تعقيب

في ٢٨ مايو ٢٠١٠، كان مشاهدو العرض التليفزيوني الصباحي «سكواك بوكس» الذي يُعرض على قناة سي إن بي سي التليفزيونية — قناة متخصصة في أخبار المستهلكين والأعمال — على موعدٍ مع ظاهرة نادرة وغريبة نوعًا ما؛ وهي ظهور يوجين فاما على شاشة التليفزيون. بعد أن قُدِّم يوجين فاما الأستاذ بجامعة شيكاجو للمشاهدين باعتباره «رائد المالية الحديثة»، سأله جو كيرنان مقدم البرنامج عما إذا كانت الأزمة المالية قد كشفت جوانب خلل عميقة في الرأسمالية، وربما أظهرت أن «فرضية السوق الكفء غير مجدية».

بعد شيء من الارتباك المبدئي (سأل فاما على الفور: «ما الذي تقصده بالضبط بذلك؟») بدأ فاما في تقديم شرح موجز لنظرية السوق الكفء وعلاقتها بالرأسمالية:

تقول النظرية إن الأسعار تعكس جميع المعلومات المتاحة؛ لذلك من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — أن تتفوق على السوق؛ فالأسواق الكفء ترتبط بعضها ببعضٍ ارتباطًا وثيقًا؛ ذلك لأن أحد أسس الرأسمالية يتمثل في أن الأسعار تعطي مؤشرات جيدة تتعلق بتخصيص الموارد، وهذا هو في الواقع أساس الأسواق الكفء.

يقول فاما إن هذا ليس معناه أن الأسواق دائمًا على صواب. ويتابع كلامه قائلًا: «الأسواق يمكنها أن تتنبأ بما هو غير قابل للتنبؤ في الأساس.» ومن ثَمَّ بعد حدوث انهيار مالي أو أزمة مالية «يفعل الناس في أغلب الأحيان ما أُطلق عليه إدانة الأسواق بِناءً على الفهم التام للأمور بعد حدوثها.»

لكن فاما يرى أنه لو كانت الأسواق المالية تخطئ باستمرار، «فلا بد أن يكون هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن الناس بمقدورهم ضبط السوق والقيام بما هو أفضل من مجرد الاكتفاء بشراء أسهم فيها والاحتفاظ بها. في الواقع، ليس هناك أدلة على هذا؛ فعندما تعود بالذاكرة إلى الوراء وتختبر كفاءة السوق، تجد أنها تعمل بدرجةٍ كبيرة من الفعالية في جميع الأحيان تقريبًا.»

حسنٌ، لا يكون الوضع كذلك دائمًا؛ ففرضية السوق الكفء تكون فعالة جدًّا في بعض الأحيان. وفي أحيانٍ أخرى، تكون عديمة الجدوى تمامًا. وباعتبار هذه الفرضية رؤية عالمية شاملة، فإنها تخطئ في الكثير جدًّا من الأشياء. وكوْن هذا الأمر ينطبق على جميع الرؤى العالمية الشاملة تقريبًا ليس دفاعًا مُرضيًا. ولا يفيد الجمع بين كل النقد الموجَّه إلى نظرية السوق الكفء والنقد الموجه إلى الرأسمالية — الذي ابتدأه كيرنان وليس فاما، كي نكون منصفين.

•••

عندما شرعت في تأليف هذا الكتاب، لم يكن لديَّ هدف أيديولوجي معين من وراء الاعتراض على نظرية الأسواق الكفء. بالتأكيد، كان لديَّ تحيزاتي (المعرفية وغير ذلك)، لكنني كنت مهتمًّا في الأساس برواية قصةٍ تتعلق بالأسواق المالية. لكن بعدما خرج الكتاب إلى النور، كان لزامًا عليَّ أن أتخذ موقفًا واضحًا. أظن أنه كان يتعين عليَّ أن أوضِّح موقفي عندما وافقت على أن يكون الكتاب بعنوان «خرافة عقلانية السوق». لكنني بذلت قصارى جهدي كي أكون محايدًا في الكتاب (والتقييم العام الذي حصلت عليه من جامعة شيكاجو، على الأقل، كان مفاده أنني حققت نجاحًا). نُشر الكتاب في صيف ٢٠٠٩، وفي هذا الوقت تحديدًا كان لزامًا عليَّ أن أبدأ في عرض آرائي على مُحاوري الصحف والإذاعة والتليفزيون. هل ثبت فشل نظرية السوق الكفء؟ هذا هو ما أراد السائلون معرفته. وهل هذه النظرية هي التي تسببت في حدوث الأزمة المالية؟ وما انعكاسات كل هذا على التشريعات المالية والرأسمالية بوجهٍ عام؟

لا يمكنني الادِّعاء بأنني توصلت إلى أوضح الإجابات في هذا الشأن؛ فحقيقةُ أن خبراء المالية تجاهلوا لعقودٍ القوى التي تقف وراء ما يلحق بالقطاع المالي من ازدهار وركود وأزمات؛ تمثِّل إشكالية. لكن حدثت حالات ازدهار وركود وأزمات قبل أن يسمع أحد — أو لنقُل أساتذة المالية بما يناسب هذا السياق — بالأسواق الكفء بوقتٍ طويل. أيضًا، قلَّما تجد أناسًا في وول ستريت يقتنعون تمامًا بالرؤية العالمية الشاملة لأساتذة المالية. وعلاوةً على ذلك، يروي هذا الكتاب جزئيًّا كيف بدأت المالية والاقتصاد الأكاديميان في إفساح المجال أمام الدارسين والباحثين المعارضين الذين لديهم اتجاهات جديدة في فهم السوق المالية. لم أكن لأقول إن هؤلاء الأشخاص كانوا جميعًا كالنعام يدفنون رءوسهم في الرمال. وأخيرًا، لا أعلم على سبيل اليقين نوعية التشريعات المالية المثلى، أو حتى مقدار القيود التي تحتاجها الرأسمالية كي تؤديَ مهمتها على النحو الأمثل.

كان هناك آخرون أقل تحفظًا وتناقضًا؛ ففي الشهور التي أعقبت نشر هذا الكتاب، ضيَّقوا الخناق على نظرية السوق الكفء. يقول آدير تيرنر، رئيس الوكالة التنظيمية المالية البريطانية في حوارٍ تَصدَّر الصحف في سبتمبر ٢٠٠٩: «شهد العالم تصدعًا شبه تام لنظرية الاقتصاد والمال السائدة.»1
كتب الاقتصادي بول كروجمان دفاعًا مطولًا عن أفكاره، أو لنقُل هجومًا نقديًّا قويًّا في صحيفة ذا نيويورك تايمز في الشهر نفسه2 حيث قال: «انحرفت مهنة الاقتصاد عن الطريق السليم لأن الاقتصاديين مجتمعين أَخطئُوا وخلطوا بين الجمال في الرياضيات ذات المظهر المبهر والحقيقة.» وفي كتاب يتعرض في جانبٍ منه إلى الموضوع نفسه بعنوان «كيف تخفق الأسواق؟» نُشر في نوفمبر ٢٠٠٩، وصف جون كاسيدي مراسل الاقتصاد في مجلة ذا نيويوركر اقتصاد السوق الكفء بأنه «الاقتصاد الوهمي»، واختتم قائلًا: «في عالم الاقتصاد الوهمي، آخِر أزمة للرأسمالية دائمًا ما تكون بمثابة انحرافٍ بسيط ومؤقت عن الاتجاه العام.»3
لا يمكنني القول بأنني غير موافق على أيٍّ من هذا، لكنني ما زلت أرى الكثير من القيمة في اتجاه الأسواق الكفء في التعامل مع الاقتصاد والمالية، ما دام ليس الاتجاه الوحيد. وقد جاء أكثر نقدٍ أثَّر فيَّ لدور الاقتصاديين في الأزمة على لسان معلم الاقتصاد تيم هارفورد؛ حيث كتب في صيف ٢٠١٠ يقول: «ظننت أن التفاصيل ليست لها أهمية كبيرة. وبدت المشتقات المالية أشبه بفكرة عقلانية بوجهٍ عام، وكان هذا هو كل ما كنت بحاجة إلى معرفته. لم أُعِرِ الأمر الاهتمام الكافي. هذا خطأ يقع فيه أي اقتصادي.»4

•••

هذه على أي حالٍ أكبر إشكالية في نظرية السوق الكفء وفي كثيرٍ من الابتكارات الأخرى للمالية الأكاديمية الحديثة؛ فالأمر يتعلق دومًا بعدم الاهتمام الكافي بالتفاصيل. ويمكن أن يكون هذا الاتجاه مفيدًا؛ تذكَّرْ ميلتون فريدمان الذي ذهب إلى أنه كي تكون الافتراضات العلمية مفيدة، يتعين أن تكون صورًا من الواقع بالغة التبسيط. لكن الاكتفاء بالاعتماد على مثل هذه النظريات وحدها، وعدم اختبارها مرارًا وتكرارًا على أرض الواقع، يمكن أن يكون معناه اتجاهنا أكثر نحو الخرافة بدلًا من العلم.

كان من بين الأمثلة على عدم الاهتمام بالتفاصيل في المالية فكرة الربط بين أسعار الأصول وأسعار أشياء أخرى. وكما عبَّر فاما عن ذلك في حوارٍ مع قناة سي إن بي سي: «أحد أسس الرأسمالية يتمثل في أن الأسعار تعطي مؤشرات جيدة تتعلق بتخصيص الموارد، وهذا في الواقع هو أساس الأسواق الكفء.» صحيح أن أسعار السلع والخدمات تقدم معلومات جوهرية عن العرض والطلب، بما يفسح المجال للرأسمالية كي تؤديَ دورها، لكن الأسعار في الأسواق المالية أمر مختلف؛ فهي ليست نتاج العرض والطلب بقدر ما هي نتاج التخمينات التي تُعطى عن المستقبل.

عندما ترتفع أسعار البيض، يقل إقبال الناس على شرائه. وعندما يرتفع سعر السهم، فغالبًا ما يشتري المضارب (أو المستثمر أو أيًّا كانت تسميته) المزيد منه.5 صحيح أن هناك حالات يزداد الإقبال فيها على الشراء في أسواق السلع مع ارتفاع الأسعار كما في اتجاهات الموضة أو عند ادِّخار سلعٍ يعتقد المشتري أن أسعارها ستزداد أكثر في المستقبل، بل وحتى قد ترتفع الأسعار في الأسواق المالية ارتفاعًا بالغًا لدرجة تثني المشترين عن الشراء أكثر من تشجيعهم عليه، لكن بوجهٍ عام، تعطي أسعار السلع والخدمات مؤشرات للرأسماليين أقل إرباكًا بكثير من تلك التي تعطيها أسعار الأسواق المالية.

كل هذا ليس معناه أن الأسواق المالية عديمة الفائدة؛ فالأسعار السائدة في مثل هذه الأسواق تعطي مؤشرات عن المستقبل، وهذا يعد أمرًا طيبًا، حتى وإن تبيَّن عدم دقة هذه المؤشرات في كثيرٍ من الأحيان. لكن سعر البيض في سوق حرة لا يكون «خاطئًا» أبدًا؛ فهو ببساطة يكون على النحو الذي يكون عليه. أما أسعار الأدوات المالية فتخضع للتكهنات.

وكما يزعم فاما، ليس هناك دليل على أنه بمقدور شخصٍ ما التفوق باستمرار على هذه الأسواق. هذا الزعم في حد ذاته مبالغة في التبسيط. فليس هناك أدلة كافية على أن مديري صناديق الاستثمار المشترك — وهم المجموعة التي يسهل على الباحثين الماليين دراستها — يمكنهم التفوق دومًا على السوق. لكن يشير كمٌّ وافر من الأدلة السردية غير الموثوقة وبعض البيانات التي يمكن تبريرها إحصائيًّا في حالة صناديق التحوط إلى أن بعض المستثمرين الأذكياء يمكن أن يحصدوا عوائد أفضل من مؤشرات السوق لعقودٍ دون توقف.

لكن هذا النقاش يمكن أن يكون مشوِّشًا؛ فملاحظة أن الأسواق المالية يمكن أن تخطئ في تحديد الأسعار أمر له أهميته بصرف النظر عمَّا يعنيه ذلك بالنسبة إلى المستثمرين. الأمر له أهميته بالنسبة إلى المنظمين الذين يحددون مقدار الرفع المالي الذي ينبغي أن يُسمح به للبنوك، كما أن له أهميته بالنسبة إلى مجالس إدارة المؤسسات التي تحدد المقدار الذي ينبغي أن يكون في صورة خيارات أسهم من رواتب الرؤساء التنفيذيين. والأمر مهم أيضًا بالنسبة إلى واضعي المعايير المحاسبية الذين يقررون مقدار الاهتمام الذي يُعطى لأسعار السوق مقارنةً بالتدابير الأخرى، وكذلك بالنسبة إلى رواد الأعمال الذين يحددون الطريقة المثلى التي يُموِّلون بها أحلامهم.

•••

هناك أيضًا قضية أخرى توصلت إلى فهمها من خلال عمل الخبير المالي أمار بهيدي؛6 الافتراض المحفز الذي يقف وراء المالية الحديثة بكل جوانبها تقريبًا يتمثل في أنه لا يوجد سوى طريقة صحيحة واحدة للتعامل مع القرارات التي تتضمن استثمارًا ومخاطرة. ومع ذلك تعمل الأسواق (والأنظمة) المالية على النحو الأمثل عندما تتضمن العديد من المشاركين الذين لديهم أفكار مختلفة عن المستقبل. وهي تنهار عندما يكون تفكير الجميع متطابقًا.

لقد ظل الفهم السائد لدى الباحثين الماليين لفترةٍ طويلة أنه إذا كانت الأسهم مملوكة لصناديق مرتبطة بمؤشر، فلن تكون هناك قوة تدفع أسعار الأسهم باتجاه قِيَمها الصحيحة، وكانوا يُطمئنون أنفسهم بأن الاستثمار عن طريق الصناديق المرتبطة بمؤشر كان يستحوذ فقط على اهتمام الأقلية. ومع ذلك، فات هؤلاء الباحثين الماليين أن يفهموا كيف أن المالية الأكاديمية كانت مصدر إلهام للابتكارات الأخرى — بدءًا من تأمين المحافظ المالية، ووصولًا إلى نماذج تسعير الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري — التي كان لها أثرُ انتزاعِ الحكمِ نفسُه من أيدي الأفراد ووضع الأسواق في مركز التحكم في آلة بلا عقل.

الحكم والمبادرة من جانب الأفراد هما أكبر دافعين لنجاح الرأسمالية. والاتجاه الأكاديمي في المالية الذي برز — وساد في بعض الأحيان — في العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين كان يتعلق في الأساس بوضع قواعد وقوانين يمكن أن يمتثل لها الجميع. وقد تبيَّن أن العديد من هذه القواعد والأدوات الجديدة في قطاع المال — باعتبارها مكملات للحكم الفردي وضوابط له — مفيد إلى حدٍّ كبير. لكن عند النظر إليها باعتبارها بدائل، فإنها تتسبب في وقوع كوارث؛ فهي تستعيض عن التنوع والتفكير بالامتثال المطلق والأحمق للمعايير السائدة. وفي حين أن هذا الامتثال المطلق للمعايير السائدة كان خَصِيصَة من خصائص الفقاعات المالية أو نوبات الذعر التي تنتاب القطاع المالي قبل وجود أساتذة ماليين بوقتٍ طويل، فإن التماديَ فيه كان أسوأ خطيئة وقعت فيها المالية الحديثة.

كامبريدج، ماساتشوستس
سبتمبر ٢٠١٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤