الفصل الثالث

كيف نعلم مِمَّ تتكون الأشياء، وما الذي وجدناه إلى الآن؟

تمكِّننا أدوات على غرار الميكروسكوبات ومعجلات الجسيمات من بَسْط نطاق رؤيتنا إلى ما وراء نطاق الضوء المرئي، بحيث نرى ما بداخل العالم الصغير دون الذري. وقد كشف لنا هذا عن البنية الداخلية للذرة؛ من إلكترونات وجسيمات نووية، وكواركات.

***

الطاقة والموجات

كي تعرف مِمَّ يتكوَّن شيء ما، يمكنك أن (أ) تنظر إليه، أو (ب) تسخنه ثم ترى ما سيحدث، أو (ﺟ) تهشمه بقوة عاتية. ثمة صورة مغلوطة مفادها أن مختصي الفيزياء العالية الطاقة، أو فيزيائيي «الجسيمات»، يفعلون الأمر الأخير. لكن هذه الصورة تأتينا من الأيام التي كانت فيها معجلات الجسيمات تُعرَف باسم «مهشمات الذرات». وفي الواقع، من الناحية التاريخية كان هذا ما يحدث بالفعل، لكن اليوم باتت المقاصد والطرق أكثر تعقيدًا وتقدُّمًا بكثير. سنناقش هذا بالتفصيل لاحقًا، لكن كبداية، دعونا نركِّز على الخيارات الثلاثة التي ذكرناها، خاصةً أنها جميعًا تشترك في سمة عامة مشتركة؛ أَلَا وهي أنها جميعًا تستخدم الطاقة.

في حالة التسخين، نحن نعرف بالفعل كيف ترتبط درجة الحرارة بالطاقة (١٠٤ ك ١ إلكترون فولت). وحتى عند النظر إلى الأشياء، يظل للطاقة دور تلعبه.

أنت ترى هذه الكلمات لأن الضوء يسقط على الصفحة ثم بعدها ينتقل إلى عينيك، والفكرة العامة هنا هي أن هناك مصدرًا للإشعاع (الضوء)، وجسمًا خاضعًا للدراسة (الصفحة)، وكاشفًا (عيناك). داخل النقطة التي تنتهي بها هذه العبارة هناك ملايين من ذرات الكربون، ولن تتمكَّن من رؤية الذرات المنفردة أبدًا، وإن استخدمت أقوى العدسات المكبرة؛ فهذه الذرات أصغر حجمًا من الطول الموجي للضوء «المرئي»، ومن ثَمَّ يستحيل كشفها بأي عدسة مكبرة أو ميكروسكوب.

الضوء شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي، وأعيننا تستجيب فقط لجزء صغير من الطيف الكهرومغناطيسي الكامل، لكن يمكن باستخدام معدات خاصة الوصول إلى بقية هذا الطيف. الضوء المرئي هو أقوى أنواع الإشعاع الآتية من الشمس، وقد تطوَّرت أعين البشر بحيث تستجيب فقط لهذا النطاق المحدَّد. النطاق الكامل للطيف الكهرومغناطيسي موجود بالفعل، وهو ما يمكننا توضيحه بتشبيه الأمر بالصوت. تتضمن المسافة الموسيقية الواحدة تقليل الطول الموجي بمقدار النصف (أو زيادة الذبذبة الصوتية بمقدار الضعف) من نغمة صوتية بعينها (لنقل العلامة «أ» البالغ شدتها ٤٤٠ هرتزًا) إلى المسافة الصوتية الأعلى منها (العلامة «أ» البالغ شدتها ٨٨٠ هرتزًا). الأمر مشابه في قوس قزح؛ فهو بمنزلة «مسافة موسيقية» في الطيف الكهرومغناطيسي. وبينما تنتقل من الضوء الأحمر إلى الأزرق، يقل الطول الموجي بمقدار النصف، ومن ثَمَّ يبلغ الطول الموجي للون الأزرق نصف مقدار الطول الموجي للون الأحمر (أو على نحو مماثل، يتزايد المعدل الذي تتذبذب به المجالات الكهربية والمغناطيسية جيئة وذهابًا بمقدار الضعف في حالة الضوء الأزرق مقارَنَةً بالأحمر). يمتد الطيف الكهرومغناطيسي أكثر من ذلك في كلا الاتجاهين، وخلف الأفق الأزرق — حيث نجد الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية وأشعة جاما — تكون الأطوال الموجية أصغر مما الحال عليه في الضوء المرئي، وعلى النقيض، عند الأطوال الموجية الأطول في الاتجاه المقابل، ما وراء اللون الأحمر، نجد لدينا الأشعة تحت الحمراء وأشعة الميكروويف وموجات الراديو.

يمكننا استشعار الطيف الكهرومغناطيسي فيما وراء الضوء المرئي، فأعيننا تعجز عن رؤية الأشعة تحت الحمراء لكن جلودنا يمكنها الشعور بها على صورة حرارة. وبإمكان كاميرات التصوير بالأشعة تحت الحمراء الحديثة أن «ترى» المعتدين من خلال الحرارة التي تبثها أجسادهم. إن العبقرية البشرية هي التي مكَّنَتْ من صنع آلات يمكنها بسط نطاق رؤيتنا عبر النطاق الكامل للطيف الكهرومغناطيسي، ومن ثَمَّ الكشف عن الحقائق الخفية لطبيعة الذرة.

إنَّ عَجْزنا عن رؤية الذرات إنما يرجع إلى حقيقة أن الضوء يتصرَّف كموجة، والموجات عمومًا لا تتشتت بسهولة عند تعرُّضها للأجسام الصغيرة. فلرؤية شيء ما، لا بد أن يكون الطول الموجي لشعاع الضوء أصغرَ من الشيء نفسه. ومن ثَمَّ، لرؤية الجزيئات أو الذرات نحتاج إلى إضاءة يكون طولها الموجي مماثلًا لحجم الذرات أو أصغر منه. موجات الضوء، كتلك التي تستشعرها أعيننا، لها طول موجي يبلغ نحو ١٠−٧ أمتار (أو بعبارة أخرى، يمكن حشد نحو ١٠ آلاف طول موجي في المليمتر الواحد). لا يزال هذا أكبر بنحو ألف مرة من حجم الذرة. لتخيُّل مدى صعوبة الأمر، تخيَّلِ العالَمَ وقد تضاعَفَ حجمه بمقدار ١٠ ملايين مرة. الطول الموجي الواحد للضوء، عند تكبيره عشرة ملايين مرة، سيكون أكبر من حجم الإنسان، في حين لن يزيد حجم الذرة وفق هذا المقياس عن المليمتر الواحد، وهو حجم أقل بكثير من أن يسبِّب اضطرابًا بالموجة الزرقاء الطويلة. ولهذا، كي تكون لدينا فرصة لرؤية الجزيئات والذرات سنحتاج إلى ضوء ذي طول موجي أقصر بكثير من الأطوال الموجية الحالية. علينا الذهاب فيما وراء الأفق الأزرق للضوء المرئي، نحو نطاقات الأشعة السينية وما خلفها.

الأشعة السينية هي ضوء ذو طول موجي قصير، وبذا يمكنها التشتُّت بواسطة بنى على المستوى الجزيئي، على غرار تلك الموجودة في البلورات. الطول الموجي للأشعة السينية أكبر من حجم الذرات المنفردة، لذا تظل الذرة خفية، إلا أن المسافة بين الأسطح المتجاورة في المصفوفة المعتادة داخل البلورة مقاربة للطول الموجي للأشعة السينية، ولهذا تبدأ الأشعة السينية في تمييز المواضع النسبية للأشياء داخل البلورات. يُعرَف هذا باسم «دراسة البلورات بالأشعة السينية».

يمكن العثور على تشبيه ملائم إذا فكَّرنا للحظة في موجات الماء بدلًا من الموجات الكهرومغناطيسية؛ فإذا أسقطت حجرًا في ماء راكد فستنتشر التموجات، وإذا عرضت عليك صورة لهذه الأنماط الدائرية فستتمكن من استنتاج الموضع الذي أُلقِي فيه الحجر. وإذا ألقيت مجموعة من الأحجار في تناغم فسينتج عن هذا نمط أكثر تعقيدًا للموجات، تتخلله قمم وقيعان في مواضع التقاء الموجات وتداخُلها. ومن النمط الناجم يمكنك أن تستنتج — بقدرٍ من الصعوبة نُقِرُّ به — المواضعَ التي أُسقِطت فيها الأحجار في الماء. تتضمن دراسة البلورات بالأشعة السينية الكشفَ عن الموجات العديدة المشتتة من طبقات معتادة في البلورة، ثم تفسير النمط الناتج من أجل استنتاج البنية البلورية. وبهذه الطريقة، جرى استنتاج شكل وهيئة بعض الجزيئات البالغة التعقيد، على غرار الحمض النووي.

لسبر أغوار الذرات المنفردة سنحتاج إلى أطوال موجية أقصر من هذا، ومن الممكن عمل ذلك ليس باستخدام الضوء وحده، وإنما باستخدام حزم من الجسيمات على غرار الإلكترونات. لهذه الجسيمات مزية خاصة تتمثل في أنها ذات شحنة كهربية، ومن ثَمَّ يمكن التحكُّم فيها وتعجيلها بواسطة مجالات كهربية، وبهذا تُمنَح كميات كبيرة من الطاقة. يمكِّننا هذا من استكشاف مسافات أقصر، لكن لفهم السبب علينا التحوُّل عن سبيلنا قليلًا للتعرف على كيفية ارتباط الطول الموجي بالطاقة.

أحد أعظم اكتشافات نظرية الكم هو أن الجسيمات يمكن أن تسلك سلوك الموجات، وأيضًا — على نحو معاكس — أن الموجات يمكنها أن تسلك سلوك حزم متقطعة من الجسيمات، تُعرَف باسم «الكموم»، وبهذا تكون الموجة المُعجَّلة أشبه بدفقة من الكموم؛ أي الفوتونات. وطاقة أي فوتون منفرد تتناسب طرديًّا مع تردُّد المجالات المغناطيسية والكهربية المتذبذبة للموجة، وهذا التردد يُرمَز له بالرمز . ويتم التعبير عن هذا بالصورة التالية:
حيث ثابت التناسب، ، هو ثابت بلانك.
يرتبط كلٌّ من طول الموجة ، والتردُّد الذي تمر به القمم بأي نقطة بعينها، بسرعة الموجة، ، وفق المعادلة . وبهذا يمكن الربط بين الطاقة والطول الموجي:
وثابت التناسب . يمكِّننا هذا من الربط بين الطول الموجي والطاقة باستخدام قاعدة التقريب: بحيث إن ١ إلكترون فولت يتوافق مع ١٠−٦ أمتار، وهكذا دواليك.
جدول ٣-١: الطاقة والأطوال الموجية التقريبية.
الطاقة الطول الموجي (متر)
١ إلكترون فولت ١٠−٦
١ كيلو إلكترون فولت ١٠−٩
١ ميجا إلكترون فولت ١٠−١٢
١ جيجا إلكترون فولت ١٠−١٥
١ تيرا إلكترون فولت ١٠−١٨
وبإمكانك مقارنة هذا بالعلاقة بين الطاقة ودرجة الحرارة التي ناقشناها في الفصل الثاني، بحيث ترى كيفية ارتباط درجة الحرارة بالطول الموجي. يبيِّن لنا هذا كيف أن الأجسام في درجات الحرارة المختلفة تشع أطوالًا موجية مختلفة: فكلما زادت حرارة الجسم، قَصُرَ الطول الموجي؛ ولهذا — على سبيل المثال — بينما يتدفق التيار الكهربي عبر السلك ويدفئه، سيشع في البدايةِ الحرارةَ على صورة أشعة تحت حمراء، لكن بينما يزداد سخونة — بضعة آلاف من الدرجات أو نحو ذلك — سيبدأ في إشعاع الضوء المرئي ومن ثَمَّ ينير الحجرة. وبإمكان الغازات الحارة قرب الشمس أن تُطلِق الأشعة السينية، كما أن النجوم الشديدة الحرارة تُطلِق أشعة جاما.
للتعمُّق أكثر من هذا داخل الذرة، سنحتاج إلى مصدرٍ للأطوال الموجية الفائقة القِصَر. وبما أننا لا نستطيع محاكاة النجوم المطلِقة لأشعة جاما داخل المختبرات، فإننا نستخدم الجسيمات الأساسية عينها — على غرار الإلكترونات والبروتونات — ونعجلها داخل مجالات كهربية. وكلما زادت سرعتها، عظمت طاقتها وزخمها، وقصر طولها الموجي المصاحب. وهكذا تستطيع حِزَمٌ من الجسيمات العالية الطاقة استكشافَ أشياء صغيرة في حجم الذرة. وبذلك يمكننا النظر على مسافات صغيرة كما يحلو لنا، وكل ما علينا فعله هو تعجيل حركة الجسيمات، ومنحها المزيد والمزيد من الطاقة حتى تصل إلى أطوال موجية أصغر وأصغر. ولاستكشاف مسافات على مستوى نواة الذرة — ١٠−١٥ أمتار — سنحتاج إلى طاقات على مستوى الجيجا إلكترون فولت. هذا هو مستوى الطاقة الذي نسميه فيزياء الطاقة العالية. وفي الواقع، حين بدأ ذلك المجال بجدية في بواكير القرن العشرين وحتى منتصفه، كانت الطاقات على مستوى الجيجا إلكترون فولت هي الحدود القصوى المتاحة فنيًّا، لكن بنهاية القرن العشرين، باتت الطاقات البالغة عدة مئات من الجيجا إلكترون فولت هي المعيار السائد، ونحن الآن على أعتاب الدخول إلى مستوى التيرا إلكترون فولت من الطاقة، القادر على استكشاف المادة حتى مستويات تبلغ من الصِّغَر أقل من ١٠−١٨ أمتار؛ لذا حين نقول إن الإلكترونات والكواركات ليست لها بنية داخلية أعمق، فإننا يجب بالفعل أن نقول: «على الأقل حتى مستوى ١٠−١٨ أمتار.» من الممكن أن تكون هناك طبقات أعمق، على مسافات أصغر من تلك، لكنها تقع خارج نطاق قدرتنا الحالية على الاستكشاف في المختبرات؛ لذا رغم أنني سأتحدث في أنحاء هذا الكتاب كما لو أن هذه الكيانات هي المكونات الأصغر للمادة، ضع في اعتبارك على الدوام التحذير التالي: إننا نعلم فقط كيف تعمل الطبيعة على مسافات أكبر من ١٠−١٨ أمتار.

تعجيل الجسيمات

سنصف الأفكار المتعلقة بالمعجلات تفصيلًا في الفصل الخامس، لكن الآن دعونا نتفكر للحظة فيما تتطلبه هذه المعجلات. فلتعجيل الجسيمات إلى طاقاتٍ قَدْرها عدة عشرات أو مئات من الجيجا إلكترون فولت، سنكون بحاجة إلى مساحة كبيرة. كان في وسع تكنولوجيا منتصف القرن العشرين وأواخره تعجيل الإلكترونات — مثلًا — بمعدل يكتسب بموجبه كلُّ إلكترون داخلَ الحزمة عشراتِ من الميجا إلكترون فولت لكل متر يقطعه. وهكذا أنتج المعجل البالغ طوله ثلاثة كيلومترات، والموجود في مركز معجل ستانفورد الخطي بكاليفورنيا حِزَمًا من الإلكترونات تصل طاقتها إلى ٥٠ جيجا إلكترون فولت. وفي مختبر سيرن بجنيف، دُفِعت الإلكترونات إلى الدوران في دائرة طولها ٢٧ كيلومترًا، حتى وصلت إلى طاقة مقدارها ١٠٠ جيجا إلكترون فولت. أما البروتونات، نظرًا لضخامتها، فإنها تحقِّق مستويات أعلى من الطاقة، لكنها لا تزال بحاجة إلى معجلات ضخمة لتحقيق هذا الهدف. وفي النهاية، فإن العلاقة الكمية بين المسافات القصيرة، والأطوال الموجية القصيرة المطلوبة لاستكشاف هذه المسافات، والطاقات العالية للحِزَم هي التي تقف وراء هذا التناقض الظاهري المتمثِّل في ضرورة بناء آلات أضخم وأضخم لاستكشاف أدق المسافات.

كانت هذه هي المقاصد المبكرة لتلك التجارب الهادفة لسبر أغوار نواة الذرة عن طريق قصفها بحِزَم من الجسيمات العالية الطاقة. وطاقة الجسيمات الموجودة في هذه الحِزَم هائلة (على مقياس الطاقة المحتواة داخل نواة منفردة، والتي تُبقِي على تماسك النواة)، ونتيجة لذلك تنزع الحزم إلى تهشيم الذرة وجسيماتها إربًا، وهو ما ينتج عنه إنتاج جسيمات جديدة خلال العملية. هذا هو السبب الكامن خلف التسمية القديمة «مهشمات الذرات»، لكننا اليوم نفعل ما هو أكثر من هذا؛ لذا لم يَعُدْ هذا الاسم صالحًا.

الإلكترون والبروتون

الجسيمات المشحونة كهربيًّا التي تتألف منها الذرات هي الإلكترونات والبروتونات، وتتكون ذرة أبسط العناصر — الهيدروجين — في المعتاد من إلكترون وحيد (سالب الشحنة)، وبروتون وحيد يحمل القدر عينه من الشحنة، لكنها شحنة موجبة. ومن ثَمَّ، رغم أن الذرة يمكن أن تكون متعادلة الشحنة الكهربية إجمالًا (كما الحال في أغلب صور المادة الكثيفة التي نألفها)، فإنها تحتوي على شحنات كهربية سالبة وأخرى موجبة داخلها، وهذه الشحنات، والقوى الكهربية والمغناطيسية التي تستشعرها، هي التي تُبقِي على الذرات داخل الجزيئات والمادة الكثيفة. سنتناول قوى الطبيعة الأساسية في الفصل السابع، لكننا سنركز هنا على هذه الجسيمات الأساسية ذات الشحنة الكهربية، وكيف جرى استخدامها كأدوات لاستكشاف البنى الذرية والنووية.

استُخدِمَت حِزَم الإلكترونات منذ القرن التاسع عشر، رغم أنه لم يعلم أحد وقتَها ماهيتَها؛ فحين مُرِّر التيار الكهربي عبر الغازات تحت ضغط منخفض للغاية، أمكن رؤية حزمة رفيعة كالقلم الرصاص. هذه الحزم كانت معروفة باسم «أشعة الكاثود»، ونعلم الآن أنها تتكون من إلكترونات. والمثال المألوف على هذه الأداة جهاز التليفزيون الحديث، حيث الكاثود هو السلك الساخن الموجود في الخلف، والذي تنبعث منه حِزَم الإلكترونات كي تظهر على الشاشة عندما ترتطم بها.

كانت مفاجأة عظيمة في القرن التاسع عشر حين اكتُشِف أن الأشعة يمكنها المرور عبر المادة الصلبة كما لو أن شيئًا لا يعترض طريقها. كان في هذا تناقض ظاهري؛ فالمادة الصلبة الملموسة صارت شفافة على المستوى الذري. وقد علَّق فيليب رينارد — الذي اكتشف هذا الأمر — قائلًا: «المساحة التي يشغلها متر مكعب من البلاتين الصلب خاوية، مثلها مثل الفضاء النجمي الموجود خارج الأرض.» قد تكون الذرات فضاءً خاويًا في معظمها، لكن هناك ما يمنحها كيانها، ويمنح الكتلة لكل الأشياء. وقد صار من الجلي أن هناك ما هو أكثر من الفضاء بفضل أعمال إرنست رذرفورد في السنوات الأولى من القرن العشرين، وقد تحقَّق هذا بعد اكتشاف الإلكترون والنشاط الإشعاعي، وقد وفَّرَ هذان الاكتشافان الأدوات الضرورية للكشف عن البنية الداخلية للذرة.

اكتُشِف الإلكترون وتحدد بوصفه مكونًا أساسيًّا للعناصر الذرية على يد جوزيف جون طومسون في عام ١٨٩٧. إن الإلكترونات، السالبة الشحنة الكهربية، موجودة داخل الذرة منذ أن تكوَّنَتِ الأرض، ومن السهل استخلاص الإلكترونات؛ إذ إن كل ما نحتاجه هو درجات حرارة قدرها بضعة آلاف درجة مئوية وحسب. ستعجل المجالات الكهربية الإلكترونات، وتمنحها طاقة، وبهذا تمكن حزم الإلكترونات العالية الطاقة من استكشاف البنى الصغيرة الحجم.

ليس الإلكترون هو الجسيم الذري الوحيد المستخدَم في هذا الغرض؛ فهناك البروتون الذي يحمل شحنةً كهربية موجبة تعادل شحنة الإلكترون السالبة، لكن كتلة البروتون أكبر على نحو واضح؛ إذ تبلغ نحو ألفَيْ مرة قدر كتلة الإلكترون. صارت البروتونات الخيارَ المفضَّل لعمليات الاستكشاف دون الذري، لكن في البدء كان هناك كيانٌ آخَر مشحون كهربيًّا أدَّى دورًا رئيسًا، ونعني بهذا جسيم ألفا.

نعلم في وقتنا الحالي أن جسيم ألفا ما هو إلا نواة ذرة الهليوم؛ تجمُّع مضغوط من بروتونين ونيوترونين، ومن ثَمَّ فهو موجب الشحنة وأثقل بنحو أربع مرات من ذرة الهيدروجين المنفردة. سبب أهمية هذا الجسيم يرجع إلى أن أنوية العديد من العناصر الثقيلة تطلق جسيمات ألفا تلقائيًّا، ومن ثَمَّ توفِّر مصدرًا مجانيًّا لهذه المستكشفات ذات الشحنة الكهربية. تتكون أنوية العناصر الثقيلة من عدد كبير من البروتونات والنيوترونات المحتشدة معًا على نحو محكَم، وتحدث ظاهرة نشاط ألفا الإشعاعي حين تسعى النواة الثقيلة لاكتساب الاستقرار بأن تُطلِق تلقائيًّا كُتَلًا صغيرة تتكون من بروتونين ونيوترونين. لا تهمنا تفاصيل هذه العملية هنا، لكن يكفينا القبول بأنها موجودة، وأن جسيم «ألفا» يظهر حاملًا طاقة حركة، ويمكنه اقتحام ذرات المواد المحيطة. وبهذه الطريقة تمكَّنَ إرنست رذرفورد ومساعداه جايجر ومارسدن من أن يكتشفوا لأول مرة وجود نواة الذرة.

fig5
شكل ٣-١: نتائج ارتطام الأجسام الثقيلة والخفيفة بالأجسام الخفيفة والثقيلة، على الترتيب.

حين قابلت جسيمات ألفا الذرات، تشتتت جسيمات ألفا بصورة عنيفة إلى حدٍّ ما، بل إنها في بعض الأحيان ارتدَّتْ عائدةً من حيث أتت. هذا هو ما يحدث حين تكون الشحنة الموجبة للعنصر الثقيل، الذهب مثلًا، متركزةً في كتلة مركزية مضغوطة. لقد صُدَّتْ جسيمات ألفا الموجبة الشحنة بواسطة نواة الذرة الموجبة الشحنة، وارتدت عنها مثلما يرتدُّ جسم خفيف، ككرة التنس، عند ارتطامه بجسم آخَر ثقيل، ككرة القدم.

جسيمات ألفا أخفُّ بكثير من أنوية الذهب، بَيْدَ أنها أثقل من البروتونات، التي يؤلِّف الواحد منها نواة ذرة الهيدروجين؛ لذا إذا وُجِّهت جسيمات ألفا صوب الهيدروجين، فسيكون الموقف أشبه بما يحدث حين ترتطم كرة القدم الثقيلة بكرة التنس الخفيفة. في هذه الحالة ستميل كرة القدم إلى مواصلة طريقها، مطيحة بكرة التنس إلى الأمام في الاتجاه العام لحركتها نفسه؛ لذا حين ارتطمت جسيمات ألفا الثقيلة نسبيًّا ببروتونات الهيدروجين، اندفعت هذه البروتونات إلى الأمام. وقد تم الكشف عن هذا من خلال الآثار التي خلَّفتها في الغُرَف السحابية (انظر الفصل السادس).

بفضل هذه التجارب التي أُجرِيت في السنوات الأولى من القرن العشرين، ترسَّخت الفكرة الأساسية للذرة النووية. وإجمالًا نقول إن الطريقة التي تشتَّتت بها جسيمات ألفا عن الذرات ساعدت في ترسيخ صورة الذرة التي نعرفها منذئذٍ: تكمن الشحنة الموجبة داخل مركز مضغوط كثيف — نواة الذرة — بينما تطوف الإلكترونات السالبة الشحنة عن بُعْد في المحيط الخارجي للذرة.

لا تتسم جسيمات ألفا الموجودة على نحو طبيعي بالقوة الكبيرة، فهي تنطلق من الأنوية الثقيلة وهي تحمل بضعة من الميجا إلكترون فولت فقط من طاقة الحركة — أو ما يساوي ذلك من الزخم البالغ بضعة من الميجا إلكترون فولت مقسومة على سرعة الضوء — ومن ثَمَّ فهي قادرة فقط على استكشاف البنى الواقعة في نطاق مسافات أكبر من ١٠−١٢ أمتار فقط. هذه الأحجام أصغر من أحجام الذرات، وبهذا تصير جسيمات ألفا مفيدة في استكشافها، لكنها لا تزال أصغر بكثير من نطاق اﻟ ١٠−١٤ أمتار الخاص بالنواة الكبيرة الحجم، كنواة الذهب، ناهيك عن نطاق اﻟ ١٠−١٥ أمتار الخاص بأحجام البروتونات والنيوترونات المنفردة التي تتحد كي تكون هذه الأنوية. لذا رغم أن جسيمات ألفا كانت ملائمة لاكتشاف وجود أنوية الذرات، فإن رؤية ما بداخل هذه الأنوية تطلبت حِزَم جسيمات ذات طاقة أكبر.
في ضوء هذا المقصد، صار لدينا بدايات فيزياء الجسيمات العالية الطاقة الحديثة. ففي عام ١٩٣٢ بُنِي أول معجل للجسيمات ذات الشحنة الكهربية على يد كلٍّ من كوكروفت ووالتون، وبدأت تتضح صورة تفصيلية لبنية النواة، وللجسيمات المكونة لها. يمكننا استخدام حِزَم الأنوية الذرية، لكن رغم أن هذه كانت في حقيقتها «مهشمات ذرات (أو بالأحرى أنوية)» وساعدت على تحديد نمط النظائر النووية (أشكال من العنصر نفسه تحتوي على العدد نفسه من البروتونات، لكن تحتوي على عدد متباين من النيوترونات) وتفاصيلها، فإن أوضح المعلومات عن المكونات النووية الأساسية جاءت باستخدام أبسط الحزم. تحتوي نواة الكربون في المعتاد على ستة بروتونات وعدد مماثل من النيوترونات؛ ومن ثَمَّ يتخلَّف قدر كبير من الحطام حين ترتطم نواة الكربون بنواة أخرى، وبعض هذا الحطام يأتي من نواة الكربون نفسها والبعض الآخَر من النواة الأخرى. وهذا يسبِّب صعوبةً بالغةً في تفسير النتائج. ومن الأبسط بكثير استخدام حزمة من البروتونات فقط، وهذا كان ويظل، أحد السبل الرئيسة لسبر أغوار النواة، والمسافات إلى نطاق ١٠−١٩ أمتار اليوم.

ظلت البروتونات، الموجبة الشحنة، هي المفضلة لما يزيد على الخمسين عامًا؛ وذلك لأنها تضرب بقوة كبيرة. ومع ذلك، للإلكترونات مزايا خاصة، وأغلب معارفنا الحالية حول بنية نواة الذرة — بل حتى معارفنا بشأن البروتونات والنيوترونات المكونة للنواة — ناتجة عن التجارب التي تستخدم حزم الإلكترونات.

يسبِّب النشاط الإشعاعي على صورة تحلل بيتا — إشعاع «بيتا» — انبعاثَ الإلكترونات، ويمكن استخدام هذه الإلكترونات لسبر أغوار بنية الذرة، إلا أن هذه الإلكترونات لها طاقات قدرها بضعة من الميجا إلكترون فولت وحسب، كما الحال في جسيمات ألفا، ومن ثَمَّ فهي تعاني من القصور عينه؛ إذ إنها تمكِّننا من رؤية النواة مثلما تمكِّننا جسيمات ألفا، لكن دون القدرة على استكشاف البنية الداخلية للنواة. كان مفتاح التقدُّم هو تأيين الذرات، وتحرير واحد أو أكثر من إلكتروناتها، ثم تعجيل حركة حزمة الإلكترونات المتراكمة بواسطة مجالات كهربية. وبحلول منتصف خمسينيات القرن العشرين في ستانفورد بكاليفورنيا، بدأت حِزَمٌ ذات طاقات قدرها ١٠٠ ميجا إلكترون فولت إلى ١ جيجا إلكترون فولت في استكشاف مسافات تقترب من ١٠−١٥ أمتار. بدأت الإلكترونات المرتدة عن البروتونات والنيوترونات في الكشف عن أدلة على وجود طبقة أعمق من البنية داخل هذه الجسيمات النووية. بيَّنَتْ هذه التجارب أن النيوترون، رغم أنه متعادِل كهربيًّا إجمالًا، له تأثيرات مغناطيسية وغيرها من الخواص التي توحي بأن هناك شحنتين كهربيتين داخله؛ شحنة موجبة وأخرى سالبة متعادلتين بصورة ما، مثلما هو الحال داخل الذرة. وجد أيضًا أن البروتونات لها حجم محدَّد، يمتد عبر مسافة في نطاق ١٠−١٥ أمتار. وما إن تأكَّدَ أن البروتونات ليست جسيمات نقطية، تبادَرَ السؤال بشأن كيفية توزيع الشحنة داخل البروتون. تذكِّرنا هذه التساؤلات بما كان عليه الحال منذ سنوات في حالة الذرة، وقد جاءت إجاباتها بطُرُق مشابهة. في حالة الذرة، تم الكشف عن نواتها المركزية الصلبة بواسطة تشتُّت جسيمات ألفا، وفي حالة البروتونات، كان من شأن حِزَم الإلكترونات العالية الطاقة أن تمنحنا الجواب.

عام ١٩٦٨ مكَّنَنَا المعجل الخطي البالغ طوله ثلاثة كيلومترات في ستانفورد، من إلقاء أول نظرة واضحة داخل نواة الذرة، واكتشاف أن ما نعرفه باسم البروتونات والنيوترونات ما هو إلا كرات من «الكواركات» المحتشدة.

في طاقات أعلى من ١٠ جيجا إلكترون فولت، تستطيع الإلكترونات استكشافَ مسافات قدرها ١٠−١٦ أمتار؛ أي أصغر عشر مرات من البروتون ككل. حين قابلت الإلكترونات البروتون، وُجِد أنها تتشتَّت بعنف. يشبه هذا ما حدث منذ نحو ٥٠ عامًا مع الذرة؛ فبينما كشف التشتُّت العنيف لجسيمات ألفا المنخفضة الطاقة نسبيًّا عن أن للذرة قلبًا صلبًا مشحونًا؛ نواتها، بَيَّن التشتُّت العنيف غير المتوقع للإلكترونات العالية الطاقة أن شحنة البروتون مركَّزة في أجسام «نقطية»، أو الكواركات (نعني بكلمة «نقطية» في هذا السياق أننا نعجز عن تبين ما إذا كان لها أي بنية داخلية خاصة بها من عدمه). ووفق أفضل التجارب التي يمكننا القيام بها اليوم، تبدو الإلكترونات والكواركات بمنزلة المكونات الأساسية للمادة الكثيفة إجمالًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤