الشافعي الأديب

يعرف الناس كلهم الشافعي الفقيه، ولكن قلما يعرفون الشافعي الأديب … فالشافعي أول ما تثقف تثقف بالعربية؛ فقد كان قرشيًّا هاشميًّا، وربما كان هو القرشي الهاشمي الوحيد من أصحاب المذاهب، وساعده ذلك على دراسته اللغوية والأدبية؛ فقد تربى في بني أسد، وكان من أفصح العرب، وقد درس شعر الهذليين وأتقنه حتى إن الأصمعي درس شعر الهذليين عليه.

وكان إمامه في ذلك عبد الله بن عباس؛ فقد كان ابن عباس فصيح اللسان يعنى بعلم القرآن كما يعنى بالشعر … حتى كان يحضر دروسه طالبو القرآن وطالبو الحديث وطالبو الفقه ورواة الشعر والعربية، وكذلك كان الشافعي يترسم خطاه ويسير على منواله؛ لأنه قريبه، تظهر فصاحته في كتابه «الأم» فعبارته جزلة بليغة تصح أن تحتذى، وله شعر كثير مروي حتى نسبوا إليه ديوان شعر مع أنه تعفف عن قول الشعر، وظن أن الشعر يزري بالعلماء، ونسبوا إليه:

ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أفصح من لبيد

فهو يعتز بالفقه ولكن لا يعتز بالشعر … ولست أدري لماذا ذلك، فإن المهارة في الشعر ترفع مكانة صاحبه كمكانة الفقيه، فليس بشار بن برد ولا أبو نواس ولا أبو تمام أقل شأنًا من فقهاء عصره … فالنابغة في فنه ليس أقل من النابغة في فقه أو نحو، ولكن جرى على ذلك أهل عصره فكان عندهم أن الفقيه خير من النحوي والصرفي ومن الشاعر وعلى ذلك قال الشافعي شعره هذا.

ومن شعره الذي يرويه عنه قوله:

مرض الحبيب فعـدته
فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعـودني
فبرئت من نظري إليه

وقوله:

أهين لهم نفسي لكي يكرمونها
ولن تكرم النفس التي لا تهينها

وهو شعر كما ترى لا بأس به وإن لم يبلغ قدرًا كبيرًا، ولكن ربما منعه من التفوق في الشعر مانعان: الأول: أن الاشتغال بالفقه والإمعان فيه، كما يقول ابن خلدون، يضعف الملكة الشعرية والملكة البلاغية، وحكى ابن خلدون عن نفسه أنه منعه من التفوق في البلاغة والشعر حفظ المتون، وروى عن فقيه أنه تبحر في الفقه فأصيب في الشعر وقال:

لم أدرِ حين وقفت بالأطلالِ
ما الفرق بين جديدها والبالي

فإن قوله: ما الفرق بين كذا وكذا تعبير فقهي لا شعري …

والثاني: أنه كان يرى أن الشعر يزري بالفقه فلم يطاوع في شعره نفسه، ولو أطلق لها العنان لأتى بخير مما قال.

•••

على أنَّا لا نعده شاعرًا ممتازًا، فتعبيره في «الأم» كما قلنا تعبير جزل اللفظ رصينه عميق المعنى غزيره، وكما كان إمامًا في الفقه يتحلق الناس حوله فيأخذون عنه، كان يجلس بعد الضحى، فيأخذون عنه العربية، وقد اشتهر بحسن الصوت والإلقاء … حتى إنه لما أراد أن يأخذ على مالك موطأه، أراد مالك أن يحيله على بعض أصحابه فألح الشافعي أن يسمع قراءته فلما سمعها مالك رضي أن يقرأه عليه، ومن تمكنه في الأدب أنه كان قوي الحجة، استطاع أن يحاج الرشيد فيفك قيده من أسر كان وقع فيه مع تسعة من أصحابه، كلهم قتل إلا هو، فعفا عنه، ومما أفاده في اللغة والأدب ومعرفة أخلاق الناس وعاداتهم كثرة رحلاته، فرحل من غزة إلى مكة ومن مكة إلى المدينة ثم إلى اليمن ثم إلى مصر، وفي كل مرة يلقى علماءها وأدباءها فيأخذ عنهم، ومن قوة حجته أنه استطاع وهو في مصر أن يزيح مذهب مالك وأبي حنيفة فيمكن من مذهبه، وكما أفادته هذه الرحلات في فقهه أفادته في أدبه، وفي ذلك يقول:

سأضرب في طول البلاد وعرضها
أنال مرادي أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درُّها
وإن سلمت كان الرجوع قريبا

•••

وقد روى الفخر الرازي أنه كان يعرف اليونانية وأنه كان مثقفًا بها، وقد استنتج ذلك من حكاية رويت … وهي أن الرشيد سأله: هل يعرف الطب؟ قال الشافعي: «أعرف ما قالت الروم مثل أرسططاليس، وبقراط وجالينوس وفورفوريوف بلغاتها، وما نقله أطباء العرب وقننته فلاسفة الهند ونمقته فقهاء الفرس» وهي تدل على ثقافة واسعة.

ولكن ابن القيم رد هذه الرواية، وقال: «إنها كذب مفترى، ولو كان الشافعي يعرف لغة اليونان ما فات ذلك مؤرخوه من كبار أصحابه»، فلغته في كتاب «الأم» وما روى من شعره وكتابته لرحلته كل ذلك يدل أنه أديب ممتاز بجانب أنه فقيه ممتاز …

لقد عاش الشافعي مع علمه وأدبه فقيرًا ومات فقيرًا، ونسب ذلك إلى القدر، وأنه إذا منح العقل حرم الغنى، وإذا منح الغنى حرم العقل، وقال في ذلك شعرًا كثيرًا مثل قوله:

إن الذي رزق اليسار ولم يصب
حمدًا ولا أجرًا لغير موفق
الجد يدني كل أمر شاسع
والجـد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن مجدودًا حوى
عودًا فأثمر في يديه فصدق
وإذا سمعت بأن محـرومًا أتى
ماء ليشربه فغاض فحقق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضـدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

وقوله: ومن الدليل، تعبير غير شعري تأثر بالفقه، وربط الغنى والفقر بالقدر نظرة قديمة أوحى بها عصره؛ لأن هذا العصر كان العلماء فيه والأدباء لا يغتنون من علمهم وأدبهم إلا إذا صادقوا الخلفاء والأمراء وملأوهم ملقًا ومديحًا بالغًا، كالأصمعي وأبي العتاهية وأبي نواس، أما إن كانوا فقهاء أو أدباء لا يتصلون بالخلفاء والأمراء، عاشوا عيشة فقيرة إلا إذا كان لهم مورد آخر من عمل أو وقف … كأبي حنيفة الذي كان يعمل بزازًا.

ولكن انتشار الديمقراطية والاعتماد على الشعب دون الملوك والأمراء غيَّر هذه النظرة، وجعل اجتماع العقل والغنى ممكنًا، بدليل ما نرى في أوربا وغير أوربا من علماء وأدباء اغتنوا بعلمهم وأدبهم، وأصبح الناس يفهمون أن الغنى والفقر ناشئان من النظام الاجتماعي المعمول به، فإن كان النظام عادلًا أخذ كل إنسان حظه من الغنى، وإذا كان النظام سيئًا كان المال في يد عدد قليل قد لا يستحقه …

كان الشافعي عزيز النفس، عالي الهمة، يرى أن علمه مع فقره خير من غناه مع ذله، وأنه إنما تعلم ليُخدم لا ليَخدم، ويُكرم لا أن يُهان، ويُقصد لا أن يَقصد … فقضى حياته على بعض دريهمات وخادمة، ولو شاء أن يمد يده لدر المال عليه، وانهالت عليه الثروة … فرحمه الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤