الحياة السعيدة

لو استعرضنا أنواع الناس، وكيف يحيون وجدنا أن كثيرًا منهم يعيش عيشة جافة جامدة باردة، يستيقظ من النوم، فيفطر، ثم يلبس ملابسه ويذهب إلى عمله كزارع أو صانع أو تاجر أو موظف، حتى إذا جاء وقت الغذاء عاد إلى بيته فتغذى، ثم قد يزاول بعض عمله ثم يجلس في مقهى يسمر مع أصدقائه أو نحو ذلك ثم يعود إلى بيته فيحدث أهله بعض الحديث ثم ينام وهذا هو تاريخ حياته، يوم واحد متكرر، وحياة واحدة رتيبة … هذه هي الحياة أشبه ما تكون بحياة آلة في مصنع ندورها فتدور وتعطيها غذاءها من فحم أو وقود فتسير على نمط واحد ثم يوقفها القائم عليها فتقف وهكذا حياتها كل يوم، بل هي أيضًا كحياة الأنعام تأكل وتعمل وتنام وهكذا عادتها كل يوم، وإن الإسلام لا يرضى عن هذه الحياة.

وهناك قوم أضافوا إلى هذه الحياة المادية من أكل وشرب ونوم حياة أخرى عقلية، فهم يخصصون جزءًا كبيرًا من وقتهم لاستخدام عقولهم في حياة علمية أو أدبية كرجال الجامعات والباحثين في العلوم على اختلاف أنواعها، والفلاسفة الذين يجدون للبحث وراء كنه العالم والذين يقضون كثيرًا من أوقاتهم في المعامل يبحثون ويجربون ويبتكرون … وهذا النوع من الحياة أرقى من نوع الحياة الأولى؛ لأنها جمعت بين الحياة المادية والعقلية، وجمعت بين السعادة المادية والسعادة الفكرية، ولا شك أن اللغة العقلية الفكرية أمتع وأنفع وأطول، ولكن مع كل هذا لا يرضى الإسلام عن هذه الحياة أيضًا؛ لأنه يرى فيها جفافًا؛ لخلوها من القلب والعاطفة، ولأن أصحابها كثيرًا ما تلهيهم علومهم عن التفكير في إلههم وإذا فكروا فيه فكروا بنوع من الإنكار أو من الإلحاد أو الاستخفاف أو عدم الاكتراث.

ومن هؤلاء العلماء من بلغ تقديسهم للعقل وحصرهم أنفسهم في قوانينه أن ساروا في حياتهم على الأخلاق التي يرتضيها العقل وحده، فيعدلون مع الناس ومع أنفسهم؛ لأن هذا أنفع للمجتمع ولهم بحكم عقلهم، ويلتزمون الصدق ويقومون بالواجبات الفردية والاجتماعية؛ لأنهم يرون فيها الخير لأنفسهم ولمجتمعهم بحكم العقل فهم فضلاء بالعقل، خيرون بالعقل، ولا يلتزمون بشيء ولا يسيرون على منهج إلا إذا ارتضاه العقل، وحتى هذا أيضًا لم يرتضه الإسلام؛ لأن الفضائل إذا صدرت عن العقل وحده خلت من الحرارة وخلت من القوة التي يتطلبها الدين ولذلك لما سئل رسول الله عن قوم في الجاهلية أتوا بأعمال فاضلة من كرم وشجاعة أبى أن يعترف لها بقيمة؛ لأنها لم تنبع من المنبع الذي يرتضيه الإسلام.

إنما يريد الإسلام حياة فيها مادة وفيها عقل وفيها روح، وبعبارة أخرى إن الإسلام يلاحظ أن الإنسان ركب من عناصرَ مختلفةٍ ولا يمكن أن يسعد إلا إذا عاش عيشة تغذي كل عنصر من عناصره ولتوضيح هذا نقول: إن في الإنسان عنصرًا من عناصر النبات في خواصه وطبائعه؛ فهو يبحث عن غذائه في الأرض كما يبحث النبات، وتؤثر فيه الفصول الأربعة كما تؤثر في النبات، ولا بد له من هواء وماء كالنبات، فلا بد لسعادة الإنسان أن يغذي هذا العنصر النباتي فيه.

كذلك في الإنسان عنصر حيواني: فهو يتحرك بالإرادة كما يتحرك الحيوان، وله شهوات وغرائز كما للحيوان شهوات وغرائز، يتشهى الأكل ويشتهي الألفة، ويتشهى الاجتماع ببني جنسه، وفيه غرائز الخوف، وحفظ الذات، وحفظ النوع، ونحو ذلك، فلا بد لسعادته من أن يحيا هذه الحياة الحيوانية أيضًا.

وفي الإنسان عنصران امتاز بهما عن النبات والحيوان، أحدهما عنصر العقل: والعقل وإن ظهر في شكل بدائي بسيط ساذج في الحيوان؛ فهو في الإنسان أعلى وأرقى وأتم، وبه استطاع أن يسود الحيوان ويسخره لمنفعته — وبالعقل استطاع أن تكون له قوة أقوى من الأسد، ومكر أقوى من الثعلب، كما استطاع أن يتغلب على الحيوانات التي هي أقوى منه جسمًا وأوفر حظًّا فتغلب به على الفيل بأنيابه وعلى الجمل بضخامته ونحو ذلك، فلا بد له أيضًا من أن يعيش عيشة فيها غذاء هذا العنصر العقلي، فيفكر ويتأمل، ويقرأ، ويكتب.

والعنصر الآخر الذي يمتاز به عن النبات والحيوان هو عنصر الروح وهو غير عنصر العقل، هذا العنصر الروحي أساسه الدين والاعتقاد بإله واحد هو ربه، ورب العالمين، منه يستمد القوة، ومنه يستمد الحياة، ومنه يستمد وسائل الحياة، وبهذين العنصرين عنصر العقل والروح استطاع الإنسان أن ينظم عنصر النبات والحيوان فيه وأن ينظم غرائزه ويلطفها ويهذبها ويخضعها لأمرهما.

السعادة في نظر الإسلام يجب أن تتوفر بالأخذ بحظ من كل عنصر من هذه العناصر الأربعة أخذًا معتدلًا لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لا يرضى عن تعذيب الجسم وحرمانه من ملذاته؛ ولذلك كره الزهد والتبتل وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وكره حياة حيوانية لا عقل فيها، وعاب على قوم أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، وحث على العلم وطلبه والتفكير في خلق السموات والأرض وما فيها وحرص على العنصر الرابع وهو عنصر الروح فقرر أن الحياة إذا خلت من العنصر الروحي كانت حياة تافهة لا قيمة لها.

والناس إزاء هذه العناصر مختلفون اختلافًا كبيرًا فمنهم من غلب عليه عنصر النبات والحيوان فكان شهوانيًّا، ومنهم من غلب عليه عنصر العقل فكان عالمًا أو فيلسوفًا ومنهم من غلب عنصر الدين فكان متصوفًا، ولكن خير حياة رسمها الإسلام هي الحياة التي اعتدلت فيها كل هذه العناصر ولم تفقد واحدًا منها، والعلم لا يكفي في الإسعاد لا في إسعاد الفرد ولا في إسعاد المجموع، لقد ملأ العلم الدنيا آلات وأدوات واختراعات ونظريات في السياسة والاجتماع، ووصل في تقدمه إلى تحطيم الذرة، ولكن هل كفى هذا في إسعاد الناس؟ إن العلم وحده صالح لأن تستخدمه في الخير كما تستخدمه في الشر، فهو كالسكين تستخدمه في القتل فيضر، والذي يحدد استخدامه في المنفعة هو الروح التي يعبر عنها دائمًا بالقلب، إن العلم يستطيع أن يرقي وسائل الخير كما يستطيع أن يرقي وسائل الشر، قد كان الناس قديمًا يقتلون بالعصا والحجارة ونحو ذلك، فلما تقدم العلم قتلوا بالكهرباء والغازات الخانقة والطائرات والغواصات والقنابل الذرية، إنما الذي يستطيع أن يحد من شر العلم هو الروح وهو الدين وهو الإيمان بإله يحاسب الناس على أعمالهم ويطلع على ضمائرهم.

إن الدين الصحيح يغذي الشعور بالتسامي، والطموح الدائم إلى الرقي ويعالج الشعور بالنقص ويحارب الميل إلى التدني، والدين الصحيح ينقل النفس مما يعتريها من الحزن والإحساس بالفراغ والقلق الذي يعتري الإنسان إذا لم يجد سندًا يستند إليه، ينقلها من ذلك كله إلى شعور بالأمن والطمأنينة والاستناد إلى قوة ليس فوقها قوة.

إن الدين الصحيح يوسع النفس حتى ترى بينها وبين الناس كلهم بل بينها وبين المخلوقات كلها نسبًا كنسب الأسرة الواحدة؛ لأن ما في العالم جميعه يرتبط به ارتباطَ الأخوة؛ إذ هو وهي كلها من خلق الله رب العالمين.

إن الدين الصحيح يشعر الإنسان بالاتصال بعالم روحي واسع لا يقاس به عالم المادة، فإن كان العلم يحصر الإنسان في المادة وفروعها، فالدين يضم إلى هذه المادة أكبر منها وهو ما ليس بمادة، وبذلك يتسع أفق صاحبه أضعافًا مضاعفة.

لقد أفهمتنا الحياة أن السير على قوانينها الطبيعية يكسب الراحة والسعادة، وأن كل سأم وقلق وملل واضطراب سببه مخالفة القوانين الطبيعية في جزء من أجزائه، وإذا كانت طبيعة الإنسان مكونة من هذه العناصر الأربعة، عنصر النبات والحيوان والعقل والروح فنقصان عنصر منها لا يمكن أن يحقق السعادة بالأخذ بحظ وافر من كل عنصر من هذه العناصر وامتزاجها امتزاجًا متعادلًا لا يطغى فيه عنصر على عنصر، وهذا هو نوع الحياة التي يرتضيها الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤