الفصل الرابع عشر

أندريه شلايفر يتجاوز اقتصاد الحاخامات

نقاد السوق الكفء يعبرون عن انتصارهم من خلال بيان الأسباب التي تجعل قوى السوق غير العقلانية سائدة أحيانًا مثلها مثل العقلانية.

***

في سنة ١٩٨٥، جمَّع طالب الدراسات العليا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أندريه شلايفر ما ظن أنه دليل مقنع ضد فرضية كفاءة السوق؛ حيث وجد أن الأسهم الجديدة الجاري إضافتها إلى ستاندرد آند بورز ٥٠٠ ارتفعت بالمقارنة بسائر السوق بداية من سبتمبر ١٩٧٦، وهو الشهر الذي تلا تدشين فانجارد أول صندوق مرتبط بمؤشر للمستثمرين الأفراد. لم يكن أي شيء آخر قد تغيَّر فيما يخص هذه المشروعات، ولم يحدث نمو لقيمتها الحقيقية. لم يكن من المفترض أن تحدث هذه الأشياء في سوق كفء.1
قدم شلايفر استنتاجاته خلال الاجتماع السنوي لجمعية المالية الأمريكية، فكُلِّف أكاديمي آخر بنقد بحثه كما هو معتاد. وكان هذا الأكاديمي في حالتنا هذه مايرون سكولز. عندما فرغ شلايفر، نهض سكولز وقال:
يذكِّرني هذا البحث بحاخام معبدي هناك في بالو ألتو. حاخامي هذا عندما يلقي موعظته يوم السبت، يبدأ دائمًا بقصة صغيرة عن شيء حدث لعائلته هناك في قريتهم اليهودية في أوروبا، ثم يستقرئ انطلاقًا من هذه الحادثة الصغيرة مغزى كبيرًا للقصة ينطبق على العالم ككل. هذا هو ما يذكرني به هذا البحث. إنه اقتصاد حاخامات.2

كان نقدًا يشبه كلام ميرتون ميلر عن الحاجة إلى التركيز على «القوى السائدة» لا على السلوكيات الشاذة. أخذ شلايفر الشاب الأمر مأخذ الجد؛ حيث قال بعد ذلك بسنوات: «كان محقًّا. من المهم أن أركز على قوى السوق السائدة.» صارت ضالة شلايفر المنشودة أن يكتشف ماهية قوى السوق السائدة التي تسمح للأسعار بالانحراف عن الصواب وتظل على ذلك النحو.

كانت هناك مطالب أخرى سعى وراءها أيضًا. فشلايفر «شكَّل النموذج الفكري الأساسي» في دراسة حوكمة الشركات واقتصاد التحول (من الاشتراكية إلى اقتصادات السوق) والاقتصاد الكلي. على الأقل، ذلك ما قاله واحد من أساتذته السابقين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عندما فاز شلايفر بميدالية جون بيتس كلارك سنة ١٩٩٩ كأفضل اقتصادي أمريكي دون الأربعين.3 كما أدار شلايفر أيضًا وحدة ممولة من الحكومة الأمريكية كانت تقدم المشورة للحكومة الروسية بشأن المسائل الاقتصادية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وقد وضعه سلوكه هناك فيما بعد في مشكلة قانونية ولعب دورًا في خروج معلمه لاري سامرز المبكر من رئاسة جامعة هارفرد. لكن تلك قصة أخرى؛4 فتحدي شلايفر فرضيةَ كفاءة السوق كان وحده زاخرًا بما يكفي من الأحداث.

•••

عندما رد يوجين فاما على الأدلة المضادة لفرضيته المشتركة لكفاءة السوق ونموذج تسعير الأصول الرأسمالية بالتخلُّص من نموذج تسعير الأصول الرأسمالية لصالح نموذج «مخاطر» أخرق متعدد العوامل؛ أصيب بعض من في المالية بخيبة الأمل. شكا فيشر بلاك من فاما وشريكه في التأليف كنيث فرنتش قائلًا: «لا يريدان سماع شيء عن النظريات، ولا سيما نظرية تقترح أن هناك عوامل معينة أو أوراقًا مالية ما مسعَّرة تسعيرًا خاطئًا.»5
سارع اثنان من المشككين في كفاءة السوق بجامعة إلينوي إلى طرح نظرية لتفسير نتائج فاما-فرنتش، فباستخدام أساليب إحصائية مختلفة وعينة بيانات أطول، وجد لويس كيه سي تشان وجوزيف لاكونيشوك أن بيتا نجحت فعلًا في تفسير سلوك سوق الأسهم من سنة ١٩٢٦ إلى سنة ١٩٨٢، وأنها لم تعد تتوافق مع البيانات إلا بعد سنة ١٩٨٢. اقترح تشان ولاكونيشوك أن ما غيَّر النتائج بعد سنة ١٩٨٢ هو ظهور استراتيجيات استثمارية متمحورة حول نموذج تسعير الأصول الرأسمالية؛ أي استخدام المؤشرات وتخصيص وقياس الأداء استنادًا إلى بيتا وما شابه. كان سلوك المستثمرين قد تغيَّر؛ مما غير بدوره طبيعة العوائد الاستثمارية. كان الانتصار العملي لنموذج الأصول الرأسمالية قد أضعف قدرته على التنبؤ. وجد تشان ولاكونيشوك أن الأسهم التي تنتمي إلى مؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ تفوقت بداية من أواخر سبعينيات القرن العشرين تفوقًا دراماتيكيًّا على أداء سائر السوق. وأوضحا أن ٢ في المائة فقط من أموال أكبر مائتي صندوق معاشات تقاعدية مستثمرة في الأسهم كانت مرتبطة بمؤشر ستاندرد آند بورز في سنة ١٩٨٠. وبحلول سنة ١٩٩٣، كانت هذه النسبة تقارب ٢٠ في المائة.6

كان هذا الأمر يتعلق أكثر باقتصاد الحاخامات. في الرؤية العالمية المؤمنة بالقوى السائدة وكفاءة السوق، لم يكن يُفترض أن تؤثر أساليب صناعة الاستثمار على الأسعار. كان المنطق يقول إن الورقتين الماليتين اللتين تمثِّلان مطالبتين على الأصول ذاتها «يجب» أن تباعا بسعر واحد؛ لأنهما إذا لم تباعا بسعر واحد، فسوف يتحقَّق الثراء للمراجحين من بيع واحدة ومقايضتها بالأخرى، فيدفعون في غضون ذلك الأسعار إلى معاودة الانسجام. لم تكن تلك مجادلة بأن الأسعار صحيحة على نحو جوهري بقدر ما كانت مجادلة مفادها أن الأسعار صحيحة نسبيًّا. لكن إذا كانت كل الأوراق المالية مسعرة تسعيرًا صحيحًا بمقارنة إحداها بالأخرى، إذن فالأسعار ينبغي أن تكون صحيحة على المستوى الكلي أيضًا.

كان ذلك هو الافتراض، وقد نجا من انهيار فرضية كفاءة السوق الأصلية لفاما التي أعلن فاما انهيارها، على الرغم من حقيقة أنه لم يخضع للتجربة، وهو أمر صادم. كان سهلًا بدرجة تكفي لأن ترى كيف تعمل المراجحة في أنواع المعاملات التي تجتذب المراجحين. فعندما اشترى بن جراهام أسهم جوجنهايم إكسبلوريشن وباع أسهم شركاتها التابعة على المكشوف، أو عندما اشترى إد ثورب أسهم شركات ستاندرد آند بورز ٥٠٠ وباع عقود المؤشر المستقبلية على المكشوف، كان كلاهما يتعامل مع حالتي خطأ في التسعير ملتزمتين تعاقديًّا بالتلاشي في المستقبل القريب. كان من الممكن رغم ذلك أن تخفق الأمور، وذلك كما حدث مع عقود ستاندرد آند بورز ٥٠٠ المستقبلية في ٢٠ أكتوبر ١٩٨٧، لكنها عادة لم تكن تخفق.

عندما تكون هناك ورقة مالية ليس لها تاريخ انقضاء محدد أو وسيلة تحويل إلى ورقة مالية أخرى، لا يكون واضحًا تمامًا كيف يُفترض أن يربح المرء من معرفة أن السعر خاطئ. فباستثناء الحالات التي تكون فيها الشركات موشكة على الاندماج أو الخروج من التداول بطريقة أخرى، تتألَّف سوق الأسهم من أوراق مالية تفتقر بوضوح إلى تواريخ انقضاء. إذن كيف كان يفترض مرة أخرى أن يجبر المراجحون أسعار الأسهم كي تعود إلى الانسجام على المدى القصير؟

لم يكن لدى أحد إجابة سليمة. غالبًا ما كان المؤمنون بالسوق العقلانية يستشهدون بطلب ميلتون فريدمان سنة ١٩٥١ تعويم أسعار الصرف، أو البحث الذي نُشر سنة ١٩٥٠ بقلم أرمين آلتشين — الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس — التي قال فيها إن النشطاء الاقتصاديين الحمقى ستجتثُّهم عملية داروينية. كان الرأي أن المتعاملين اللاعقلانيين سيخسرون المال ويختفون من المشهد ليحل محلهم متعاملون عقلانيون. لكن هذا الزَّعم كان في الأساس مجرد فولكلور، فلم يكن هناك أحد قد قدَّم قط تفسيرًا علميًّا — ناهيك عن دليل — للكيفية التي يُفترض أن تعمل بها المراجحة على نطاق سوق بأكملها. كانت حجة المراجحة اقتصاد حاخامات أيضًا.

كان هذا هو ما انطلق أندريه شلايفر للبرهنة عليه. كان شلايفر قد وفد على الولايات المتحدة وهو في سن الخامسة عشرة سنة ١٩٧٦ فارًّا مع والديه من الاتحاد السوفييتي بمساعدة من الجمعية العبرية لمساعدة المهاجرين. انتهى الحال بآل شلايفر في قلب مدينة روتشستر بولاية نيويورك، وبعد ذلك بعامين عثر مستقطِب تابع لجامعة هارفرد كان يبحث عن طلاب من الأقليات على عبقري الرياضيات الروسي هذا وحثه على التقدم للالتحاق بالجامعة. قُبل شلايفر في جامعة هارفرد وتخصص في الرياضيات، لكنه سرعان ما صار متيمًا بالاقتصاد. ولا بد أن هذا العشق كان متفشيًا؛ حيث مضى اثنان آخران أيضًا من سكان جناحه بالسكن الجامعي في السنة الأولى للحصول على دكتوراه في الاقتصاد.

أيقن شلايفر خلال سنته الثانية أنه بحاجة إلى وظيفة صيفية في هذا المجال. سمع أن لاري سامرز — الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والحاصل على الدكتوراه حديثًا من جامعة هارفرد — يريد مساعدًا بحثيًّا؛ فذهب إلى المكتبة وصوَّر نسخًا من أبحاثه وقرأها قراءة متأنية، ثم توجه إلى مكتب سامرز الواقع في الناحية الأخرى من المدينة. يروي سامرز قائلًا: «اقتحم عليَّ مكتبي نوعًا ما. ربما يكون قد طرق الباب. قال لي: «تلك الأبحاث التي تتناول البطالة، إنها جيدة لكن هناك خمسة أخطاء».» عرض سامرز الوظيفة على شلايفر بعد أن سحرته التوليفة المألوفة من الوقاحة والذكاء، وكله بلكنة روسية واضحة.

التحق شلايفر بمدرسة الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الوقت الذي عاد فيه سامرز إلى جامعة هارفرد، لكن الأستاذ ظل معلمه الموجود في الناحية الأخرى من المدينة، وقد جنَّد شلايفر ليكون في صفه في المعركة على عقلانية السوق. كان سامرز قد جادل بأن «الحمقى» — أطلق عليهم فيشر بلاك اسمًا جديدًا هو «متعاملو الضوضاء» — غالبًا ما يجنون أرباحًا أكبر في السوق من المستثمرين العقلانيين، فحاول شلايفر وسامرز ومعهما براد ديلونج وروبرت والدمان — رفيقا جناح شلايفر في السنة الأولى بالجامعة — تفسير كيف يمكن أن يكون هذا الغُبن الظاهر ممكنًا.

بدأ الرباعي بافتراض أن أهم سمة من سمات متعاملي الضوضاء هي الثقة المفرطة، بمعنى أنهم أكثر ثقة في أحكامهم الاجتهادية دون أي وجه حق. كانت هذه الأنواع الواثقة أكثر مما ينبغي في أنفسها تتداول كثيرًا، وأحدثوا خلال هذه العملية تأرجحات سوقية أكبر مما هو عقلاني. انطلاقًا من هذه البدايات، كان من الممكن التوصل إلى تفسيرات معقولة (لكن ليست بمنعة من التفنيد) لنتائج روبرت شيلر بشأن تقلب السوق الزائد، من بين أشياء أخرى. نُشر أول بحث يتناول متعاملي الضوضاء في توقيت رائع كورقة عمل للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في أكتوبر ١٩٨٧، وهو الشهر الذي شهد انهيار سوق الأسهم. تلا ذلك مزيد من الأبحاث التي فرَّقها المؤلفون الأربعة عمدًا على كبرى مجلات المالية والاقتصاد.

صارت القدرة على نشر مقالات كهذه أيسر كثيرًا بعد سنة ١٩٨٧، وأحد الأسباب الواضحة وراء ذلك كان انهيار سوق الأسهم، كما كان هناك سبب آخر هو تعيين رينيه ستولتز — الأستاذ بجامعة ولاية أوهايو — مديرًا لتحرير دورية «جورنال أوف فاينانس» في ذلك العام. لم يكن ستولتز — سويسري المولد وخريج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — مروجًا للأفكار غير التقليدية في عمله، لكن سنواته الاثنتي عشرة التي قضاها مسئولًا عن دورية «جورنال أوف فاينانس» اتَّسمت بسياسة تحريرية أكثر انفتاحًا على نحو دراماتيكي بمقارنته بسلفه، فلم يعد الأمر يتطلب تدخلًا خاصًّا من فيشر بلاك كي يجد بحثٌ يذكر علم النفس أو يشكك في كفاءة السوق طريقَه إلى صفحات المجلة حاملًا راية هذا العلم.

بالنسبة لأستاذ كبير كان يصوت على ما إذا كان ينبغي تثبيت زميل شاب في وظيفته أم لا، كانت مقالةٌ في دورية «جورنال أوف فاينانس» هي مقالةً في دورية «جورنال أوف فاينانس»، حتى وإن كان المرء يختلف معها. قال شلايفر عن ستولتز: «إنه البطل الكبير. إنه الشخص الذي أخرج هذا الحقل من الغابة. كل ما قاله: «هذا حسن، سوف ننشر هذه المقالات»، وبدأت المجلات الأخرى تحذو حذوه.» وقد كان هذا مفيدًا لشلايفر بالتأكيد. ففي سنة ١٩٩٠، وبعد تخرجه من الدراسات العليا بأربع سنوات فحسب، كان قد نشر بالفعل أربع مقالات في دورية «جورنال أوف فاينانس»، وخمسًا في دورية «جورنال أوف بوليتيكال إيكونومي»، وعشرين في مجلات أخرى مرموقة، وكان في عمر التاسعة والعشرين مثبَّتا في وظيفة أستاذ للمالية في كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو. بذلك تلقى جيل من الأكاديميين الأصغر سنًّا إشارة واضحة مفادها أنه لن يضير مستقبلهم المهني انتقادهم السوق الكفء أشد الانتقاد.

•••

كان متعامل الضوضاء هو السيدة سوق التي قال بها بنجامين جراهام؛ فهي في بعض الأحيان مستعدة لدفع أكثر مما ينبغي ثمنًا لشركة ما، وأحيانًا أقل مما ينبغي. كان معظم مَن في المالية الأكاديمية ما زالوا مقتنعين بأن مراجحي العالم (مَن هم على شاكلة بنجامين جراهام) يدفعون الأسعار بسرعة لإعادتها إلى موضعها. لم يكن شلايفر مقتنعًا، لكنه رغم ذلك كان يحتاج إلى تفسير أكاديمي لما كان يجعل المراجحة «لا» تفلح دائمًا. كان سامرز قد انسحب بحلول هذه المرحلة؛ حيث انتقل إلى واشنطن سنة ١٩٩٠ ليكون كبير اقتصاديين بالبنك الدولي، ثم ظل هناك شاغلًا عددًا متعاقبًا من الوظائف متزايدة الأهمية (بما فيها أرقاها التي شغلها في نهاية المطاف) في وزارة الخزانة في إدارة كلينتون. وعاد شلايفر إلى جامعة هارفرد تلك السنة ذاتها. وفي حين أنه سرعان ما رسَّخ مكانته كمعلم لسلسلة متصلة من طلاب الدراسات العليا الشباب اللامعين، فإنهم لم يكونوا جاهزين للبدء في مشاركته في تأليف أبحاث؛ لذا عمل مع المتشككين في كفاءة السوق القدامى من أمثال ريتشارد تالر وجوزيف لاكونيشوك، ومع معاصره روبرت فيشني.

كان شلايفر وفيشني قد التحقا بالدراسات العليا معًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم درَّسا المالية معًا في كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو. وقد جمعتهما علاقة طيبة بفاما، لكن ثارت مشاجرات بينهما وبين ميرتون ميلر. يقول شلايفر: «كان يظن أن من يؤمنون بالمالية السلوكية شيوعيون.» والحقيقة أن كلًّا من شلايفر وفيشني كانا مؤمنين بالأسواق الحرة وبفكرة «الرجل الاقتصادي» العقلاني الجشع. كان بحثهما الأول معًا عبارة عن نظرة على الآثار المفيدة لعمليات الشراء بأموال مقترضة، التي ربما نشأت عن لوحة مفاتيح كمبيوتر مايكل جنسن. كان كلاهما يعتقد أن الأسواق المالية تُحسن تصويب الأسعار، وكل ما هنالك أنهما لم يكونا يريان أن السوق تقوم بمهمتها على «الوجه الأكمل».

تعاون الثنائي مع لاكونيشوك وتالر لتمحيص ممارسة «تجميل الميزانية» من قبل مديري الأموال. بدراستهم بيانات مستمدة من ٧٦٩ صندوقًا تقاعديًّا، وثَّقوا أن المديرين يبيعون الأسهم ضعيفة الأداء قرب نهاية كل فصل، ولا سيما في نهاية السنة، وكانت تلك أرجح الأوقات التي تدقق فيها المؤسسات صاحبة الصناديق محافظ صناديقها، وعلى ما يبدو أن المديرين لم يكونوا يريدون أن يُسألوا كثيرًا من الأسئلة المحرجة عن الأسهم غير الرائجة.7 كان ذلك مثالًا واضحًا على إقدام مديري الأموال على أفعال — في محاولة عقلانية بالكلية منهم للاحتفاظ بوظائفهم — لن يفعلها المستثمر العقلاني الافتراضي.
نُشر ذلك سنة ١٩٩١، وبعد ثلاث سنوات، صار لاكونيشوك وشلايفر وفيشني أنفسهم مديري أموال محترفين؛ حيث دشَّنوا شركة استثمرت في أسهم القيمة سموها إل إس في أسيت ماندجمينت. كانت الشركة — التي نمت بحلول سنة ٢٠٠٨ لتصبح مدير الأموال رقم ١٥٨ من حيث الحجم على وجه الأرض، في وجود ٧٣ مليار دولار تحت إدارتها — تبيع وتشتري بأسلوب كمي منضبط يحاول استغلال السلوكيات الشاذة مثل تجميل الميزانية.8 في هذه الأثناء، ظل شلايفر وفيشني مفتونين بالضغوط التي كانت تتسبَّب في هذا السلوك.
السمة المميِّزة للمستثمر المحترف الحديث هي أنه يدير أموال شخص آخر. يرى هذا المحترف أن معارضة توجهات السيدة السوق تعني غالبًا معارضة توجهات عملائه، فإذا راهن رهانًا معارضًا للتوجه السائد، ولم يؤتِ ثماره بسرعة، فربما يقع في مشكلة كبيرة. كان جون مينارد كينز قد كتب في ثلاثينيات القرن العشرين يقول: «المستثمر طويل الأجل — ذلك الذي يُعلي المصلحة العامة — هو الذي سيوجِّه إليه عمليًّا معظم النقد، مهما كانت الأموال الاستثمارية تدار بمعرفة لجان أو مجالس أو مصارف؛ لأنه ينبغي أن يكون — في صلب سلوكه — شاذًّا وغير تقليدي ومتهورًا في عيني الشخص العادي.»9 جادل كينز قائلًا إنه نتيجة لذلك، فإن الاعتقادَ أن مثل هؤلاء المستثمرين طويلي الأمد سيحددون أسعار السوق بطريقة عقلانية محضُ خيال.

كان محترفو السوق على دراية بهذه الضغوط للسباحة مع التيار. كانت هيكلية صندوق التحوط الاعتيادية — التي يوافق فيها المستثمرون على حبس أموالهم لسنة وأحيانًا أطول من ذلك، ولا يحصلون إلا على تحديثات متقطعة حول محفظة الصندوق — محاولة لانتزاع النزر اليسير من حرية المناورة للمديرين. لكن أساتذة المالية — على الرغم من الاهتمام الذي أغدقوه على الحوافز والصراعات التي يواجهها مديرو الشركات — تجاهلوا طويلًا إمكانية أن مديري الأموال ربما تكتنفهم «مشكلات وكالة» مماثلة.

يبدو أن روبرت هاوجن — الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في إرفين الذي كان يعتبر نفسه من نسل بنجامين جراهام فكريًّا — كان أول من حاول التصدي لهذا الإغفال، وذلك في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. لكن هاوجن كان يُرى كغريب مشاكس، وقد طرح أفكاره في «كتاب».10 كان استرعاء اهتمام أساتذة المالية يتطلب مقالةً في دورية مثقلةً بالمعادلات لشلايفر وفيشني.
كانت المقالة بعنوان «حدود المراجحة»، ونشرت في عدد مارس ١٩٩٧ من دورية «جورنال أوف فاينانس». جادل شلايفر وفيشني بأنه عندما تكون السوق في ذروة جنونها، سيواجه من يحاولون إنهاء الجنون بوضع رهانات ضده أشد الصعوبة في الاحتفاظ بعملائهم أو اقتراض المال. وكتبا يقولان: «عندما تتطلَّب المراجحة رأس مال، يمكن أن يصبح المراجحون أكثر تقيدًا عندما يملكون أفضل الفرص؛ أي عندما يزداد الخطأ في التسعير الذي راهنوا عليه سوءًا. علاوة على ذلك فإن الخوف من هذا السيناريو سوف يجعلهم أكثر احتراسًا عندما ينفذون مداولاتهم الأولية، ومن ثمَّ أقل فعالية في جلب كفاءة السوق.»11

بذلك لم يعد ممكنًا أن نجزم مبتهجين بأن المراجحين أبقوا الأسعار متسقة مع المؤشرات الأساسية. كان يلزم أن يكون لدى أحد جواب ما على الشواغل التي أثارها شلايفر وفيشني، وهو ما لم يحدث. كانت نظريتهما مطبوعة بطابع جامعة شيكاجو قلبًا وقالبًا، فلم تعتمد على علم النفس ولا علم الاجتماع ولا أي علم آخر يخطر ببالك. كانت حالةً قوامُها افتراضُ أن مديري الأموال — مثلهم مثل مسئولي الشركات التنفيذيين أو الموظفين الحكوميين — مخلوقات اقتصادية عرضة لحوافز معقدة، ومعرفةُ إلام يُفضي ذلك.

اقترح شلايفر وفيشني أن حدود المراجحة تجعل الاستثمار في القيمة يُفلح. لم يكن معنى ذلك أن هناك أي شيء خطير على غير العادة في أسهم القيمة ذاتها — مثلما جادل فاما وفرنتش من قبل — بل معناه أن إلقاء مديري الأموال بأموال أكثر مما ينبغي في استثمارات لا تحظى بقبولٍ ينطوي على مخاطرة مهنية. فأسهم القيمة بطبيعتها لا تحظى بقبول. وبعد نشر البحث بسنة، فشل المراجحون في لونج تيرم كابيتال ماندجمينت فشلًا ذريعًا. ونُسب إلى شلايفر وفيشني كثير من الفضل في «التنبؤ» بنهاية لونج تيرم كابيتال ماندجمينت، لكن انهيار صندوق التحوط لم يكن في الحقيقة ما كان ببالهما. كان ما جاء بعده — في السنوات الجنونية الأخيرة من انتعاش سوق الأسهم في تسعينيات القرن العشرين — هو الذي برهن بحق على حدود المراجحة.

•••

بفضل التدخل السريع من الاحتياطي الفيدرالي، تعافت أسواق الأسهم الأمريكية سريعًا من انهيار سنة ١٩٨٧. وفي غضون سنة، كانت المؤشرات الرئيسية قد عادت إلى مستوياتها فيما قبل الانهيار، وواصلت الصعود من هناك. كانت السنوات الكارثية بعد سنة ١٩٢٩ قد علمت أجيالًا عديدة من الأمريكيين تجنب الأسهم. وعلى النقيض من ذلك، تمخَّضت التجربة بعد سنة ١٩٨٧ عن شعار جديد مربح: اشترِ في أعقاب التراجع. انخفضت السوق سنة ١٩٩٠ فيما عصف ركود بأرباح الشركات، لكنها لم تشهد سنة انخفاض أخرى حتى سنة ٢٠٠٠. كانت تلك أعظم فترة مستدامة من الأداء القوي على الإطلاق.

كانت هناك قوى اقتصادية حقيقية وراء هذا الانتعاش في سوق الأسهم؛ فالشركات المتداولة أسهمها في البورصات الأمريكية خرجت من ركود ١٩٩٠-١٩٩١ اقتصاديةً وتنافسيةً. ما تلا ذلك كان سنوات عديدة مما صار يسمى «الاقتصاد المعتدل»، فلا هو بارد أكثر مما ينبغي ولا ساخن أكثر مما ينبغي. كان الناتج المحلي الإجمالي ينمو بسرعة كافية للإبقاء على ارتفاع أرباح الشركات، لكن ليس سريعًا جدًّا على نحو يشكل معها التضخم (ومن ثَمَّ إجراءات الاحتياطي الفيدرالي الصارمة لوقفه) تهديدًا. بل وأفسحت الفترة المعتدلة المجال لفترة أروع بلغ فيها النمو مستويات افترض اقتصاديون كثيرون أنها ستثير تضخمًا أعلى، لكن هذا — لسبب ما — لم يحدث.

تلك كانت وصفة قائمة على المؤشرات الأساسية لارتفاع أسعار الأسهم، لكنها ترافقت مع (وكان صعبًا أن تنفصل عن) تغير دراماتيكي في المواقف الجماهيرية تجاه سوق الأسهم أظهره بوضوح الإيمان بالشراء في أعقاب الانخفاض. كانت كتب البيانات السنوية والمخططات التاريخية التي أصدرها روجر إبتسون عاملًا في تحوُّل المواقف، وكذلك كان كتاب شهير نُشر سنة ١٩٩٤ لجيريمي سيجل — أستاذ المالية بكلية وارتون — بعنوان «أسهم للمدى الطويل».

كان كتاب سيجل حلقة أخرى في السلسلة الطويلة من المقارنات بين الأسهم والسندات التي استهلَّها إدجار لورانس سميث سنة ١٩٢٤ وواصلها مؤخرًا إبتسون وسنكوافيلد. كان الاختلاف الجديد الرئيسي أن سيجل مدَّد بياناته إلى الوراء وصولًا إلى سنة ١٩٨٢، كما أنه لم يتجاهل المقارنات المزعجة بسميث، وبإرفينج فيشر. وقد أعطى فيشر — وتحديدًا إعلانه في أكتوبر ١٩٢٩ أن «أسعار الأسهم بلغت ما يبدو لي أنه هضبة مستقرة الارتفاع» — مكانًا بارزًا في سرده؛ حيث كتب يقول: «لقد برر الزمن في نهاية المطاف مستويات الأسهم سنة ١٩٢٩، لكن الإطار الزمني كان أطول كثيرًا مما كان يعتقد فيشر، أو أي شخص آخر في هذا الصدد.»12
كان الكتاب مليئًا بالأحكام الصائبة الصريحة جدًّا، وقد بذل سيجل جهدًا إضافيًّا ليقول ويكرر إنه عندما يقول المدى الطويل فهو يعني حقًّا «المدى الطويل». لكن فيما أصبحت طريقته في الحديث الصريح مادة أساسية للقنوات الإخبارية المالية والمؤتمرات الاستثمارية وجلسات سماسرة الأسهم التدريبية، فقدت الفوارق الدقيقة التي تميِّزها، ومع ذلك كانت الرسالة الأساسية هي أن امتلاك الأسهم فكرة طيبة. صار سيجل «الأب الفكري لسوق تسعينيات القرن العشرين المتجهة إلى الصعود» على حد تعبير أحد الصحفيين.13

بدأ أحد أصدقاء سيجل المقربين — وهو روبرت شيلر — ينتابه القلق في منتصف تسعينيات القرن العشرين من خروج هذه السوق المتجهة إلى الصعود عن السيطرة. كان سيجل وشيلر قد تعرَّفا أحدهما إلى الآخر أثناء انتظارهما في الصف لإجراء الفحوصات الطبية لدى مجيئهما للالتحاق بالدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة ١٩٦٨. صار سيجل أستاذ مالية تقليديًّا في حدود المعقول — أول وظيفة شغلها بعد تخرجه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كانت في كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو — وفي حين أن شيلر امتهن تحدي الأفكار التقليدية، فقد ظلا قريبين.

بعد انهيار سنة ١٩٨٧، ابتعد شيلر عن سوق الأسهم للتركيز على العقارات في المقام الأول. كان كارل كيس — أستاذ الاقتصاد بكلية ويلزلي — قد استعان به في محاولة لاكتشاف ما إذا كان هناك تقلب زائد في أسعار المنازل؛ أي ما إذا كانت العقارات أيضًا عرضة للفقاعات أم لا. فاكتشفا أن هناك مشكلات كبيرة في البيانات المتاحة آنذاك حول أسعار العقارات، وبدآ تجميع سلاسل بيانات خاصة بهما، ونمت هذه السلاسل لتصبح مشروعًا ناجحًا حتى أصبحت مؤشرات كيس-شيلر الآن مؤشرات أسعار المنازل الأكثر مراقبة في الولايات المتحدة.

لكن بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، كانت أسعار الأسهم قد ارتفعت ارتفاعًا مذهلًا لدرجة أن شيلر لم يستطع تجاهلها. تولى تحديث بحث يعود إلى سنة ١٩٨٨ كتبه هو وتلميذه السابق جون كامبل يثبت أن نسب «السعر إلى الأرباح» المرتفعة عادة ما تنذر بفترات من العوائد المنخفضة. وبحلول يوليو ١٩٩٦، كانت نسب «السعر إلى الأرباح» مرتفعة جدًّا حتى كان من المرجح — وفقًا لنموذج شيلر-كامبل — أن «تنخفض السوق على مدى السنوات العشر التالية وتحقق عائدًا إجماليًّا يقارب الصفر.»14 في مطلع ديسمبر، ومع ارتفاع السوق ٢٠ في المائة أخرى منذ يوليو فقط، سافر شيلر وكامبل — الأستاذ بجامعة هارفرد — إلى واشنطن لإطلاع مجلس الاحتياطي الفيدرالي على شواغلهما. واصل شيلر على الغداء فيما بعد مناقشة مخاوفه مع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي آلان جرينسبان.

بعد ذلك بثلاثة أيام — وفي خطاب سيصبح شهيرًا — تساءل جرينسبان: «كيف نعرف عندما تكون الوفرة اللاعقلانية قد رفعت قيم الأصول بإفراط؟» لم يكن شيلر قد استخدم هذه العبارة في عرضه التقديمي، وكتب جرينسبان فيما بعد قائلًا إنه كان يخطط لهذا الخطاب منذ أشهر وخطرت بباله عبارته المميِّزة وهو في حوض الاستحمام. وعلى الرغم من ذلك فقد دخلت مصادفة زيارة الأستاذ وتحذير رئيس الاحتياطي الفيدرالي الكئيب ميثولوجيا سوق الأسهم.

احتلَّت كلمتا «الوفرة اللاعقلانية» — مجردتين من علامة الاستفهام — عناوين الأخبار في كل أنحاء العالم. فقدت الأسواق وعيها فيما انتاب المضاربين القلق من احتمال أن يكون جرينسبان على وشك اتخاذ إجراءات صارمة برفع أسعار الفائدة. في مارس ١٩٩٧، وبعد أن تعافت أسعار الأسهم وزيادة، جرَّب الاحتياطي الفيدرالي رفعًا صغيرًا جدًّا للأسعار. انخفضت السوق لبرهة، ثم عادت إلى الارتفاع، وقرَّر جرينسبان أنه فرغ من محاولة ترويضها؛ حيث كتب في مذكراته يقول: «في الواقع، كان المستثمرون يلقِّنون الاحتياطي الفيدرالي درسًا. أنت لا تستطيع القول متى تكون سوقٌ ما مقدَّرةً بأعلى من قيمتها، ولا تستطيع محاربة قوى السوق.»15

استمدَّ جرينسبان فلسفته الاقتصادية من مجموعة متنوعة من المصادر، وكان آخرَ ثمرة بارزة من ثمار مدرسة بحوث دورة الأعمال التي أسَّسها ويسلي ميتشل — كان مشرفه الأولي على الدكتوراه آرثر بيرنز، تلميذ ميتشل — وكان يشترك مع ميتشل وبيرنز في تعاطف يكاد يكون حسيًّا مع الإحصاء الاقتصادي ودورات الأعمال. كان من أتباع الروائية والفيلسوفة التحررية آين راند، وكان يشاطرها الارتياب في الحكومات التطفُّلية. كانت أفكاره بخصوص السياسة النقدية تدين بشيء كثير لإرفينج فيشر. وقد صار خبيرًا في استشعار رياح واشنطن السياسية منذ الفترة التي قضاها في منتصف سبعينيات القرن العشرين كرئيس لمجلس المستشارين الاقتصاديين لجيرالد فورد.

ضع كل ذلك معًا، وسيكون ما خرج في أواخر تسعينيات القرن العشرين أبرز أنصار فكرة أن الأسواق المالية تصوِّب الأمور في العالم. كان جرينسبان مستعدًّا لقبول إمكانية حدوث فقاعات سوق الأسهم، لكنه كان يرى أيضًا أن تخفيف القيود التنظيمية والعولمة والابتكار التكنولوجي تُحدِث جميعها في الإنتاجية الاقتصادية تحسينات ربما تكتشفها السوق قبل أن يكتشفها اقتصاديو الحكومة. بعد مداعبته الوجيزة لفكرة «الوفرة اللاعقلانية»، مضى جرينسبان ليستشهد بهذا الانتعاش المفترض في الإنتاجية في خطاباته وشهادته أمام الكونجرس. لم يكن الأمر تكرارًا لإرفينج فيشر تمامًا. فجرينسبان لم يقل قط صراحة إن أسعار الأسهم المرتفعة كانت مبررة، لكنه كان مماثلًا في أثره المهدِّئ. مع نمو الاقتصاد أكثر فأكثر، نُسبت إلى جرينسبان قوة وإحاطةُ علمٍ أكبر وأكبر في وسائل الإعلام المالية وفي وول ستريت. فإذا قال جرينسبان العظيم — كان الصحفي بوب وودوارد قد سماه المايسترو — إن السوق المتجهة إلى الصعود لها أساس في الواقع الاقتصادي، فلا بد أن يكون هذا صحيحًا.

كان ذلك صحيحًا — إلى حد ما — حيث أظهرت البيانات الاقتصادية فيما بعد وجود ازدهار مستدام في إنتاجية العمال (بمعنى أن العمال أنتجوا أكثر لكل ساعة عمل) بداية من سنة ١٩٩٥. في العقد التالي لتنبؤ شيلر سنة ١٩٩٦ بعوائد «تقارب الصفر» لسوق الأسهم، كانت العوائد الفعلية أقل بدرجة طفيفة من المتوسطات التاريخية لكنها قطعًا كانت إيجابية.16

•••

التنبؤ بالسوق صعب، وعادة ما يكون لفقاعات سوق الأسهم أساس في الواقع الاقتصادي، لكن ذلك لا يعني أنها ليست فقاعات ولا تسبب ضررًا عندما تنفجر، وهذا في الحقيقة هو كل ما كان شيلر يحاول قوله. في أغلب الأحيان، بدا أساتذة المالية التقليديون يبذلون كل جهد لئلا يفهموا معنى هذا. في سنة ١٩٩١، أتبع ريتشارد رول — الأستاذ ومدير الأموال الذي عضدت أبحاثه في ثمانينيات القرن العشرين ادِّعاء شيلر بأن الأسواق متقلبة على نحو مفرط — عرضًا تقديميًّا لشيلر حول تأرجحات السوق برد ما زال يستشهد به أشاوس السوق الكفء:
في الواقع، أتمنى لو كان بوب محقًّا بشأن عدم كفاءة الأسواق؛ لأنها لو كانت كفئًا، وكان بإمكاننا اكتشاف متى تكون السوق مقدَّرة بأعلى من قيمتها أو بأقل منها، يمكننا يقينًا أن نحقق لعملائنا في مجال إدارة الأموال أداءً أفضل كثيرًا مما كنا نحققه. أنا شخصيًّا حاولت أن أستثمر الأموال — أموال عملائي وأموالي — في كل حالة شاذة ووسيلة تنبؤ اخترعها الأكاديميون … ولم أربح حتى الآن نكلة واحدة من وراء أي من أوجه انعدام كفاءة السوق المفترضة هذه.17

كان اعترافًا مثيرًا للاهتمام من مدير أموال محترف، لكن شيلر لم يكن قد زعم أبدًا أنه قادر على التنبؤ بتحركات السوق بدقة تُربح المال (كان تنبؤه سنة ١٩٩٦ محملًا بما يكفي من التحذيرات لإغراق ناقلة عملاقة). تألَّفت مساعي شيلر السوقية من تحسين البيانات وإنشاء أوراق مالية جديدة يستطيع الناس باستخدامها التحوط من مخاطرهم. ومجرد أن أسعار السوق أحيانًا كانت تنحرف كثيرًا عن المؤشرات الأساسية لم يكن يعني أنه من السهل جني المال من وراء تلك المعرفة.

كان كليف أسنيس — أحد طلاب يوجين فاما ممن امتهنوا إدارة الأموال — واحدًا من مستثمرين كثيرين اكتشفوا هذا في أواخر تسعينيات القرن العشرين. كان أسنيس قد كتب أطروحة تحت إشراف فاما في موضوع زخم أسعار الأسهم، ثم مضى في طريقه ليعمل في إدارة الاستثمارات في جولدمان ساكس. ثم رحل عن جولدمان سنة ١٩٩٨ ليدشِّن لنفسه صندوق تحوط باسم إيه كيو آر كابيتال ماندجمينت، الذي كان بدرجة كبيرة جدًّا نموذجًا لمشروع كمي حديث، رابحًا مليارات النواكل من وراء عدد ضخم من الرهانات الصغيرة جدًّا على أوجه انعدام كفاءة السوق من قبيل الزخم ومفاجأة الأرباح. لكن لُب نهج أسنيس كان الاستثمار في القيمة، وهو الذي لم يكن مفلحًا في سنتي ١٩٩٨ و١٩٩٩. كان أسنيس يشكو إلى زوجته ذات يوم الجهد المضني الذي يبذله عندما قاطعته قائلة: «دعني أفهم هذا بوضوح. كنت أظن أنك قلت إنك تجني المال لأن الناس ليسوا عقلانيين تمامًا. وأنت الآن غاضب لأنهم «مفرطو» اللاعقلانية؟»18

كان هذا مأزقًا واجهه كثيرون من المستثمرين العقلانيين خلال السنوات الأخيرة من السوق المتجهة إلى الصعود في نهاية الألفية. كانوا واثقين أن الأسعار خاطئة. يقول مدير الأموال جيرمي جرانثام الذي دأب بداية من سنة ١٩٩٨ إلى سنة ٢٠٠١ على سؤال محترفي الاستثمار في كل مؤتمر يحضره عما إذا كانوا يظنون أن نسبة السعر إلى الربح لستاندرد آند بورز ٥٠٠ — التي كانت في أواخر العشرينات سنة ١٩٩٩ — سرعان ما ستنخفض دون ١٧٫٥: «كان الجميع يعلمون أن هناك فقاعة.» فمن أصل ألف وسبعمائة مدير استثمارات استُطلعت آراؤهم، قالوا كلهم عدا سبعة: نعم. لكن المراهنة بأموال فعلية على مثل هذا الانخفاض كان يمكن أن يكون تحركًا قاتلًا من الناحية المهنية. وهناك قول مأثور ينسب غالبًا إلى جون مينارد كينز، وهو ربما لم يتفوه به قط، يقول: «يمكن أن تبقى السوق لا عقلانية لفترة أطول مما يمكن أن تبقى أنت موسرًا.»

فقد طابور طويل من المستثمرين في القيمة وظائفهم أو على الأقل نسبة كبيرة من عملائهم في السنتين الأخيرتين من تسعينيات القرن العشرين أو الأشهر القليلة الأولى من سنة ٢٠٠٠. كان أشهر ضحية هو جوليان روبرتسون — وهو مدير صندوق تحوط موافق لنموذج ألفريد ونسلو جونز أوقف نشاطه في مارس ٢٠٠٠ — قبيل انعطاف السوق مباشرة. خسر جيرمي جرانثام ٤٥ في المائة من أصوله التي تحت الإدارة. حتى بيركشاير هاثاواي المملوكة لوارين بافيت خسرت نحو ٥٠ في المائة من قيمتها السوقية بين منتصف سنة ١٩٩٨ ومارس ٢٠٠٠، لكن بافيت كان فريدًا من نوعه بترتيبه عمله بحيث لا يهم ما حدث. كان يملك كل النقدية التي يحتاج إليها بغض النظر عما إذا كان المستثمرون تروقهم استراتيجيته أم لا. أخذت بداية أسنيس المتأخرة ونهجه الكمي — الذي حال دون إقدامه على مراهنات كبيرة على سهم أو آخر — بيده خلال السنوات الجنونية، وقد انتقد هذا الجنون كتابةً في مقالة بعنوان «منطق الفقاعة: أو كيف تتعلم الكفَّ عن القلق وتحب الاتجاه إلى الصعود» تناقلها أساتذة المالية والمستثمرون في القيمة سنة ٢٠٠٠.19

كان يمكن — على الأقل بدرجة واهية — تبرير التقييمات السعرية البالغة مليارات الدولارات التي أُعطيت لشركات الإنترنت المبتدئة الخاسرة كمراهنات يانصيب. فكما قال فاما، لو انتهى الحال بواحدة فقط من شركات الدوت كوم لتكون في مثل قيمة مايكروسوفت، فإن أسعارها جميعًا ستكون مبررة. لكن مثل هذا التفكير لم ينطبق على مايكروسوفت والشركات الأخرى ذات الأقدام الراسخة بالفعل التي تحقق ربحًا من الطفرة التقنية. ركز أسنيس اهتمامه التحليلي على الشركة الأحب إليه من كل ما عداها، وهي سيسكو سيستمز، صانعة المجارف والمعاول التي استُخدمت في «هجمة الذهب» الإنترنتي. كانت سيسكو قد نمت على نحو مدهش على مدى سنوات وجودها الست عشرة. وفي مارس ٢٠٠٠، انتزعت من مايكروسوفت تاج الشركة الأعلى قيمة على وجه الأرض، برسملة سوقية مقدارها ٥٣١ مليار دولار.

قبل ذلك بستة عقود، أوصى جون بير وليامز المستثمرين باستخدام معادلاته لاستنتاج «معدل النمو المعين، ومدة النمو المعينة … المضمنَّين في سعر السوق الفعلي؛ ليروا بهذه الطريقة ما إذا كان السعر السائد معقولًا أم لا. وهكذا تصبح المعادلات معيار الحكم على اللامعقول.»20 فعل أسنيس ذلك بالضبط، واكتشف أن سعر سهم سيسكو يعني ضمنًا نموًّا في الأرباح السنوية بنسبة ٥٤ في المائة في السنة على مدى السنوات الخمس التالية. على أقل تقدير، سيكون ذلك كافيًا لإرضاء المستثمرين القانعين بعائد سنوي بنسبة ٩ في المائة على استثمارهم. كان مستثمرو سيسكو قد اعتادوا مكاسب في سعر السهم بنسبة ٢٠ في المائة أو ٣٠ في المائة سنويًّا، ناهيك عن أنه كان من التفاؤل الذي يبلغ حد السخف أن تظن أن سيسكو يمكن أن تنمِّي أرباحها بنسبة ٥٤ في المائة طوال السنوات الخمس التالية؛ نظرًا لأن النمو في أرباحها كانت نسبته بالفعل ٣٠ في المائة وآخذ في التباطؤ. كتب أسنيس يقول: «أرى أن الحجة المعارضة لسيسكو كاستثمار طويل الأمد قوية في حدود المعقول باعتبار أسعار اليوم، لكنها لا تداني في قوتها قوة الحجة المعارضة لمؤشر ناسداك ١٠٠ بأكمله. فناسداك ١٠٠ بأكمله يبدو أشبه كثيرًا بنسخة أقل تطرفًا بقليل من سيسكو، وفي حين أن هذا التحليل يمكن يقينًا أن يكون خاطئًا بالنسبة لشركة ما … يصبح أقل معقولية بكثير أن نفترض هذا النوع من النمو طويل الأجل لمؤشر بأكمله يضم ١٠٠ شركة كبيرة.»21

كان ذلك التفاؤل من الأشياء الغريبة في أوائل سنة ٢٠٠٠، وكان من هذه الأشياء الغريبة أيضًا حالة ثري كوم وبالم. فثري كوم كانت دائمًا صاحبة المركز الثاني بعد سيسكو في تجهيزات الشبكات. وكانت بالم شركة تابعة مملوكة بالكامل تتصدَّر السوق في المجال الجديد للحواسيب المحمولة. كان سهم بالم نشطًا، أما سهم ثري كوم فلم يكن نشطًا جدًّا. في مارس ٢٠٠٠، طرحت ثري كوم أسهم بالم للجمهور، بائعة ٥ في المائة من حصتها في السوق ومعلنة عن خطط لتوزيع بقية أسهم بالم على مساهمي ثري كوم، بنسبة تزيد قليلًا عن ١٫٥ سهم من أسهم بالم لكل سهم من أسهم ثري كوم، قبل نهاية السنة. وهكذا مثلت أسهم ثري كوم ملكية بنسبة ٩٥ في المائة من بالم بالإضافة إلى ملكية تامة لمشروعات ثري كوم الأخرى، التي كانت أقل شهرة من بالم لكن أكثر منها ربحًا. كان ينبغي أن تتداول أسهمها بسعر أعلى تمامًا من ١٫٥ مرة سعر سهم بالم. بدلًا من ذلك، كانت تباع بأقل من سعر سهم بالم.

يروي إريك بنهامو — رئيس ثري كوم التنفيذي — قائلًا: «استغرق التصحيح خمسة أشهر. كنت من العليمين ببواطن الأمور؛ لذا لم أستطع تحقيق الاستفادة لنفسي، لكن كان من السهل جني مليارات الدولارات باستغلال عدم كفاءة السوق.» جادل أساتذة المالية ذوو الميول إلى السوق العقلانية بأنه يصعب فعلًا على المراجحين أن يبيعوا بالم على المكشوف ويشتروا ثري كوم؛ لأن المتاح من أسهم بالم كان قليلًا جدًّا. لكن ذلك بالضبط كان هو المقصود. في الأسواق الحقيقة، كانت هناك حدود للمراجحة سمحت لمتعاملي الضوضاء مفرطي النشاط بدفع الأسعار إلى مستويات لا عقلانية والبقاء هناك لبرهة.22

كانت لدى أسنيس أدلة على أن متعاملي الضوضاء مفرطي النشاط هم أيضًا الذين يدفعون سعر سهم سيسكو باتجاه الصعود. وذات مرة دخل منتدى إنترنت مكرس للحديث عن سهم سيسكو وسأل: «بأي سعر يا رجال ستقولون إن سهم سيسكو مقدَّر بأعلى من قيمته؟» فردَّ أحد المتحمسين: «لو انخفض ٤٠ في المائة فسوف أرحل من هنا.»

•••

حدث في مارس ٢٠٠٠ أن بلغ سعر سهم سيسكو والسوق بوجه عام ذروتهما. في ذلك الشهر، حصَّن جيرمي سيجل نفسه من المقارنات المستقبلية بإرفينج فيشر بافتتاحية في صحيفة «وول ستريت جورنال» مجادلًا بأن أسهم التكنولوجيا الكبيرة صارت من الغلو لدرجة أنها «رهان لا تستحق عائداته المجازفة».23 وقد تفوق عليه من هو بمنزلة روجر بابسون في انتعاش تسعينيات القرن العشرين، وأعني بوب شيلر صديق سيجل. فذلك الشهر نفسه شهد نشر الكتاب الذي ظل سيجل سنوات يحثه على تأليفه وهو «الوفرة اللاعقلانية»، الذي يعدُّ دليلًا للقراء العاديين لفهم ولع السوق بالحماس المفرط.

كانت هاتان حالتين تمثِّلان التوقيت الاستثنائي وافر الحظ. الشيء الذي لم يكن حسن التوقيت كثيرًا هو كتاب «داو ٣٦٠٠٠» الذي صدر سنة ١٩٩٩ للاقتصادي كيفن هاسيت والصحفي جيمس جلاسمان، والذي سينحدر مع «الهضبة مستقرة الارتفاع» التي قال بها فيشر في سجلات التنبُّؤات السوقية الخاطئة خطأً محرجًا. ليس بمستغرب أن تناول هاسيت وجلاسمان الموضوع من زاوية المالية العقلانية؛ حيث جادلا بأن أسعار الأسهم ظلت تشهد ارتفاعًا لأن علاوة مخاطر الأسهم ظلت تتقلَّص فيما أدرك المستثمرون أن الأسهم ليست شديدة المخاطر بمقارنتها بالسندات. وسوف تظل تتقلَّص حتى لا تكون هناك علاوة على الإطلاق مع وجود مؤشر داو جونز الصناعي عند هضبة مستقرة الارتفاع عند ٣٦٠٠٠ نقطة.

لم تجرِ الأمور على ذلك النحو تمامًا، لكن المجادلة بأن علاوة مخاطر الأسهم تقلصت استرعت اهتمام أكاديميين أكثر رزانة أيضًا. بالنسبة لمن هم ما زالوا يؤمنون بالسوق العقلانية، كانت طريقة لتفسير أسعار الأسهم المرتفعة في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وهي طريقة مستساغة بدرجة أكبر من حكايات شيلر عن الموضة والإسراف بين المستثمرين أو حدود المراجحة عند شلايفر وفيشني. يقول يوجين فاما: «رأيي أن علاوة المخاطر انخفضت على مر الوقت لأننا أساسًا أقنعنا الناس بأنها موجودة.» كانت عوائد الأسهم ستنخفض كلما مضينا قُدمًا، لكن العالَم لم يكن فقد صوابه بالضرورة.

لكن لو كان يمكن أن تتغير علاوة مخاطر الأسهم بمرور الوقت، فلن يعود لكثير من أدوات المالية الكمية المقبولة منذ زمن طويل فائدة كبيرة. بدت تنبؤات إبتسون المستندة إلى التاريخ بعوائد الأسهم المستقبلية وتكلفة رأس المال — على سبيل المثال — آنذاك مبنية على رمال متحركة. آثر إبتسون نفسه أن يفترض أن تغيرًا حدث ذات يوم في علاوة المخاطر لكنه سيكون ثابتًا، بل وأقلَّ، كلما مضينا قدمًا. أخذ إبتسون العائد السنوي البالغ ١٠ في المائة على الأسهم منذ سنة ١٩٢٥، وأزال ما صاحب هذا العائد من مضاعَفة ثلاثية لنسبة الأرباح إلى السعر الخاصة بالسوق. قال: «نعتبر ذلك كسبًا مفاجئًا لن تحصل عليه مرة أخرى.» ظلت أرباح الأسهم ونمو الأرباح والتضخم بمنزلة محركات عوائد الأسهم. أصدر إبتسون تنبُّؤًا بالتضخم المستقبلي مستخدمًا عوائد السندات الحالية، وافترض أن تاريخي أرباح الأسهم ونمو الأرباح سيعيدان نفسيهما، وأنشأ علاوة مخاطر أسهم جديدة من تلك العناصر.24

في حين أن علاوة مخاطر أسهم إبتسون وسنكوافيلد كانت قائمة على فلسفة السوق العليمة، كانت هذه العلاوة الجديدة قائمة على النوع ذاته من تخمين الأرباح الذي اعتمد عليه المستثمرون قبل أن يسمع أي شخص على الإطلاق بفرضية كفاءة السوق. كانت مجرد تنبؤ آخر بوول ستريت، وهو تنبؤ عرضة للتفنيد من أي شخص لديه آراء مختلفة بشأن المستقبل. كانت قوى السوق الكفء السائدة قد أثبتت أنها أكثر تقلبًا من أن يعوَّل عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤