّام قصرت علاقتهما على الزمالة والصداقة منذ بضع سنين، فكيف يمكن لهذا الوضع أن يتغير فجأةً؟ وكانت تجلس على نفس الكنبة على بُعد ذراعٍ منه، وفيما بين أوقات الاستماع إلى الراديو تتلو آية الكرسي بصوت خافت، وبعض الصور القصار التي تقيم بها صلواتها الخمس. ولفه إحساس بالغربة، ولكن قلقه الطارئ العجيب كان أقوى من الغربة؛ فقال: قلت ذلك مائة مرة! وما لك تهملين نفسك إلى هذه الدرجة؟!

فأوقفت التلاوة لتقول له: أمرك عجيب.

يا له من موقف! لعنة الله على المرض، وعلى الجنون! لكنك تسبُّ الجنون بلسانك فقط. هذا واضح. يا لها من مهزلة! ومدَّ ذراعه على مسند الكنبة إلى ما وراء ظهرها، ثم ربت على قفاها ضاحكًا؛ فهزَّت رأسها متمتمة: أمرك عجيب.

فهمس بعد جهد غير يسير: كأيام زمان!

فانكمشت المرأة، تزحزحت حتى طرف الكنبة، وهي تغمغم: يا عيب الشوم!

ولما رآها مقوسة على خجلها أدرك مدى سخفه. وواصل اكتشافاته في الوزارة والطريق والقهوة حتى احترقت عيناه. وارتدت الأعوام الماضية بحرارتها الاستوائية. وهام على وجهه في مظانِّ الهوى في الحدائق وحفلات السينما الصباحية، وراح يقول لنفسه: ما أعجب هذا! .. وما أبهجه! وشعر بأنه مطارد وأنه يوشك أن يضبط متلبسًا، وأنه لا يستطيع أن ينسى عمرًا كاملًا من الوقار والاستقامة وحسن السمعة. ولكنه لم يتوقف، بل ولم يعد يقنَع بالمغامرات النظرية، وذكر أبناءه وأحفاده. وتوهُّم أيِّ فضيحة كان يُرعش أطرافه ويثلجها. وهل يمكن أن تعالج الأمور بالصبر؟ وما جدوى الصبر وهو من صلب فلَّاح تزوج في الحلقة السابعة! وما جدواه وهو يشم أريج الحب في كل مكان! وما عسى أن يفعل؟ وبعد تردد ثقيل فاتح أحد أقرانه في القهوة بمتاعبه، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ ضحك الرجل وقال: الظاهر أنك بحكم العمر انقلبت للإيمان بالخرافات.

فقال بحدَّة: ولكن ما أخبرتك به حقيقة لا شكَّ فيها!

فرفع الرجل يديه بالدعاء قائلًا: اللهمَّ بارك في عقل فؤاد أبو كبير!

كلا، لا فائدة تُرجَى من هؤلاء الفانين! وعاد يتساءل عما عسى أن يفعل؟ ست آمنة. وثب الاسم من الظلمات كالشهاب. ست آمنة جارته القديمة بروض الفرج قبل أن ينتقل بأسرته إلى المسكن الحالي بالسيدة. وهي صاحبة الشقة التحتانية، أرملة، وقد حاولت كثيرًا أن تصادق زوجته، ولكن فوزية لم تستخف ظلها. ولعلها في الأربعين أو فوق ذلك بقليل، ولا تخلو من وسامة، أمَّا تأنقها المبالغ فيه فيقطع بحبها الحياة! وفي عهد الجوار سنحت بينهما وقائع، ولكنه حسمها باستقامته؛ فوُئِدت ولم يَعلم بها أحد. كانت تحييه عند خروجه إذا تصادف وجودها في النافذة وما أكثر المصادفات. وأكثر من مرة وهو راجع كان يراها من خلال الباب المفتوح، وهي تخطر في قميص بيتي! ورغم ارتياحه الباطني الذي كان باعثه الزهو لا الرغبة؛ فإنه لم يشجعها قط، زاهدًا ومشفقًا في الوقت نفسه من فضيحة تهز مكانته المرموقة في أسرته وفي العمارة. ومرة تعرضت له أمام شقتها فحيته، ثم قالت: تسمح دقيقة واحدة يا فؤاد أفندي؟

وارتبك الرجل بشكل واضح، فقالت: لدي مشكلة أودُّ أن أعرضها عليك.

وقع في لخمة دلت على ذهوله، ثم قال بجهد: تفضلي بزيارتنا، وستجدينني تحت أمرك.

ومن وقتها تجاهلته تجاهلًا كاملًا، وكان ذلك قُبيل انتقاله إلى السيدة الذي مضى عليه ما يقارب العام. اليوم تدور أفكاره حول ست آمنة، ويستعيد ذكرياتها بحرارة بلغَتْ حد الهوَس. انصهرت تلك الأفكار والذكريات في رأسه وهو ماض إلى روض الفرج. أجل بلغ مسكنه القديم في الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن يكون في القهوة. وضغط على جرس الباب، وقلبه يغوص في الأعماق. وكم ذهلت ست آمنة عندما رأته أمامها، كآخر شيء كانت تتوقعه.

– فؤاد أفندي!

حرك رأسه بالإيجاب دون أن ينبس.

– خير إن شاء الله!

ثم تنحَّت عن الباب وهي تدعوه إلى الدخول. وجد نفسه في حجرة استقبال صغيرة معبقة بعبير ورد في زهرية، على قائم معدني طويل في الركن. وغابت عنه وقتًا، ثم عادت آخذة زينتها ملتفة في روب أبيض يذكِّر بفستان العرس. ولم تقتصد في إعلان اهتمامها بالزيارة مرددة: خير إن شاء الله! فطار من دماغه جميع ما أعدَّه من قول، ولكنه شعر بأنه مطالَب بتفسير حضوره، فقال: كنت مارًّا من هنا فقلت يجب أن أزور ست آمنة.

ابتسمت المرأة وهي تتمتم: خطوة عزيزة! ثم وهي تضحك: ولكنك لم تكن تحب زيارتنا!

فاحمرَّ وجهه وقال كالمعتذر: الواقع أن الظروف …

وتوقف لا يدري ماذا يقول، ثم ابتسم ابتسامة دلت على أنه يسترد توازنه، وقال: قلتِ مرة: إن لديك مشكلة.

فضحكت المرأة ضحكة عالية. وتبادلا نظرات باسمة فواتته شجاعة عظيمة؛ فنهض ليجلس إلى جانبها على كنبة واحدة. ومدَّ يده إلى يدها، ولكنها سحبَتْها برقة وهي تقول: الظاهر أنك لم تفهمني على حقيقتي يا فؤاد أفندي.

لهجة جادة صدمت قلبه فانكمش. وعادت تقول: لست كما تتصور، أنت قلت لنفسك آمنة أرملة، وقد دعتني مرة إلى شقتها، لا بدَّ أن تكون …

وهتف بحماس يغطي به فُتوره وفشله: معاذ الله .. معاذ الله.

فحدجته بنظرة جريئة، وسألته: إذن ماذا تريد؟

آه .. لم يتوقع هذا. خاب سعيك حقًّا؟

– يجب أن تعلم أنني امرأة شريفة، وتصرَّف بعد ذلك كما يحلو لك!

رجع وهو يقول لنفسه: إن الأمر ليس بالبساطة التي حلم بها. ومع ذلك فقد شدت على يده وهي تودعه، وأعربت له عن مشاعر طيبة جدًّا. وقالت إنها تنتظر زيارة أخرى، بل وثالثة ورابعة! واضح جدًّا ما تريد. وحن بكل قواه إلى عبير الورد، ثم اعترف بأنه فقد عقله. ووجد فوزية تعاني أزمة من أزمات مرضها، فتضاعف همُّه. وتذكَّر الأبناء والأحفاد فتكدر لحد المرارة. وتوكَّد لديه أنه لن يستطيع مواصلة الحياة في هذه الدوامة.

وفي خلال شهر من الزيارة الغريبة، تزوج فؤاد أبو كبير من ست آمنة في تكتُّم تام.

ولم يستطع بعد ذلك أن يواجه أسرته بالحقيقة، فكتب إلى ابنه الدكتور خطابًا مسهبًا أشبه بالاعتراف، مؤكدًا فيه أنه لن يتخلى عن واجباته نحو أمه. وأقام في مسكن آمنة في بيته القديم، وتوقَّع أن يتصل به ابنه أو إحدى بناته، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث، حتى خُيِّل إليه أنه انتقل إلى عالم آخر، وجعل يتخيل وقع المفاجأة في أسرته بذهول، ولكنه طرح كل شيء جانبًا وسلَّم نفسه للحب.

وبعد مرور ستة أشهر كتب فؤاد أبو كبير خطابًا آخر إلى ابنه الدكتور، أخبره فيه بأنه مريض ودعاه إلى مقابلته. وهال الدكتور أن يجد أباه طريح الفراش، هيكلًا عظميًّا مكسوًّا بجلد ذابل، ونظرة الموت تطلُّ من محجريه. هاله المنظر حقًّا فبُهت، ولما رآه أبوه اغرورقت عيناه فانكب الشاب على يده المعروقة التي ضرَب لونها إلى السواد يقبلها ويبكي. وجلست آمنة صامتة طيلة العناق والبكاء، ثم قالت: زاره ثلاثة أطباء.

ولكن الرجل قال: أريد أن أرقد هناك.

فقالت المرأة وهي تحوِّل وجهها جانبًا: علم الله أني لم أقصر في خدمته، ولكن المهم هو راحته، فإذا شاء ذهب.

عاد فؤاد أبو كبير إلى فراشه القديم هيكلًا عظميًّا مكسوًّا بجلد ذابل، ونظرة الموت تطل من محجريه. وأحاطت به أسرته، ولكنه استغرق في النوم أكثر الوقت. وفي لحظات اليقظة كان ينقِّل بينهم عينيه صامتًا أو ينادي اسمًا بلسان ثقيل وصوت شخص آخر. ولم يتحسن ولكنه دخل طورًا جديدًا يتسم بالغرابة. ومرة فتح عينيه، وكان ابنه جالسًا بجوار الفراش وحده، فتساءل باهتمام: ماذا حدث؟

فسأله الشاب عن حاله فتأوه قائلًا: الظاهر أني ضعيف جدًّا .. ولكني لا أدري.

فسأله بقلق: لا تدري ماذا؟

– ماذا؟! نعم ماذا؟ ولكن لمَ؟ هذه هي النقطة.

وساد الصمت مليًّا، ثم استدرك قائلًا: لذلك لا أستطيع أن أقطع برأي، شقيٌّ أم سعيد؟

وأشار إليه كأنما سيفضي إليه بسرٍّ لا يريد أن يطَّلع عليه أحد، فقرب الشاب وجهه منه فقال: عرفت كل شيء، كل شيء، حتى الهدف الحقيقي.

ثم بدرجة أدنى من الانخفاض: ورغم التصميم على عدم النسيان نسيت، حقائق مذهلة ولكن ما هي؟

وألحَّ ابنه عليه أن يستريح، ولكنه عاد يقول: حقائق هائلة مذهلة، ولكنها ضاعت جميعًا.

وأغمض عينيه إعياء، ثم غمغم: كم أودُّ أن أتذكر، ولو قليلًا كي أموت مطمئنًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤