الفصل السادس عشر

جين فاما وديك تالر يهزم كلٌّ منهما الآخر بالضربة القاضية

إلام انتهى الجدال حول عقلانية السوق؟ إلى شيء فوق التعادل ودون النصر المدوِّي.

***

يؤدي طلاب ما سُمِّيت منذ سنة ٢٠٠٨ كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاجو — مثلهم مثل نظرائهم في معظم الكليات الأبرز في مجال الأعمال والقانون في البلاد — كل سنة مسرحية موسيقية ساخرة تتناول الأحداث الجارية تسمى «حماقات».

من بين الفصول التي تضمنها استعراض كلية إدارة الأعمال بشيكاجو لسنة ٢٠٠٢ مباراة ملاكمة موسيقية صورية تضمَّنت طالبين يؤديان دوري الأستاذين جين فاما وديك تالر. غنَّى الطالب الذي جسَّد شخصية فاما — والذي عكف على رفع الأثقال لأسابيع كي يكون أقرب شبهًا إلى الأستاذ ذي البنية الرياضية — أغنية «كفاءة» على أنغام أغنية «تقاليد» المقتبسة من مسرحية «عازف كمان على السطح». (ومن ذا الذي له الحق، بصفته أبا الأسواق/أن يكون له القول الفصل في المخاطر؟/جين فاما، جين فاما! كفاءة!/جين فاما، جين فاما! كفاءة!)

أدى نظيره ذو البنية الأضعف على نحو ملحوظ — والذي جسد شخصية تالر — نسخة ذات طابع مالي من أغنية «إحساس حلو» لفرقة إيروسميث. (المستثمرون ليسوا نشطاء عقلانيين بسطاء/لا تستطيع تفسير ثلاثة عوامل بخيالك!/خبر سيئ، عندما تكون الأسواق ممتازة/سأربح بعض المال، لا يمكنك وصفي بالكاذب/إحساس حلو/إحساس حلو.)

بعد الفراغ من الغناء تمامًا، هزم أحدهما الآخر بالضربة القاضية، فأعلن مذيع الحلبة قائلًا: «نظرًا لعدم وجود فائز واضح هذه الليلة، يستمر الجدل.»1 نعم، حتى بعد تفريغ فقاعة سوق الأسهم في تسعينيات القرن العشرين، حتى في مواجهة كميات ضخمة من الأدلة الجديدة والنظريات حول جنون أسواق الأسهم، كان الطلاب في جامعة شيكاجو ما زالوا يرون الجدال حول عقلانية السوق مباراةً انتهت بالتعادل. من ناحية أخرى، على الأقل كانوا يعرفون أن هناك جدالًا، وكان يمكنهم تلقي دروس على أيدي ديك تالر.

•••

بحلول الوقت الذي انتقل فيه تالر من كورنيل إلى شيكاجو سنة ١٩٩٥، اشتُهر بين الاقتصاديين. كان من أهم أسباب شهرته العمود الدوري الذي كان يكتبه لدورية «جورنال أوف إيكونوميك بيرسبكتفز»، وهي مطبوعة دشنتها الجمعية الاقتصادية الأمريكية سنة ١٩٨٧ لإطلاع الاقتصاديين متزايدي التخصص على التطورات الجارية في ربوع علم الاقتصاد النائية. وكان جوزيف ستيجلتز واحدًا من المحررين المؤسسين للمطبوعة، وقال إن إعطاء تالر مساحة ممتازة من عدة صفحات كل عدد «محاولة لتوسيع آفاق المهنة». زد على ذلك أن تالر — حسبما أضاف ستيجلتز — يعرف كيف يكتب.

كانت أعمدة «حالات شاذة» التي كتبها تالر ممارسات بارعة في تعديل المعتقدات الراسخة تعديلًا مترفِّقًا. لماذا استمرت ظاهرة يناير في أسعار الأسهم؟ لماذا غالبًا ما نجد الفائزين في المزادات يبالغون في المزايدة؟ لماذا يؤْثر كثيرون جدًّا من الأمريكيين تقديم قروض لا تدر فائدة للحكومة (بسماحهم باقتطاع ضرائب أكثر من المستحق عليهم ثم استرداد مبالغ مسددة)؟ لم يزعم تالر قط أنه متأكد من أن الأجوبة لا يمكن العثور عليها داخل النموذج الفكري العقلاني القياسي لعلم الاقتصاد، لكن الأمثلة التي وصفها لم تساعد إلا على إثارة أسئلة مزعجة.

حتى مثل هذا التعديل المهذب كان أكثر مما ينبغي بالنسبة لميرتون ميلر، وقد حالت معارضة الأستاذ الفخري الشديدة دون انضمام تالر إلى هيئة تدريس المالية بجامعة شيكاجو. كان هناك آخرون في كلية إدارة الأعمال بشيكاجو يريدون انضمام تالر إليهم، فعُيِّن أستاذًا للعلوم السلوكية. لم يكن هناك ما يمنع أستاذًا للعلوم السلوكية من تدريس المالية والكتابة عنها، وهو ما واصل تالر فعله. بل إنه بدأ يمارس المالية؛ حيث أضاف سنة ١٩٩٨ اسمه إلى لافتة على باب شركة يديرها راسيل فولر، أستاذ المالية السابق في جامعة ولاية واشنطن. وقبل مضي وقت طويل، كانت شركة فولر آند تالر أسيت ماندجمينت تدير عدة مليارات من الدولارات وفقًا لاستراتيجيات قائمة على «الميزة السلوكية».

صار تالر — الذي لم يعد غير مسموع الصوت — أستاذًا ثريًّا محترمًا في الكلية التي كانت ما زالت تعتبر نفسها مقر الدراسة الحديثة للمالية. وفي سنة ٢٠٠٢، أضفت لجنة نوبل درجة أخرى من الشرعية؛ حيث منحت نصف جائزة نوبل في الاقتصاد لذلك العام لدانيال كانيمان، صديق تالر المقرب ومعلِّمه في علم النفس. (كان عاموس تفرسكي قد مات قبل ذلك بست سنوات، فذهب نصف الجائزة الآخر إلى رائد علم الاقتصاد التجريبي فيرنون سميث.)

استقبل تالر هذه الأحداث المهمة لا كانتصارات في ساحة قتال في خضم ثورة أكاديمية، بل كتهذيب حتمي لتجاوزات اقتصاد ومالية ما بعد الحرب العالمية الثانية. بل صوِّر في بعض الأحيان الأمر كعودة إلى إرفينج فيشر؛ ففي جلسة لتكريم فيشر في اجتماع سنة ١٩٩٧ للجمعية الاقتصادية الأمريكية، وصف تالر كيف أجرى جدُّ المالية الحديثة لقاءات مع الألمان في أوائل عشرينيات القرن العشرين للحصول على فكرة أدق عن طبيعة رد فعلهم تجاه زيادة التضخم، وضمَّن الموضة وضبط النفس كعاملين في تفكيره في قيمة الأرباح المستقبلية. قال تالر: «ساعد فيشر … على إدخال الرياضيات في علم الاقتصاد.» لكن أعماله التحريرية كانت مرصعة بما بدا أشبه كثيرًا بالأبحاث السلوكية والاستدلال العقلي. ثم قال شاكيًا: «تُدرَّس للاقتصاديين الشباب هذه المفاهيم الحديثة (المعادلات والرسوم البيانية وما إلى ذلك)، لكنهم قلما يرجعون ويقرءون النص المحيط. لقد حان الوقت لنكفَّ عن إهمال الكلمات، وحان الوقت لنبدأ تحديث معادلاتنا لتشمل هذه العوامل السلوكية.»2

•••

وفيما يتعلق بدراسة الأفراد والقرارات التي يتخذونها، كان هذا التحديث السلوكي للمعادلات نجاحًا خالصًا. فمعظم أساتذة الاقتصاد والمالية لم ينازعوا قط في أن الناس يُقدِمون أحيانًا على اختيارات غريبة. كانت القضية هي أن أساتذة المالية على وجه الخصوص لم يكونوا يدركون سبب أهمية ذلك. كانوا يدرسون الأسعار لا الناس.

كان كثير من أساتذة المالية هؤلاء أنفسهم يقدمون «المشورة» للمستثمرين على طول الخط، وكل ما هنالك أنهم لم يفكروا قط فيما إذا كان أحد سيتَّبعها أم لا. في سبعينيات القرن العشرين، عندما كان أغلب مَن هم على الطرف المتلقي مديري صناديق تقاعدية محترفين، ربما لم يكن غياب الاهتمام هذا بكيفية اتخاذ الأشخاص العاديين قراراتهم بشأن المال ذا شأن كبير. لكن بحلول تسعينيات القرن العشرين، كان الأفراد يتولَّوْنَ على نحو متزايد مسئولية مصائرهم المالية.

في الولايات المتحدة، جاء هذا التحول إلى حد كبير نتيجة قانون تأمين الدخل التقاعدي للموظفين لسنة ١٩٧٤ نفسه، الذي حوَّل كثيرًا من مديري الصناديق التقاعدية في البلاد إلى محللين كميين يسيرون على نهج هاري ماركويتز. كما أجبر هذا القانون أيضًا المسئولين التنفيذيين بالشركات على قبول التكلفة الهائلة لالتزاماتهم التقاعدية، فاستجاب هؤلاء المسئولون التنفيذيون بعقلانية، وذلك بتقليل تلك التكلفة إلى حدها الأدنى. نتيجة لذلك من الصعب أن تجد شركة تأسست بعد صدور قانون تأمين الدخل التقاعدي للموظفين لديها برنامج تقاعدي تقليدي؛ حيث حوَّلت الشركات الجديدة — وكثير من الشركات العريقة — المخاطر إلى البرامج التي يديرها العمال، وفي المقام الأول برنامج التقاعد ٤٠١(ك).

يشير هذا الاسم الصعب إلى قسم بقانون الضرائب رأى أحد استشاريي المزايا التقاعدية في ولاية بنسلفانيا أنه سيسمح لأصحاب العمل بإنشاء حسابات استثمارية مخفضة الضرائب لعمالها.3 ولبرنامج التقاعد ٤٠١(ك) مزاياه كوعاء للمدخرات التقاعدية؛ حيث يمكن بسهولة نقل الأموال التقاعدية من وظيفة إلى أخرى، وهو ما لا ينطبق على المعاشات. كما أنه أتاح مجموعة جديدة مدهشة من الفرص أمام القرارات المالية السيئة.
كتب الصحفي توماس فريدمان في كتابه الذائع «اللكزس وشجرة الزيتون» المنشور سنة ١٩٩٩، ويمثل استقصاءً للمشهد الاقتصادي المتعولم الذي تهيمن عليه السوق على نحو متزايد، يقول: «ربما لم يكن لدى أبويك إلا فكرة ضئيلة عن المكان الذي تُستثمر فيه أموالهم التقاعدية ولا كيف، أما الآن فكثير من العمال تُقدم لهم قائمة بالصناديق تشتمل على أنواع مختلفة من العوائد والمخاطر، وهم ينقِّلون أموالهم كفيشات على طاولة روليت، فيثيبون الصناديق الاستثمارية المشتركة الناجحة ويعاقبون التي هي دون ذلك.»4
جعل فريدمان هذا التغيير يبدو تمكينيًّا، وربما بدا هكذا للبعض. لكنه كاد يكون أغبى استراتيجية استثمار يمكن تصوُّرها. فالصناديق النشطة تميل إلى الفتور، والصناديق الفاترة تميل إلى التعافي. وجد تحليل للتدفقات الداخلة إلى الصناديق الاستثمارية المشتركة والخارجة منها أن المستثمرين في الصناديق الاستثمارية المشتركة في حقوق الملكية حققوا — بالدرجة الأولى عبر «إثابة الصناديق الاستثمارية المشتركة الناجحة ومعاقبة الأقل نجاحًا» — عائدًا سنويًّا متوسطًا بنسبة ٢٫٥٧ في المائة فقط بين عامي ١٩٨٤ و٢٠٠٢، في حين أن ستاندرد آند بورز حقق ١٢٫٢٢ في المائة سنويًّا. بل وأثناء السوق المتجهة إلى الصعود الكبرى في كل الأزمنة، لم تواكب حتى هذه الصناديق التضخم.5 ووجدت دراسة أخرى أن الأداء الاستثماري لبرامج التقاعد ٤٠١(ك) جاءت في مرتبة متأخرة عن الصناديق التقاعدية التي تدار باحترافية بنحو نقطتين مئويتين سنويًّا.6 قد لا يبدو هذا بالشيء الكثير، لكن جنِّب ١٠ آلاف دولار سنويًّا لمدة أربعين سنة واربح عليها ٦ في المائة سنويًّا، وستجد لديك في النهاية ١٫٥ مليون دولار. اطرح نقطتين مئويتين من ذلك العائد السنوي وسينخفض المبلغ بمقدار ٥٥٠ ألف دولار.

لم تترك المالية والاقتصاد الأكاديميان السائدان مجالًا لهذا النوع من السلوك العقيم. كانت نظرية الإمكانيات التي وضعها دانيال كانيمان وعاموس تفرسكي وما تلاها من فيض من أبحاث اقتصادية سلوكية تُعنى بهذا السلوك بالكلية. كانت ملاحقة الصناديق النشطة — على سبيل المثال — مثالًا نموذجيًّا على ما سماه السلوكيون مبدأ التمثيل الإرشادي؛ حيث كان المستثمرون يستخدمون عينة صغيرة من بيانات حديثة ليقيسوا — على نحو خاطئ غالبًا — قدرة أحد مديري الصناديق.

كان كانيمان وتفرسكي كلاهما قد انتقل إلى الولايات المتحدة في أوائل ثمانينيات القرن العشرين؛ حيث وصل كانيمان إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي، ووصل تفرسكي على الجانب الآخر من الخليج في ستانفورد. أدركت وسائل الإعلام أهمية عملهما قبل أن يدركها معظم مَن هم في المالية الأكاديمية بزمن طويل. فقدمتهما مجلة «ديسكفر» العلمية ذائعة الصيت إلى جمهور قراء عريض سنة ١٩٨٥. وبعد ذلك بعام بحثت مجلة «فورتشن» معنى عملهما بالنسبة للمستثمرين. وتبعتهما مجلة «موني» بعد ذلك ببضع سنين.7 وهناك الآن من الكتب التي تشرح أفكارهما للقراء العاديين ما يكفي لملء خزانة كتب أو خزانتين.8
لم تنتبه المالية الأكاديمية السائدة إلا بنشر مقالتين في دورية «جورنال أوف فاينانس» سنة ١٩٩٨. كان المؤلف هو تيرانس أودين، وهو هيبي متقدم في السن كان قد عاد لإتمام تعليمه للحصول على البكالوريوس في بيركلي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين فبهره كانيمان. أراد أودين البقاء للحصول على الدكتوراه في علم النفس، لكن كانيمان حوَّل دفته بدلًا من ذلك إلى المالية، والسبب — إلى حد ما — أن أودين كانت لديه أسرة يعولها وأن كليات إدارة الأعمال كانت تدفع رواتب أفضل. أثناء عمله لنيل الدكتوراه في كلية إدارة الأعمال في بيركلي (كان صاحب شركة التأمين على المحافظ مارك روبنشتاين مشرفه الداعم المشوَّش)، وضع أودين يده على كنز من بيانات العملاء المستمدة من أحد سماسرة الخصم، فاكتشف أن هؤلاء العملاء لهم معاملات أكثر مما ينبغي، ويلاحقون الأسهم ذات الأداء الجيد، وحققوا في مجموعهم ربحًا أقل كثيرًا مما كانوا سيحققونه لو أنهم اشتروا ببساطة الصناديق المرتبطة بمؤشر. اللافت للنظر أن الرجال كانوا أسوأ من النساء حسب كل هذه المقاييس. أثارت المقالات التي نشرها أودين فيما بعد حول النتائج التي توصل إليها ضجة، جالبة له تغطية إعلامية حول العالم ووظيفة ثابتة في بيركلي.9 فلا غرو أن هذا النوع من الأبحاث اكتسب شعبية بين طلاب الدراسات العليا وأساتذة المالية الشباب.
أظهر عمل أودين طبيعة سلوك الناس الذين «اختاروا» الاستثمار في سوق الأسهم. تناولت الأبحاث اللاحقة التي أجراها آخرون مختلف عيوب اتخاذ القرارات من جانب المشاركين إلزاميًّا في برامج ٤٠١(ك). كان المشاركون في برامج ٤٠١(ك) عرضة لما يمكن أن يُطلق عليه «التنويع الساذج»، ونعني أنهم وزعوا استثماراتهم على نحو متساوٍ تقريبًا بين مختلف الصناديق المتاحة. كان الاختيار يثبِّطهم، فكلما كانت الصناديق المتاحة في برنامج ٤٠١(ك) أكثر، قل عدد العمال المشاركين في هذا البرنامج. كانت نسبة مئوية كبيرة جدًّا من أصول برنامج ٤٠١(ك) مستثمرة في أسهم الشركات. ولم يكن معظم العمال يدخرون بأي حال ما يقرب من المال الذي يكفي لضمان تقاعد مريح. وهكذا دواليك.10

•••

فما الذي كان ينبغي عمله؟ لم تقدم المالية التقليدية أية حلول تتجاوز التعليم، الذي لم يكن عادة فعالًا جدًّا. كانت لدى ريتشارد تالر فكرة أخرى، فكرة تعود إلى حفل العشاء الذي أقيم في روتشستر سنة ١٩٧٨، والذي وضع خلاله سلطانية كاجو أمام ضيوفه، ثم أبعدها عنهم. ففي وجود السلطانية، أكل أصدقاء تالر المكسرات، لكن عندما أبعدها تالر حتى لا يفسدوا شهياتهم، استحسنوا فعله. كان يتنازعهم «مزاجان»، وكان تغلُّب مزاج معين على الآخر يتوقف على كيفية طرح خيار أكل الكاجو.

لم يكن ذلك قاصرًا على الناس؛ ففي تجربة أجريت سنة ١٩٦٧ علم بأمرها تالر فيما بعد، أعطى طالب طب نفسي بجامعة هارفرد طيور الحمام خيار نقر مفتاح أحمر للحصول على الطعام فورًا، أو ترك المفتاح لحاله والحصول على طعام أكثر بعد ذلك ببضع ثوان، فآثرت هذه الطيور دائمًا المكافأة الفورية. لكن عند إضافة مفتاح أخضر من شأنه — عند نقره — أن يحول دون ظهور الزر الأحمر على الإطلاق، تعلمت أقلية من الحمام أن تنقره بدلًا من ذلك؛ ومن ثَمَّ لن يغريها المفتاح الأحمر وينتهي بها الحال ولديها وجبة غذاء أكبر.11
في العقل البشري الأكبر كثيرًا والأشد تعقيدًا بكثير، يمكن بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ملاحظة هذه الصراعات بين الحاضر والمستقبل فعليًّا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي؛ حيث أظهرت تجارب التصوير بالرنين المغناطيسي التي أجراها علماء النفس والاقتصاديون السلوكيون أن الأجزاء الأكثر تقدمًا من المخ — القاصرة على البشر — تكون في ذروة نشاطها عندما نختار للأمد البعيد، في حين تكون الأجزاء البدائية هي المسئولة عندما نختار الإشباع الآنيَّ.12 يبدو أن السبيل إلى تشجيع اتخاذ قرارات مالية أفضل هو هيكلة الاختيارات لوضع العقل الأعلى موضع المسئولية.

عندما ألَّف تالر وهيرش شفرين — زميله السابق في روتشستر — بحثًا حول هذا الموضوع سنة ١٩٨١، ناقشا ترتيبًا بشريًّا قائمًا بالفعل من هذه الترتيبات، وهو حسابات «نادي الكريسماس» التي تسمح لعملاء المصارف باقتطاع مبلغ محدد سلفًا من حساباتهم كل شهر لادخاره للتسوق في نهاية العام. وبالمصطلحات السلوكية، صار هذا النوع من الممارسة يسمى «الترزيم»؛ لأنه يشتمل على ضم كثير من قرارات الإنفاق أو الادخار طوال العام في قرار واحد (رزمة واحدة) في بداية السنة. ومن هذا المنظور، كان برنامج التقاعد ٤٠١(ك) يمثل تشكيلة. كان وعاءً ادخاريًّا يشتمل على استقطاعات تلقائية من كل راتب وفق نموذج نادي عيد الميلاد. لكن معظم المسئولين عن برامج ٤٠١(ك) بالشركات لم يفعلوا الكثير خلاف ذلك لتشجيع الخيارات طويلة المدى الذكية؛ لأنهم — جزئيًّا — كانوا يخشون تعرضهم للمقاضاة لو قدموا مشورة استثمارية لا تحقق نتائج طيبة. وهناك سبب آخر أيضًا وهو أن الموظفين — بتشجيع من وسائل الإعلام المالية — كانوا يضغطون من أجل برامج تشتمل على كثير من الخيارات وتتسم بالسهولة الشديدة لدرجة تُثني عن حسن اتخاذ القرار.

كان يجري تفكيك القرار الكبير، رغم بساطته، المتمثل فيما إذا كان المرء يدخر ما يكفي للتقاعد أم لا إلى مجموعة معقدة من الاختيارات الصغيرة: هل تريد المشاركة في برنامج ٤٠١(ك)؟ ما المبلغ الذي تريد تنحيته جانبًا من دخلك؟ أي صندوق من الصناديق الاستثمارية المشتركة المختلفة السبعة والثلاثين هذه تريد وضع أموالك فيه؟ بالنسبة للملايين من الأمريكيين، كانت الإجابة: لا أريد التعامل معه.

في منتصف تسعينيات القرن العشرين، اكتشف تالر وتلميذ سابق له، وهو شلومو بن أرتسي — الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس — طريقة لمحاربة هذا الدافع أسمياها «سمارت» (اختصار غير دقيق لعبارة إنجليزية تعني «ادخر أكثر غدًا») واشتملت على الحصول على موافقة المشاركين في برنامج ٤٠١(ك) على زيادة تلقائية في معدل مساهمتهم كلما حصلوا على زيادة في الأجر. بالحصول على مال لم يكسبه الناس بعد، تفادت هذه الخطة مقاومة الإنسان الطبيعية للتخلي عن شيء يملكه، وهو ما يعرف بتأثير المنحة. وبترزيم الاختيار السنوي المتمثل في مقدار ما يدخره المرء في قرار واحد يدوم سنوات، وضعت سمارت الجزء المعني بالمدى الطويل من المخ موضع المسئولية. في الشركة التي جُرِّبت فيها الخطة لأول مرة سنة ١٩٩٨، شهدت نسبة الخمسين في المائة من الموظفين التي اختارت الاشتراك في خطة سمارت ارتفاعًا في معدل مدخراتها من ٣٫٥ في المائة من الدخل إلى ١١٫٥ في المائة من الدخل خلال ما يزيد عن سنتين.13

لم يمر ذلك النوع من النجاح دون أن يسترعي الانتباه، وعلى مدى العقد التالي أعيدت صياغة برنامج التقاعد ٤٠١(ك) صياغةً شبه تامة وفقًا لاقتراحات الأبحاث السلوكية؛ فبدلًا من تشكيلة محيرة من الخيارات، كانت الخطط تُنشأ يومًا بعد يوم استنادًا إلى خيار افتراضي معقول، ونعني صندوقًا من صناديق دورة الحياة مع مزيج استثماري يتغير بمرور الوقت مع تقدمك في العمر، أو محفظة تعاد موازنتها دوريًّا وفق النسق الماركويتزي. هاري ماركويتز نفسه انخرط مع شركة كانت تقدم مثل هذه الإرشادات للمشاركين في برنامج التقاعد ٤٠١(ك). وأسس بيل شارب شركة أخرى. ودخل روجر إبتسون هذا المجال أيضًا. كلهم صاروا يقدِّرون الأبحاث السلوكية في مجال السلوك الفردي، بل وفي حالة شارب نجد أنه شارك فيها.

لاحظ الساسة ذلك أيضًا. فقد شجَّع قانون حماية المعاشات التقاعدية لسنة ٢٠٠٦ — وهو أكبر تغير في قانون المعاشات منذ قانون تأمين الدخل التقاعدي للموظفين — الشركات على توجيه مدخرات موظفيها وخياراتهم الاستثمارية وفق النسق السلوكي. وعندما أطلق الرئيس جورج دبليو بوش محاولة لم تكلل بالنجاح لاستبدال حسابات استثمارية فردية بجزء من الضمان الاجتماعي، تمحورت معظم المقترحات حول خيار افتراضي بسيط منخفض التكلفة كصندوق من صناديق دورة الحياة. قال ويليام نيسكانين — أحد طلاب ميلتون فريدمان السابقين في جامعة شيكاجو ورئيس معهد كاتو، وهو مؤسسة فكرية تحررية كائنة في واشنطن: «لقد قبلنا حجة السلوكيين أمثال ديك تالر القائلة بأن الناس يفعلون أشياء غبية.»14
تعاون تالر مع كاس صنستين — أستاذ القانون بجامعة شيكاجو — لتطبيق أفكاره خارج نطاق المدخرات التقاعدية، وأطلقا على نهجهما الموجَّه في الاختيار اسم «الأبوية التحررية»، وبيَّنا كيف يمكن لهذا النهج أن يُحسِّن تنظيم عملية الإقراض، وأنظمة الوصفات الطبية ببرنامج ميديكير، والمدارس العامة، والزواج.15 ومثلما أعطت حركة القانون والاقتصاد التي برزت من جامعة شيكاجو دعمًا فكريًّا للحركة العظيمة لتخفيف القيود التنظيمية في فترة السبعينيات حتى تسعينيات القرن العشرين، صار صنستين من كبار أنصار حركة قانون واقتصاد سلوكية جديدة تهدف إلى توجيه عملية إعادة تفكير في القوانين والتنظيمات.16 أعدَّ صديق صنستين، باراك أوباما — أستاذ القانون غير المتفرغ سابقًا في جامعة شيكاجو — برنامجًا انتخابيًّا رئاسيًّا متخمًا بالأفكار السلوكية، وعيَّن صنستين مستشاره للتحرير من القيود التنظيمية بعد انتخابه. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي، تحمَّس زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون علانية لعمل تالر وصنستين.17

•••

كان من الواضح أن الأبحاث السلوكية في مجال اتخاذ القرار الاقتصادي «اجتازت اختبار المنفعة العلمية الحاسم»، مثلما ادعى جين فاما بخصوص فرضيته عن كفاءة الأسواق قبل ذلك ببضع سنين، ومع هذا ظلت هناك أسئلة مزعجة. إذا كان البشر تكتنفهم العيوب السلوكية — على سبيل المثال — إذن فكيف يمكن أن نتوقع من الساسة والبيروقراطيين — وهم أيضًا بشر ومن ثَمَّ عرضة للعيوب السلوكية — أن يوجهوا قراراتهم بكفاءة؟18 كذلك، ما زال معظم أبحاث المالية يدور حول الأسواق والأسعار، لا القرارات الفردية، فهل طرحت النظرية السلوكية حقًّا أية أجوبة في ذلك الخصوص؟
كانت وفرة الانحرافات السلوكية الملاحَظة جزءًا من المشكلة. كان ميرتون ميلر يقول: «هناك نظرية واحدة فقط لكفاءة الأسواق، وهناك مئات النظريات لعدم كفاءة الأسواق.»19 كان يمكن للمرء أن يخرج بتفسير سلوكي يبدو معقولًا ظاهريًّا لجل الظواهر السوقية. لكن إذا كانت كلها «مختلفة»، فذلك لم يكن يرقى إلى كونه نظرية لسلوك السوق.
كانت أول نظرية سلوكية حديثة لعدم كفاءة الأسواق هي التي طرحها تالر وتلميذه فيرنر دي بونت في دراستهما المنشورة سنة ١٩٨٤ حول المحافظ «الرابحة» و«الخاسرة». رويا قصة مستثمرين يبالغون في ردود أفعالهم تجاه أداء الأسهم السابق، لكنها لم تكن قصة متناغمة تمامًا. تفوقت المحافظ الخاسرة على السوق بنسبة ١٩٫٦ في المائة، فيما حلت المحافظ الرابحة متأخرة بنسبة ٥ في المائة فقط. فلماذا يكون هناك رد فعل أكثر بكثير في اتجاه واحد من الاتجاه الآخر؟ أكد أشاوس السوق الكفء أنهم يرون — مثلما كانوا يفعلون غالبًا — تأثير السهم الصغير وهو يؤتي مفعوله.20 بل كانت هناك قضية أكبر وهي أن كثيرًا من الأبحاث السلوكية اللاحقة وثَّقت قصور رد الفعل، ونعني استغراق مستثمرين وقتًا أطول من المعقول لمعالجة البيانات الجديدة.
كتب فاما في مقالة نقدية سنة ١٩٩٨ يقول: «إذا كانت المبالغة الظاهرة في رد الفعل هي النتيجة العامة في دراسات العوائد طويلة المدى، فستموت كفاءة السوق ويحل محلها البديل السلوكي لكلٍّ من دي بونت وتالر. في الحقيقة، القصور الظاهر في رد الفعل متواتر بالقدر نفسه.» وانتهى إلى أن المحصلة هي «نصر باهظ الثمن لكفاءة السوق».21

لم يكن أحد ينكر أنه كان نصرًا باهظ الثمن. فالسوق الكفء التي وصفها فاما قديمًا سنة ١٩٦٩ «سوق توفر فيها الأسعار إشارات دقيقة لتخصيص الموارد، بمعنى أنها سوق تستطيع فيها الشركات اتخاذ قرارات بشأن الإنتاج والاستثمار، ويمكن أن يختار فيها المستثمرون بين الأوراق المالية التي تمثل ملكية أنشطة الشركات مع افتراض أن أسعار الورقة المالية في أي وقت «تعكس تمامًا» كافة المعلومات المتاحة.»

تلك كانت سوقًا الأسعار فيها «صحيحة». ومنذ ذلك الحين، ظل فاما يختزل الكفاءة. وبحلول مطلع الألفية، كان ما يعتنقه في واقع الأمر هو السير العشوائي القديم، بل وحتى هذا لم يكن اعتناقًا تامًّا؛ بما أنه — بصفته كان تلميذًا لبينوا ماندلبرو ذات يوم — كان يعرف كأي شخص أن الأسواق لا تتبع في واقع الأمر «سيرًا» عشوائيًّا. كان ببساطة يقول إن تحركات السوق يصعب التنبؤ بها، لكن ريتشارد تالر كان يقول ذلك هو أيضًا.

أعلن تالر في نقاش مع بيرتون مالكيل سنة ٢٠٠٢ قائلًا: «من الممكن أن نتنبَّأ بأسعار الأسهم لكن ليس بدقة كبيرة.» لم يختلف معه مالكيل في حقيقة الأمر. نعم، هناك فقاعات، هكذا قال أستاذ الاقتصاد في برنستون. كل ما هنالك أنه يصعب ربح المال من ورائها.22

•••

تلك كانت السنة التي عثرت فيها على هذه القصة. وجدت نسخة من كتاب «مفارقة تسعير الأصول» في كومة من الكتب أُرسلت إلى جهة عملي حينذاك — وهي مجلة «فورتشن» — لمراجعتها. كان الكتاب الذي ألَّفه بيتر بوسايرتس — أستاذ الاقتصاد في كالتك — يغلب عليه التعقيد والطابع الرياضي بما لا يتسنَّى معه مراجعته في المجلة، لكن مقدمته جذبتني. بدا لي أن بوسايرتس يقول — وإنْ كان بجمل لم يكن فهمها أيسر عليَّ من معادلاته — إنه من المفهوم الآن على نطاق واسع أن فرضية كفاءة السوق كانت خاطئة.23

كنتُ — كصحفي متخصص في الأعمال — قد سمعت رؤساء تنفيذيين وممارسين في وول ستريت يؤكدون هذا بثقة على مر السنين، وكنت على دراية بهجوم بوب شيلر على «الوفرة اللاعقلانية». لكن كان لديَّ انطباع أن السوق الكفء ما زالت مبدأً جوهريًّا من مبادئ الاقتصاد والمالية الأكاديميين. لكن ها هو بوسايرتس — وهو محلل كمي وأستاذ في كالتك وعلمت فيما بعد أنه تلميذ ريتشارد رول — الأب المؤسس للمالية الحديثة، لم يكن يهاجم فرضية كفاءة السوق. كل ما هناك أنه كان — وعلى الأرجح في أسًى — يعلن أنَّ أوانها قد فات.

خطر ببالي أنه كانت هناك مقالة منشورة في مجلة تتناول ذلك الموضوع. وبعد قليل من البحث، سافرت إلى شيكاجو. أخذت سيارة أجرة من مطار ميدواي، وتجولت حول هايد بارك قليلًا، ثم توجهت إلى مبنى الكلية ذي الطراز القوطي المطل على فناء الجامعة الرئيسي الذي يضم مكتبي جين فاما وديك تالر (انتقلت منذ ذلك الحين كلية إدارة الأعمال إلى مجمع من الزجاج والفولاذ من تصميم رافائيل فينولي على مبعدة شارعين).

زرت فاما أولًا، مارًّا على صورتين كبيرتين لجورج ستيجلر وميرتون ميلر في بئر السلم وأنا أرتقي الدرج إلى المكتب الواقع في الطابق الثالث، فوجدته مفعمًا بالحيوية. قال عن المالية السلوكية: «لا أعرف أنها تجاوزت مستوى الأشياء المثيرة للاهتمام.» قال إن السلوكيين لم يقدموا إطارًا بديلًا يحل محل السوق الكفء، التي كانت لا تزال تشكل أساس معظم ما يدرَّس في دروس المالية، ثم مضى مضيفًا: «لا أدري كيف سيبدو تسعير الأصول في عالم أخذ المالية السلوكية على محمل الجد. إذا كنت تظن حقًّا أن الأسعار غير صحيحة، فما الذي ستقوله لي عن تكلفة رأس المال؟»

بعد ذلك بساعة أو نحو ذلك، انتقل المشهد إلى مكتب تالر الواقع تحت مكتب فاما مباشرة. كان تالر أرحب صدرًا وأكثر دبلوماسية؛ إذ قال إنه يتفق مع «الرجل الموجود في الطابق الأعلى» بشأن النصيحة الاستثمارية (شراء الصناديق المرتبطة بمؤشر). لكنه قال إن «النقاش الفكري المهم يُعنى بما إذا كانت أسعار الأسهم صحيحة في مقابل ما إذا كان يمكنك التفوق على السوق.» وماذا عن اعتراضات فاما بأن المالية ستصبح فوضوية حقًّا من دون افتراض أن الأسعار صحيحة؟ قال تالر موافقًا: «ستكون فوضى كبيرة؛ لأن الطبيعة البشرية فوضوية … إنه اختيار بين الخطأ المؤكد أو الصواب غير المؤكد.»

تبعتُ تالر إلى ندوة حول الاقتصاد السلوكي عُقدت وقت الغداء. كان هناك طالب دكتوراه يحاول تفسير جوانب عديدة لسوق الشقق السكنية في شانجهاي من منظور نظرية الآفاق لكانيمان وتفرسكي. في مرحلة ما قاطعه تالر قائلًا: لعل الأمر يتعلق بالعرض والطلب فحسب. كان اقتصاده السلوكي إضافة إلى اقتصاد آدم سميث وإرفينج فيشر. ولم يكن بديلًا له.

•••

عدت إلى نيويورك وكتبت مقالتي (كان عنوانها يقول: «هل السوق عقلانية؟ الخبراء يجيبون بالنفي. لكنك لست أيضًا عقلانيًّا؛ فلا يخطرنَّ ببالك أن بمقدورك التفوق عليها»). تطورت هذه المقالة لتصبح هذا الكتاب الذي بين أيديكم، وأثناء سنوات عملي في تأليفه، استمرَّ كفاحي بشأن ما أفعله برؤيتَيْ فاما وتالر العالميتين المتضاربتين رغم عدم تعارضهما تمام التعارض.

على امتداد الطريق، صرت مقتنعًا بأن المالية السلوكية أكثر من مجرد مجموعة من الأشياء الغريبة، ولا مزيج ينفي بعضه بعضًا من المبالغة والاقتصار في رد الفعل. إن السمة الأشد اتساقًا التي مُيِّزت في الأبحاث السلوكية هي فرط الثقة؛ مما يؤدي بالمستثمرين إلى الظن بأنهم يعرفون عن قيمة سهم ما أكثر مما يعرفون فعلًا. لفرط الثقة قيمة عظيمة في مساعٍ أخرى — العثور على رفيق، إنشاء شركة، كسب العيش كخبير تليفزيوني في سوق الأسهم — لدرجة أنه لا يوجد مبرر لاعتقاد أنه سيزول يومًا ما، وهو في المالية يساعد على تفسير ظواهر من قبيل التقلب الزائد، والزخم، وأن هناك تعاملات كافية للإبقاء على استمرارية الأسواق.

فرط الثقة لا يوصلك إلى نظرية لأسعار الأصول، بل يوصلك إلى نظرية حول أسباب تجاوز أسعار الأصول قيمها الحقيقية، وهو ما يمكن بدوره أن يتواجد جنبًا إلى جنب مع نسخة فضفاضة من فرضية كفاءة السوق. كان فاما قد كتب سنة ١٩٦٥ يقول: «في السوق الكفء، ينبغي أن تتسبَّب أفعال العديد من المشاركين المتنافسين في تأرجح السعر الفعلي لورقة مالية ما عشوائيًّا حول قيمتها الحقيقية.» كانت تلك ما زالت هي الفكرة الأساسية، حتى بين كثيرين من السلوكيين. واتضح آنذاك فقط أن هذا التأرجح يمكنه أن يُبعد أسعار الأوراق المالية عن قيمها الحقيقية لسنواتٍ بلا توقف.

كان هذا واضحًا حتى لفاما؛ حيث نشر هو وكنيث فرنتش سنة ٢٠٠٧ الحلقة الأبرز من بين سلسلتهما التي دامت عقدين من الزمان من استقصاءات سوق الأسهم، وهي إطلالة نظرية على ما سيحدث في سوق ما تضم كثيرين من المستثمرين «المضلَّلين». كان أحد المبادئ الأساسية لمالية السوق الكفء أن بعض المراجحين الأذكياء يمكنهم إبطال الآثار الخبيثة لمليون من المستثمرين الأغبياء. لكن الآن غيَّر فاما وفرنتش رأيهما — دون اعترافهما تمامًا بتغييرهما إياه — إلى الحجة التي طرحها أندريه شلايفر وروبرت فيشني قبل ذلك بعقد من الزمان؛ وهي أن المراجحين الأذكياء يمكنهم إزالة بعض الضرر الذي يُحدثه المضلَّلون، لكنهم لا يستطيعون إزالته كله. انتهى فاما وفرنتش إلى أن «الأفعال المعادِلة من جانب المستثمرين المطَّلعين لا تكفي نمطيًّا لجعل الآثار السعرية للمعتقدات الخاطئة تختفي بمرور الوقت. فلكي تتقارب الأسعار من القيم العقلانية، يجب أن تتقارب معتقدات المستثمرين المضلَّلين من معتقدات المستثمرين المطَّلعين، بحيث يظهر في النهاية اتفاق تام بشأن الأخبار القديمة.»24

بعد قراءة مسودة قديمة من المقالة، اتصلت بفاما وذكَّرته بما قاله لي قبل ذلك ببضع سنين، وأعني: «إذا كنت تظن حقًّا أن الأسعار غير صحيحة، فما الذي ستقوله لي عن تكلفة رأس المال؟» والآن ها هو ذا يجادل على صفحات المجلات بأن الأسعار يمكن أن تخطئ وتظل على خطئها. فما الذي يمكنه أن يقوله لي عن تكلفة رأس المال؟ ضحك فاما وقال: «ذلك هو السبب في أنني ما عُدت أدرِّس مالية الشركات.»

لم يكن لدى الأكاديميين الآخرين الأحدث سنًّا ذلك الخيار. كان مالكوم بيكر تلميذًا لأندريه شلايفر ينتمي إلى قسم الاقتصاد بجامعة هارفرد، وقد انتقل إلى الضفة الأخرى لنهر تشارلز بعد حصوله على الدكتوراه سنة ٢٠٠٠ للتدريس في كلية هارفرد لإدارة الأعمال. ركزت أبحاث بيكر على حدود المراجحة وأوجه انعدام كفاءة الأسواق المالية. وعندما أُسند إليه تدريس مقرر في المالية للسنة الأولى لمجموعة من طلاب ماجستير إدارة الأعمال المغترين بعبقريتهم، لم يجد أمامه خيارًا إلا أن ينهال على رءوسهم بالسوق الكفء. قال بيكر: «يجب أن تأخذ في اعتبارك من أين ينطلق الناس. أول شيء ينبغي فعله عدم افتراض خطأ السوق. أول شيء هو افتراض أنها على صواب حتى يثبت العكس.»

كانت هذه هي الحالة الغريبة التي وجدْتُ عليها المالية الأكاديمية في السنوات الأولى من الألفية الجديدة. ما عاد واضع فرضية كفاءة السوق يعتقد أن الأسعار صحيحة، في حين أن بعضًا من أعتى نقاد كفاءة السوق وجدوا أنفسهم يدرِّسون في الفصل أن … الأسعار صحيحة.

•••

على الرغم من أن السلوكيين والنقاد الآخرين أحدثوا كثيرًا من الثغور في صرح مالية السوق العقلانية، فإنهم لم يكونوا مستعدين للتخلِّي عن ذلك الصرح. لم يكونوا مستعدِّين للاستغناء عن إطار التوازن الذي فرضه إرفينج فيشر على هذا المجال قبل قرن من الزمان. فهم يمضون أيامهم يدْرسون الاختلالات والتحيُّزات، لكنهم ما زالوا يثقون أن «القوى السائدة» التي قال بها ميرتون ميلر موجودة هناك في مكان ما، دافعةً الأسعار على الأقل في الاتجاه العام الذي ينبغي أن تتجه فيه.

أذلك حقًّا أقصى ما ستصل إليه الثورة؟ لأنه ما دام التوازن جزءًا من الاقتصاد، كان هناك مَن هم داخل هذا العلم وخارجه ممن تجرءوا قائلين إنه ربما ليس أفضل رمز للنشاط الاقتصادي. تجنب الاقتصاديون في المدرسة النمساوية المعادلات لا لأنهم كانوا رياضيين سيئين فحسب، بل لأنهم كانوا يظنون أن المعادلات لا تسمح باللايقين والتغيُّر المتأصلين في الحياة الاقتصادية. كان المؤسَّسِيُّون الأمريكيون يعتقدون أن الدراسة التجريبية المكثفة بدرجة أكبر يمكن أن تعطيهم فكرة أدقَّ عن واقع السوق المتطور. حتى العملاق النيوكلاسيكي ألفريد مارشال أعرب على صفحات كتابه «مبادئ الاقتصاد» عن تَوَقَانه إلى نهج يشبه على نحو أدق نهج البيولوجيا النشوئية.25

هُمِّشت هذه النُّهج البديلة لأنها لم تقدم قط أي شيء مثل دقة اقتصاد التوازن ووضوحه، تلك الدقة التي اقتبسها جزئيًّا من فيزياء القرن التاسع عشر؛ لذا كان للأمر دلالته عندما جاء الفيزيائيون في ثمانينيات القرن العشرين يسعون إلى الاقتصاد من جديد. كان كثير قد تغير فيما يخص علمهم في القرن الذي تخلل ذلك، فمروا بنظرية النسبية ثم ميكانيكا الكم. وآنذاك كان هناك كثير من الفيزيائيين بدأ يستهويهم ما سموه الشواش، وأعني دراسة الكيفية التي تؤدي بها الأسباب الأولية البسيطة إلى آثار دراماتيكية يمكن التنبؤ بها جزئيًّا على الأقل بالمعادلات الخطية الصحيحة، وذلك مثل فراشة ترفرف بأجنحتها في البرازيل وتثير إعصارًا في تكساس.

في سنة ١٩٨٤، دشَّنت طائفة من الفيزيائيين تربطهم صلات بمختبر لاس ألاموس الوطني معهد سانتا في، آملين أن يصبح هذا المعهد مركزًا بحثيًّا متعدد التخصصات يستطيع فيه الأكاديميون بمختلف خلفياتهم أن يبحثوا الشواش والتعقيد، وهو مصطلح شامل لكل الظواهر التطورية والتكيفية، بما فيها الظواهر التي لا يمكن التنبؤ بها. انصرف انتباههم إلى جون ريد، رئيس سيتي كورب التنفيذي، كمتبرِّع محتمل. كان ريد مغتاظًا لأن الاقتصاديين في مصرفه فشلوا في التنبؤ بكارثة الديون المعدومة التي حلت في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وكان يبحث عن طرق أفضل للتنبُّؤ المالي. كان يقدم بالفعل الدعم للاقتصاد السلوكي بصفته رئيس «راسيل سيج فاونديشن»، ووافق على دعم معهد سانتا في إذا ركز على الاقتصاد أيضًا.

كما يروي ميتشل والدروب في كتابه المنشور سنة ١٩٩٢ بعنوان «التعقيد»، اتصل الفيزيائي المكلف بالعمل على إطلاق نشاط معهد «سانتا في» في مجال علم الاقتصاد بشخص يعرفه من أيام المرحلة الثانوية، وهو جيمس توبين — الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد — طالبًا منه النصيحة، فقال له توبين إن هذا النشاط يبدو كشيء سيحظى بقبول كنيث أرو. وقد وافق أرو — الذي اتسم دائمًا بحب الاستطلاع — وانضم إلى معهد سانتا في كمستشار في الاقتصاد.

نظَّم المعهد سنة ١٩٨٧ مؤتمره الأول حول «الاقتصاد كنظام معقد متطور» ودعا لفيفًا من الاقتصاديين من بينهم لاري سامرز. كانت هناك لحظات عصيبة. كان الفيزيائيون منزعجين بسبب عدم استعداد الاقتصاديين لإعطاء مزيد من الوزن للاعقلانية والأثر الرجوعي في نماذجهم. شكا سامرز قائلًا إن الفيزيائيين يعانون من «عقدة طرزان»،26 عاضِّين أناملهم من شدة غباء الفيزيائيين. لم تزدد بغضاء الاقتصاديين إلا شدة؛ حيث استحوذ الطرزانات — على مر السنين — على كل التغطية الإعلامية الإيجابية. ادَّعى الاقتصادي بول كروجمان أنه يميز اتجاهًا بين الصحفيين وغيرهم من المثقفين غير العلميين سمَّاه «متلازمة سانتا في»، وتعني الترفُّع عن كل النماذج الرياضية إلا إذا كانت «محيِّرة وفيما يبدو تفند الأفكار التقليدية».27
لم يُجْدِ ذلك عندما تحطَّمت بسرعة الآمال الأولية في إمكانية استخدام معادلات منظِّري الشواش للتنبُّؤ بالظواهر الاقتصادية.28 واجهت الفيزيائيين صعوبة تتمثَّل في حقيقة أن الكائنات الحساسة أصعب في العمل معها من الجسيمات دون الذرية مثلًا. يقول ستيفن دورلاوف — أستاذ الاقتصاد بجامعة ويسكونسن الذي ربطته علاقة بمعهد سانتا في لعقد من الزمان: «أظن بوجه عام أن الفيزيائيين لم يكن لهم أثر كبير. لم يتوصلوا إلى نماذج مثيرة جدًّا للاهتمام. كانوا يستخدمون عوامل سخيفة جدًّا.»

كانت تلك «العوامل» هي الفاعلة في عمليات المحاكاة بالكمبيوتر التي أصبحت أداة بحثية مفضلة في معهد سانتا في. لم تكن كلها سخيفة. أجرى براين آرثر — أستاذ الاقتصاد الإنمائي في جامعة ستانفورد الذي استقطبه أرو إلى معهد سانتا في — زيارة ذات يوم إلى مكتب الصرف الأجنبي التابع لسيتي بنك في هونج كونج، فرأى المتعاملين هناك يعتمدون على «طرق تعامل فنية مرتجلة» مثل قراءة المخططات ومتابعة الاتجاهات، لكنهم سرعان ما أهملوا النُّهُج التي لم تفلح وجرَّبوا نُهُجًا جديدة. لم يكونوا معظِّمين عقلانيين للمنفعة المتوقعة بدافع من فون نويمان ومورجنشتيرن، لكنهم لم يكونوا أيضًا أغبياء. لقد تعلَّموا. هناك في معهد سانتا في، وضع آرثر وزملاء عديدون هذه الشخصيات في سوق أسهم مصطنعة على كمبيوتر «نكست» متطور، ونفذوا الملايين من سلاسل التعاملات.

وجدوا أنه عندما عدل وكلاؤهم استراتيجياتهم في التعامل، استقرت السوق في حالة توازن كفء. وعندما تكيف الوكلاء بسرعة — وذلك بتغييرهم الاستراتيجيات مرارًا للاستجابة لتغيير الآخرين استراتيجياتهم — أصبحت السوق المصطنعة مكانًا أكثر إثارة للاهتمام. حدثت فقاعات وانهيارات، وجلبت استراتيجيات الزخم ربحًا، وبدت تحركات الأسعار كالتحركات التي نراها في سوق مالية حقيقية.29 لكن حتى ذلك التقلب لم يُفض إلى أسعار «جنونية». يقول آرثر عائدًا بذاكرته إلى تلك الأيام: «لم تكن الانحرافات عن التوقعات العقلانية ضخمة. كانت انحرافات على طريقة هولبروك وركينج.» أقام آرثر تلك الصلة — التي ما كان ليقيمها اليوم إلا قليل من الاقتصاديين — لأنه كان موظفًا سابقًا في معهد بحوث الأغذية في جامعة ستانفورد، وهو المكان الذي ظل يتردد عليه هولبروك وركينج بانتظام لفترة طويلة.

كان الوكلاء في عملية محاكاة آرثر أيضًا — وبطريقتهم البدائية — «يتنبئون بما يتوقع الشخص العادي أن يكون عليه رأيُ الشخص العادي» على نحو ما قال كينز قبل ذلك بستين سنة. يقول آرثر: «المبادئ الإرشادية والحدس والتخمينات اللاموضوعية هي كل ما هناك. لا يعني هذا أن هناك حلًّا أمثل للسوق في ظل افتراضات واقعية، والناس ينحرفون عنه. هذا تحول عن افتراض أن هناك عالَمًا موضوعيًّا موجودًا إلى القول بأن العالَم خُلق بطريقة لا موضوعية.»

بالتزامن تقريبًا مع إجراء آرثر عمليات محاكاته للسوق، أسَّس ثلاثة من الفيزيائيين شركة لإدارة الأموال في معهد سانتا في باسم بريديكشن كومباني، وتهدف إلى نقل دروس الشواش والتعقيد إلى الأسواق الفعلية. كانوا موضوعًا لكتاب مشبوب بالحماس — وهو «المتنبِّئون» لمؤلفه توماس باس — صوَّرهم كمبتكِرين جريئين أحدثوا تحولًا في عالم الاستثمار، وكانت تلك مبالغة. قال أحد هؤلاء الثلاثة وهو جيه دوين فارمر: «لا أظن أن أيًّا مما كنا نفعله كان مختلفًا اختلافًا جذريًّا.» «كانوا» غاية في البراعة في استخدام الكمبيوتر — أنشئوا نظامًا مُؤَتْمَتًا لتمحيص جميع أدبيات المالية الأكاديمية التي تتناول انحرافات السوق للتعرف على الواعد منها — ونجحت شركة بريديكشن كومباني.

بعد أن باع المؤسسون الشركة لمصرف سويسري سنة ١٩٩٩، اتجه فارمر إلى التفرغ لدراسة الاقتصاد المالي في معهد سانتا في، وحاول ألا يبدو كطرزان. قال عن الاقتصاد: «المشكلات صعبة. إنه ميدان أصعب من الفيزياء.» ومع ذلك ظل مقتنعًا بأن الاقتصاديين مفتونون أكثر مما ينبغي بالاستنباط والتوازن. صور إرفينج فيشر — مجازيًّا — السوق كنظام ميكانيكي يتألف من مضخات وفناطيس. وأما فارمر فاتجه بنظره بدلًا من ذلك إلى التغير في أفراد مجتمعات الضواري والفرائس. فمستويات الذروة التي تشهدها مجتمعات الفرائس تؤدي إلى مستويات ذروة في مجتمعات الضواري؛ مما يؤدي بدوره إلى انخفاضات في مجتمعات الفرائس، وهكذا دواليك؛ فالنظام لا يستقر أبدًا ليصبح في حالة توازن ساكن، بل يتذبذب.

جادل فارمر بقوله إن الأسواق المالية تتبع نمطًا مماثلًا؛ حيث تُتَصَيَّد الانحرافات بلا هوادة حتى تختفي، مفسحة المجال لانحرافات أخرى، وفي نهاية المطاف تعود إلى الوجود. غالبًا ما يدعي مديرو صناديق التحوط أنهم بتصيدهم الانحرافات وتحقيقهم ربحًا من ورائها، يجعلون السوق أكثر كفاءة. لكن ربما يكون الواقع أنهم — فيما يتسببون في تلاشي أوجه معينة من انعدام الكفاءة — لا يتسبَّبون إلا في تضخيم ذبذبات السوق ككل.

فهل كان سيصبح لهذه الأفكار أي أثر على المالية والاقتصاد؟ كان آرثر يظن أن أفكاره سيكون لها أثر. قال إن كتاب والدروب عن معهد سانتا في — والذي صوَّره كبطل وحيد برز ليبين لزملائه الذين عُمِّيت عليهم الأمور خطأ طرقهم — «أنهى مشواري المهني في علم الاقتصاد.» سعى فارمر جاهدًا للتواصل مع الآخرين؛ حيث شارك في تأليف العديد من المقالات مع أساتذة المالية الذين يمثلون الاتجاه السائد، ودشَّن مجلة جديدة باسم «كواليتيتيف فاينانس» ضمت في مجلسها الاستشاري روبرت ميرتون ومايرون سكولز (بالإضافة إلى كنيث أرو وبينوا ماندلبرو)، لكن عمله لم يكن قد تغلغل بعدُ تغلغلًا حقيقيًّا في التيار الأكاديمي السائد.30
على الرغم من ذلك، كان الاقتصاديون — حتى وهم يقاومون الغارات القادمة من معهد سانتا في — يتخذون خطواتٍ مبتعدين عن اعتمادهم شبه الحصري على التوازن. كان هذا التحول قد بلغ أشد صوره دراماتيكية في دراسة النمو الاقتصادي طويل المدى، الذي بطبيعته لا يمكن أن يكون معنيًّا حقيقةً بالتوازن. لذلك السبب، نال الموضوع اهتمامًا ضئيلًا من الاقتصاديين الرياضيين على مدى عقود. والآن — وبالتخلص من التوازن مع التمسك بالرياضيات — يكتشف الاقتصاديون طرقًا أفضل لوصف ديناميات النمو والتغير. ثمة كلمة أساسية في نظرية النمو الجديدة هي «داخليُّ المنشأ». في توازن ما، يجب أن يأتي الخلل كله بطبيعته من الخارج. ويتطلب تفسير طفرة في النمو الاقتصادي حدثًا خارقًا كاكتشاف الأمريكتين أو اختراع المحرك الكهربائي. أما في نظرية النمو الجديدة، فتُصوَّر المحركات التكنولوجية بوصفها نتيجة القرارات والقوى الاقتصادية.31
الإتيان بهذا المفهوم — مفهوم التغير داخلي النشوء — إلى تقلبات السوق الأقصر مدى بمنزلة مسعى أكثر تعقيدًا. وفي السنوات الأخيرة بدأ بعض أساتذة الاقتصاد والمالية يعملون في نماذج للسوق تفعل ذلك بالضبط وتشتمل عادة على نشطين عقلانيين — وإنْ كانوا نصف مطلعين — يتخذون قرارات معيبة، لكنهم قادرون على التعلم والتكيف. والنتيجة هي سوق لا تستقر أبدًا في توازن تام، لكنها تبحث وتتغير باستمرار وتفقد صوابها بين حين وآخر. ومن نماذج السوق هذه على سبيل المثال: «التوازن العقلاني التكيفي» و«التعلم الكفء» و«فرضية الأسواق التكيفية» و«توازنات الاعتقادات العقلانية».32 ذلك ويُجرِي بيل شارب الآن عمليات محاكاة للسوق مستندة إلى الأطراف الفاعلة على كمبيوتره المحمول ليرى كيف ينتهي بها الحال.

•••

قد يبدو التغيير آتيًا، لكنه لم يأتِ بعد، وفي الوقت الحالي، يجب أن نرضى بالخليط الذي لدينا الآن من الاقتصاد والمالية؛ ذلك الخليط الذي يجمع بين النيوكلاسيكي والسلوكي والتجريبي والمعلومات غير المتماثلة. فما الدروس العملية التي يمكن أن نستمدها من هذا الخليط؟

أولًا: من الصعب أن نتفوق على السوق. فإذا كان لديك مال تستثمره، فالمنطلق الوحيد المعقول الذي تنطلق منه هو افتراض أن السوق أذكى منك. وأنت لست مضطرًّا إلى التوقف عند تلك النقطة. لكنك إذا لم تأت بفكرة للتفوق على السوق، فأنت تحتاج إلى نموذج يفسر لماذا لا يفعل الآخرون كلهم بالفعل ما أنت فاعل تمامًا. يتواءم هذا النموذج أحيانًا مع إطار السوق الكفء، ولتفترض مثلًا أنك مهندس بترول ولديك أسباب وجيهة تدعوك للاعتقاد أن شلومبيرجر توصلت إلى نقلة كبيرة في تكنولوجيا الحفر لم تتوصل إليها منافستها هاليبيرتون، بمعنى أنك تملك معلومات غير معلنة. في أحيان أخرى قد يكون منطقيًّا تقديم تفسير سلوكي. فالسبب في رخص سهم ما هو أنه غير رائج. أو لعل السبب هو حدود المراجحة. فالمستثمرون المحترفون لا يملكون رفاهية الصبر التي تملكها أنت كمستثمر فردي. وفي الوقت نفسه، يجب أن تنتبه كي لا تُضلَّك سلوكياتك الشاذة.

إذا كنت مختارًا شخصًا آخر لإدارة أموالك، فاحتمالات العثور على مسار للتفوق على السوق ربما حتى تكون أبعد. فأنت الآن تدفع رسمًا سيؤثر سلبًا على أدائك. منذ تقاعد جاك بوجل من عمله رئيسًا تنفيذيًّا لصندوق فانجارد، نشر سلسلة من الدراسات حول محدِّدات أداء الصناديق الاستثمارية المشتركة. والمقياس الوحيد الذي يبدو أن له أية قيمة تنبُّئية هو رسم الإدارة الذي تتقاضاه الصناديق. فكلما كان الرسم أعلى، كان الأداء التالي أسوأ.33 وهكذا فإن التكلفة منطلق عام جيد عند اختيار مدير توظيف أموال، وهو منطلق من المحتمل — لا المؤكد — أن يقود المرء إلى الصناديق المرتبطة بمؤشر. هناك بالتأكيد «بعض» مديري الأموال مرتفعي الأجور الذين يحققون أعلى مما يتقاضون من رسوم، وربما تستطيع العثور على أحدهم. لكن لا يمكنك أن تفعل هذا إلا على أساس الأداء السابق، بمعنى أنه لا بد أن يكون لديك تفسير مقنع لما يجعل مدير توظيف أموال معين قادرًا على التفوق على السوق. حظًّا طيبًا.

للتعرف على ما ينبغي أن تبدو عليه محفظتك، يظل نموذج هاري ماركويتز للموازنة بين المخاطرة والإثابة، والبحث عن استثمارات غير مرتبط بعضها ببعض، نقطة انطلاق ممتازة. المشكلة أن التقلب الماضي وعلاقات الارتباط الماضية ليسا هما اللذين يقرران النجاح الاستثماري، بل التقلب المستقبلي وعلاقات الارتباط المستقبلية هما اللذان يقررانه، وهذا المستقبل لا يسعنا إلا تخمينه. وبالنسبة لمحاولة تحديد مزيج الاستثمارات في برنامج ٤٠١(ك)، فهذه ليست أكبر صفقة في العالم. فعند إدارة صندوق تحوط مرفوع ماليًّا بنسبة خمسة وعشرين إلى واحد، يمكن أن يصبح توقُّع أن يكون المستقبل مثل الماضي تمامًا قاتلًا.

لا تصبح المسائل الأعم المتعلقة بكفاءة السوق عاملًا مهمًّا إلا عندما نبتعد عن الاستثمار ونبدأ في تأمُّل المتأثرين بالأسواق المالية. لا يقتصر الأمر على ما إذا كان المرء يمكنه التفوق على السوق أم لا، بل على ما إذا كان يمكنه الاعتماد على أن تكون الأسعار السائدة في الأسواق المالية صحيحة أم لا. رأينا مفهومًا شعبيًّا في السنوات الأخيرة وهو «حكمة الجموع»، وأعني فكرة أن الجماعات يمكنها غالبًا اتخاذ قرارات مطلعة على نحو أفضل من الأفراد. وهي فكرة سليمة نوعًا ما، وعنوان كتاب ممتاز بقلم جيمس سورويكي، لكن الصياغة مضللة. فالجموع، والأسواق، تتسم بالكثير من السمات المفيدة، والحكمة ليست واحدة منها. والأمر كما كتب هنري بوانكاريه منذ قرن من الزمان يقول:

عندما يجتمع أناس، فإنهم لا يعودون يقررون بالصدفة وبمعزلٍ كلٌّ منهم عن الآخر، بل يتجاوب بعضهم مع بعض. هناك أسباب كثيرة تدخل في الاعتبار، فهي تعكر صفو هؤلاء الناس وتجذبهم إلى هذا النحو أو ذلك، لكن هناك شيئًا واحدًا لا يمكنها القضاء عليه، وهو ما لديهم من عادات خراف بانورج.

تحتوي أسعار الأسهم كثيرًا من المعلومات. والأسواق — كما قال فريدريش هايك — هي أفضل من يجمِّع المعلومات المعروفة للإنسان. لكن يختلط بالمعلومات التي تحتويها أسعار الأسهم كثير جدًّا من العواطف والأخطاء والضوضاء.

فماذا يعني ذلك؟ يعني أن مديري أية شركة متداولة في البورصة ينبغي أن يكونوا هم وموظفوهم بمعزل عن تقلبات أسعار الأسهم اليومية أو حتى الشهرية. ومع ذلك، ينبغي ألا تُتجاهل تلك الأسعار؛ لأنها تنطوي على معلومات مفيدة. ومن سُبل استبعاد بعض الضوضاء التركيزُ على الأسعار النسبية أكثر من الأسعار المطلقة. فإذا كان سهم شركتك متخلِّفًا عن سهم كبرى منافساتها، فربما يكون هذا أمارة على أنك ترتكب خطأً. فإذا انخفض ٥ في المائة الأسبوع الماضي في خضم سوق متدهورة، فربما هذا لا يعني أي شيء على الإطلاق.

يتعلق أكبر الأسئلة وأصعبها بماهية نوع الدور الذي ينبغي لنا كمجتمع أن نعطيه للأسواق المالية. على مدى العقود الثلاثة الماضية، كانت الإجابة — مدعومة بنظريات السوق الكفء — هي إعطاء الأسواق دورًا أكبر فأكبر، منحِّين جانبًا المؤسسات الأخرى من قبيل الحكومات والشركات. لكن يبدو أننا بلغنا الآن منعطفًا. ولا يقولن قائل إن نظريات الأسواق الكفء تصدعت، فالأسواق المالية هي أيضًا تصدعت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤