الفصل العاشر

ديك تالر يمنح الرجل الاقتصادي شخصية

الطبيعة البشرية تبدأ في إيجاد طريقها عائدة إلى الاقتصاد في سبعينيات القرن العشرين، والاقتصاديون يبدءون في دراسة كيف تخفق الأسواق أحيانًا.

***

النقطة الوحيدة التي كان دانيال كانيمان يحاول إيصالها هي أن الثناء يفلح أكثر من العقاب. أبدى معلمو الطيران بسلاح الطيران الإسرائيلي الذين ألقى أستاذ علم النفس بالجامعة العبرية هذه الكلمة على مسامعهم ذلك اليوم في القدس في منتصف ستينيات القرن العشرين؛ ترددًا وارتيابًا، ورد عليه أحد المعلمين المخضرمين بقوله:

في مناسبات عديدة أثنيت على طلاب الكلية الجوية لبراعة أدائهم في بعض المناورات الاستعراضية الجوية، وعندما كانوا يحاولون القيام بها من جديد، كان أداؤهم يسوء بوجه عام. من ناحية أخرى، كثيرًا ما كنت أصرخ في وجه الطلاب لسوء أدائهم، وكان أداؤهم يتحسن بوجه عام في المرة التالية؛ لذا رجاءً لا تقل لنا إن الثواب يفلح والعقاب لا يفلح؛ لأن العكس هو ما يحدث.

كرجل درس الإحصاء، أدرك كانيمان فورًا أن من الطبيعي أن يكون احتمال أداء الطالب الذي نفَّذ للتوِّ مناورة ببراعة (ومن ثم نال الثناء عليها) أداءً أفضل في المرة التالية أقل مقارنة بطالب أخفق للتوِّ. فالأداء شديد الجودة أو شديد السوء هو أداء غير اعتيادي، مما يعني أنه من غير المرجح أن يتكرر على الفور. لكن كانيمان أدرك أيضًا كيف توصل المعلم إلى استنتاج أن العقاب يفلح، وقال فيما بعد في أسى: «نظرًا لأننا نميل إلى إثابة الآخرين عندما يحسنون وعقابهم عندما يسيئون، ونظرًا لأن هناك انحدارًا نحو المتوسط، فإن جزءًا من الحالة الإنسانية أن نعاقَب إحصائيًّا على إثابة الآخرين ونثاب على عقابهم.»

عد بذاكرتك إلى لاعبي البلياردو الذين تحدث عنهم ميلتون فريدمان والذين لا يفهمون المبادئ الفيزيائية المعقدة التي يقوم عليها اختيارهم الضربات، لكن يتصرفون كما لو كانوا يفهمونها. في البلياردو نجد الملاحظات التقييمية التي يحصل عليها المرء فورية وتنويرية. أما في التدريب على الطيران (أو في الاستثمار أو في كل أنواع المساعي الأخرى التي يغشاها التشويش الإحصائي)، فلم يكن ذاك هو الحال على الإطلاق، وهو ما كان دانيال كانيمان قد أدركه فجأة.1

بعد ذلك بعقود، وبعد أن فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد على عمله، وصف كانيمان هذه اللحظة مع معلمي الطيران بأنها «الخبرة الأكثر إشباعًا في مشواري المهني من نوع «وجدْتُها».» لم تكن خبرة أدركَ على الفور ما يصنعه بها. كانت أبحاثه في علم النفس لا تركز على اتخاذ القرار بل على أمور فنية مثل اتساع بؤبؤ العين عند الناس وهم يستظهرون الأرقام الطويلة. ولم يبدأ كانيمان يتصور ماذا يفعل بفهمه الثاقب ذلك حتى دعا ذات يوم في السنة الأكاديمية ١٩٦٨-١٩٦٩ زميلًا له أصغر سنًّا اسمه عاموس تفرسكي للحديث إلى طلابه.

كان تفرسكي حلقة وصل شبه مباشرة بالأفكار التي تدور حول اتخاذ القرار التي كانت قد سحرت ألباب الاقتصاديين في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين. كانت المنفعة المتوقعة لفون نويمان ومورجنشتيرن والمسلَّمات الإحصائية لسافيدج قد سحرت ألباب بعض علماء النفس أيضًا. كان علم النفس الأكاديمي في الولايات المتحدة عالقًا منذ عقود في حفرة «سلوكية» في دراسة المثير والاستجابة متجاهلًا في الوقت نفسه الإدراك؛ أي ما يدور بداخل الرأس. بالنسبة لعلماء النفس الساعين إلى الإفلات من تلك الحفرة، كان «الرجلُ الإحصائي» الذي قال به الاقتصاديون مصدرَ إغراء شديد.

كانت تلك مجرد نقطة انطلاق بالنسبة لهم. فعلى خلاف الاقتصاديين، الذين كانوا بحلول منتصف خمسينيات القرن العشرين قد قبلوا — إلا قليلًا منهم — نظرية المنفعة لفون نويمان ومورجنشتيرن كحقيقة لا مراء فيها ومضوا في طريقهم، ظل علماء النفس يعدِّلون ويختبرون. كان من بين المعدلين والمختبرين الأغزر إنتاجًا وارد إدواردز، معلم عاموس تفرسكي الأكاديمي في جامعة ميشيجان.2 في واحدة من تجارب إدواردز، عُرض على المشاركين حقيبتا كتب مليئتان بفيشات البوكر، وقيل لهم إن إحداهما مليئة بفيشات أغلبها سوداء والأخرى بفيشات أغلبها حمراء، ثم أُعطي المشاركون في الاختبار إحدى الحقيبتين، وأُمروا بسحب فيشات منها. كانوا مع كل عملية سحب يقيِّمون احتمال حصولهم على الحقيبة ذات الأغلبية السوداء أم الحقيبة ذات الأغلبية الحمراء. مضت تقديرات الاحتمال هذه في الاتجاه الصحيح بوجه عام، وإنْ كان ذلك أبطأ كثيرًا مما كانت تقضي به قواعد سافيدج.
استنتج إدواردز أن المشاركين في الاختبار عقلانيون وإن كانوا «محافظين» قليلًا. لدى سماع وصف تفرسكي للتجربة، تذكر كانيمان الذي علَّمه الطيران واستنبط درسًا مختلفًا، وهو أن ساحبي فيشات البوكر كانوا مثبَّتين على نحو لا عقلاني على لون الفيش الأول الذي سحبوه. كان تفرسكي مترددًا في البداية، لكن عندما واصل الاثنان نقاشهما بعد الدرس في مقهى في وسط القدس، بدأ يتحمس لادعاء كانيمان أن تفكير البشرية الإحصائي ربما لا يتفق مع النماذج المبينة في الكتب الدراسية.3
لكي يتبيَّن المرء إلى أي مدى يتفق اتخاذ القرار البشري مع النموذج العقلاني، فإنه يبتكر اختبارات تؤكد على الأرجح أنها تتفق معها نوعًا ما. ولكي يرى إلى أي مدى تنحرف، يخترع أسئلة مختلفة يطرحها، وهو ما بدأ كانيمان وتفرسكي يفعلانه؛ حيث ابتكرا أولًا استبيانًا قدمه تفرسكي في مؤتمرين لأساتذة علم النفس الرياضي للإجابة عنه. كان ما وجده — حسبما أورد كانيمان وتفرسكي تفصيلًا في بحثهما الأول معًا وعنوانه «الإيمان بقانون الأرقام الصغيرة» — أنه حتى أساتذة علم النفس ممن هم على دراية بالأرقام لم يمتثلوا لقواعد الاستدلال الإحصائي، وبدلًا من ذلك عزوا دلالة كبيرة إلى الاتجاهات الأولى في بياناتهم، وافترضوا أن ما فعله القلة الأولى من المشاركين في تجربة ما أو قالوه — مهما كان — كان يمثل المجتمع الإحصائي عمومًا.4

دفع هذا الاكتشاف كانيمان وتفرسكي إلى الشروع في سلسلة من التجارب المماثلة، التي كشفت كلها فجوات بين ما تمليه نظرية القرار والقرارات الفعلية التي اتخذها حتى المشاركون في التجارب من ذوي الخبرة. وفي سنة ١٩٧٤، جمَّعا نتائجهما ونشرا مقالة بلغت مبلغ البيان. كتبا يقولان: «كيف يقيِّم الناس احتمال حدث غير يقيني أو قيمة كمية غير يقينية؟ يعوِّل الناس على عدد محدود من المبادئ الإرشادية التي تختزل المهام المعقدة المتمثِّلة في تقييم الاحتمالات والتنبؤ بالقيم إلى عمليات اجتهادية أبسط. هذه المبادئ الإرشادية مفيدة تمامًا بوجه عام، لكنها تؤدي أحيانًا إلى أخطاء بالغة ونظامية.» بمعنى آخر، البشر ليسوا دائمًا رجالًا إحصائيين حسابيين، لكنهم أيضًا ليسوا بلهاء. فهم يسلكون طرقًا مختصرة ويتبعون قواعد مستمدة من الخبرة تفلح أحيانًا، وتخفق أحيانًا أخرى.

لم يرد لعلم الاقتصاد ذكر في البحث، ولم يحاول كانيمان وتفرسكي أن يعالجا مباشرةً مسألة ما إذا كانت المبادئ الإرشادية والتحيُّزات التي ميَّزاها تبلغ مبلغ التحدي للنموذج العقلاني لاتخاذ القرار. لكن كانيمان وتفرسكي آثرا عدم نشر البحث في مجلة متخصصة في علم النفس، بل نشراه في مجلة «ساينس»، وهي مطبوعة تصل يقينًا إلى أكاديميين في تخصصات أخرى.

•••

كان علم الاقتصاد قد واصل صعوده (أو إن شئت قل هبوطه) إلى العقلانية المفرطة. كان هذا العلم قد فصل منذ عدة عقود الاقتصاد الجزئي، الذي يُعنى بتفاعل الأشخاص الأنانيين العقلانيين في أسواق كاملة، عن الاقتصاد الكلي، الذي بُني على نماذج سائلية ليست مستندة إلى أية نظرية متسقة للسلوك الإنساني. كان تعايشًا غير مريح، وربما كان من الحتمي أن يأتي يومًا ما طالب دراسات عليا في الاقتصاد ذو ميول رياضية ويطبق المعادلات الحاذقة التي كان يتعلمها في مقرر الاقتصاد الجزئي على مشكلات دورة الأعمال الوعرة.

ربما كان من الحتمي أيضًا أن يحدث هذا في كلية الدراسات العليا في الإدارة الصناعية بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا؛ ذلك الصرح الرائد في فرض المنهج العلمي على أمور المال والسلوك الإنساني. كان متمرد علم الاقتصاد هيربرت سايمون هو المحرض، بطريقة معكوسة نوعًا ما. كان قد جادل — قبل كانيمان وتفرسكي بعقود — بأن الناس لا يملكون مَعينًا غير محدود من الوقت والمقدرة العقلية يكرسانه لاتخاذ القرارات؛ لذا فإنهم يسلكون طرقًا مختصرة ويتبعون قواعد مستمدة من الخبرة. فالبشر لا «يتوخَّوْنَ الأمثل»، مثلما كان يُنظِّر الاقتصاديون الرياضيون في ذلك الزمان، بل «يقنعون بحد الكفاية». كان سايمون قوة كبرى في معهد كارنيجي للتكنولوجيا (في ترتيب فريد من نوعه، كان يشغل عضوية مجلس أمناء الجامعة حتى مع اشتغاله بالتدريس). لم يكن أمام الاقتصاديين هناك خيار إلا الاستماع له، وإن كانوا ليسوا مضطرين للإعجاب به. كتب سايمون في مذكراته يقول: «كنت أضايق اقتصاديي كلية الدراسات العليا في الإدارة الصناعية بالأسئلة والتعليقات بشأن افتراضاتهم السخيفة عن المعرفة الإنسانية غير المحدودة، فكانوا يرونني يومًا بعد يوم العقبة الرئيسية أمام بناء علم اقتصاد «حقيقي» في الكلية.»5
في أواخر خمسينيات القرن العشرين، استقطب سايمون زميله عضو هيئة التدريس فرانكو مودلياني وتلميذ مودلياني جون ميوث؛ لدراسة عملية اتخاذ القرار في مصنع للطلاء في بتسبرج، وقاد المشروع بنفسه. لم يكن لدى الاثنين الآخرين خيار إلا استخدام نهجه «القناعة بحد الكفاية». وبمجرد انتهاء المشروع، ردَّ ميوث؛ حيث كتب سنة ١٩٥٩ يقول مشيرًا إلى سايمون: «يُرى أحيانًا أن افتراض العقلانية في علم الاقتصاد يفضي إلى نظريات لا تتسق مع الظواهر المشاهَدة، أو غير كافية لتفسيرها، ولا سيما التغيرات على مر الزمن. فرضيتنا مستندة إلى وجهة النظر المعاكسة تمامًا، وهي أن النماذج الاقتصادية الديناميكية لا تفترض وجود قدر كافٍ من العقلانية.» ومضى ميوث لا ليقترح أن كل فرد — أو شركة — يُصدر تخمينات عقلانية للمستقبل، بل ليقترح أن المرء عندما يحسب متوسط تخمينات المستقبل التي خمَّنها المشاركون في اقتصاد ما، يجدها تبدو أشبه كثيرًا بتنبؤات النماذج الاقتصادية الأشد تطورًا.6
كانت فرضية «التوقعات العقلانية» تتطابق إلى حد ما مع فرضية كفاءة السوق، ولو أنها كانت أوسع نطاقًا وأقل في الأدلة التي تؤيدها. لم تحرز الفرضية أي تقدم في البداية، لكن مع تعثُّر السياسة الاقتصادية الكينزية في سبعينيات القرن العشرين، روَّج لها العديد من الأكاديميين الذين مروا خلال معهد كارنيجي للتكنولوجيا في ستينيات القرن ذاته؛ على وجه الخصوص روبرت لوكاس، الطالب الذي غمرته «الموجة الصدمية لأفكار ميلتون فريدمان التحررية-المحافظة» كطالب في الدراسات العليا في جامعة شيكاجو.7 وصف ديردرا ماكلوسكي — عضو هيئة التدريس السابق في جامعة شيكاجو الذي امتهن تمحيص خطاب الاقتصاديين — التحوُّل في النهج فقال:
في النماذج الكينزية أو النقدية التي تنتمي إلى ستينيات القرن العشرين وقبلها … كان النشِط الاقتصادي أشبه بريفي أخرق أصابه الذهول (وهو ممسك بصحيفة): «يا لَلمفاجأة! لقد خفضت الحكومة الضرائب للتو في خضم الكساد!» (وتجحظ عيناه) «يا لَلهول! لقد قلصت الحكومة نمو كمية النقود المتداولة بعد فترة طويلة من التضخم! يا إلهي!» (ويفقد الوعي) سيكون من السهل جدًّا التلاعب بمثل هذا المغفل، ومن هنا نشأت قناعة في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين بأنه من السهل جدًّا التلاعب بالاقتصاد، وأقصد «ضبطه» كما قال الصحفيون. أما نماذج التوقعات العقلانية في سبعينيات القرن العشرين فذهبت إلى أقصى الطرف المضاد، فكانت تنظر إلى النشِط الاقتصادي كرجل عركته الحياة: «أوه، نعم، تخفيض ضريبي.» (يتثاءب ويشعل سيجارة في مَبسِم ذهبي.) «إمم. أرى أن ذلك التضخم مستمر منذ بضعة أشهر.» (يجلس في كرسي وثير.) «لقد آن الأوان لاستصدار الاحتياطي الفيدرالي قانونه للتضييق النقدي.» (يتصل بالسمسار ويرشف الويسكي، ثم يغلبه النعاس وهو ممسك بنسخته من مجلة «بارونز»).8
بسرعة مذهلة، صارت التوقعات العقلانية المدرسةَ التقليدية، وصار قسم الاقتصاد بجامعة شيكاجو — الذي عاد إليه لوكاس سنة ١٩٧٤ — محرابَها. كتب لوكاس سنة ١٩٨٠ يقول: «لا يمكن أن يجد المرء اقتصاديين جيدين دون الأربعين يصفون أنفسهم بأنهم «كينزيون» أو عملهم بأنه «كينزي». في الندوات البحثية، لم يعد الناس يحملون التنظير الكينزي على محمل الجد؛ حيث يبدأ الجمهور في الهمس بعضهم لبعض والضحك بصوت مكتوم.»9 حتى بول سامويلسون أعلن أنه إذا أُجبر على الاختيار بين «نموذجين أصليين على طرفي النقيض» من الكينزية عتيقة الطراز وتوقعات لوكاس العقلانية، «أخشى أن الذي سأتخلص منه لا بد أن يكون النموذج الكينزي الأصلي.»10 كان لوكاس قد علَّم نفسه الاقتصاد الرياضي في الصيف السابق على التحاقه بكلية الدراسات العليا في جامعة شيكاجو باجتهاده لفهم المعادلات المتضمنة في «أسس التحليل الاقتصادي» لسامويلسون. وقد صور عمله على أنه التتمة المنطقية، في مجال الاقتصادي الكلي، لحجج سامويلسون الاقتصادية الجزئية التي لا تلين، وهو ثناء ثمَّنه سامويلسون.

•••

لكن سامويلسون لم يكن يعتقد أن حججه الرياضية التي لا تلين ملائمة لتحدي تفسير الواقع الاقتصادي. كان — كما حكى عنه جوزيف ستيجلتز، وهو أحد الأشخاص الأثيرين لدى سامويلسون وحصل على درجة الدكتوراه من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة ١٩٦٧ — «بارعًا تمامًا في تعيين مواطن الضعف في نموذج المنافسة الكاملة وعدم حمله على محمل الجد كثيرا.» مجرد تعيين مواطن الضعف لم يكن كافيًا بالنسبة لستيجلتز أو زميله الطالب جورج أكيرلوف. يقول ستيجلتز: «إذا كنت ستقول إن «هذا النموذج لا يقدم وصفًا جيدًا»، فلا بد أن تقدم نموذجًا يقدم وصفًا جيدًا لما يجري. كنت أنا وجورج نعتبر مهمتنا كطالبي دراسات عليا أن ننشئ نماذج المنافسة غير الكاملة التي كان سامويلسون يحدثنا عنها.»

وذلك ما فعلاه، في الغالب بالسير في طريق أضاءه كنيث أرو قبل ذلك ببضع سنين. كان أرو واحدًا من أشد الاقتصاديين تأثيرًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، متربعًا على ذلك العرش مع سامويلسون وميلتون فريدمان (أو ربما سابقًا عليهما)، لكن لم يكن لديه شيء من حضورهما الجماهيري. بدلًا من ذلك تميَّز أرو طوال مشواره المهني الطويل — الذي أمضى معظمه في ستانفورد لكن قطعه بقضاء أحد عشر عامًا في هارفرد في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين — بحبه الاستطلاع وتفتحه الذهني. لم يكد يساعد على التعريف بطبيعة السوق الكاملة، حتى مضى لاستكشاف لماذا لا تبدو الأسواق الفعلية كذلك. اقترح أرو في بحث بارز نُشر سنة ١٩٦٣ عن اقتصاديات الرعاية الصحية أن سببًا مهمًّا وراء ذلك هو أن طرفي أية معاملة لا يحوزان دائمًا معلومات سواء.11 كان فريدريش هايك قد جادل بأن نشر معلومات منتثرة هو أعظم مواطن قوة الأسواق، وهو على الأرجح كذلك. لكن عندما بدأ أرو وآخرون يتأملون عن كثب كيف تُجمع المعلومات وتُنشر، سرعان ما صارت الأمور أكثر تعقيدًا.

في سوق كفء تمامًا، يفترض أن تتدفق المعلومات كالمياه، بل وأسرع من المياه في الحقيقة. فبمجرد أن يحوزها شخص، تصير معروفة آنيًّا للجميع من خلال آلية الأسعار. لكن إذا كان الحال كذلك، فأي شيء يحفز الشخص لجمع المعلومات؟ أثناء تدريسه في جامعة ستانفورد في منتصف سبعينيات القرن العشرين، طرح ستيجلتز وزميل شاب تخرج للتو من جامعة شيكاجو — وهو سانفورد جروسمان — هذا السؤال، فتوصَّلا إلى إجابة مثيرة للاهتمام. انتهيا إلى أن «الأسعار لا يمكن أن تعكس تمامًا المعلومات المتاحة؛ لأنها لو عكستها تمامًا، لن يحصل من أنفقوا الموارد للحصول عليها على أي تعويض.»

أثبت جروسمان وستيجلتز، مستخدمين إطارًا رياضيًّا مستندًا إلى توقعات عقلانية، وناثرين في نصهما إشارات كلها إطراء إلى هايك؛ أن الصورة القوية من فرضية كفاءة السوق لا يمكن أن تكون صحيحة، كما طرحا فكرة أقل وضوحًا هي أنه لو كانت المعلومات رخيصة، فسيكاد ينعدم التعامل في سوق تتألف من مستثمرين عقلانيين؛ بما أن كل المستثمرين ستكون لديهم إمكانية الاطلاع على المعلومات ذاتها؛ ومن ثم يتوصلون إلى الاستنتاجات ذاتها. فمن دون لاعقلانية أو معلومات غالية في الكشف عنها (أو كلتيهما معًا)، ما كانت هناك أسواق.

قال جروسمان وستيجلتز إنهما «يحاولان إعادة تعريف مفهوم الأسواق الكفء، لا هدمه.»12 فكان رد فعل معظم أساتذة المالية هزة كتفين. وفيما بعد زعم ريتشارد رول قائلًا: «كانت فكرة واضحة. لم تكن تحتاج في الحقيقة إلى بحث.» لم تعد الأغلبية الساحقة من البحوث التي تُجرى في مجال المالية في تلك الأيام معنية بمسألة «ما إذا» كانت الأسواق كفئًا أم لا. كان المرء يفترض أنها كذلك فحسب، وينطلق من ذلك الافتراض. لم تكن النتيجة التي توصل إليها جروسمان وستيجلتز مثيرة بما يكفي لكفِّ أساتذة المالية عن ذلك، فتجاهلوها.

أعارها أساتذة الاقتصاد اهتمامًا. فحتى فيما كانت جامعة شيكاجو تنعم بمكانتها كمركز عالم الاقتصاد في سبعينيات القرن العشرين، تدفَّقت ينابيع اتجاه اقتصادي جديد في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، ولم يقتصر الأمر على معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد. ففي سنة ١٩٧٧، انتقل المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية القديم الذي كان يرأسه ويسلي ميتشل إلى كامبريدج، بعد أن أعاد رئيسه الجديد مارتن فلدستاين — أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد — صياغته كمكان يختبر فيه الأكاديميون الشباب النوابغ النظريات التي طوروها للتو لتمحيص مشكلات العالم الواقعي.

خرج كثيرون من أبرز الاقتصاديين في أوائل القرن العشرين من هذه البيئة المثيرة، مثل بِن برنانكي، وبول كروجمان، ولاري سامرز، وجريج مانكيو، وجلن هابارد، وغيرهم كثيرون.13 استخدم هؤلاء الأكاديميون كلهم كثيرًا من الرياضيات، وبنوا في العادة نظرياتهم حول الرجل الاقتصادي الإحصائي العقلاني. لكنهم كانوا يتمتعون بالمرونة ولديهم الاستعداد لاتباع منطقهم والأدلة التجريبية على السواء إلى أماكن جديدة غير متوقعة. كانت التوقعات العقلانية قد أخذت الاقتصاد الرياضي في خمسينيات القرن العشرين إلى نهايته المنطقية، وقد تبيَّن أنه لا يوجد اقتصاديون كثيرون لديهم الاستعداد للذهاب إلى هناك، فبدأ بعضهم يسير في الاتجاه المعاكس.

•••

عاد هيربرت سايمون، الذي ساعدت معاركه مع الاقتصاديين الذين يمثلون الاتجاه السائد على تفجير ثورة التوقعات العقلانية، إلى هذا العلم سنة ١٩٧٧. كان كنيث أرو هو الطرف المسئول؛ حيث أطلق حملة لانتخاب سايمون زميلًا للجمعية الاقتصادية الأمريكية في ذلك العام. أعطى هذا المنصب سايمون منبرًا بارزًا للحديث في الاجتماع السنوي للجمعية، وقد استخدمه للحديث عن العقلانية وحدودها. ويقال إن ذلك ساعد على الإفضاء إلى فوزه بجائزة نوبل في الاقتصاد في العام التالي «نظير أبحاثه الرائدة في عملية اتخاذ القرار في المنظمات الاقتصادية.»14
بعد ذلك بعام، استند دانيال كانيمان وعاموس تفرسكي إلى أفكار سايمون وتجاربهما لإطلاق هجومهما المباشر الأول على الاقتصاد واعتماده على نسخة فون نويمان ومورجنشتيرن من اتخاذ القرار في ظل انعدام اليقين. تساءل كانيمان وتفرسكي: كيف يقيِّم الناس فعلًا الاحتمالات غير اليقينية؟ أولًا: يعلقون أهمية كبيرة على ما عليه الحال الآن، متعاملين مع الانخفاضات في ثروتهم الحالية بطريقة مختلفة كثيرًا عن الانخفاضات في المكاسب المستقبلية. ثانيًا: ينظرون إلى الاحتمالات البعيدة والاحتمالات شبه اليقينية بطريقة مختلفة كثيرًا عن الاحتمالات الوسط بين هذه وتلك. من منظور بياني نقول إن النتيجة لم تكن منحنى منتظمًا يمثل المفاضلة المتسقة بين المخاطرة والعائد، بل توليفة غير منتظمة من مختلف المفاضلات في مختلف المواقف.15

نشر كانيمان وتفرسكي مقالتهما حول «نظرية الإمكانيات» في مجلة «إيكونومتريكا»، وهي المجلة الأكثر ميلًا إلى الرياضيات من بين مجلات الاقتصاد الكبرى. لم تكن تنظيرًا نفسيًّا مبهمًا، بل كانت تنظيرًا دقيقًا جدًّا مليئًا بالمعادلات ويكاد يصعب على القارئ العادي فهمه بالكلية. كانت تشتمل على ما هو مطلوب كي ترُوج بشدة بين الاقتصاديين الذين كانوا يزدادون اهتمامًا يومًا بعد يوم بطرح أسئلة هدَّامة، لكن لم يكونوا يريدون أن يخسروا فرصة التثبيت في وظائفهم بظهورهم أشبه بعلماء النفس أكثر مما ينبغي.

كان ريتشارد تالر أول هؤلاء الاقتصاديين وأكثرهم حماسًا. فكطالب دراسات عليا في جامعة روتشستر في أوائل سبعينيات القرن العشرين، كتب تالر أطروحة عن قيمة حياة الإنسان؛ حيث قاس كم يتقاضى الناس أجرًا على العمل في وظائف خطرة مثل قطع الأشجار أو التعدين، وقارن هذه الأجور بأجور الوظائف الآمنة التي تتطلب مهارة مماثلة، وبقليل من العمل الإحصائي توصَّل إلى مبلغ بالدولار لقيمة تجنب الموت. ويسمى هذا النهج «التفضيل المستبان»، وقد أشاعه بول سامويلسون في أربعينيات القرن العشرين.

لم يستطع تالر ترك المسألة عند هذا الحد، فلم تكن هذه مسألة فنية ملغزة بل حياة وموتًا. كان محبًّا للاستطلاع، وقد سأل الأصدقاء والمعارف:
طرحت على الناس سؤالين؛ أولهما: ما المبلغ الذي أنت مستعد لدفعه لاستبعاد مخاطرة بنسبة واحد في الألف لتعرضك للموت الفوري؟ وثانيهما: ما المبلغ الذي يجب أن تتقاضاه لتقبلك طواعية مخاطرة الموت الفوري بنسبة إضافية قدرها واحد في الألف؟ … كانت إحدى الإجابات النمطية: «لن أدفع أكثر من ٢٠٠ دولار، لكني لن أقبل مخاطرة إضافية مقابل ٥٠ ألف دولار!» توصلت إلى استنتاجين بشأن هذه الأجوبة: (١) أن الأفضل أن أعود إلى إجراء تحاليل الانحدار إذا كنت أريد التخرج، و(٢) التباين بين أسعار الشراء والبيع مثير «جدًّا» للاهتمام.16
أجرى تالر عمليات تحليل الانحدار بصورة جيدة على نحو كاف، فلم يحصل على الدكتوراه فحسب، بل على وظيفة كأستاذ مساعد في كلية الأعمال بجامعة روتشستر، معقل بيل مكلنج ومايكل جنسن وكثيرين ممن هم على شاكلتهما. بل إن أحد الأساتذة كان يضفي البهجة على دروسه في مادة المالية بصراخه: «السعر صحيح! السعر صحيح!» («كان ذلك أشبه ببرنامج مسابقات سيئ» بحسب وصف أحد الطلاب.)17

لكن تالر لم يستطع التخلص من فضوله فيما يخص الاختيارات التي يُقْدم عليها الناس. ففي حفل عشاء للزملاء أثناء فصله الدراسي الأول في وظيفته سنة ١٩٧٤، قدم لضيوفه سلطانية كاجو كنوع من المقبِّلات. وعندما بدأ الأمر يبدو وكأنهم ربما يأكلون أكثر مما ينبغي فيفسدون شهياتهم، أبعد السلطانية إلى المطبخ. أثنى الضيوف على قراره، لكنهم بدءوا على الفور يتساءلون عن آثاره الاقتصادية. من الواضح أنهم كانوا يريدون أكل الكاجو، وإلا ما كانوا سيأكلونه. لكن من الواضح بالقدر نفسه أنهم كانوا يريدون الكف عن أكل الكاجو وإلا لما سُرُّوا بشدة عندما أبعده تالر. بدأ تالر يُجمِّع قائمة بمثل هذه السلوكيات الشاذة على باب مكتبه، بانيًا في نهاية المطاف ما سماها «مقالة فكاهية» حول «نظرية سلوك الاقتصاديين». لكنها كانت مجرد دعابة.

أطروحة تالر جعلت منه حجة في اقتصاديات الحياة والموت. ففي صيف سنة ١٩٧٦، تحدَّث عن الموضوع في مؤتمر أكاديمي حول المخاطر البيئية في مونتيري بولاية كاليفورنيا. كان أستاذ علم النفس باروخ فيسكهوف في المؤتمر أيضًا، وفيما بعد استقل السيارة مع تالر إلى منطقة خليج سان فرانسيسكو. كان فيسكهوف قد حصل للتو على الدكتوراه من الجامعة العبرية التي كان فيها مساعدًا بحثيًّا لكانيمان. أخبر فيسكهوف تالر أثناء وجوده في السيارة بأمر العمل الذي كان كانيمان وتفرسكي يعكفان عليه، فأثار الموضوع اهتمام تالر وطلب من فيسكهوف أن يرسل إليه بعضه. اشتمل الطرد الذي وصل بعد ذلك ببضعة أسابيع على مقالة كانيمان وتفرسكي التي نشرت سنة ١٩٧٤ في مجلة «ساينس» عن المبادئ الإرشادية والتحيُّزات.

كتب تالر يقول: «لم أكد أتمالك نفسي عندما قرأت البحث.» فجأة، بدت قائمته غير الجادة التي جمع فيها سلوكيات اتخاذ القرار الشاذة كنشاط علمي تدعمه مؤلفات وأدبيات جادة. كانت هذه المؤلفات في علم النفس وليس في الاقتصاد. سرعان ما علم تالر من فيسكهوف أن كانيمان وتفرسكي يعكفان بالفعل على محاولة تغيير ذلك ببحثهما عن نظرية الإمكانيات، فأيقن أنه يريد أن يشاركهما. ولما اكتشف أن كانيمان وتفرسكي سيقضيان السنة الأكاديمية التالية في ستانفورد، رتب لقضاء إجازة تفرغه لمدة سنة هناك، فصار ثلاثة الأصدقاء، وعلَّماه علم النفس وعلَّمهما الاقتصاد.

لم تثر أنشطة تالر الخارجة عن المنهج إعجاب زملائه في جامعة روتشستر، فحُرم من التثبيت في وظيفته. وهكذا انتقل إلى جامعة كورنيل على مبعدة تسعين ميلًا. أحسَّ تالر بالعزلة هناك، لكنه كان حرًّا في ممارسة هوايته، فاستكشف كيف يمكن أن تفسر نظرية الإمكانيات سلوك السيد إتش الذي يجز عشب حديقته على الرغم من استعداد ابن جاره أن يجزه له مقابل ٨ دولارات، لكنه يرفض جز عشب جاره مقابل ٢٠ دولارًا. أو الرجل الذي ينضم إلى نادٍ للتنس ويدفع ٣٠٠ دولار رسم عضوية، ثم يصاب بالتهاب في مفصل المرفق لكنه يواصل اللعب وهو يتألم لأنه على حد قوله «لا أريد أن أبدد الثلاثمائة دولار.»18
بحث تالر مع هيرش شفرين — زميله السابق في جامعة روتشستر — أيضًا تداعيات خبرته السابقة مع الكاجو قبل حفل العشاء. كان مفاد الدرس أننا في أغلب الأحوال بمزاجين؛ أحدهما يطلب الإشباع الآن بلهفة، والآخر يزن المكافآت الحاضرة والمستقبلية بعقلانية. استخدم تالر وشفرين إطارًا رياضيًّا مستعارًا من نظرية الوكالة لوصف كيف تتفاعل هذه الأولويات الداخلية المتضاربة، ووصفا مؤسسة من عالم الواقع — «حصَّالات» برنامج «نادي عيد الميلاد» الادخاري التي ينشئها الناس لاقتطاع مبلغ محدد سلفًا من حساباتهم المصرفية كل شهر لادخاره لأغراض التسوق في نهاية العام — بدا أنها ناشئة عنها.19

بدأ تالر يجد آخرين مهتمين بهذا النهج الجديد، الذي صار يسمى الاقتصاد السلوكي على الرغم من جذوره المتأصلة في علم النفس المعرفي لا السلوكي. كان شفرين أول المعتنقين، ومثله مثل تالر، سرعان ما رحل عن جامعة روتشستر بحثًا عن بيئة أكثر ملاءمة. في حالة شفرين، كان هذا المكان هو جامعة سانتا كلارا في كاليفورنيا، التي بدأ فيها هو وزميله مائير ستاتمان تعاونًا مثمرًا في تمحيص سيكولوجية سلوك المستثمرين. كان فيرنر دي بونت — تلميذ تالر بجامعة كورنيل — هو الآخر من أوائل المؤيدين المهمين للفكرة. من بين الاقتصاديين البارزين، كان جورج أكيرلوف الأكثر تأييدًا على الأرجح؛ حيث درَّس مقررًا بالاشتراك مع كانيمان في جامعة كاليفورنيا في بيركلي لعدة سنوات في ثمانينيات القرن العشرين. وبدأ عدد قليل من الاقتصاديين الشباب المغامرين في جامعات أخرى يتابعون دراسة اتخاذ القرار غير مفرط العقلانية في اتجاهات أخرى.

لكن أكبر انتصارات تالر في تلك الأيام الأولى كان استقطاب أستاذ علم النفس ومدير المؤسسة إريك وانر كي يكون راعي الحركة الفكرية. كان وانر يدير مؤسسة راسل بي سيج، وهي مؤسسة خيرية صغيرة بعض الشيء أقامتها أرملة أحد أقطاب المال معدومي الضمير في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت تريد إصلاح الكون. كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين هو رئيس سيتي كورب التنفيذي جون ريد، الذي خيب أمله عجز اقتصاديي المدرسة التقليدية عن إدراك بوادر أزمة الدين العالمية الثالثة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وساند جهود إعادة تنظيم هذا العلم. تكفلت مؤسسة سيج بتكاليف مؤتمرات وورش عمل، وقدمت مِنحًا للباحثين الشباب، بل وقامت برعاية «معسكر صيفي» سلوكي دوري لطلاب الدراسات العليا والأساتذة المساعدين. كان يجري إنشاء البنية التحتية لحركة فكرية.

كانت هناك بعض الأسئلة في البداية حول النوع الذي ستنتمي إليه الحركة بين أنواع الحركات الفكرية. في سنة ١٩٨٢، شارك تالر في تأسيس جماعة تسمى جمعية تقدُّم الاقتصاد السلوكي، كان جورج أكيرلوف وهيربرت سايمون عضوين في هيئتها الاستشارية الأولى. وسرعان ما اتضح أن معظم المنضوين تحت لوائها يريدون تخريب النظام الرياضي الذي ينتمي إلى العلوم الصلبة الذي أقامه الاقتصاديون بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن تالر يريد ذلك، وفيما بعد رحل عن الجماعة، التي ما زالت قائمة إلى اليوم كمنظمة مغمورة لا يكاد يكون لها تأثير على التيار السائد في علم الاقتصاد.

قال وانر عن تالر والاقتصاديين الآخرين الذي عملوا مع مؤسسة سيج: «لم يكن هؤلاء الرجال يريدون تخريب علم الاقتصاد. كانوا يريدون فحسب أن يثبتوا أن هناك أشياء كثيرة في اتخاذ القرار البشري ليست مجرد تشويش حول متوسط عقلاني بل انحرافات نظامية.» عبَّر كولين كامرر — الحاصل على الدكتوراه من جامعة شيكاجو سنة ١٩٨١ وأحد حلفاء تالر المبكرين — عن ذلك بطريقة مختلفة. يقول كامرر: «في ثمانينيات القرن العشرين، درس كثير من الناس الاقتصاد السلوكي؛ لأن الرياضيات كانت صعبة جدًّا في الاقتصاد الاعتيادي. أنا وتالر لم نكن نريد طلابًا هكذا.»

•••

ظهر في سبعينيات القرن العشرين نهج آخر في علم الاقتصاد، وكان من بعض النواحي شبيهًا بعمل السلوكيين، على الرغم من أن الاتصال كاد يكون معدومًا بين الفريقين حتى بعد ذلك بعقود. على الأقل كان يربط بينهما الازدراء الذي أثاره منهجاهما لدى ميلتون فريدمان. ففي بيانه الصادر سنة ١٩٥٤ حول المنهجية الاقتصادية، نبذ فريدمان استبيانات أساتذة علم النفس باعتبارها أسخف من أن يفكر فيها الاقتصاديون، وتجارب العلوم الصلبة باعتبار أنها يستحيل عليهم تكرارها. كان الاقتصاد السلوكي يُعنى كل العناية بإعادة تمحيص ذلك الحكم الأول، وكان الاقتصاديون التجريبيون يهدفون إلى إسقاط الثاني.

كان اقتصاد المختبر قد حصل في الواقع على فرصة انطلاقه الأولى وقت أن كان فريدمان ينبذه، وذلك في أوائل خمسينيات القرن العشرين في فصل إدوارد تشيمبرلن بجامعة هارفرد. كان تشيمبرلن قد جادل في نظريته المسماة «نظرية المنافسة الاحتكارية» بأن من الخطأ بناء نظرية اقتصادية حول الأسواق التنافسية الكاملة. وللبرهنة على عيوب نماذج العرض والطلب النمطية، في كل سنة كان الأستاذ يكرس اليوم الأول من مادة المنافسة الاحتكارية التي يدرِّسها لتجربة كان الطلاب يصنَّفون فيها كباعة أو مشترين ويؤمَرون بالمتاجرة بعضهم مع بعض. كان كل مشترٍ يعطَى سعرًا مستهدفًا لا يُفترض أن يزيد عليه، وكل بائع يعطَى سعرًا مستهدفًا لا يُفترض أن يقل عنه. وفيما طاف الطلاب في الفصل يبرمون الصفقات، كانت أفعالهم مفزعة بالنسبة لمن يؤمنون بكمال الأسواق. كانت الأسعار تتذبذب بجنون، وضاعت «أموال» كثيرة (لم تكن هذه المعاملات تنطوي على مال حقيقي).20

كان ذلك نهاية المطاف بالنسبة لتشيمبرلن: «آها، الاقتصاد النيوكلاسيكي كله خطأ.» لكن طالبًا درس مقرره سنة ١٩٥٢، وهو فيرنون سميث، رأى في التجربة إمكانية أكبر كأداة تعليمية. وحيث إن سميث كان يحمل بكالوريوس الهندسة الكهربائية من معهد كالتك، فإنه كان على دراية بالعلوم التجريبية. كانت أول وظيفة يشغلها في التدريس بعد تخرجه من جامعة هارفرد في جامعة بيرديو، وفي سنة ١٩٥٦ كرر سوق تشيمبرلن التجريبية في درس تعريفي بعلم الاقتصاد. أجرى بعض التعديلات الحاسمة، مسترشدًا بقواعد بورصة نيويورك (كانت المعاملات تتم دون معرفة الأسماء وتُسجل الأسعار على سبورة مع سير التجربة) ومكررًا هذه المسألة مرات عديدة للتأكد من فهم الطلاب لما كانوا يفعلونه. ما وجده أثار دهشته؛ فعلى الرغم من امتلاك الحد الأدنى من المعلومات المطلوبة للمتاجرة، توصل الطلاب إلى نتيجة توازن من «مبادئ الاقتصاد» لألفريد مارشال مباشرة.

ظل سميث يُجري هذه التجارب في الفصل، ثم كتب مقالة عن نتائجه نُشرت — بعد رفضها أربع مرات — في دورية «جورنال أوف بوليتيكال إيكونومي» الصادرة عن جامعة شيكاجو سنة ١٩٦٢. بعد ذلك نحَّى الفكرة جانبًا بعض الوقت، ثم أحياها أثناء فترة قضاها كأستاذ زائر في معهد كالتك في منتصف سبعينيات القرن العشرين. كان هذا المعهد الذي يعد معقل العلم والهندسة قد أنشأ قسم اقتصاد متواضعًا،21 وكان تشارلز بلوت — زميل سميث السابق في بيرديو — واحدًا من أوائل من عيَّنهم هذا القسم. لقد بدآ معًا يريان المختبر، لا كأداة تعليمية فحسب، بل كوسيلة جادة للتحقق من النظريات الاقتصادية. ابتكر سميث وبلوت اختبارًا تلو آخر، مطورين ثقافة اقتصاد تجريبي استمرت في كالتك وبعض المؤسسات التعليمية الأخرى، وكان أهم عناصرها ضرورة أن يتنافس المشاركون على مكافآت نقدية حقيقية. لم تكن هذه الاختباراتُ الاستبياناتِ وسيناريوهاتِ «ماذا لو» التي استخدمها العلماء الاجتماعيون الآخرون، بل كانت أسواقًا فعلية — وإن كانت أسواقًا مصطنعة — السوادُ الأعظم من المشاركين فيها طلاب جامعيون.

كانت دراسة المالية مفعمة بالإمكانيات التجريبية. عندما يصمم المرء تجربة سوق، من الممكن أن يعرف بيقين القيمة الحقيقية الأساسية للأوراق المالية الجاري تداولها. في معظم الأحوال، كانت الأسعار في الأسواق التي صممها سميث وبلوت وآخرون تتجه نحو تلك القيمة، لكن ليس دائمًا؛ حيث تحدث فقاعات، وتنهار أسواق. اعتمدت الكثير من الأمور على القواعد التي تحكم السوق، وكان تأثير الاقتصاد التجريبي الأعظم منصبًّا على تصميم السوق.

بل وكانت لدى بلوت طموحات أكبر. فأثناء سنة أكاديمية قضاها في جامعة شيكاجو في أواخر سبعينيات القرن العشرين، طلب المشورة من يوجين فاما بشأن اختبار فرضيته لكفاءة الأسواق في بيئة تجريبية. قال بلوت متذكرًا: «لقد قال إن نظريته لا صلة لها بالتجارب، إنما صلتها بسوق الأسهم الأمريكية. «لكن ألا تنطبق المبادئ العامة؟» «كلا، إنها لا تنطبق إلا على سوق الأسهم الأمريكية».»

كان مقدَّرا أن تُختبر الفرضية قياسًا على البيانات السوقية الفعلية، وفي أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدأت ترسب في تلك الاختبارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤