مقدمة

نجاح مبهر ثم إخفاق مؤلم

في الخميس الرابع من شهر أكتوبر ٢٠٠٨، ذهب آلان جرينسبان — البالغ من العمر اثنتين وثمانين سنة — إلى مبنى الكونجرس الأمريكي ليعترف بأنه أساء فهم الكيفية التي يسير بها العالم. استهلَّ رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق — وهو جالس على طاولة الشهود في قاعة الاستماع الكائنة في الطابق الأول من مبنى رايبيرن الذي يضم مكاتب أعضاء مجلس النواب — بقراءة بيان سعى فيه إلى تفسير ما أصاب الأسواق المالية من خطب خلال السنة الماضية. وبعد أن طرح رئيس لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي بمجلس النواب، النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا هنري واكسمان، بعض الأسئلة على جرينسبان، أوجز قائلًا: «بعبارة أخرى، أنت وجدت أن رؤيتك للعالم — أقصد أيديولوجيتك — لم تكن صحيحة، ولم تفلح.»

أجاب جرينسبان قائلًا: «بالضبط. وهذا هو تحديدًا ما صدمني؛ لأنني ظللت أربعين سنة أو أكثر أحمل كمًّا لا بأس به من الأدلة على أنها ناجحة نجاحًا باهرًا.»1
تطورت الأسواق المالية خلال تلك السنوات الأربعين — ولا سيما التسع عشرة التي تولى فيها جرينسبان رئاسة أكبر مصرف مركزي في العالم — لتلعب دورًا متعاظمًا وأقل تقيدًا. وانتعشت سوق الأسهم خلال معظم السنوات التي قضاها جرينسبان على رأس الاحتياطي الفيدرالي، كما انتعشت أسواق السندات أيضًا، وتوسعت لتشمل مناطق جديدة من العالم؛ حيث استبعد عباقرة وول ستريت القروض العقارية وقروض السيارات وديون بطاقات الائتمان من ميزانيات المصارف العمومية، وأعادوا طرحها في صورة أوراق مالية مدعومة بأصول، تُباع لمستثمرين حول العالم. حدث النمو الأشد إثارة في المشتقات المالية المتداولة خارج المقصورة والأدوات المالية المصممة حسب الطلب (عقود الخيارات، العقود المستقبلية، عقود المبادلة) التي كانت تتبع تحركات الأدوات المالية الأخرى. بواسطة هذه المشتقات، كان بمقدور المتعاملين التأمين ضد حركة العملات أو أسعار الفائدة أو الأسهم أو الرهان عليها. بل وصار ممكنًا في السنوات الأخيرة استخدام المشتقات المالية للتأمين ضد القروض المتعثرة. وقد ارتفعت القيمة الاسمية للمشتقات المتداولة خارج المقصورة بين عامي ١٩٨٧ و٢٠٠٧ من ٨٦٦ مليار دولار أمريكي إلى ٤٥٤ تريليون دولار أمريكي.2
احتفى جرينسبان كرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بهذا التحول المالي (وهو ما يعرف بالأَمْوَلة) للاقتصاد العالمي؛ حيث قال سنة ١٩٩٩: «تعزز هذه الأدوات القدرة على تمييز المخاطر وتخصيصها للمستثمرين الأقدر على تحملها والراغبين فيها.»3 مشيرًا إلى المشتقات المالية على وجه التحديد. وكان جرينسبان قد أعرب عن قلقه ذات مرة سنة ١٩٩٦ من أن أسواق الأسهم ربما بدأت تفقد السيطرة في خضم نوبة من «الوفرة اللاعقلانية». وعندما واصلت ارتفاعها بعد ذلك، تعلم درسًا مفاده أن السوق تعرف أكثر مما يعرف.

كانت تلك أيديولوجية جرينسبان، وكان يشترك معه فيها كثيرون في واشنطن وفي وول ستريت. كانت الأسواق المالية تعرف أكثر. كانت تنقل الأموال ممن يملكونها إلى من يحتاجون إليها. كانت توزع المخاطر. كانت تجمع المعلومات وتنشرها. كانت تنظم الشئون الاقتصادية العالمية بسرعة وحسم لم تستطع الحكومات مضارعتها فيهما.

•••

ثم فجأة توقفت عن ذلك. قال جرينسبان مُقرًّا في جلسة أكتوبر ٢٠٠٨: «انهار الصرح الفكري بأكمله صيف العام الماضي.»4 حدث ذلك عندما انهارت السوق الخاصة لأوراق الرهن المالية الأمريكية؛ مما استهل تفككًا متقطعًا لأسواق الأصول واحدة تلو الأخرى حول العالم، فانتشرت الريبة. كثير من أسواق الائتمان التي كانت قبل ذلك مزدهرة أُغلقت كلية. هدد التهافت على سحب الودائع من البنوك — الذي طالما اعتُقد أنه يعرِّض البنوك الفعلية وحدها للخطر — أي مؤسسة مالية تعتمد على الأموال المقترضة. وبعد أن قرر خليفة جرينسبان في الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي ووزير الخزانة هانك بولسون في سبتمبر ٢٠٠٨ عدم التدخل لتفادي مثل هذا التهافت على بنك ليمان براذرز، كاد النظام المالي العالمي أن يتوقف عن العمل تمامًا؛ مما تطلَّب الإقدام على استحواذ حكومي جزئي على النظام المالي، ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في أوروبا، لاستعادة ولو نزرًا يسيرًا من الهدوء.

جاهد جرينسبان لتفسير سبب الإخفاق؛ لأن الصرح الفكري الذي أقام عليه فكره لم يكن ببساطة يسمح بمجال لأحداث الأربعة عشر شهرًا السابقة. كان هذا صرح نظرية السوق العقلانية. والعنصر المعروف حق المعرفة من عناصر نظرية السوق العقلانية هو فرضية كفاءة السوق التي صيغت في جامعة شيكاجو في ستينيات القرن الماضي بخصوص سوق الأسهم الأمريكية. غير أن الإيمان بما تُسَمَّى السوق العقلانية الذي ترسخ في السنوات التالية كان يُعنى بما هو أكثر من مجرد الأسهم. كان مفاده أنه كلما زاد إنشاء وتداول الأسهم والسندات وعقود الخيارات والعقود المستقبلية والأدوات المالية الأخرى، فسيجلب هذا حتمًا المزيد من العقلانية إلى النشاط الاقتصادي. فالأسواق المالية كانت تمتلك من الحكمة ما لم يكن يمتلكه الأفراد والشركات والحكومات.

فكرة أن الأسواق المالية تعرف الكثيرَ قديمةٌ قِدَم الأسواق المالية ذاتها. ففي عام ١٨٨٩، أكد مؤرخ أسواق الأسهم جورج رَتليدج جبسون أنه عندما «تصبح الأسهم معروفة علانية في سوق مفتوحة، فإن القيمة التي تكتسبها هناك ربما تعتبر بمنزلة الحكم على أفضل المعلومات بخصوصها.»5 ويمكن أن نجد تلميحات إلى هذا الموقف ذاته في عمل اقتصاديين رواد كآدم سميث، بل ومفكرين دينيين من العصور الوسطى. ففي حين ذهب بعض علماء الإكليروس في العصور الوسطى إلى الاعتقاد بضرورة أن يحدد المشرِّعون «سعرًا عادلًا» لكل سلعة، لضمان كسب المنتجين أجر الكفاف وعدم استغلال المستهلكين؛ رأى آخرون، منهم القديس توما الأكويني، أن السعر العادل تحدده السوق.6
كل هذه الادعاءات القديمة بشأن صحة أسعار السوق وعدالتها جاءت مصحوبة بتحذيرات، يمكنك أن تسميها جرعات من الواقعية؛ حيث كتب جورج جبسون يقول إن البورصات عرضة للهوس والهلع، ودعا إلى تنظيم «مكاتب السماسرة غير المقيدين» التي تشجع العملاء على الإفراط في المضاربة.7 وكان آدم سميث يرى أن الشركات الموزعة ملكيتها على نطاق واسع — وهي الشركات التي تسير أسواق الأسهم بفضل أسهمها — من المنكرات. ولم يزعم توما الأكويني أن سعر السوق صحيح دائمًا، وكل ما هنالك أنه يصعب التوصل إلى بديل أكثر عدالة.

أما نسخة القرن العشرين من نظرية السوق العقلانية فكانت مختلفة؛ حيث تجمع بين كونها أكثر دقة وأكثر تطرفًا. بدأت هذه النسخة بملاحظة أن تحركات أسعار الأسهم عشوائية، ولا يمكن التنبؤ بها استنادًا إلى التحركات السابقة. وتلا هذه الملاحظة ادِّعاء استحالة التنبؤ بأسعار الأسهم على أساس أية معلومات متاحة علانية (مثل الأرباح، وبيانات الميزانية العمومية، والمقالات المنشورة في الصحف). من هذين المنطلَقين — اللذين تبين فيما بعدُ أنهما ليسا صحيحين بالكلية — جاءت القناعة بأن أسعار الأسهم «صحيحة» في جوهرها.

لم يقصد معظم الباحثين الذين أيدوا هذه الفرضية في مرحلة مبكرة أن تُعامَل كوصف حرفي للواقع، فقد كانت تمثل بناءً علميًّا، أو نموذجًا للفهم من أجل اختبار أدوات جديدة وتصميمها. كل النماذج العلمية مبالغة في التبسيط. الاختبار المهم هو ما إذا كانت مفيدة أم لا. هذه المبالغة في التبسيط بعينها كانت مفيدة بكل تأكيد، مفيدة إلى حد أنها أصبحت قائمة بذاتها. وفيما أخذت تتنقل من الأحرام الجامعية في كامبريدج وماساتشوستس وشيكاجو في ستينيات القرن الماضي إلى وول ستريت وواشنطن وغرف مجالس إدارات الشركات الأمريكية، قويت فرضية السوق العقلانية وضاعت فوارقها الدقيقة.

كانت فكرة قوية؛ حيث ساعدت على استحداث أولى الصناديق المرتبطة بمؤشر، ونهج الاستثمار المسمى نظرية المحفظة الحديثة، ومقاييس الأداء المعدلة حسب المخاطر التي تشكل أعمال إدارة الأموال، وعقيدة القيمة المضافة للمساهمين التي تتبنَّاها الشركات، وظهور المشتقات المالية، ونهج الابتعاد عن التنظيم المالي الذي ساد في الولايات المتحدة بداية من سبعينيات القرن الماضي فصاعدًا.

من بعض النواحي، توازي قصة فرضية السوق العقلانية انبعاث الأيديولوجية المؤيدة للسوق الحرة بعد الحرب العالمية الثانية وتتشابك معها؛ هذا الانبعاث المسجل على نطاق واسع. لكن مالية السوق العقلانية لم تكن في صميمها حركة سياسية، بل كانت حركة علمية، أو فرضًا للحماسة التي شهدها منتصف القرن تجاه اتخاذ القرارات العقلانية الرياضية الإحصائية على الأسواق المالية. لم يكن هذا المسعى بحال كارثة تامة، فقد كان يمثل ملمحًا من ملامح التقدم. لكن الخسائر كانت كثيرة، وأهمها الفهم الشائع بين المستثمرين الناجحين — وإن كان غائبًا عن عدة عقود من الدراسة الأكاديمية المالية — بأن السوق شيطانية، وهي شيطانية إلى درجة يتعذر معها الإحاطة بها بنظرية سلوكية واحدة بسيطة، كما أن نظرية لم تسمح إلا بالعقلانية الهادئة على امتداد البصر تعجز عن تحقيق ذلك دون شك.

في سبعينيات القرن الماضي، بدأ علماء الاقتصاد وأساتذة المالية المخالفون في الرأي يشككون في نظرية السوق العقلانية هذه لكشف تناقضاتها النظرية وافتقارها إلى سند تجريبي، وبحلول نهاية القرن، كانوا قد قوَّضوا معظم دعائمها. لكن لم يكن هناك بديل مقنع؛ لذا ظلت السوق العقلانية تغلب على النقاش العام واتخاذ القرارات الحكومية وسياسة الاستثمارات الخاصة حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ أي حتى انهيار السوق سنة ٢٠٠٨.

لا يقدم هذا الكتاب نظرية جديدة كبرى حول طبيعة السلوك الحقيقي للسوق، بل هو تأريخ لصعود النظرية القديمة وسقوطها، وأقصد بذلك نظرية السوق العقلانية. إنه تأريخ للأفكار، وليس سيرة حياتية أو حتى مجموعة من السير الحياتية، لكنه يعجُّ بشخصيات — معظمها لعلماء اقتصاد وأساتذةِ ماليةٍ — كانوا فاعلين في كثير من الأحداث الدرامية التي شهدها القرن العشرون، بداية من انتعاش العشرينيات إلى كساد الثلاثينيات الكبير إلى الحرب، ثم السلام والازدهار، ثم انتعاش الستينيات وكساد السبعينيات، وهلم جرًّا. هذه الشخصيات لم تكن هي العناصر الفاعلة القيادية في معظم الأحوال، لكنها كانت حاسمة الأهمية لسير الأحداث. (توجد قائمة مرجعية بأهم الشخصيات لاحقًا في هذا الكتاب.)

كتب جون مينارد كينز — الذي يلعب دورًا مساندًا في القصة التالية — يقول: «أفكار الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، حالةَ كونِهم مصيبين ومخطئين على السواء، أقوى مما هو مفهوم عمومًا. والحقيقة أن العالم لا يحكمه شيء أكثر من ذلك. فالرجال العمليون الذين يعتقدون أنهم مبرَّءون تمامًا من أية تأثيرات فكرية هم في العادة عبيد لاقتصاديٍّ بائد.»

والاقتصادي البائد الذي تبدأ به هذه الحكاية هو إرفينج فيشر، أحد المعاصرين لكينز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤