الفصل الأول

إرفينج فيشر يفقد حقيبته ثم ثروته

أول محاولة جادة لفرض العقلانية والعلم على السوق تأتي في العقود الأولى من القرن العشرين، ولا تحقق نجاحًا بالقدر الكافي.

***

«نحن في عام ١٩٠٥. ثمة رجل أنيق المظهر في أواخر الثلاثينيات من عمره يتحدث باهتمام شديد عبر هاتف عُملة في محطة جراند سنترال في نيويورك، وبين ساقيه توجد حقيبة جلدية. يترك الرجل بابي كابينة الهاتف مفتوحين، فيخطف لص الحقيبة ويفر. من واقع ما نعرفه عن صاحبها نقول إنها فائقة الجودة، ولن يصعب العثور على مشترٍ يرغب في شرائها.

أما محتويات الحقيبة فشأن آخر. فبداخلها مخطوطة شبه مكتملة تجمع بين الاقتصاد ونظرية الاحتمالات وممارسة الأعمال الواقعية على نحو لم يره أحد من قبل. إنها في جزء منها بحث في الاقتصاد وفي جزء آخر منها كتاب أولي يتناول ما ينبغي أن يكون عليه الاستثمار العقلاني العلمي في سوق الأسهم. إنها إطلالة على مستقبل وول ستريت البعيد.»

•••

كانت الفكرة القائلة بإمكانية تطبيق العلم والعقل على البورصة ما زالت فكرة راديكالية سنة ١٩٠٥. يقول أحد الصحفيين عائدًا بذاكرته إلى ذلك الزمان: «كان وول ستريت وربابنته يديرون سوق الأسهم، وكانوا هم وأصدقاؤهم يملكون صناديق المضاربة أو يسيطرون عليها. نادرًا ما كانت توجد فرصة لعامة المضاربين. كان حَمَلة الأسهم «الفعليون» يعرفون متى يشترون ومتى يبيعون، أما الآخرون فكانوا يتلمَّسون طريقهم.»1

لكن الأزمنة كانت في تغيُّر. كان حصول «عامة المضاربين» على معلومات جيدة عن الأسهم والسندات يزداد سهولة، وكانت الشركات قد أصبحت أكبر حجمًا وأكثر حرصًا على مظهرها المحترم من أن يسيطر عليها مجرد بعض الأخلَّاء. كانت الزوايا المظلمة في وول ستريت قد بدأت تُضاء. ولعل عالَم الاستثمار «كان» مهيَّأً لنهج علمي الطابع بدرجة أكبر.

لم تُرَ المخطوطة المسروقة مرة أخرى قط، لكن مؤلفها إرفينج فيشر — أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل — كان من عادته التغلب على الانتكاسات التي قد تدفع فردًا أقل منه (أو أكثر منه واقعية) إلى اليأس. ففيما كان يتهيأ للانطلاق قاصدًا الجامعة سنة ١٨٨٤، مات أبوه بمرض السل، تاركًا الطالب الجامعي يعول أمه وإخوته الصغار. وبالتزامن مع بداية انطلاقه في حياته المهنية في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، خرَّ هو نفسه صريع مرض السل الذي أقعده لسنوات. وفي ١٩٠٤، وبعد أن استردَّ أخيرًا عافيته وعاود العمل، رأى بعينيه النار وهي تأتي على المنزل الذي كان يعيش فيه هو وزوجته وطفلاه والواقع شمال حرم جامعة ييل مباشرة.

ثم جاءت سرقة المخطوطة. بعدئذ، ونظرًا لاعتياده على الكوارث، عاد فيشر مباشرة إلى العمل. قرر أن يغلق دائمًا الباب عندما يدخل كابينة هاتف، وأعاد تأليف كتابه، لكنه حرص هذه المرة على إعداد نسخ من كل فصل أثناء سيره في التأليف. ونُشر الكتاب سنة ١٩٠٦ بعنوان «طبيعة رأس المال والدخل»، ورسَّخ سمعته الدولية بين أساتذة الاقتصاد، بل صار — كما كتب أحد كُتَّاب السير الذاتية — «إحدى اللبنات الأساسية للنظرية الاقتصادية الحالية برمتها.»2

لم يتَّضح أثر الكتاب على وول ستريت على الفور؛ إذ لم يهرول سماسرة الأسهم والمضاربون لشرائه، ولا يوجد ما يدل على أن المستثمرين بدءوا يُجْرُون حسابات للاحتمالات قبل شرائهم الأسهم حسبما أوصى فيشر. لكن فيشر كان على الأقل مثابرًا بقدر افتقاره إلى مهارات البقاء في بيئة المدن. وبدأت أفكاره تؤتي ثمارها بعض الشيء خلال حياته، ثم حققت المزيد من الانتشار بعد وفاته سنة ١٩٤٧.

تزيِّن الكتب التي تنحدر انحدارًا مباشرًا أو غير مباشر من عمل فيشر، مكاتبَ مديري صناديق التحوط واستشاريي المعاشات والمستشارين الماليين والمستثمرين الهواة. فالجانب الكمِّيُّ متزايد الغلبة من جوانب العالم المالي — أرض العجائب والغرائب بما تضمُّ من برمجيات تحديد المحفظة الاستثمارية المُثلى، والارتباط المعزَّز بمؤشر، ومخصصي الأصول، ومبادلات الالتزام مقابل ضمان، ومقاييس بيتا، ومقاييس ألفا، وتقييمات «مستنبطة من النماذج» — هو مجال كان للأستاذ فيشر — من ناحية فكره — بمنزلة بيته. ربما لا يكون فيشر «أبا» وول ستريت الحديث، لكنه يقينًا أحد آبائه.

ومع هذا، قلما ينعته أحد بذلك. أساتذة الاقتصاد يحترمون في فيشر إنجازاته النظرية، أما خارج هذا العلم، فالسبب الوحيد لشهرته الدائمة هو النصيحة المرعبة التي قدمها في العشرينيات بشأن سوق الأسهم. اقرأ أي تأريخ للسنوات التي سبقت الانهيار الكبير في أكتوبر ١٩٢٩، وستجد الأستاذ الشهير فيشر يقوم بدور الجوقة البلهاء؛ حيث يطلُّ برأسه كل بضع صفحات ليؤكد أن أسعار الأسهم بلغت «هضبة مستقرة الارتفاع». لم يكن يقول أشياء ظاهرها الصدق فحسب؛ حيث بدَّد ثروته (التي اكتسبها بالزواج ثم زادها بنجاحه التجاري) في السوق المتدهورة في أواخر ١٩٢٩ وأوائل الثلاثينيات.

شخصيتا فيشر التاريخيتان (بهلوان الانهيار الكبير ومهندس الحداثة المالية) ليستا غريبتين إحداهما عن الأخرى خلافًا لما قد يبدو لأول وهلة. ففي السنوات الأولى من القرن العشرين رسم فيشر مسارًا للسلوك العلمي العقلاني للاعبين في سوق الأسهم. وفي أواخر العشرينيات — وبعد أن أعماه جزئيًّا نجاحه المالي المذهل — صار مقتنعًا بأن جماهير المضاربين والمستثمرين في أمريكا (ناهيك عن مسئولي مصارفها المركزية) يتبعون في حقيقة الأمر نصائحه، ومن ثم ستكون الأمور على ما يرام.

كان إرفينج فيشر قد انصاع لخرافة السوق العقلانية، تلك الخرافة عظيمة التأثير التي تفسر — جُل الوقت — الواقع تفسيرًا شبه تام، لكنها مع ذلك خرافة. إنها مبالغة في التبسيط من شأنها — إذا قُبلت قبولًا حرفيًّا تمامًا — أن تؤدي إلى شتى أنواع الاضطراب. لم يكن فيشر إلا أول شخص في طابور من العلماء البارزين الذي رأوا منطقًا ونظامًا علميًّا في السوق، وجعلوا من أنفسهم أضحوكة على أساس هذه القناعة. لكن معظم الآخرين جاءوا بعد ذلك بزمن طويل، أما إرفينج فيشر فكان سابقًا لزمانه.

•••

غير أنه لم يكن وحده في أفكاره المتقدمة حول الأسواق المالية. ففي باريس، درس طالب الرياضيات لوي باشوليي تقلُّبات الأسعار في بورصة باريس بهمَّة مماثلة، فكانت النتيجة أطروحة دكتوراه ستساعد — عند الكشف عنها بعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان على فراغه منها سنة ١٩٠٠ — على إعادة تدشين دراسة الأسواق المالية.

باشر باشوليي استقصاءه في وقت كان فيه العلماء قد بدءوا يعتنقون فكرة أنه على الرغم من استحالة وجود يقين مطلق بأي شيء، فإن انعدام اليقين ذاته يمكن أن يكون أداة قوية. فبدلًا من محاولة تتبع سبب كل ذبذبة لجزيء أو حركة لكوكب، يمكن للمرء ببساطة أن يفترض أن الأسباب كثيرة والعشوائية هي النتيجة. وقد كتب الرياضي والفيزيائي الفرنسي العظيم هنري بوانكاريه سنة ١٩٠٨ يقول: «إننا بفضل الصدفة، وأعني بفضل جهلنا، نستطيع التوصل إلى استنتاجات.»3

سُمِّيت أعظم أداة لبناء المعرفة على مثل هذا الجهل باسم التوزيع الجاوسي (نسبة إلى الفلكي والرياضي الألماني كارل فريدريش جاوس)، أو التوزيع الطبيعي، أو ببساطة منحنى الجرس. فمصفوفة الأعداد الجاوسية يمكن وصفها وصفًا ملائمًا بذكر المتوسط الحسابي (بمعنى قمة الجرس) وما صار يعرف في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر باسم الانحراف المعياري (عرض الجرس). كان منحنى الجرس — مثلما بدأ علماء ذلك الزمان يكتشفون — يطل برأسه مرارًا وتكرارًا في قياسات الظواهر الطبيعية، وكانت الرغبة في تطبيقه على النشاط البشري بالنسبة للبعض لا تقاوم.

استخدم باشوليي افتراضات منحنى الجرس لتصوير تحركات الأسعار في بورصة باريس؛ حيث بدأ بالفكرة الثاقبة القائلة بأن «التوقع الرياضي لدى المضارب صفر»،4 بمعنى أن مكاسب جميع البائعين والمشترين في البورصة وخسائرهم بطبيعتها لا بد أن يُلْغِي بعضها بعضًا. وهذا ليس صحيحًا على وجه الدقة — فقد حققت الأسهم والسندات عوائد إيجابية على مر الوقت — لكن كإطار منطقي للاستثمار أو المضاربة، يظل تشخيص باشوليي منقطع النظير. فالمستثمر العادي لا يمكنه التفوق على السوق. المستثمر العادي «هو» السوق.
أدرك باشوليي — انطلاقًا من هذه البداية — أنه «من الممكن دراسة حالة السوق المستقرة دراسة رياضية في لحظة معينة، بمعنى وضع قانون احتمالات تغيرات الأسعار بما يتسق مع السوق في تلك اللحظة.»5 كانت تلك نظرة إلى السوق باعتبارها لعبة حظ كالروليت أو النرد. وكما أن ألعاب الحظ يمكن وصفها رياضيًّا (وهي توصف رياضيًّا منذ القرن السادس عشر)، صاغ باشوليي احتمالات البورصة.

كان عمله مبتكرًا إلى حد أنه عندما استخدم ألبرت أينشتاين، بعد ذلك بخمس سنوات، أدوات رياضية مماثلة لوصف الحركة العشوائية للجسيمات الدقيقة العالقة في مائع أو غاز (تسمى «الحركة البراونية» نسبة إلى عالم النبات الذي كان أول من نوَّه إليها)، ساعد على وضع أسس الفيزياء النووية. لكن في حين أن الفيزيائيين كانوا — بالبناء على عمل أينشتاين — يصنعون قنابل ذرية بحلول أربعينيات القرن العشرين، فإن التطبيق العملي لأفكار باشوليي لم يبرز حتى سبعينيات ذلك القرن.

هذه ليست مجرد حكاية عبقري مُهمَل. فقد كان هناك قصور كبير في عمل باشوليي، وكان باشوليي على دراية تامة به، وقد تثبَّت معلمه هنري بوانكاريه من ذلك. فعلى الرغم من احتفاء بوانكاريه باستخدام منحنى الجرس في العلوم الفيزيائية، فإنه كان يرى ضرورة توخي الحذر عند تطبيقه على السلوك البشري. فالتوزيع الجاوسي — أو منحنى الجرس — هو نتاج أسباب عشوائية و«مستقلة» لا حصر لها. كتب بوانكاريه يقول: «عندما يُجمَع الناس معًا، فإنهم يكفُّون عن اتخاذ القرار على أساس الصدفة أو على نحو مستقل بعضهم عن بعض، بل يتفاعل كلٌّ منهم مع الآخر. ثمة أسباب كثيرة تلعب دورًا هنا، فتؤرق الناس وتجذبهم في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن هناك شيئًا واحدًا لا يمكنهم القضاء عليه، وهو ما لديهم من عادات خراف بانورج.»6

فبانورج — إحدى شخصيات روايات جارجانتوا وبانتاجرويل الساخرة للكاتب رابيليه — يدفع قطيعًا من الغنم إلى القفز من على متن سفينة بإلقائه كبشها القائد في البحر. وفي تمحيصه لبورصة باريس، لم يتفادَ باشوليي الخراف المتدافعة إلا بالحد من تطبيق معادلاته. كتب بوانكاريه في تقريره حول تقييم الأطروحة: «ربما يخشى المرء أن يكون المؤلف قد بالغ في إمكانية تطبيق نظرية الاحتمالات مثلما حدث كثيرًا. لحسن الحظ أن الحال ليس كذلك.»

تحايل باشوليي كي لا يرى أكثر من «لحظة» في المستقبل، مُفترضًا أن تغيرات الأسعار في تلك اللحظة سيكون من غير الممكن التنبؤ بها من حيث الاتجاه، لكن يمكن التنبؤ بأنها ستكون صغيرة. كان ذلك أقصى ما يمكن أن توصله إليه الرياضيات. وقد أقرَّ باشوليي قائلًا: «الاحتمال المتوقف على أحداث مستقبلية … يستحيل التنبؤ به بطريقة رياضية.» واعترف بأن هذا الاحتمال بالضبط هو الذي يهم المضارب أشد ما يكون. «فهو يحلل الأسباب التي يمكن أن تؤثر على ارتفاع أو انخفاض في قيم السوق أو مدى تقلبات السوق. فاستنتاجاته استنتاجات شخصية تمامًا؛ بما أن نظيره في معاملةٍ ما يرى بالضرورة الرأي المعاكس.»7
هذا كل ما في الأمر. مضى باشوليي ليحقق حياة مهنية متوسطة النجاح كأستاذ للرياضيات، ونشر دراسة مبسطة حازت قبولًا حول المباريات والصدفة والمخاطرة. وعندما مات سنة ١٩٤٦؛ أي قبل موت فيشر بعام واحد، لم يكن أحد في مقصورة التعامل يستخدم أفكاره. وفي تلك الأثناء، كان زملاؤه يحارون لاهتمامه بالأسواق. وفي ثبت مراجع لكتابات باشوليي موجود في ملفات الرياضي الفرنسي العظيم بول ليفي، خُطَّت على عَجل عبارة شاكية نصُّها: «أكثر مما ينبغي عن المالية!»8

•••

كان بمقدور إرفينج فيشر الذهاب إلى حيث لم يذهب باشوليي؛ لأنه كان يتمتع بما هو أكثر من مجرد الرياضيات ونظرية الاحتمالات؛ فقد كان «اقتصاديًّا». وكان بمقدوره أن يذهب إلى حيث لم يذهب الاقتصاديون الآخرون؛ لأنه — خلافًا لكل معاصريه إلا قليلًا — كان «رياضيًّا». كان بمقدوره أن يحقق شيئًا ملموسًا بأفكاره الثاقبة؛ لأنه كان ثريًّا مقيمًا في بلد كانت الأسواق المالية فيه — في العقود الأولى من القرن العشرين — بادئة للتو في النمو لتصير أسواقًا ضخمة ستسيِّر الاقتصاد طوال بقية القرن وما بعده.

تخصَّص فيشر في الرياضيات في جامعة ييل التي تخرج فيها محتلًّا المركز الأول في دفعة ١٨٨٨، على الرغم من أنه كان يعول أسرته باشتغاله بالدروس الخصوصية وما ينال من جوائز أكاديمية. لكنه درس أيضًا خمس مقررات في الاقتصاد وعلم الاجتماع على يد الأسطورة ويليام جراهام سمنر. كتب أحد المؤرخين يقول: «على الرغم من الفتور الشخصي والأسلوب الحاد الجازم في قاعة المحاضرات، كان لسمنر أتباع أكثر من أي معلم في تاريخ جامعة ييل. كما كان أيضًا — وفقًا لهذا الرأي — «أقوى داروينيٍّ اجتماعي في أمريكا والأكثر تأثيرًا».»9
كانت الداروينية الاجتماعية — في صورتها الأشد بدائية — تتمثل في اعتقاد أن نظرية التطور لتشارلز داروين لا تنطبق على النباتات والحيوانات فحسب، بل على الشئون الإنسانية، وأن صعود نجم الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى كان شأنًا داروينيًّا من قبيل «البقاء للأصلح». كانت نسخة سمنر أشد قتامة وتعقيدًا من ذلك. كان يخشى أن من يسعون إلى تحسين المجتمع (سماهم «الأطباء الاجتماعيين») سيفسدونه حتمًا. وكتب يقول سنة ١٨٨٣ في مقالة من سلسلة مقالات نُشرت في مجلة هاربرز وجُمعت لاحقًا في الرسالة المتميزة التي تحمل عنوان «ما تدين به الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض»: «إنهم لا يدركون أن كل أجزاء المجتمع تتماسك، وأن القوى المفعَّلة تفعل وتتفاعل في كل أجزاء الكائن ريثما يتحقق توازن بإعادة ضبط للمصالح والحقوق كافة.»10
بطبيعة الحال، يقبل مفهوم التوازن — الذي تُعادل فيه التأثيرات المتنافسة بعضها بعضًا — المعالجة الرياضية (كل ما يحتاج إليه هو علامة يساوي)، وكان حاسم الأهمية في التطور المبكر للكيمياء والفيزياء. وقد ظهرت تلميحات إليه بالفعل في الاقتصاد (كان مفهوم الاسكتلندي آدم سميث عن «اليد الخفية» التي توجِّه الأفراد المهتمين بمصالحهم الشخصية إلى نتائج مفيدة للمجتمع أشهر مثال على ذلك)،11 لكن محاولات بناء نظرية موحدة للاقتصاد متمحورة حولها أخفقت بفعل انعدام دقة هذا المجال.
ظلَّ الاقتصاديون — على سبيل المثال — في حيرة من أمرهم منذ زمن طويل بسبب سؤال حاسم: ما الذي يضفي قيمة على منتج ما؟ أهي العمالة التي ساهمت في إنتاجه؟ أم وفْرته أم شُحه؟ أم منفعته؟ أم توليفة ما من الثلاثة كلها؟ في سبعينيات القرن التاسع عشر، توصل العلماء في النمسا وإنجلترا وسويسرا في آن واحد إلى إجابة حاذقة، وبدأ عهد جديد في الاقتصاد سُمِّي العهد النيوكلاسيكي. كتب أحد الرواد النيوكلاسيكيين — وهو الإنجليزي ويليام ستانلي جيفونز — يقول: «تتوقف القيمة دائمًا على درجة المنفعة، ولا صلة للعمالة بالمسألة إلا من خلال المنفعة. فإذا كان بمقدورنا أن نصنِّع بسهولة كمية عظيمة من سلعة ما، فإن رغبتنا في تلك السلعة ستُشبَع على نحو شبه تام، فتكون النتيجة انخفاض منفعتها؛ ومن ثَمَّ قيمتها.»12
كان بوسع المرء، انطلاقًا من هذه اللبنة الأساسية التي هي المنفعة، أن يبني نظرية رياضية متماسكة للتوازن الاقتصادي، وهو ما شرع فيه جيفونز وبعض المنظِّرين الآخرين من أوائل العهد النيوكلاسيكي. علم سمنر، الأستاذ بجامعة ييل، بأمر هذه التطورات، وكان متحمسًا لها. بل إنه استأجر أستاذًا للرياضيات كي يُطلعه على أحدث التطورات ويرتقي به إلى المستوى المنشود.13 لكنه تقدم بصعوبة، وعندما عاد فيشر إلى حرم جامعة ييل في خريف ١٨٨٨ لمباشرة دراساته العليا في مجال الرياضيات، انفرد سمنر به وحثه على دراسة الاقتصاد الرياضي الجديد.
هكذا انطلقت مسيرة إرفينج فيشر المهنية في علم الاقتصاد. وقد ابتكر من أجل أطروحته لنيل الدكتوراه المعالجة الرياضية الأشد تعقيدًا حتى ذلك الحين للتوازن الاقتصادي، كما صمم أيضًا وبنى أداة تتمثَّل في خزانات مملوءة بالمياه ومتصل بعضها ببعض وصفها بأنها «النظير المادي للسوق الاقتصادية المثالية.»14 وبعد ذلك بعقود كثيرة، حكم الاقتصادي بول سامويلسون على عمله بأنه «أعظم أطروحة دكتوراه كُتبت في الاقتصاد على الإطلاق.»15 فقد وضعت فيشر في موضع قيادي بين مراتب الاقتصاديين الرياضيين في العالم الذين كان عددهم لا يزال محدودًا.

بعد نيله الدكتوراه سنة ١٨٩٣، تزوج فيشر إحدى بنات أثرى أسرة في موطنه رود آيلاند، وتكفَّل أبوها رجل الصناعة (مؤسس شركة صارت إحدى لبنات شركة ألايد كيميكال) بتكاليف رحلة عبر أوروبا مدتها سنة للعروسين فيما كان يشيد لهما قصرًا يقع مباشرة شمال حرم جامعة ييل التي كان فيشر قد تلقى منها بالفعل عرضًا لتدريس الرياضيات والاقتصاد. التقى فيشر في مغامرته الأوروبية معظم الآباء المؤسسين للاقتصاد النيوكلاسيكي، وحضر بعض محاضرات بوانكاريه حول الاحتمالات في باريس. ولدى عودته استغلَّ معرفته الاقتصادية في إحدى مسائل السياسة العامة لأول مرة.

كانت الحرب الأهلية الأمريكية التي دارت رحاها في ستينيات القرن التاسع عشر قد تلاها تراجع استمر عقودًا في الأسعار تسبَّب في شعور المزارعين الأمريكيين العميق بالظلم، وهي القناعة التي لم تزدد إلا رسوخًا أثناء كساد منتصف التسعينيات من القرن الماضي. فالمزارع الذي اقترض المال لشراء البذور سنة ١٨٩٥، وقت أن كان بوشل (مكيال للحبوب) الذرة يباع بخمسين سنتًا، لم يستطع سداد قرضه بعد ذلك بعام عندما انخفض السعر إلى واحد وعشرين سنتًا.16 كان التفسير المطروح للانكماش هو أن الدولارات كانت قابلة للاسترداد بالذهب، ولم يكن هناك ما يكفي من الذهب لاستيفاء ذلك كله. وكلما قل الذهب قلَّت الدولارات المتداولة. وعندما يسعى مقدار أقل من الدولارات إلى شراء السلع ذاتها، تنخفض الأسعار. كان المزارعون يُصلبون «على صليب من ذهب» على حد تعبير المرشح الرئاسي ويليام جنينجز براين في خطاب قبول الترشيح الشهير الذي ألقاه في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي سنة ١٨٩٦.
في «السوق الاقتصادية المثالية» كما يراها فيشر، كانت شكاوى براين والمزارعين هامشية، فالأسواق تتكيف تلقائيًّا مع مستويات الأسعار المتغيرة. كتب فيشر سنة ١٨٩٦ يقول: «هناك أعداد وفيرة من المجلات المتخصِّصة ومراجعات المستثمرين سبب وجودها الوحيد هو توفير البيانات التي يُبنى عليها التنبؤ. كل فرصة للمكسب تُراقب بلهفة. ثمة مضاربة نشطة وذكية متواصلة باستمرار، وهي تؤدي — ما دامت لا تتألف من معاملات صورية ومقامِرة — وظيفة معروفة وحكيمة في خدمة المجتمع. أمِن المعقول أن نعتقد أن بُعد النظر، الذي هو القاعدة العامة، له استثناء عند تطبيقه على الأسعار الهابطة أو الصاعدة؟»17 وبحسب منطق فيشر، فإنه بما أن المزارعين والمصرفيين كان بمقدورهم التنبؤ بأن الأسعار ستنخفض، فإن أسعار الفائدة على القروض كانت ستنخفض أيضًا، ومن ثم فلن يكون المزارعون في حال أسوأ من هذا بأية صورة.

•••

كان هذا الافتراض القائل بأن الناس يمكنهم بسهولة التنبؤ بالمستقبل حاسمَ الأهمية لإنجاح اقتصاد التوازن، كما كان معضلة إلى حد بعيد. كتب هنري بوانكاريه إلى الاقتصادي الرياضي ليون والراس سنة ١٩٠١ يقول: «أنت تعتبر الناس أنانيين بلا حدود وبعيدي النظر بلا حدود.» وقد اعترف بوانكاريه بأن الأنانية بلا حدود «يجوز السماح بها في تقريب أوليٍّ»، لكن افتراض بُعد النظر بلا حدود «ربما يستدعي بعض التحفظات.»18

كانت الأحداث التي تلت نشر فيشر حجة قاعدة الذهب برهانًا نموذجيًّا على حدود بعد النظر؛ حيث وضعت اكتشافات الذهب في ألاسكا وجنوب أفريقيا — مقرونة بتطوير عملية جديدة لاستخلاص الذهب من الركاز — العالَم على مسار تضخمي دام عقودًا ولم يكن قد تنبأ به أحد. وقد أقنعت الطريقة التي تعامل بها الناس مع الأسعار الصاعدة — أو بالأحرى أخفقوا في التعامل معها — فيشر بأن براين كان مصيبًا سنة ١٨٩٦.

في خضم هذه المراجعة، وسنة ١٨٩٨، ألمت بفيشر أزمة شخصية مريعة؛ حيث تبين أنه في بدايات الإصابة بمرض السل، وهو المرض ذاته الذي أودى بحياة أبيه قبل أربعة عشر عامًا. لم يتعافَ الأستاذ الشاب إلا بعد ثلاث سنوات قضاها في العيادات في جنوب كاليفورنيا وشمال ولاية نيويورك وكولورادو سبرينجز وثلاث سنوات أخرى قضاها عاملًا بنصف طاقته بعد عودته إلى نيو هيفن. خرج من هذه التجربة ولديه هاجس بالصحة الجيدة وحماسة بالغة لتحسين العالم قبل موته، فصار من كبار المنادين بحظر المشروبات الكحولية، وشارك في تأليف واحد من أكثر الكتب المدرسية رواجًا عن النظافة الصحية، ومن مريدي الدكتور كيلوج ابن مدينة باتل كريك، وأحد المؤيدين الأُول لعصبة الأمم، وأحد كبار أنصار علم تحسين النسل.

صارت هذه القضية الأخيرة منذ ذلك الحين اتهامًا ظالمًا، لكن القصد كان تحسين العالم، ويمكن قول الشيء نفسه عن اقتصاد فيشر فيما بعد تعافيه من السل. تحول فيشر إلى ما كان معلمه ويليام جراهام سمنر يسخر منه واصفًا إياه بأنه «طبيب اجتماعي»، لكنه لم يبتعد قط عن حدود النظرية النيوكلاسيكية. قاده عمله في مجال السياسة النقدية إلى قضاء عقود من الزمن في توعية الأمريكيين بالتضخم والانكماش وتشجيع السياسات الحكومية للإبقاء على استقرار الأسعار، واتسمت تجربته مع سوق الأسهم بروح مماثلة.

كانت هذه الروح واضحة في «طبيعة رأس المال والدخل»، وهو الكتاب الذي ضاع من فيشر في جراند سنترال سنة ١٩٠٥ وأعاد كتابته سنة ١٩٠٦، وجعله شبه خالٍ من المعادلات كي يستهوي قاعدة واسعة من القراء، لكن حسه الرياضي تخلله على الرغم من ذلك. كتب فيشر يقول: «إذا نظرنا إلى تاريخ أسعار الأسهم والسندات، فسنجده يتكون بالدرجة الأولى من سجل من التقديرات المتغيرة للمستقبل نتيجة ما يسمى الصدفة.» كان هذا مشابهًا لتصوير باشوليي للحركة البراونية في بورصة باريس. وبعد ذلك بنصف قرن، سُمي هذا المفهوم فرضية السير العشوائي، على نحو أثار كل أنواع الاهتمام الأكاديمي. لكن خبرات العقد السابق كانت قد حولت فيشر إلى رجل واقعي بدرجة كافية لأن يتراجع فورًا عن تصريحه الجريء، فمضى قائلًا إن تحركات أسعار الأسهم والسندات ليست عشوائية بالكلية:

لو كان صحيحًا أن كل مضارب على حدة اتخذ قراره على نحو مستقل عن الآخرين كلهم بشأن مسار الأحداث المستقبلي، فإن أخطاء بعض الناس ستعادلها على الأرجح أخطاء الآخرين. لكن أخطاء العامة تسير في واقع الأمر في اتجاه واحد، فهم كالخراف يتبعون قائدًا واحدًا.

آه، تلك الخراف مرة أخرى. لكن فيشر، وهو المعنيُّ دائمًا بتحسين المجتمع، كان يأمل أن يجعل المستثمرين أقل شبهًا بالخراف بجعلهم يستخدمون علم الاقتصاد ونظرية الاحتمالات؛ حيث كتب يقول إن قيمة أي استثمار هي الدخل الذي سيدرُّه. فالمال في المستقبل لا يتساوى تمامًا مع المال في يومنا هذا، والناس معدمو الصبر، ويجب تعويضهم عن الفرصة الضائعة لعدم استثمارهم في نشاط منتِج آخر. إذن فالقيمة الحالية هي تدفق الدخل المتوقع مخصومًا بمقدار تفضيل الناس الحصول على المال الآن لا فيما بعد، والمعروفة أيضًا «بالفائدة».

في ١٩٠٦، راجع المستثمرون المحنكون بالفعل جداول السندات التي تورد القيمة الحالية (أو «المخصومة») لدفعات الفائدة التي سيجري استلامها في المستقبل، وكانت العمليات الحسابية التي استندت إليها هذه الجداول تعود إلى القرن الرابع عشر.19 ما كان جديدًا كل الجِدَّة في عمل فيشر هو اقتراحه تضمين اللايقين في المعادلة، مما يمكِّن المستثمرين من استخدام معادلة القيمة الحالية لتسعير الأسهم لا السندات وحدها. في ذلك الحين، كان الاستثمار في أسهم الشركات ممارسة جديدة ومشكوكًا فيها. فالشركات محدودة المسئولية، التي يشارك فيها مساهموها في أرباحها لكنهم لا يتحملون المسئولية عن ديونها إذا انهارت، لم تكن قد شاعت في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى إلا مؤخرًا. كانت السندات، بجانب العقارات، هي الوسيلة الرئيسة للاستثمار، وكانت الأسهم للمضاربة المحضة.

لم يكن لهذا التمييز أي معنى اقتصادي بالنسبة لفيشر. فحقيقة أن فائدة السندات مضمونة في حين أن أرباح الأسهم ليست مضمونة كانت مجرد اختلاف في الدرجة. ولا ننسى أن جهات إصدار السندات كان من الممكن أن تفلس، كما كان من الممكن أن يقلِّص التضخم قيمة السندات حتى «الأكثر موثوقية» منها. نعم، كانت هناك درجة أكبر من اللايقين في تقييم الأسهم منها في السندات. لكن ماذا في ذلك؟ وفي حين أن باشوليي كان قد ميز بين الاحتمال الثابت لألعاب الحظ (الذي يمكن تمثيله رياضيًّا) والاحتمال «الشخصي» ذي الصلة بتوقع المستقبل (الذي قال إنه لا يمكن تمثيله رياضيًّا)، رأى فيشر الاختلاف كاختلاف في الدرجة. وقال إنه حتى الاحتمال «الموضوعي» لرمي النرد والعملة المعدنية ليس شيئًا مضمونًا؛ حيث يمكنك أن ترمي عملة معدنية مليون مرة ومن الممكن — وإن كان هذا بعيد الاحتمال بشدة — أن تكون النتيجة «وجهًا» كل مرة.

اقترح فيشر أن يحصي المستثمرون الأرباح التي يتوقعون أن يدرَّها سهم ما في المستقبل، ثم يضعون ذلك الدخل التقديري في معادلة من النوع المستخدم لتقييم السندات. كان يمكن عندئذ تعديل هذه «القيمة عديمة المخاطر» بجمع تقديرٍ لاحتمال كون أرباح الأسهم أكبر من المتوقع وطرح احتمال كونها أقل. عندئذ يمكن ضرب هذه القيمة في «مقدار الحيطة» (اقترح فيشر تسعة أعشار دون مزيد من التوضيح) للتوصل إلى سعر.

اعترف فيشر بأن الأمر انطوى على عمل كثير، لكن تلك هي كيفية تحقيق التقدم الاقتصادي، وكتب يقول:

في وقت من الأوقات، لم يكن رجال الأعمال يستخدمون جداول السندات، ولم يكونوا يحسبون قوائم التكاليف، بل وكان التعاقد على التأمين على الحياة يتم في لا مبالاة ساخرة بأية جداول وفيات. ومثلما استُبدل بهذه الطرق غير الدقيقة عمل يقوم به خبراء محاسبون وإكتواريون، ينبغي الاستعاضة عن التخمين المحض حول أوضاع الدخل المستقبلي باستخدام التطبيقات الإحصائية الحديثة للاحتمالات.

كان فيشر يقول إن اللايقين لا يمكن استبعاده، لكن يمكن تذليله بالبيانات الكافية وطريقة التفكير السليمة. وبحلول عام ١٩٠٦، كانت البيانات تُنتَج بوفرة، أما طريقة التفكير فقد استغرقت وقتًا أطول قليلًا.

•••

مع بروز عمالقة صناعيين جدد مثل ستاندرد أويل، ويو إس ستيل، وجنرال إلكتريك في العقود التي سبقت مطلع القرن وتلته، دفعها توقها إلى نيل الاحترام والحصول على رأس المال إلى الإفصاح عن مزيد ومزيد من البيانات عن شئونها المالية، فنشأت مراكز بيانات، مثل موديز، وفيتش، وستاندرد ستاتيستيكس، لتجميع هذه المعلومات ونشرها. ووُلدت صحيفة «وول ستريت جورنال» سنة ١٨٨٣، وسرعان ما بدأ بعد ذلك مؤسسها المشارك تشارلز داو في تجميع متوسطات أسعار الأسهم، التي سمحت للمستثمرين لأول مرة بمناقشة كيفية أداء «السوق». ووُلدت مهنة «إحصائي» سوق الأسهم الذي يعمل في معالجة البيانات، ويعتبر السلف القادر على معالجة الحسابات الرقمية المعقدة، الذي تحدَّر منه محلل الأوراق المالية المعاصر.

لم يكن قادة ثورة المعلومات هذه مهتمين باستكشاف حدود اللايقين والاحتمالات كما نصح فيشر، بل كانوا يأملون أن تعطيهم قدرتهم على معالجة العمليات الحسابية المعقدة شيئًا أكثر قيمة؛ وهو تمكينهم من رؤية المستقبل والتنبؤ بدورات السوق.

كان يبدو أن معظم الناس يدركون وجود دورات. تطورت أسواق الأوراق المالية كما نفهمها اليوم (بورصات «في أماكن مغلقة» عاملة باستمرار) في أواخر القرن الثامن عشر مع شروع الحكومات الأوروبية في بيع السندات على نحو منتظم، وذلك لتمويل الحروب بالدرجة الأولى. حدثت قبل ذلك حالات من الهوس والهلع في السوق؛ منها هوس الخزامى في هولندا في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وفقاعة شركة المسيسيبي في فرنسا في مستهل القرن الثامن عشر، وفقاعة شركة ساوث سي في إنجلترا. ولم يحدث أن بدأ المراقبون يرون اطِّرادًا معينًا فيها إلا في القرن التاسع عشر، وبدا هذا الاطراد أشبه بآلية الساعة. ففي إنجلترا كانت هناك حالات هلع في الأسواق في ١٨٠٤-١٨٠٥، و١٨١٥، و١٨٢٥، و١٨٣٦، و١٨٤٧، و١٨٥٧.

جاء تفسير مبكر شهير لهذه الدورات من الاقتصادي الرياضي ويليام ستانلي جيفونز الذي اقترح في سبعينيات القرن التاسع عشر أن المسئول عن هذا هو تزايد البقع الشمسية وتناقصها، وهما يحدثان في دورات مدة الواحدة منها إحدى عشرة سنة. وعلى هذا الأساس، تنبأ جيفونز بأن انهيارًا سيحدث سنة ١٨٧٩. وعندما حدث انهيار في أكتوبر ١٨٧٨ حسِب أنه كان قريبًا بدرجة كافية مما تنبَّأ به. لكن بعد موت جيفونز سنة ١٨٨٢، وقعت سلسلة من الانكماشات في السوق البريطانية دون أن تتبع جدوله الزمني. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، تجنب معظم الاقتصاديين الأكاديميين التنبؤات الصارمة بتقلُّبات الأعمال التجارية.

لكن المشاركين في السوق ازدادوا اهتمامًا بالتنبؤ بهذه الدورات. وبحلول أوائل القرن العشرين، كانت قد ظهرت مدرستان فكريتان رئيسيتان، اقترحت إحداهما إمكانية التنبؤ بمستقبل السوق من خلال دراسة دقيقة للبيانات الاقتصادية الأساسية، ورأت الأخرى أن كل ما يلزمنا من بشارات ونذر يمكن العثور عليه في تحركات أسعار الأسهم ذاتها.

في الولايات المتحدة، كان العضو الأبرز في المدرسة الأولى هو روجر بابسون، خريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة ١٨٩٨، وخريج مصحة السل بكولورادو سبرينجز مثله مثل إرفينج فيشر. كان بابسون بائع سندات فاشلًا في بوسطن قبل معركته مع مرض السل. وبعد ذلك رأى أنه ربما يكون أحسن حظًّا في بيع معلومات حول السندات بدلًا من السندات ذاتها، فبدأ بالكشف عن حقائق حول عروض بيع السندات غير المعروفة وعرضها على السماسرة. ثم طبع أخبارًا عن الشركات على بطاقات فهرسة يمكن للمشتركين حفظها في ملفات لتسهيل الوصول إليها. وتطورت هذه الخدمة بعد أن باعها بابسون سنة ١٩٠٦ لتصبح ستاندرد ستاتيستيكس (التي تحولت إلى ستاندرد آند بورز بعد عملية اندماج فيما بعد). ثمة مشروع آخر من مشاريع بابسون صار فيما بعد مكتب التسعير الوطني، وهو خدمة إدراج للأسهم المتداولة خارج المقصورة كانت بشير بورصة ناسداك.

تلك هي الكيفية التي أصبح بها بابسون ثريًّا. لكنه لم ينل الشهرة إلا بعد أن باع مختلف مشاريع البيانات التي يملكها وأسَّس مشروعًا كخبير استثماري. والحدث الذي عجَّل بذلك هو هلع الأسواق سنة ١٩٠٧؛ حيث حدث انهيار في سوق الأسهم وسلسلة من الإخفاقات المصرفية، دفعا النظام المالي الأمريكي إلى حافة الانهيار. أقنعت هذه الأحداث بابسون بأن المعلومات التي تخص الشركات الفردية التي كان يُتعامل في أسهمها أقل أهمية من «البيانات الأساسية» التي تخص الاقتصاد ككل، فطوَّر أداة تنبؤ سماها «مخطط بابسون»، وهو مركَّب أحادي الخط للبيانات الاقتصادية رسم خلاله خط اتجاه سلسًا.20 وقد أخذ هذه الفكرة من أستاذ له بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا استلهمها من قانون الفعل ورد الفعل لإسحاق نيوتن.21 فلكل فترة تُقضى فوق خط الاتجاه، سينخفض الاقتصاد — ومعه سوق الأسهم — لاحقًا تحت الاتجاه لفترة ما بحيث تساوي «المنطقة» الواقعة تحت خط الاتجاه المنطقة الواقعة فوقه.

يتصادف أن هذا هو تعريف خط الاتجاه، الذي لا يمكن رسمه بيقين إلا بعد الواقعة. كان بابسون يذكر حقيقة بديهية ليس غير، لكنه على الرغم من ذلك أقنع نفسه وآخرين كثيرين بأنه باستخدام بيانات أفضل وأفضل، يستطيع فريقه المتميز من الإحصائيين إعطاء تقريب أفضل وأفضل للاتجاه مسبقًا. قال بابسون في عشاء نظمته الجمعية الإحصائية الأمريكية في نيويورك في أبريل ١٩٢٥ إن من «الحماقة» أن يحاول المرء التنبؤ بالتقلبات قصيرة الأمد في سوق الأسهم، لكن «معظم الخدمات الاقتصادية لديها سجل نظيف في التقلبات طويلة الأمد.» وجادل بأن المرء يمكنه — بالنظر بدقة كافية إلى المعلومات المتاحة حول الإنتاج الصناعي والمحاصيل والتشييد واستخدام السكك الحديدية وما أشبه ذلك — أن يتنبأ بالاتجاه الذي يمضي فيه الاقتصاد ومن ثَمَّ سوق الأسهم.

كان هناك متحدث آخر في حفل العشاء تلك الليلة رأى الأشياء رؤية شديدة الاختلاف، وهو ويليام بيتر هاملتون — مدير تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال» — الذي كان يعتقد أن سوق الأسهم تتنبأ بالاقتصاد وليس العكس. كان هاملتون قد كتب قبل ذلك بثلاث سنوات يقول: «تمثل السوق كل شيء يعرفه الجميع ويأملونه ويصدقونه ويتوقعونه.» وقد أخبر الجمهور في نيويورك بأن السوق «تنبأت» بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قبل الهدنة بأحد عشر شهرًا. لم يكن هذا الزعم مختلفًا تمامًا عما كان إرفينج فيشر قد كتبه سنة ١٨٩٦. فالمستثمرون لديهم بُعد نظر.

لكن هاملتون كان يعتقد أيضًا — مثلما صار فيشر يعتقد — أن المستثمرين يمكنهم أن يسلكوا أيضًا سلوك الخراف، ويعتقد أن تحركاتهم الأشبه بتحركات القطيع يمكن التنبؤ بها جزئيًّا على الأقل. وقد نسب الفضل في رؤيته للسوق إلى الرجل الذي شغَّله في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهو المؤسس المشارك تشارلز داو. أنشأ داو متوسطه اليومي الشهير لأسعار اثني عشر سهمًا قياديًّا سنة ١٨٨٤، وكتب — ابتداءً من سنة ١٨٩٩ وحتى وفاته سنة ١٩٠٢ — سلسلة من المقالات الافتتاحية في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أطلع فيها القراء على المعارف التي اكتسبها خلال عقد ونصف العقد من مراقبة متوسطات أسعار الأسهم.

زعم داو أننا إذا رسمنا مخططًا لتحركات المتوسطات على مدى بضع سنوات، يمكننا أن نرى أنماطًا واضحة تبرز أمامنا. وكتب يقول في ١٢ مارس ١٨٩٩: «لسوق الأسهم ثلاثة تحركات؛ لها تقلب يومي … ولها تذبذب أوسع يعمل في أغلب الأحوال خلال فترة طولها نحو ٢٠ إلى ٤٠ يومًا، ثم لها تحركها الرئيسي الذي يمتد على مدى سنوات.» كان السبيل إلى النجاح في وول ستريت من وجهة نظر داو هو الشراء أثناء التحركات الرئيسة الصاعدة (الأسواق المتجهة إلى الصعود) والبيع أثناء التحركات النازلة (الأسواق المتدهورة). كتب داو في ٢٤ أبريل ١٨٩٩ يقول: «عندما يكون لدى العقل الجماهيري ميل محدد — سواء أكان صاعدًا أم نازلًا — فهو لا يُغيَّر بسهولة. ربما يتغير العشرات أو المئات من الأشخاص، لكن السواد الأعظم يمضي في الاتجاه ذاته.»

رغب داو نفسه عن إعلان «متى» تغير ذلك الاتجاه. فكما يقول هاملتون، كان لديه «حذر في التنبؤ، ولم يكن حذرًا كحذر نيو إنجلاند فحسب، بل يكاد يكون اسكتلندي الطابع.»22 كان هاملتون — الذي كان يكتب تقرير «وول ستريت جورنال» اليومي عن سوق الأسهم خلال السنوات التي كان يكتب فيها داو مقالاته الافتتاحية — أشد جرأة. وبعد أن تولى كتابة الافتتاحية سنة ١٩٠٨، غيَّر توجه الصحيفة من صوتِ عقلٍ معتدلٍ وأحيانًا مراوغ إلى مدافع شرس عن وول ستريت وأساليبها. بل وفي بعض الأحيان كان يبادر بالتصريح ببداية سوق متجهة إلى الصعود أو سوق متدهورة.

•••

رأى إرفينج فيشر ما تسمى دورة الأعمال التي استحوذت على بابسون وهاملتون باعتبارها مجرد أثر جانبي للصعوبة التي واجهها الناس في استيعاب التغيرات في قيمة الدولار. لقد رأوا انكماشًا أو تضخمًا وحسبوه زيادات أو نقوصات حقيقية في أسعار السلع، وكيَّفوا إنفاقهم واقتراضهم على نحو غير منتظم وغير متسق؛ مما أسفر عن تقلبات اقتصادية صعودًا وهبوطًا.

كان علاج فيشر الأول هو التثقيف، وقد أدى دوره في هذا الشأن بتأليف كتب ومقالات شعبية حول فضائل المال المستقر والقياس الدقيق للتضخم والانكماش، واستهل مناقشة وطنية بين الإحصائيين والاقتصاديين حول أفضل طريقة لتجميع مؤشرات الأسعار الاستهلاكية، وأسس شركة وفَّرت مؤشرات أسعار أسبوعية للصحف في كل أنحاء البلاد، وأيَّد ربط عقود الأعمال وأسعار فائدة السندات بالتضخم (لم يستغرق الأمر إلا ستًّا وثمانين سنة كي تتبع الحكومة الأمريكية اقتراحه بتدشين سندات الخزانة المحمية ضد التضخم «تيبس» سنة ١٩٩٧).23
كما حاول أيضًا، كمشروع جانبي، إدخال المؤشرات إلى سوق الأسهم، وما كانت متوسطات داو، وما هي الآن، إلا شيئًا من هذا القبيل، وأعني متوسطات أسعار أسهم مختارة. ويسفر هذا المقياس عن بعض النتائج شديدة الغرابة. ولْنستخدم اثنين من مكونات داو الحديثة كمثالين؛ حيث كان سهم جنرال إلكتريك يباع بسعر ٣٦ دولارًا في نهاية ٢٠٠٧ وسهم كاتربيلر بسعر ٧٢ دولارًا. نتيجة لذلك، كان لكاتربيلر ضِعفا تأثير جنرال إلكتريك على المتوسط، على الرغم من أن القيمة السوقية الكلية لسهم كاتربيلر، أو رسملة هذا السهم، لم تكن إلا ١٢ في المائة من القيمة السوقية الكلية لسهم جنرال إلكتريك.24
تتجنَّب «مؤشرات» الأسعار هذا الهراء بترجيح الأسهم، وذلك حسب حجم أسهم التعامل أو حسب الرسملة السوقية، وهذا هو الأكثر شيوعًا. في سنة ١٩٢٣، واستجابةً للحملات التي أطلقها فيشر وبعض الأكاديميين الآخرين، دشَّنت ستاندرد ستاتيستيكس كومباني مؤشرًا مرجحًا برسملة السوق للأسهم للتنافس مع داو، ومن هنا وُلد ستاندرد آند بورز ٥٠٠.25 استغرق الأمر زمنًا أطول كثيرًا كي يتحمَّس وول ستريت لفكرة أخرى بشأن سوق الأسهم اقترحها فيشر عرَضًا سنة ١٩١٢، وهي أن المستثمرين قد يرغبون في شراء الأوراق المالية وبيعها استنادًا إلى مؤشرات أسواق الأسهم، فجاء أول صندوق مرتبط بمؤشر للمستثمرين الأفراد سنة ١٩٧٦، وجاءت بعد ذلك أولى «الأوراق المالية» المستندة إلى مؤشرات.26

كان فيشر يأمل أيضًا أن يتصدى للتضخم والانكماش بربط قيمة الدولار بسلة متنوعة من السلع كي لا يكون تحت رحمة أهواء شركات تعدين الذهب. ولم يحدث هذا قط، لكن إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي سنة ١٩١٣ أتاح قيام علاقة أكثر مرونة بين الدولار والذهب. فقد أنشئ هذا النظام، وهو من النتائج المؤجلة لهلع سنة ١٩٠٧، للحيلولة دون تكرار حالات الهلع هذه بضمان عدم نفاد السيولة النقدية لدى البنوك. كما كان يملك أيضًا سلطة التحكم في كمية النقود المتداولة (بمعنى أنه يُنشئ دولارات جديدة أو يسحبها من التداول) والتأثير على مستوى الأسعار.

كان فيشر مرتابًا في البداية خشية أن تؤدي الضغوط السياسية إلى إمالة نظام الاحتياطي الفيدرالي نحو سياسات المال السهل التضخمية. لكن في عشرينيات القرن العشرين، تبنى المصرف المركزي نهج العملة المستقرة، وهو ما وقع منه موقع الرضا الشديد. كان يمكن لرئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بنجامين سترونج، بمقتضى سيطرته على مكتب تعاملات السوق المفتوحة في نيويورك، أن يزيد كمية النقود المتداولة أو ينقصها كما يشاء. وفي سنة ١٩٢٧، ضخَّت مشتريات السوق المفتوحة المكثفة التي أجراها سترونج نقودًا جديدة للتداول، وحالت دون تفاقم الركود الاقتصادي الخفيف. كان ذلك أول حل جيد وسهل يشهده نظام الاحتياطي الفيدرالي، ويبدو أنه أقنع فيشر بأن ما سماه «تقلب الدولار» صار شيئًا من الماضي.

•••

لم يكن ذلك هو النبأ الطيب الوحيد الذي تلقاه فيشر في العشرينيات، وهو العقد الذي كان النجاح فيه حليفه أينما توجه. فبين زملائه كان يحظى باحترام، وإن لم يسِرْ على خطاه كثيرون منهم. أما بالنسبة للجمهور الأعرض، فلا بد أنه كان يبدو غريب الأطوار، لكن لم يكن ممكنًا تجاهله. كان لا يكل عن الترويج لعمله، ولم يألُ جهدًا لإعادة نشر أحاديثه في الصحف، وكان يخصِّص دائمًا وقتًا للحديث إلى المراسلين. كانت آراؤه يُستشهد بها كحجة، لا في الاقتصاد فحسب، بل في السياسة والصحة، بل وقواعد اللغة. وخلال زيارة له إلى ميشيجان، سأله مراسل محلي عما إذا كان عنوان أغنية ١٩٢٣ الناجحة «نعم، ليس لدينا موز» صحيحًا باللغة الإنجليزية، فأجابه فيشر بما عُهد عنه من أسلوب جاد: «نعم، سيكون صحيحًا لو سُبقت العبارة بسؤال: «أليس لديكم موز؟»»27

بحلول النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، كان فيشر قد حقق أيضًا نجاحًا ماليًّا كبيرًا. كان قد اخترع قبل ذلك بسنوات نظامًا لحفظ البطاقات لمساعدته على تتبُّع أنشطته الكثيرة. كانت بطاقات الحفظ «إندكس فيزيبل» التي اخترعها فيشر، والمقطوعة بحيث يكون السطر الأول من كلٍّ منها باديًا للعيان من أول نظرة (شبيهة بجهاز رولوديكس الذي خرج إلى الوجود بعد ذلك بعقود) تقدمًا كبيرًا في تخزين المعلومات واسترجاعها. وفي سنة ١٩١٣، دشن شركة لتصنيع النظام وتسويقه، وفي سنة ١٩٢٥ باعها لشركة تصنيع التجهيزات المكتبية كارديكس راند، التي اندمجت مع عملاق الآلات الكاتبة رمنجتون لتكوين رمنجتون راند، إحدى شركات التكنولوجيا ذات الأسهم الأكثر رواجًا في عشرينيات القرن العشرين.

حصل فيشر على مستحقاته في صورة أسهم وضمانات (خيارات لشراء المزيد من الأسهم بسعر محدد مسبقًا). ولإيمانه بالشركة، التي ظل فيها كعضو في مجلس إدارتها، ومستقبلها المتألق، اقترض الأموال لشراء المزيد من الأسهم. حققت هذه الاستثمارات عوائد لبعض الوقت، وبعد عقود من اعتماده على سخاء أصهاره الأثرياء، صار فيشر العائل لأسرته؛ حيث كانت ثروته الصافية تزيد عن ١٠ ملايين دولار (ما يعادل ١٢٨ مليون دولار بدولارات ٢٠٠٨) بحلول سنة ١٩٢٩. كان يحلم بجمع ما يكفي من مال لإنشاء مؤسسة وقفية تواصل الدفاع عن قضاياه الأثيرة («القضاء على الحرب والمرض والانحلال وعدم استقرار العملة»)28 حتى بعد موته. لا يساعد هذا النوع من المجازفة المالية إلا على تشويه رؤية المرء عن العالم، وقد شوَّه رؤية فيشر.
فيما يبدو أن نقطة التحول تمثَّلت في وصول أول خبير استثماري شعبي يرى العالم كما يراه فيشر إلى وول ستريت. اتفق إدجار لورانس سميث، خريج هارفرد البالغ من العمر نيفًا وأربعين سنة وصاحب السيرة الذاتية العجيبة (سبق له العمل في القطاع المصرفي والزراعة ونشر المجلات)، مع شركة للسمسرة في مستهل عشرينيات القرن العشرين لإنتاج كتيب حول السندات. وبما أن الشركة كانت متخصصة في السندات، كانت خطة سميث الأولية أن يوضِّح أسباب أفضلية السندات على الأسهم كاستثمارات طويلة المدى. لكن سميث استعد جيدًا وقرأ كتابًا صدر سنة ١٩١٢، اشترك فيشر في تأليفه، ويزعم أن الأسهم أثناء فترات التضخم «أكثر أمنًا» حتى من السندات الأعلى رُتبة. فعوائد السندات محددة في حين ترتفع أرباح الأسهم بارتفاع الأسعار.29 بدا هذا معقولًا بدرجة كافية، لكن في مطلع عشرينيات القرن العشرين كانت الأسعار في انخفاض. هل من المؤكد أن السندات يمكن أن تتفوق على الأسهم في مثل هذه البيئة؟ مضى سميث ليتقصَّى أوجه المقارنة بين عوائد الأسهم والسندات في آخر مرة «انخفضت» فيها الأسعار؛ أي في أواخر القرن التاسع عشر، وبفعله هذا شرع في أول تأريخ منهجي لسوق الأسهم.

خلافًا لمن حذوا حذوه في سنين لاحقة، لم يحاول سميث تمحيص كيف كان أداء «كل» سهم على مر الزمن. فعلى الرغم من التطورات التي قدمها إرفينج فيشر ورمنجتون راند، لم يكن الكمبيوتر قد ظهر بعد. كانت أبحاث سوق الأسهم التاريخية عملًا مجهدًا للغاية؛ لذا اكتفى سميث بأخذ عينات، فجمَّع محافظ تضم كلٌّ منها عشرة أسهم، وقارن أداءها بعينة مماثلة من السندات على مدى فترات من عشرين عامًا عائدًا إلى الوراء حتى ١٨٦٦. ومن أجل الحصول على نتائج تمثيلية لتجربة المستثمر العادي، اختار سميث محافظه باستخدام معايير «عشوائية»؛ كرسملة السوق وحجم التعاملات وعائد أرباح الأسهم.

كان ذلك مقياسًا للمواقف السائدة في ذلك الزمان، حتى إن سميث رأى ضرورة تحذير القراء مرارًا وتكرارًا من استخدام «طرقه المعملية» في الاختيار الفعلي للمحافظ الذي يتطلب «أعلى درجة من الحكم المطَّلع».30 وعلى الرغم من ذلك، تفوَّقت كل محافظ الأسهم عدا واحدة على السندات. أحدث الكتاب الذي نُشر سنة ١٩٢٤ بعنوان «الأسهم العادية كاستثمارات طويلة المدى»، وأورد فيه سميث نتائجه؛ ضجة في وول ستريت، واستنادًا إلى قوة نجاحه، دشَّن سميث شركة خاصة به للصناديق الاستثمارية المشتركة، ودعاه الإنجليزي جون مينارد كينز إلى الانضمام إلى الجمعية الاقتصادية الملكية.31 ومنذ ذلك الحين أثبتت عقود من الخبرة بالسوق أن سميث على صواب؛ حيث تفوقت الأسهم على السندات على مر الزمان.

ليس بمستغرب أن كان فيشر من أشد المتحمِّسين لهذا الكتاب، كان متحمسًا له أشد مما ينبغي. وفيما يبدو أنه (وكثيرون آخرون في أواخر عشرينيات القرن العشرين) نسي أن مجرد تفوق الأسهم على السندات على مر الزمان لا يعني أنها ستتفوق عليها كل سنة. أقنع فيشر نفسه أيضًا بأن الاحتياطي الفيدرالي سيحول دون خروج التراجع الاقتصادي عن السيطرة (ولا ننسى أنه لم يحدث هلع كبير منذ سنة ١٩٠٧)، وأن الجموع المتنامية من مستثمري سوق الأسهم في أمريكا صارت من الرقي بدرجة لم تعد معها تشبه الخراف.

في ديسمبر ١٩٢٨، استعرض فيشر تقييمه للسوق في مقالة مطولة نُشرت في مجلة الأحد الملحقة بصحيفة «نيويورك هيرالد تريبيون» تحت عنوان «هل ستظل الأسهم على ارتفاعها في سنة ١٩٢٩؟» وكانت إجابة فيشر «نعم» جازمة. بدت أجزاء من المقالة أشبه كثيرًا بما سيصبح نصيحة قياسية بعد نصف قرن من ذلك التاريخ؛ حيث نبَّه فيشر إلى ضرورة أن يحْذر المستثمر الفرد من أن «يجعل حكمه المجرد في مواجهة الذكاء الجماعي لجماهير المتعاملين المحترفين»، لكن السلامة كانت في التنويع. وكتب يقول إنه «كلما كانت الاستثمارات أكثر خطرًا إذا أقدم عليها المستثمرون منفردين، كانت أكثر أمانًا إذا أقدم عليها المستثمرون مجتمعين، بغضِّ النظر عن الربحية، شريطة زيادة التنويع بدرجة كافية.» واعترف فيشر بأنه لا هو ولا أي شخص آخر يعرف بأمره «استنبط على نحو محدد» هذا المبدأ (الذي سيتعين عليه الانتظار ريثما يأتي هاري ماركويتز سنة ١٩٥٢).

لكن عندئذ حرَّف فيشر نصيحته السليمة نوعًا ما مُحوِّلًا إياها إلى دفاع غير سليم بالتأكيد عن أسعار الأسهم المرتفعة؛ فنظرًا لأن كثيرين جدًّا من المستثمرين كانوا يملكون آنذاك محافظ منوعة جيدًا، كانوا على استعداد للمجازفة بشراء الأسهم المحفوفة بالمخاطر التي كانت من قبل لن تثير اهتمام أحد إلا المضاربين. كتب فيشر يقول: «خلقت هذه العملية المستنيرة سوقًا جديدة هائلة للأوراق المالية التي لم تكن فيما مضى لتشهد إقبالًا. وهذا يمثل تفسيرًا دائمًا لعدم انخفاض مستوى أسعار الأسهم المستقر هذا من جديد إلى مستوى السنوات السابقة إلا لسبب استثنائي.»32

•••

ظلَّ روجر بابسون طوال انتعاش عشرينيات القرن العشرين يحدِّق في «مخططات بابسون» التي وضعها، وويليام بيتر هاملتون في مخططات داو التي وضعها هي الأخرى. وبعد إنذار خاطئ بسوق متدهورة سنة ١٩٢٦، عاد هاملتون إلى الشراء في السوق الصاعدة سنتي ١٩٢٧ و١٩٢٨. كما اتجه بابسون أيضًا إلى التشاؤم بشأن آفاق السوق سنة ١٩٢٦، معلنًا أن الاقتصاد ظل ينمو أسرع مما ينبغي لفترة أطول مما ينبغي، وأن حدوث «رد فعل مساوٍ في القوة مضادٍّ في الاتجاه» بات أمرًا حتميًّا، على الرغم من أنه سلَّم بأنه من الجائز أن يستغرق هذا ما بين عامين وثلاثة أعوام. واصلت السوق ارتفاعها طوال السنوات الثلاث التالية، لكن بابسون لم يستسلم، وصار مثار سخرية. يعود جون بير وليامز — المصرفي الاستثماري الشاب في بوسطن في ذلك الزمان — بالذاكرة قائلًا: «كنا نقول إن تقديسه إسحاق نيوتن من غرابة الأطوار، ولم يثبت زعمه أن الفعل وردَّ الفعل متساويان دائمًا أي شيء.»33
في سبتمبر ١٩٢٩، أصدر بابسون إنذاره الأشد تخويفًا حتى ذلك الحين؛ حيث أعلن في مؤتمر الأعمال الوطني السنوي الذي ينظمه قائلًا: «الانهيار آتٍ، عاجلًا أو آجلًا، وقد يكون مروِّعًا. والمستثمر الحكيم هو الذي يتخلَّص الآن من ديونه ويقلص حجم استثماراته.» في ذلك اليوم نفسه، قدم إرفينج فيشر تفنيده لصحيفة «نيويورك تايمز»، قائلًا: «ربما يحدث تراجع في أسعار الأسهم، لكن لا شيء من قبيل الانهيار.»34 وفي ١٥ أكتوبر، وأثناء حديثه في اجتماع عقدته رابطة وكلاء المشتريات في نيويورك، ذكر تشبيهه المجازي الذي أورد فيه كلمة «هضبة» مرة أخرى، وهو ما أصبح واحدًا من أسوأ العبارات سمعة في القرن العشرين؛ حيث قال إن الأسهم بلغت «ما يبدو لي أنه هضبة مستقرة الارتفاع.»35
جاء الانهيار بعد ذلك بأسبوعين، فجادل فيشر في البداية بأن الأمر ما هو إلا «التراجع» الذي قال قبل ذلك إنه قد يحدث. وكتب في ديسمبر ١٩٢٩ يقول: «أمر له دلالته أنه عند هذا الحضيض من اليأس والهلع في السوق، لم تنخفض «متوسطات» السوق إلا إلى مستوياتها في فبراير ١٩٢٨، بمعنى أنها أعلى بكثير من هضبة أسعار سوق الأسهم القديمة التي بلغتها من المستوى الذي كانت السوق قد صعدت إليه بعد سنة ١٩٢٣. وأسوأ هلع في التاريخ لم يحطِّم هضبة الأسعار هذه!»36 لكن أسوأ سوق متدهورة في التاريخ، وهي التي تلت ذلك سنتي ١٩٣٠ و١٩٣١، حطمتها.
في سنة ١٩٣٢، اعترف فيشر بأن عيبين كبيرين شابا استنتاجاته السابقة على الانهيار؛ أولًا: كان قد افترض أن الاحتياطي الفيدرالي سيفعل ما في وسعه لمنع الأسعار من الانهيار والبنوك من الإفلاس. بدلًا من ذلك، وبعد وفاة بنجامين سترونج سنة ١٩٢٨، صار المصرفيون المحافظون، غير الراغبين في استيعاب ما اعتبروه مضاربة مفرطة، يهيمنون على النظام الاحتياطي الفيدرالي. لقد رفع النظام الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة قبل الانهيار، وذلك في مواجهة نقد من دوائر الأعمال وبعض الاقتصاديين (بما فيهم فيشر). وبعد ذلك عجز النظام الاحتياطي الفيدرالي عن الحيلولة دون حدوث انكماش حاد وموجات من إفلاسات البنوك. ثانيًا: اعترف فيشر بأنه لم يدرك مدى عمق مديونية الأمريكيين، وهي التي أدت إلى كارثة عندما تعذَّر على المقترضين سداد قروضهم نتيجة انهيار السوق وانكماش الأسعار.37

حظيت نظريات فيشر حول أسباب الكساد الكبير بتصديق قليل في ذلك الزمان، لكنها صارت مقبولة على نطاق واسع بين الاقتصاديين. غير أن سلوكه الاستثماري كان من الأصعب تبريره؛ إذ على الرغم من حديثه عن التنويع، كانت كِفَّة محفظته الخاصة مائلة إلى رمنجتون راند وبعض الشركات المبتدئة. وقد استمسك بحصته في رمنجتون راند فيما انخفض سعر سهمها من ٥٨ دولارًا إلى دولار واحد، متلافيًا الإفلاس بالاقتراض من شقيقة زوجته التي كانت ما زالت ثرية، وهو ما عرَّض سلامتها المالية للخطر الشديد؛ حيث واصلت السوق تدهورها سنتي ١٩٣٠ و١٩٣١ (أعفته من الديون في وصيتها). وقد باع فيشر ييل بيته الكائن في نيو هيفين شريطة أن يبقى فيه هو وزوجته طيلة عمريهما.

خرج روجر بابسون من الانهيار وثروته لم تكد تُمَسُّ مستعيدًا سمعته كخبير في التنبُّؤ. وما زال تراثه حيًّا في بابسون كوليدج — كلية الأعمال التي أسسها خارج بوسطن سنة ١٩١٩. لكن تنبُّؤاته التالية كانت بعيدة كل البعد عن الصحة، ولم تفعل تحذيراته متزايدة الغرابة من الثورة والهجوم النووي على بوسطن الكثير لصالح سمعته. أمضى منظِّر داو، ويليام بيتر هاملتون، معظم سنة ١٩٢٩ محاولًا تهدئة مخاوف المستثمرين والدفاع عن وول ستريت في مواجهة نقَّادها الذين كانت تتعالى أصواتهم يومًا بعد يوم. وبعد الانهيار ببضعة أسابيع أذعن للواقع وأعلن أن سوقًا متدهورة أخرى قد بدأت. ثم مرض فجأة بالالتهاب الرئوي ومات. وأقيل إدجار لورانس سميث من منصبه في الصندوق الاستثماري المشترك سنة ١٩٣١، وأمضى العقود القليلة التالية في وضع نظريات غريبة تربط دورة الأعمال بالطقس.

وهكذا تبقَّى لدينا الصامد دائمًا إرفينج فيشر، الذي رأى في ثلاثينيات القرن العشرين أفكاره العقلانية الرياضية عن الاقتصاد والأسواق تشهد نهضة بطيئة لكن لا تتوقف. ربما ارتكب بعض الأخطاء الفادحة في تطبيق العلم على سوق الأسهم، لكن فكرة «ضرورة» تطبيق العلم على السوق لم تكن آخذة في التلاشي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤