الفصل الثالث عشر

آلان جرينسبان يمنع هبوطًا عشوائيًّا في وول ستريت

انهيار سنة ١٩٨٧ يفضح عيوبًا كبرى في الرؤية المالية العقلانية للمخاطر، لكن عملية إنقاذ على يد الاحتياطي الفيدرالي تحول دون مراجعة تامة.

***

رأى هين ليلاند — على الأرجح منذ لحظة أن خطر بباله التأمين على المحافظ في مختلاه في بيته في بيركلي — أن هناك شَركًا. كانت معادلات تسعير الخيارات التي بنى عليها استراتيجيته تعتمد على كون الجهة المؤمِّنة على المحفظة بمنزلة متلقٍّ للأسعار، بمعنى أن «قوى السوق السائدة» هي التي حددت الأسعار. كان يُفترض أن أفعال أي مشارك فردي في السوق لا تأثير لها على الإطلاق.

أدرك ليلاند أنه لو نجحت فكرته نجاحًا كافيًا، فإن الأفعال التي تقوم بها الجهات المؤمِّنة على المحافظ التي تحاول تقليص خسائر عملائها أثناء حدوث تراجع في السوق سيدفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض. يقول ليلاند متذكرًا: «لكني بأمانة قلت في نفسي: «كم سيستغرق هذا وبأي حجم ينبغي أن نصبح قبل أن تؤثر مداولاتنا على السوق ككل؟» ويتبين أنها كانت سبع سنوات فحسب.»

بدأت «ليلاند أوبريان روبنشتاين» (إل أُوه آر) تبيع التأمين على المحافظ سنة ١٩٨٠، وبدأت أعمالها تنطلق بعد أن دشنت بورصة شيكاجو التجارية التعامل في العقود المستقبلية لمؤشر ستاندرد آند بورز سنة ١٩٨٢. بدلًا من التدخل في أرصدة أسهم العملاء، تمكَّنت إل أُوه آر من تحقيق الأثر نفسه تقريبًا بشراء العقود المستقبلية لمؤشر السوق وبيعها؛ مما جعل منتجاتها المعروضة جذابة لصناديق المعاشات التقاعدية التي تضع أموالها لدى مديرين متعددين، وصارت صناديق المعاشات التقاعدية أهم عملاء للشركة. بحلول أكتوبر ١٩٨٧، كانت إل أُوه آر تدير مباشرة ٥ مليارات دولار، ورخَّصت برنامج التعامل الحاسوبي الخاص بها لمديري الأموال الذين يسيطرون على ٤٥ مليار دولار أخرى. وكان المنافسون — وأغلبهم شركات في وول ستريت مثل جولدمان ساكس ومورجان ستانلي — يؤمِّنون على أصول تتراوح قيمتها بين ٤٠ و٥٠ مليار دولار أخرى.

وهكذا فعندما أمرتهم معادلات شركات التأمين على المحافظ كلها بالبيع صباح ١٩ أكتوبر ١٩٨٧، أثَّر ذلك البيع على السوق ككل، فنتج عن ذلك أسوأ يوم منفرد في تاريخ سوق الأسهم الأمريكية؛ حيث هبط مؤشر داو جونز بمقدار ٥٠٨ نقاط، أو ٢٣ في المائة، ومؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ بنسبة ٢٠ في المائة. بالتأكيد لم يكن ليلاند وشريكاه — جون أوبريان ومارك روبنشتاين — مسئولين وحدهم عن انهيار سنة ١٩٨٧، لكن حتى احتمال كونهم لعبوا دورًا كبيرًا كان دلالة على مدى الشوط البعيد الذي قطعته المالية الأكاديمية وأيضًا على مدى محدودية نماذجها النظرية المتطورة ظاهريًّا. ثلاثة من خبراء المالية كان لديهم «ذلك» النوع من القدرة، ولفعل «أي شيء» استخدموها؟

جرَّأ الانهيار نقاد فرضية كفاءة السوق وأجبر أنصارها على التحفز للدفاع، لكنه لم يقترب بحال من حسم ذلك الجدل. أما ما أثبته على نحو قاطع فهو أن تعريف المخاطر المقبول بين أساتذة المالية — وعلى نحو متزايد في وول ستريت — كان غير وافٍ. في هذه الرؤية العالمية، كانت المخاطرة تُعتبر ظاهرة طبيعية؛ رسمًا بيانيًّا بالنقاط المبعثرة للمحصلات المحتملة التي يمكن إبقاؤها ضمن حدود ومعالجتها رياضيًّا. كان يُفترض عادة — رغبة في التيسير — أن الحدودَ هي حدودُ منحنى الجرس الذي كانت خصائصه عظيمة النفع قد مهدت الطريق لنظرية المحفظة الحديثة، ولتقييم أداء مديري الأموال المعدل حسب المخاطر، ولنماذج تسعير الخيارات التي تقف وراء العمل الذي يجري في ليلاند أوبريان روبنشتاين.

دون تقدير ما يمكن أن يخفق (وما إذا أمكن التأمين ضده)، لا يمكن أن يبدأ المرء في استثمار استثمارات طويلة الأجل تعزز النمو الاقتصادي. فدون قياس المخاطر كميًّا، ما كانت الرأسمالية الحديثة لتخطر ببال.1 لكن قياس المخاطر كميًّا في الأسواق المالية أصعب كثيرًا من تقدير احتمال وقوع حريق أو سرقة أو وفاة. فالأسواق المالية ليست ظواهر طبيعية، بل ظواهر صناعية يصنعها الرجال والنساء الذين شأنهم تحديق النظر في مستقبل مجهول محفوف بالمخاطر. وعملية إدارة المخاطر في مثل هذه البيئة تغيرها، فتخلق بذلك حلقة تغذية مرتدة لا تعرف استقرارًا. كان انهيار سنة ١٩٨٧ أول برهان ينذر بعدم الاستقرار المتأصل الذي يميِّز نماذج إدارة المخاطر الرياضية، ولم يكن الأخير.

•••

اشتمل التأمين على المحافظ على كثير من الرياضيات المنمقة، لكن الآليات الفعلية كانت مفرطة في بساطتها. كنت تبيع سهمًا (أو عقود أسهم مستقبلية) وتحول المال إلى نقدية مع انخفاض السوق. كان هذا كل ما في الأمر. كتب وارين بافيت بعد الانهيار وهو في حالة من الارتياب: «يقول هذا النهج إنه كلما كان تقييم هذه الشركات بأسعار أقل، كانت أكثر رواجًا في بيعها. وكلازمة «منطقية»، يقضي النهج بأن تعيد المؤسسات شراء هذه الشركات — وهذا ليس اختلاقًا مني — حالما تنتعش أسعارها كثيرًا.»2

حرص بافيت على ضمان ألا يكون في أفكاره العبقرية وأخطائه المتفرقة كأغلبية رفاقه المستثمرين. كان ذلك معنى أن يكون المرء مستثمر قيمة، وأعني أنه يلتمس قيمة لا يراها الآخرون. لم يكن مديرو صناديق المعاشات التقاعدية الحريصون على الاحتفاظ بوظائفهم وتجنُّب التعرض للمقاضاة يجدون مشكلة كبيرة في ارتكاب نفس الأخطاء التي يرتكبها أقرانهم. ما كانوا يريدون تحاشيه هو الخسائر الكبيرة المحرجة «الفريدة» من نوعها، وكانوا مستعدين للتخلي عن مكاسب محتملة في سبيل ذلك. ومن هنا جاء إغراء التأمين على المحافظ.

بحلول صيف سنة ١٩٨٧، كان ذلك الإغراء شديدًا لدرجة أن هين ليلاند بدأ يقلق من كوْن إل أوه آر وشركات التأمين على المحافظ الأخرى تشكل خطرًا على السوق، فاقترح على أوبريان وروبنشتاين أن يوقفا بيع وثائق التأمين. يروي ليلاند قائلًا: «كان لدى جون أوبريان سبب وجيه تمامًا لئلا نفعل ذلك. قال لنا: «لو رفضناهم، فكل ما سيفعلون هو الذهاب إلى مورجان ستانلي بجوارنا».» بدلًا من ذلك بدأ الثلاثي يبحثون عن سبل يقولون بها للعالم إن تعاملاتهم — حسب تعبير ليلاند — «خالية من المعلومات»، فتبيَّن أن هذا بالغ الصعوبة. فالأسواق المالية الحديثة منظمة بحيث تبقى هويات المستثمرين ونواياهم سرية. كانت قواعد البورصة تحظر على سماسرة إل أوه آر أن يكشفوا عن هوية مَن يتعاملون نيابةً عنهم، وأخفقت تمامًا محاولة مدعومة من إل أوه آر لتغيير هذا الوضع.

كان ذلك هو الحال عندما بدأت السوق تهبط يوم الأربعاء الموافق ١٤ أكتوبر. فلماذا الهبوط؟ كان السبب الأكثر ورودًا أن العجز التجاري الأمريكي الأكبر من المتوقع أُعلن ذلك اليوم. كانت قيمة الدولار في أسواق العملات العالمية في انخفاض منذ عامين، وأثار العجز الكبير مخاوف من المزيد من التراجع؛ مما أثار بدوره مخاوف من التضخم وارتفاع عوائد السندات، وكلاهما في الغالب نبآن غير سارين لأسعار الأسهم. تواصلت التراجعات يومي الخميس والجمعة، وكان انخفاض يوم الجمعة بمقدار ١٠٨ نقاط في داو أكبر انخفاض بالنقاط في المؤشر على الإطلاق (وإن لم يكن بحال أكبر انخفاض بالنسبة المئوية). على خلفية أية أنباء؟ مرة أخرى، لم يكن ذلك شيئًا دراماتيكيًّا بدرجة هائلة. علَّق وزير الخزانة جيمس بيكر يوم الخميس قائلًا إنه ربما يحبذ انخفاضًا إضافيًّا في الدولار أمام المارك الألماني، وقُدِّم مشروع قانون في الكونجرس يوم الجمعة يقيِّد الاستحواذات العدائية.3

ترتَّب على هذا التراجع — أيًّا كانت أسبابه — أن اصطفَّت شركات التأمين على المحافظ صباح الاثنين الموافق ١٩ أكتوبر، لبيع عقود ستاندرد آند بورز ٥٠٠ المستقبلية في بورصة شيكاجو التجارية لإعادة التوازن إلى محافظ عملائها. لم يكن ثمة سبيل أمامها تشير به إلى أن تصرفها هذا ليس نتيجة تقييم مدروس بعناية، بل نتيجة رد فعل لاإرادي محض. كان لدى المتعاملين في العقود المستقبلية في شيكاجو تلميح بالتأكيد، لكن يبدو أن تلك الرسالة ضاعت في طريقها إلى نيويورك.

كانت المراجحة المرتبطة بمؤشرٍ التي ابتكرها إد ثورب قبل ذلك بخمس سنين شأنًا يوميًّا بحلول هذا الوقت. وكلما فقد سعر عقود ستاندرد آند بورز ٥٠٠ المستقبلية في شيكاجو اتساقه مع أسعار الأسهم الفعلية المتداولة في نيويورك، كان واحد من كثيرين من كبار السماسرة ومديري الأموال يشتري واحدًا ويبيع الآخر لتحقيق ربح سريع وسهل، مُعيدًا في غضون ذلك الأسعارَ إلى اتساقها. في يوم الاثنين ذاك، دفع البيع الجماعي من قبل شركات التأمين على المحافظ في شيكاجو أسعار العقود المستقبلية، تحت المستوى الذي كانت تمليه أسعار الأسهم بكثير، فانطلق المراجحون المرتبطون بمؤشر يعملون.

يحكي أوبريان قائلًا: «إذا كنا بصدد بيع عقد مستقبلي، كان موظف العقود المستقبلية في ميريل لينش يشتريه، وعلى الفور ترسل ميريل لينش عشرة وكلاء إلى عشرة مراكز في بورصة نيويورك وكل واحد منهم يبيع خمسة أسهم، وكانت مورجان وجولدمان تفعلان الشيء نفسه، وهكذا بدأ العاملون في بورصة نيويورك يرون فجأة أكبر خمسة سماسرة يهرولون في أنحاء المقصورة يبيعون عشرات الملايين من الأسهم. فانتاب القلق الناس على الجانب الآخر … كان هناك مستوى كبير من الارتباك لدرجة أنهم توقَّفوا بوجه عام عن تقديم عروض شراء.»

مع تجمد سوق نيويورك جزئيًّا، ازدادت الفجوة بين سعر العقود المستقبلية وأسعار الأسهم المعلنة اتساعًا فوق اتساعها، فدفع ذلك الأسعار إلى الانخفاض؛ مما تسبب في بيع شركات التأمين على المحافظ مزيدًا من العقود المستقبلية، واستمر الحال هكذا. لم «تتسبب» إل أوه آر وشركات التأمين على المحافظ الزميلة في الانهيار — فلم يكن هناك بُدٌّ من أن تبدأ الأسعار في الانخفاض قبل أن ترتفع — لكن بدا لمعظم مَن في مقصورتي التعامل في شيكاجو ونيويورك أن هذه الشركات حولت تصحيحًا سوقيًّا إلى هلع من الطراز القديم.4 اتفق ليلاند وأوبريان عمومًا مع هذا الرأي، وفضَّل روبنشتاين التفسير الذي قدمه بعدئذ فيشر بلاك، وهو أن المستثمرين ككل قرروا أن السوق أكثر مخاطرة مما كانوا يظنون في اليوم السابق.5

•••

لم يكن تفسير بلاك تفسيرًا مفيدًا من وجهة نظر مَن هم خارج الوسط الأكاديمي. «فلماذا» قرر المستثمرون أن السوق أكثر مخاطرة؟ ولماذا قرروا ذلك في ١٩ أكتوبر؟ لم يكن لدى أحد إجابة مقنعة. ربما كانت أخبار الأسبوع السابق مقلقة، لكنها ببساطة لم تشكل الانخفاض الأكبر على الإطلاق في سوق الأسهم. قال بيل شارب لصحيفة «وول ستريت جورنال» بعد الانهيار مباشرة: «من المحتمل أن تغيرًا في التنبؤ المستبصر بالأحداث الاقتصادية حرَّك السوق على ذلك النحو. من ناحية أخرى، هذا غريب إلى حد ما.»6 وسرعان ما اتصلت به أمه الفزعة قائلة: «خمس عشرة سنة من التعليم وثلاث شهادات عليا، وكل ما يمكنك قوله «هذا غريب»؟»
في غضون أشهر قليلة، استعاد أنصار السوق العقلانية الآخرون تبجُّحهم؛ حيث أعلن جين فاما قائلًا: «الرد المناسب على أداء السوق في أكتوبر هو التصفيق.» كان تبرير فاما أن السوق غير الكفء هي التي يحدث تراجع الأسعار فيها ببطء. فالتكيف السريع (الذي يُعرف أيضًا بالانهيار) كان دليلًا على مدى سرعة السوق في معالجة المعلومات الجديدة.7 ما ظل دون إجابة هو ماهية تلك المعلومات الجديدة بالضبط. إذا كان إيمانك بالأسواق الكفء قويًّا بما يكفي، فأنت لم تكن تحتاج إلى المعرفة. فالسوق العليمة تمكنت من استشعار شيء لم يتمكن الأكاديميون والمستثمرون الأفراد من تحديد كنهه حتى بأثر رجعيٍّ.8
أما غير المؤمنين فكانوا يريدون أجوبة فحسب. استقر معظم اللاعبين في السوق على القصة التي طرحتها الأجهزة التنظيمية الفيدرالية بعد الانهيار، وهي أن البيع الجماعي من قبل شركات التأمين على المحافظ و«المتعاملين المبرمَجين» الآخرين المعتمدين على الحاسوب، أحدث انفصامًا بين أسواق المشتقات في شيكاجو وسوق الأسهم في نيويورك، الذي حوَّل بدوره تراجعًا في أسعار الأسهم إلى هزيمة ساحقة. أما ما إذا كان مصدر هذا الانفصام هو خطأ المتعاملين في العقود المستقبلية زائدي النشاط في شيكاجو أم الاختصاصيين بطيئي الحركة في بورصة نيويورك؛ فكان يتوقف على هوية الجهاز التنظيمي الذي كنت تتحدث معه.9
لا عجب أن نقاد فرضية كفاءة السوق الأكاديميين أحسُّوا أنهم على صواب بفضل الانهيار؛ حيث تضمَّنت مقالة صحيفة «وول ستريت جورنال» ذاتها — التي اقتبست خواطر بيل شارب الحائرة فيما بعد الانهيار — تصريحات مزهوة بالنصر على لسان كلٍّ من لاري سامرز وبوب شيلر. قال سامرز: «لو كان أي شخص يعتقد جديًّا أن تحركات الأسعار تتحدد بفعل تغيرات في المعلومات الخاصة بالمؤشرات الأساسية الاقتصادية، فلا بد أن يتحرر من ذلك المفهوم بفعل تحرك يوم الاثنين الذي بلغ مقداره ٥٠٠ نقطة.» وقال شيلر: «فرضية كفاءة السوق هي الخطأ الأبرز في تاريخ النظرية الاقتصادية، وهذا مجرد مسمار آخر في نعشها.»10
كان شيلر قد نما لديه مؤخرًا اهتمام باستخدام الاستطلاعات لمعرفة المزيد عن الحالة المزاجية لدى المستثمرين، وقد وزَّع ثلاثة آلاف استبيان في الأسبوع الذي سبق الانهيار، فعلِم أن ٤٣ في المائة من المستثمرين المؤسَّسِيين و٢٣ في المائة من الأفراد المشمولين بالاستطلاع انتابتهم «أعراض قلق غير عادية (صعوبة في التركيز، أو تعرُّق في الأكف، أو ضيق في الصدر، أو سرعة انفعال، أو نبض سريع)» في ١٩ أكتوبر. تكهن شيلر بأن المستثمرين القلقين استهلُّوا ما يشبه حلقة تغذية مرتدة «باللجوء إلى نماذج حدسية مثل نماذج تغير اتجاه الأسعار أو استمرارها.»11 وجادل ريتشارد تالر بأن الانهيار يعكس الميل النفسي إلى المبالغة في التأكيد على الخبرة الحديثة في استقراء المستقبل.12 كان المستثمرون قد دفعوا الأسعار إلى الارتفاع أكثر مما ينبغي قبل الانهيار مفترضين أن الزيادات السعرية ستستمر، وبعد أن انعطفت السوق، دفعوا الأسعار إلى الانخفاض أكثر بافتراض أن التراجعات ستستمر.

لم تتناول هذه التفسيرات رغم ذلك الأسباب التي جعلت الانهيار يحدث في الوقت الذي حدث فيه، وهي يقينًا لم تقنع أحدًا من جمهور السوق الكفء. لكن خسارة السوق خُمس قيمتها في يوم واحد كانت أمرًا لا يمكن إنكاره، و«تلك» كانت مشكلة.

•••

كانت مشكلة لأنه وفقًا للصورة الإحصائية لسلوك السوق المقبولة لدى معظم الأكاديميين وجُلِّ وول ستريت، كان من المستبعد وقوع ما حدث في ١٩ أكتوبر. والحقيقة أن ذلك لم يكن صحيحًا تمامًا. فبعد أن هدأت الأمور، أشارت حسابات مارك روبنشتاين وزميل له في جامعة كاليفورنيا في بيركلي أن احتمال مثل هذا الهبوط السوقي في عالم من التغيرات السعرية الموزعة طبيعيًّا يقع في المقدار التقريبي ١٠-١٦٠، بمعنى أنه كان شيئًا يمكن أن يتوقع المستثمرون حدوثه مرة واحدة كل مليارات مليارات السنين، والكون لم يوجَد إلا منذ ما يقدَّر باثني عشر مليار سنة، وكان عمر بورصة نيويورك في أكتوبر ١٩٨٧، ١٧٠ سنة.13 فإما أن مستثمري سوق الأسهم كانوا منحوسين إلى أبعد حد وبدرجة مذهلة وعلى نحو لا يمكن تصوره ذلك اليوم من أيام أكتوبر، وإما أن منحنى الجرس لم يقترب بأية حال من تصوير الطبيعة الحقيقية لمخاطر السوق المالية.

أدرك بعض المتعاملين في الخيارات هذا الأمر سريعًا. فبعد ١٩ أكتوبر، أظهرت أسعار الخيارات ما صار يسمى «ابتسامة التقلب». فبقلب معادلة بلاك-سكولز، يستطيع المرء حساب التقلب الضمني لأي سهم من واقع سعر خياراته. تسمح خيارات البيع للمرء ببيع سهم بسعر محدد سلفًا. وبعد انهيار سنة ١٩٨٧، كانت خيارات البيع التي هي خارج النقد تمامًا (كان السهم عند ٤٠ دولارًا مثلًا، وكان خيار البيع يسمح للمرء ببيعه مقابل ١٠ دولارات) تُتداول بأسعار توحي — بحسب بلاك-سكولز — بانهيار مماثل كل بضع سنوات قليلة. كان المستثمرون يرغبون في التأمين ضد الأسوأ، وكانوا على استعداد لأن يدفعوا مقابل ذلك. لكن الخيارات الأخرى على الأسهم ذاتها ظلت تُتداول بأسعار توحي بتقلب أقل تطرفًا. تلك كانت الابتسامة، وكانت منبسطة في المنتصف وصاعدة عند الحافة. كانت معادلة بلاك-سكولز تفترض أن التقلب سيكون مستمرًّا ومتسقًا وموزعًا توزيعًا طبيعيًّا، وبالتأكيد لم يكن الحال كذلك، وكان البحث عن نماذج أفضل للتقلب على أشُده آنذاك.

أحد المنطلقات كان الإطار الإحصائي الذي جمَّعه بينوا ماندلبرو قبل ذلك بخمس وعشرين سنة. لم يكن ماندلبرو قد تنبَّأ بالاثنين الأسود، لم يكن قد كتب أي شيء عن المالية منذ سنوات. لكن أي شخص سبق أن درس كتاباته عن السوق التي تعود إلى ستينيات القرن العشرين كان أقل اندهاشًا بكثير إزاء الأحداث في وول ستريت بمقارنته بمن اقتصروا في قراءاتهم على الكتب الدراسية الاعتيادية في مجال المالية. كان ماندلبرو بحلول ذلك الوقت أيضًا قد بدأ يكتسب شهرة بفضل كتابه المعنون «الهندسة الكسورية للطبيعة» الذي نشر سنة ١٩٨٢. وفي سنة الانهيار، قدَّمه كتاب «الفوضى» الرائج للصحفي جيمس جليك إلى جمهور أعرض من القراء.

بعد سنة ١٩٨٧، بدأت أفكار ماندلبرو التي طال تجاهلها تقتحم إدراك وول ستريت. لم تكن معادلات الاحتمالات التي وضعها هي التي اشتهرت في الدرجة الأولى، فهو لم يدونها — كما قال فيما بعد — إلا لأن «استقصاء العمليات العشوائية لم يكن ممكنًا إلا من خلال المعادلات والمبرهنات» في ذلك الزمان. أما آنذاك فقد أصبح هناك بديل بفضل الحواسيب بسرعتها وقوتها المتزايدتين. كان أي متعامل معه كمبيوتر يمكنه محاكاة مسارات مستقبلية محتملة لا حصر لها لأسعار الأسهم، مستكشفًا شكل وطبيعة تقلب السوق مثل كسوريات ماندلبرو.14

لكن هذا ظل ممارسة تمارسها الأقلية. أثبتت مالية منحنى الجرس، بتصويرها المتقن — والمضلِّل في ذات الوقت — لأسواق تتحرك بخطوات صغيرة لا قفزات كبيرة، قدرة ملحوظة على التكيف في أعقاب الحرج البالغ الذي تعرضت له سنة ١٩٨٧. وسرعان ما صار الانهيار يبدو أشبه بحالة شاذة لا كارثة كبيرة بفضل التعافي السريع للأسواق المالية. كان مريحًا أيضًا أن تكون هناك أجوبة بسيطة مقننة لأسئلة من قبيل: كيف أقيس أداء مدير الأموال؟ وكيف أخصِّص محفظتي الاستثمارية؟ وكيف أسعِّر خيارًا؟

لم يكن هذا النفور من الكفر بالنظريات حتى بعد أن تقوَّض معظم دعائمها — كحال أشياء كثيرة جدًّا بشأن مالية السوق العقلانية — سلوكًا أحمق بالكلية. فكما يقول أستاذ المالية ومدير الأموال ستيف روس: «تُعنى المالية النيوكلاسيكية ببناء الجسور وإنشاء السكك الحديدية.» كان مقصده أن ثورتي القرن العشرين النسبوية والكمية أثبتتا أن كثيرًا من الفيزياء النيوتنية خطأ، لكن المهندسين ما زالوا يصممون المباني والجسور متبعين قوانين نيوتن والأغلبية الساحقة منها لا تنهار.

مع تلاشي ذكريات الانهيار، نجحت ماركة المالية التي طورت في جامعة شيكاجو وفي جامعة كامبريدج بولاية ماساتشوستس في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بل وازدهرت. حدثت نقطة تحول عندما منحت لجنة نوبل هاري ماركويتز وميرتون ميلر وويليام شارب جائزة الاقتصاد سنة ١٩٩٠ «على عملهم الرائد في نظرية الاقتصاد المالي». كانت تلك سابقة بالنسبة للمالية. فهذا الاختيار — كما قال متهللًا أستاذ بجامعة روتشستر فيما كتب في عدد اليوم التالي من صحيفة «وول ستريت جورنال» — «يعترف أخيرًا بأن مجال الاقتصاد المالي علم حقيقي وفي مصافِّ الفيزياء والرياضيات.»15

بعد ذلك بسبع سنوات، فاز روبرت ميرتون ومايرون سكولز بنوبل. كان فيشر بلاك قد مات في سنة ١٩٩٥، ولولا ذلك لشاطرهما يقينًا الجائزة. كان نموذج تسعير الخيارات الذي أنشأه ثلاثتهما قد «تمخَّض عن أنواع جديدة من الأدوات المالية ويسَّر إدارة أكثر كفاءة للمخاطر في المجتمع»، كما أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عند منح جائزتها لسنة ١٩٩٧. وفي خطاب القبول الذي ألقاه سكولز في ديسمبر، جادل بأن المشتقات «تحسِّن الكفاءة الاقتصادية»؛ نظرًا لأنها «توفر حلولًا أقل تكلفة لمشكلات التعاقدات المالية.»

كان ميرتون أيضًا متفائلًا في خطابه عن نماذج التسعير التي أنشأها هو وسكولز وبلاك، لكنه حرص على إقحام نبرة متحفظة، فقال: «في بعض الأحيان يمكن أن ننسى منتهى غرض النماذج عندما تصبح عملياتها الرياضية مثار اهتمام أكثر مما ينبغي. يمكن تطبيق رياضيات النماذج المالية بدقة، لكن النماذج ليست دقيقة بتاتًا في تطبيقها على العالم الواقعي بتعقيده.»16 بالعودة إلى أولئك الفيزيائيين والمهندسين المدنيين والجسور والسكك الحديدية، أقول إنهم تعلَّموا بالخبرة على مر السنين متى يكون تطبيق نظريات نيوتن آمنًا ومتى لا يكون كذلك. والملعب في دنيا المالية في تغيُّر دائم، ومن الأصعب كثيرًا — بمقارنته بما عليه الحال في الهندسة المدنية — أن تعرف متى ستفلح نماذجك، ومتى لن تفلح. وقبل أن تنتهي سنة ١٩٩٨، كان ميرتون وسكولز قد تعلَّما هذه الحقيقة بطريقة موجعة.

•••

في حين أن التأمين على المحافظ بالمعنى الدقيق للكلمة خسر سمعته إلى حد كبير سنة ١٩٨٧، فإن سوق التأمين على تقلبات السوق لم تختف قط. فقبل مضي وقت طويل، كانت البنوك الكبرى والبنوك الاستثمارية تستخدم نماذج تسعير الخيارات لتصميم وتسعير العقود الخاصة المعروفة باسم المشتقات المتداولة خارج المقصورة التي مكَّنت العملاء من التحوط ضد المخاطر المالية (أو المراهنة عليها). والآن تغطي هذه الأدوات من بين ما تغطي تحركات سوق الأسهم والتخلفات عن سداد القروض، لكن في السنوات الأولى بعد الانهيار كانت الفئتان الرئيسيتان مشتقات أسعار الفائدة ومشتقات العملة.

في أوائل تسعينيات القرن العشرين، حَظِيَتْ هذه المشتقات بقدر كبير من الدعاية الإعلامية السيئة؛ حيث لعبت الخيارات والمقايضات والعقود المستقبلية بمختلف أنواعها أدوارًا أساسية في إفلاس مقاطعة أورانج بولاية كاليفورنيا، وانهيار بنك التجار البريطاني العريق «بارينجز»، وخسائر كبيرة في بروكتر آند جامبل، وجبسون جريتنجز، وميتالجيسيلشافت.17 ويمكن بوجه عام أن يُنحى باللائمة في هذه الإخفاقات على مزيج وول ستريت المعتاد من الأخطاء والجشع والخداع. كتب ميرتون ميلر سنة ١٩٩٧ يقول: «على الرغم من كل قصص الرعب عن المشتقات، يظل جديرًا التأكيد على أن مصارف العالم بددت من خلال صفقاتها العقارية الطائشة أكثر بكثير مما ستخسره من وراء محافظها من المشتقات.»
كان ميلر من عرَّابي أعمال المشتقات الحديثة؛ إذ كان له دور محوري في نشر بحث بلاك وسكولز الأصلي، ومهَّد برهانه هو وفرانكو مودلياني المبتكر على المراجحة الطريق إلى كثير مما قام به روبرت ميرتون من عمل، وعمل مستشارًا لمدة طويلة لبورصات العقود المستقبلية والخيارات في شيكاجو. صار أستاذًا فخريًّا في جامعة شيكاجو سنة ١٩٩٢، وفي مهنة ثانية امتهنها وسماها «متحدث مهني رئيسي»، دافَعَ عن الأدوات المالية التي ساعد على تمهيد الطريق أمام ظهورها. جادل ميلر قائلًا: «على عكس الفهم الشائع، جعلت المشتقات العالم مكانًا «أكثر أمانًا» لا أكثر خطرًا. لقد مكَّنت الشركات والمؤسسات من التعامل مع المخاطر والأخطار التي ابتُليت بها منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون، بكفاءة وفعالية في التكلفة.»18

كان ستيف روس قد تنبَّأ بهذه النتيجة السارة قبل ذلك بعقدين من الزمان، وذلك عندما جادل بأنه كلما وُجدت أوراق مالية مختلفة تمثِّل مختلف حالات العالم المحتمَلة، صِرْنا أقرب إلى حالة التوازن الاقتصادي التام التي تصورها أستاذه كنيث أرو في خمسينيات القرن العشرين. كان المرء يرى ظلال هاري ماركويتز أيضًا في هذه الحجة. أعطِ الناس مزيدًا من الطرق للاستثمار والتحَوُّط من المستقبل، وسيُمكنهم تقليل خطورة محافظهم.

بل لم يكن المرء مضطرًّا إلى الإيمان بالسوق العقلانية لمشاطرة هذه الرؤية العالمية. كان من رأي روبرت شيلر أننا «نحتاج إلى توسيع مجال المالية ليتجاوَز حدود رأس المال المادي إلى رأس المال البشري، وإلى تغطية المخاطر المهمة بحق في حياتنا.» اقترح شيلر استحداث مشتقات جديدة تمكِّن الناس من التحوط من مخاطر خسارة الدخل والتقلُّبات في أسعار المنازل وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وجادل بأن هذه الأدوات «ستزيل الضغوط والتقلب من سوق أسهمنا المحمومة.»19 لكن كان هناك شَرك، بل في الحقيقة شَركان.

أولًا: نمذجة المخاطر المالية صعبة، ولا تستطيع النماذج الإحصائية أبدًا أن تصور كل الأشياء التي يمكن أن تخفق (أو تصيب) تصويرًا تامًّا. كان الأمر مثلما قال الفيزيائي ورائد السير العشوائي إم إف إم أوسبورن لطلابه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي قديمًا سنة ١٩٧٢ من أن منحنى الجرس يعمل على نحو جيد فيما يخص أحداث السوق اليومية. وعندما لا يعمل على نحو جيد، يجب على المرء أن ينظر خارج النماذج الإحصائية وإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة بشأن ما يحرك السوق وماهية المخاطر. كان يهيمن على أعمال المشتقات والقطاعات المالية الأخرى التي كانت في تنامٍ في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ محللون كمِّيون شباب يعرفون كيف يشغِّلون النماذج الإحصائية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الخبرة السوقية المطلوبة لإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة. وفي غضون ذلك، لم يكن مَن لديهم الخبرة والحكمة والسلطة لإصدار أحكام اجتهادية مستنيرة — وأعني الرؤساء — يفهمون النماذج الإحصائية.

من «الجائز» أنه مع ارتقاء مزيد من المحللين الكميين في مناصب السلطة الرفيعة (كان فيكرام بانديت — الحاصل على الدكتوراه في المالية من جامعة كولومبيا سنة ١٩٨٦، والذي أصبح الرئيس التنفيذي لمجموعة سيتي جروب سنة ٢٠٠٧ — أول محلل كمي يدير أحد المصارف الكبرى)، ستصبح هذه المشكلة تحديدًا أقل وضوحًا. لكن العقبة الثانية التي تقف أمام خلوِّ الحياة من المخاطر بفضل المشتقات أصعب كثيرًا في الالتفاف حولها. إنها المفارقة التي قتلت التأمين على المحافظ، وأعني عندما يشترك عدد كافٍ من الناس في وسيلة معينة لترويض المخاطر المالية، فذلك في حد ذاته يجلب مخاطر جديدة.

في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وفيما كافحت المصارف وعملاؤها لفهم المخاطر التي تشكِّلها تعاملاتهم في المشتقات، لجأ معظمهم إلى نهج يسمى «القيمة المعرضة للمخاطر». كان هذا الاسم جديدًا — صِيغَ في جيه بي مورجان في ثمانينيات القرن العشرين — لكنه كان يصف ما سماه هاري ماركويتز سنة ١٩٥٩ «شبه التباين». كان يقصد بذلك مخاطر الهبوط، وهي مقياس كمِّي للمقدار الذي يمكن أن تهبطه محفظة ما في يوم سيئ. كان من الممكن تقدير قيمة معرضة للمخاطر تأخذ في اعتبارها بعضًا من السلوك الغريب الذي تتعدد فيه احتمالات حدوث انحرافات ضخمة من جانب الأسواق المالية الفعلية، لكن ذلك كان يتطلَّب تخمينًا واجتهادًا بالرأي. ولإقناع رئيس تنفيذي حذر بإعطاء الضوء الأخضر لصفقة مشتقات أو إقناع جهاز لتنظيم المصارف بأن احتياطيات رأس المال كافية لتغطية الخسائر المحتملة، كان المرء يحتاج إلى نموذج مقنن للقيمة المعرضة للمخاطر مثل نسخة «ريسك متريكس» التي روجتها جيه بي مورجان.

حتى النموذج الجيد «للقيمة المعرضة للمخاطر» لم يكن يتمخَّض إلا عن صورة جزئية للمخاطر الحقيقية التي تواجه مصرفًا أو شركة أو مستثمرًا، وكان هناك من اعتبروا هذا أمرًا مخيفًا. يقول نسيم نيقولا طالب — الذي تعامل في المشتقات، والذي برز كواحد من أشد النقاد صراحة لنهج القيمة المعرضة للمخاطر في منتصف تسعينيات القرن العشرين بعد أن جنى ثروة طائلة في انهيار سنة ١٩٨٧ — إن «قياس الأحداث غير القابلة للقياس يمكنه أحيانًا أن يزيد الأمور سوءًا؛ فأية عملية قياس تقلل مستوى قلقك يمكنها أن تضللك لينتابك إحساس كاذب بالأمن.» لكن بالِغ في التعامل مع هذه الحجة ولن يكون هناك طائل من محاولة قياس المخاطر المالية على الإطلاق. فلا بد من وجود موقف وسط بين القياس الكمي والاجتهاد بالرأي، حتى وإن كنا قلما نبْلُغه في العالم الواقعي.

كان مصدر قلق طالب الذي كان يعد الأصعب في إقناعه بالتخلص منه هو أن الاستخدام الواسع لنهج القيمة المعرضة للمخاطر يجعل الأسواق أكثر مخاطرة. فأي انخفاض في سعر ورقة مالية كان يرفع القيمة المعرضة للمخاطر لمحفظة تحتوي تلك الورقة المالية. وإذا كان هناك مصرف أو صندوق تحوُّط يحاول الإبقاء على القيمة المعرضة للمخاطر دون مستوى معين، فربما يضطر حينئذ إلى تصفية أوراق مالية أخرى لدفع القيمة المعرضة للمخاطر وإعادتها إلى الانخفاض. كان ذلك يمارس ضغطًا باتجاه الهبوط على أسعار تلك الأوراق المالية؛ مما كان يهدد بدوره ببدء الدورة مرة أخرى. فكما أن البيع من جانب شركات التأمين على المحافظ التي كانت تحاول حماية عملائها من تراجعات الأسعار دفع الأسعار إلى مزيد من الانخفاض سنة ١٩٨٧، كان نهج القيمة المعرضة للمخاطر بمقدوره أن يفاقم أي هبوط. قال طالب في مستهل سنة ١٩٨٨: «أنشطتنا ربما تبطل فعالية قياساتنا. كل … الأسواق تنخفض معًا.»20

•••

لنا في أسطورة لونج تيرم كابيتال ماندجمينت كثير جدًّا من الحكايات المليئة بالعبر والعظات. استمع إلى إحدى حكايات واحد من الشركاء السابقين، أو اقرأ كتابين ساحرين يؤرخان لسقوط الصندوق، هما «عندما أخفق العبقري» لروجر لوينستاين و«اختراع النقود» لنيكولاس دنبار، وستجد نفسك تستنكر الأخطار الكثيرة؛ أخطار العجرفة والثروة والرفع المالي وثقة المرء في مصرفييه ومحاولة اتخاذ القرارات في شراكة.21 ربما يكون سقوط صندوق التحوط دليلًا على كفاءة الأسوق، فعوائده التي تفوقت على السوق كانت نتيجة تحمل مخاطر زائدة. أو ربما يكون دليلًا على عدم كفاءتها، فيكون صندوق لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أخفق؛ لأن أسعار الأوراق المالية انحرفت انحرافًا دراماتيكيًّا عن قيمها الأساسية.

كان صندوق التحوط هذا قد خرج من عباءة مكتب تعاملات المُلَّاك في سالومون براذرز، واستقطب روبرت ميرتون ومايرون سكولز كشريكين. اتبع الصندوق نهج الرائد الكمِّي إد ثورب القائل: اعثر على ورقتين ماليتين ينبغي أن تكونا سائرتين في الاتجاه نفسه لكنهما ليستا كذلك، وراهن على أنهما ستتقاربان. كان من الأشياء المفضلة منذ زمن لدى رئيس لونج تيرم كابيتال ماندجمينت جون ميريويذر تداوُل أذون وسندات الخزانة من الإصدار القديم. كانت أذون وسندات الخزانة أجل ثلاثين سنة الجديدة تباع غالبًا بأسعار أعلى كثيرًا من الأوراق المالية المطابقة لها المصدرة قبل ذلك بستة أشهر. وعندما كان يحدث ذلك، كان لونج تيرم كابيتال ماندجمينت يبيع أذون وسندات الخزانة الجديدة على المكشوف ويشتري أذون وسندات الخزانة «من الإصدار القديم»، وكان يحقق عادة ربحًا سهلًا.

بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، كان كثير من صناديق التحوط الأخرى ومكاتب التعاملات في وول ستريت يمارسون تعاملات مماثلة. كان السبيل الوحيد إلى ربح مال كثير من خلالها هو تمويلها بأموال مقترضة. خذ صفقة تدر عائدًا بنسبة ٢ في المائة سنويًّا. اقترض ٩ دولارات لكل دولار واحد من رأس المال، وستحقق الصفقة الآن عائدًا بنسبة ٢٠ في المائة على رأس المال الابتدائي (٢ في المائة من ١٠ دولارات)، ناقص مصاريف الفائدة. كان صندوق لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أكثر شراسة من ذلك بكثير؛ حيث كان يقترض ٢٤ دولارًا لكل دولار واحد من رأس المال اعتبارًا من مطلع سنة ١٩٩٨.22
كما كان لونج تيرم كابيتال ماندجمينت يراهن أيضًا باستخدام المشتقات المتداولة خارج المقصورة، والتي كانت هي ذاتها شكلًا من أشكال الرفع المالي. وضع الصندوق كثيرًا من الأوراق المالية في نماذج القيمة المعرضة للمخاطر، التي كانت تزن مخاطر وارتباطات مختلف الصفقات باستناد بعضها إلى بعض. لكن على خلاف مكاتب التعاملات بشركات وول ستريت الكبيرة، التي كانت بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين تخضع للمساءلة أمام رؤساء إدارة مخاطر ورؤساء تنفيذيين تملؤهم الريبة، كان لونج تيرم كابيتال ماندجمينت قادرًا على وضع حدوده الخاصة. كان ينبغي على المصارف التي كانت تقرض لونج تيرم كابيتال ماندجمينت المال وتقوم بدور أطرافه المقابلة في صفقات المشتقات أن تحرص على رصد مخاطره، لكنه كان عميلًا ناجحًا ومبهرًا ومربحًا لدرجة أنها عمومًا أخفقت بالكلية في فعل ذلك. عندما ألقى رئيس المخاطر في جولدمان ساكس نظرة على دفاتر لونج تيرم كابيتال ماندجمينت بُعيد انهياره، أذهله شيئان؛ أحدهما أن صندوق التحوط كان يمارس نفس الرهانات بالضبط التي يمارسها متعاملو جولدمان الداخليون، والآخر أن المراكز التي اتخذها لونج تيرم كابيتال ماندجمينت كانت أكبر عشر مرات.23
واجه لونج تيرم كابيتال ماندجمينت متاعب سنة ١٩٩٨. كانت أزمات العملات الآسيوية في السنة السابقة قد تركت المستثمرين في حالة توتر. اتسعت «الفروق» بين أسعار الفائدة على الدين المحفوف بالمخاطر وأسعار الفائدة على أذون وسندات الخزانة الأمريكية (التي تعتبر لا تشكل فعليًّا أية مخاطر للتوقف عن الدفع). كانت المراهنة على أن تلك الفروق ستضيق لتصل إلى مستوياتها الطبيعية مصدر دخل لونج تيرم كابيتال ماندجمينت. وعندما لم تضق على النحو المتنبأ به، بدأ الصندوق يخسر الأموال. ثم حدث أحد تلك الأشياء التي لا يمكن أبدًا إقحامها على نحو ملائم في أي نموذج مخاطر؛ حيث اشترت شركة ترافلرز المالية متعددة الأنشطة شركة سالومون براذرز التي وُلد من رحمها لونج تيرم كابيتال ماندجمينت، وكان مكتب تعاملات المُلَّاك في سالومون براذرز يتعامل في كثير من الأسواق نفسها التي يتعامل فيها لونج تيرم كابيتال ماندجمينت، فأمر جيمي ديمون — مساعد رئيس ترافلرز المعروف بقوة الإرادة، والذي كان مرتابًا في محللي سالومون الكميين والمركز الكبير الذي أسسوه تدريجيًّا في السندات الحكومية الروسية — بإغلاق هذا التعامل؛ مما أدى إلى مزيد من الاتساع في الفروق.24 ثم أعلنت الحكومة الروسية أنها ستتخلَّف عن دفع بعض ديونها.

كانت الخسائر التي تكبَّدها لونج تيرم كابيتال ماندجمينت كبيرة، لكن ليست بالحجم الذي يكفي لتهديد بقائه. كان الشركاء فيه قد تصوَّرُوا أنه بعد مثل هذه الخسارة سيكون بمقدورهم إعادة موازنة محفظتهم والعودة إلى العمل؛ ربما سيكونون أقل ثراءً ولكنهم سيواصلون أعمالهم على أية حال. لكن مع اتباع الصناديق الأخرى استراتيجيات مماثلة لإعادة الموازنة في الوقت نفسه، انخفضت أسعار محفظة لونج تيرم كابيتال ماندجمينت فوق انخفاضها. زد على ذلك أن الأطراف المقابلة الوحيدة التي كان بمقدور لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أن يحول إليها أرصدته من المشتقات هي مصرفيوه وسماسرته المحترسون. بدءوا جميعًا يقلِّصون تعرُّضهم للصندوق، فتلاشت إمكانية حصول لونج تيرم كابيتال ماندجمينت على الرفع المالي، وتلاشى معها نموذج أعمال الصندوق.

بعد انهيار لونج تيرم كابيتال ماندجمينت ببضع سنين، ذهب هاري ماركويتز لحضور محاضرة أحد الشركاء السابقين في الصندوق تتناول ما حدث. يقول ماركويتز: «كنت مسرورًا من ناحيةٍ لسماعي أن هؤلاء الأولاد الصغار كلهم يؤدون — عندما تقتضي الظروف — تحاليل الوسط والتباين.» كانوا لا يزالون يستخدمون النهج الذي استنبطه في مكتبة جامعة شيكاجو سنة ١٩٥٠. «لكن من ناحية أخرى، هذه العملية خذلتهم بطريقة ما.» فما الذي أخفق؟ «أنا أفترض أن المستثمر متلقي أسعار، ولن يدخل ويزعج السوق لو أبرم صفقة. كل ما هنالك أن هؤلاء الرجال كانوا جزءًا من السوق أكبر بكثير من افتراض ذلك.»25

•••

لا تُعنى المخاطر المالية بالأرقام والرسوم البيانية بالنقاط المبعثرة والقوى السائدة فحسب. فأفعال الأفراد تهم. وقد شق إد ثورب طريقه عبر حقل الألغام السوقي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين على الوجه الأكمل تقريبًا — فبرنستون نيوبورت بارتنرز حققت أرباحًا سنة ١٩٨٧ — ليأخذه في النهاية رودي جولياني — رئيس نيابة المقاطعة الجنوبية بنيويورك — على حين غرة. فعندما استهدف جولياني مايكل ميلكن لملاحقته قضائيًّا، وقع شركاء ثورب في برنستون في الشرك الذي نصبه؛ حيث اتُّهموا بتغطية مراكز مكشوفة غير معلنة في أوراق مالية لصالح شركة دريكسل بيرنهام لامبرت التي يعمل بها ميلكن. وقد اضطر ثورب — على الرغم من عدم اتهامه شخصيًّا بأية مخالفة — إلى إغلاق صندوق تحوُّطه.

لكن تأثير جولياني تضاءل بجانب تأثير أهم عامل خطر فردي في العصور الحديثة، وهو رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ ففي ٢٠ أكتوبر ١٩٨٧ — اليوم التالي للاثنين الأسود — توقفت تروس المالية العالمية عن الحركة. كانت أسواق الأسهم تحتاج إلى ائتمان كي تعمل، فإخصائيو بورصة نيويورك وصناع السوق في ناسداك دائمًا يقتنون أسهمًا دون أن يكون هناك مشترٍ ينتظرها؛ وذلك بغرض الإبقاء على استمرار التعاملات، وهم يفعلون ذلك بمال مقترض. لكن في صباح اليوم العشرين، بدأت المصارف القلقة تهدد بقطع التمويل عن السماسرة. ولو أنها فعلت، لاستحالت التعاملات ولأغلقت الأسواق أبوابها، ولربما أدى التفاعل المتسلسل التالي إلى تقويض المصارف أيضًا. حرص آلان جرينسبان — رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي المعيَّن حديثًا — على ألا يحدث ذلك.

في عشرينيات القرن العشرين، استَنَد حديث إرفينج فيشر عن وجود «هضبة مستقرة الارتفاع» في أسعار الأسهم إلى افتراض أن الاحتياطي الفيدرالي يعرف ما يجري ولن يسمح بانهيار الأسعار والنظام المصرفي، وكان ذلك افتراضًا خاطئًا. في ١٩٨٧، كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي يدرك ما كان فيشر يتحدث عنه. وقبل أن تفتح الأسواق أبوابها يوم العشرين، أصدر جرينسبان بيانًا أكد فيه أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي «جاهز للعمل كمصدر للسيولة لدعم النظام الاقتصادي والمالي.» بدأ جيرالد كوريجان — رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك — يتصل بكبار مقرضي أسواق الأسهم ويلوي أذرعهم كي لا يقطعوا التمويل عن أحد. وهكذا لو وجدت المصارف نفسها تعاني من ضائقة سيولة، كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي متأهبًا وفي يديه مزيد منها. استغرق الأمر بعض الوقت، لكن بحلول نهاية اليوم كانت السوق تعمل من جديد، وكانت أسعار الأسهم آخذة في الارتفاع.26

بعد ذلك بسبع سنوات، وفي سنة ١٩٩٤، أثبت مجلس الاحتياطي الفيدرالي بقيادة جرينسبان أنه هو نفسه يمثِّل عامل خطر من نوع مختلف؛ حيث كان يهز الأسواق بزيادة في سعر الفائدة؛ بهدف كبح جماح التضخم، فأخفق عديد من صناديق التحوط الكبيرة في أعقاب ذلك التحرك الذي يصعب تمثيله بنموذج. سنة ١٩٩٨، عاد مجلس الاحتياطي الفيدرالي ليلعب دور مخفِّفِ المخاطر. وبما أن انهيار لونج تيرم كابيتال ماندجمينت هدد بإطلاق تفاعل متسلسل من إخفاقات صناديق التحوط والمصارف حول العالم، جمع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك ويليام ماكدونو مقرضي صناديق التحوط في غرفة وخوَّفهم كي يؤجلوا المطالبة باستعادة أموالهم؛ وذلك للسماح بالتفكيك المنظم للصندوق. لم يكن ذلك إنقاذًا — كما زعم نقاد كثيرون في ذلك الحين — بقدر ما كان تعليقًا وجيزًا للنشاط. لكنه كان مناورة لم يكن الترتيب لها على الأرجح ممكنًا إلا بمعرفة المصرف المركزي. صب الاحتياطي الفيدرالي أيضًا نقدية في النظام المالي العالمي، فضاقت الفوارق، ولم تتحقق قط المخاوف من كون البرازيل مقبلة على مصير روسيا وستتخلَّف عن الدفع. انتهى الحال بالتقديرات الخاطئة لصندوق لونج تيرم كابيتال ماندجمينت أن تسببت في حالة رعب لكنها لم تتسبب في كارثة بأية حال.

طرح هذا سؤالين مثيرين للاهتمام. كانت الكارثتان شبه المحققتين سنتي ١٩٨٧ و١٩٩٨ قد جعلتا نماذج المخاطر الكمية التي خرجت من رحم مالية السوق العقلانية تبدو سيئة. فهل كانت ستبدو أسوأ بكثير وكثير لو لم ينقذ الاحتياطي الفيدرالي الأسواق؟ من ناحية أخرى، إذا كان بالإمكان التعويل على إنقاذ الاحتياطي الفيدرالي للأسواق المالية في العالم كلما أنذرت بالتوقف عن العمل، فماذا كانت المشكلة؟

كان لنجاح الاحتياطي الفيدرالي في إعادة الأسواق إلى الحياة سنتي ١٩٨٧ و١٩٩٨ تداعياته السياسية والتنظيمية؛ ففي أعقاب انهيار سنة ١٩٨٧، كان هناك كلام كثير عن الحاجة إلى فرض ضرائب على معاملات السوق المالية لعرقلة الأسواق مفرطة النشاط، وهي المقترحات التي تُعرف عادة باسم «ضريبة توبين» نسبة إلى الاقتصادي جيمس توبين الذي اقترح في سبعينيات القرن العشرين ضريبة من هذا القبيل على معاملات العملات الأجنبية. كان جون مينارد كينز قد طرح من قبل فكرة مماثلة في كتابه «النظرية العامة»، وفي سنة ١٩٢٩ أثار عضو مجلس الشيوخ الأمريكي كارتر جلاس بلبلة في الأسواق بخطته لفرض ضريبة بنسبة ٥ في المائة على مبيعات الأسهم التي احتُفظ بها لأقل من ستين يومًا.27 على أية حال، سرعان ما تلاشى الاهتمام بمثل هذه التدابير — في الولايات المتحدة على الأقل — في ظل تعافي الأسواق ثم انتعاشها في تسعينيات القرن العشرين.

على نحو مماثل، حَمَل انهيار لونج تيرم كابيتال ماندجمينت سنة ١٩٩٨ بروكسلي بورن — رئيسة هيئة التعامل في عقود السلع المستقبلية التي تنظم بورصات المشتقات كبورصة شيكاجو التجارية — على الدفع في اتجاه الرقابة على سوق المشتقات المتداولة خارج المقصورة الآخذة في الازدهار. رفض جرينسبان مطلبها كما رفضه رفاقها المسئولون عن الأجهزة التنظيمية المالية في إدارة كلينتون، وفي أواخر سنة ٢٠٠٠ سن الكونجرس تشريعًا وقَّع عليه الرئيس كلينتون يحظر تنظيم المشتقات المتداولة خارج المقصورة. كانت الحجة أن السوق تعمل، فلماذا نقف في طريقها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤