الفصل الثالث

هاري ماركويتز يأتي بالإحصائي إلى سوق الأسهم

النهج الكمي الحديث في الاستثمار يتألَّف من جزأين متساويين من استراتيجية البوكر والخبرة في المدفعية إبان الحرب العالمية الثانية.

***

لم يكن هولبروك وركينج الاقتصادي الوحيد الذي ساهم بمهاراته الرياضية في سبيل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وإليكم الشيء الذي قضى ميلتون فريدمان سنوات الحرب يفعله:

لديك دانة مضادة للطائرات، وبمقدورك التحكم في تشظِّيها، فيمكنك أن تَحُزَّها بحيث تتكسر إلى قطع بحجم معين. فبأي حجم تريد هذه القطع؟ أتفضل ٦٠٠ قطعة صغيرة أم ٢٠ قطعة كبيرة؟ إذا كانت القطع كبيرة، فستلحق ضررًا حقيقيًّا بطائرات العدو عندما تصيبها، لكن إذا لم يكن لديك سوى قطعتين، فلا توجد فرصة كبيرة لتحقيق الإصابة. هناك مفاضلة.

لم يكن هذا التدريب مجرد تدريب نظري، فالأرواح كانت على المحك. في خضم «معركة الثغرة» سنة ١٩٤٤، طار ضباط المدفعية عائدين إلى الولايات المتحدة للحصول على أحدث معلومات عن ضبط صمامات التفجير الاقترابي من ذلك الاقتصادي البالغ نيفًا وثلاثين عامًا الذي ليست لديه خلفية عسكرية، بل بعض التدريب المتقدم في علم الإحصاء.1 كان فريدمان نائب مدير فريق البحوث الإحصائية بجامعة كولومبيا، وهو نموذج لما صار يسمى لاحقًا «البحوث العملياتية»؛ أي استخدام النظرية الإحصائية والرياضية لاتخاذ قرارات عسكرية أفضل. وأما المدير فقد كان صديقه المقرب من أيام الدراسات العليا بجامعة شيكاجو، دبليو ألن واليس.

نشأت البحوث العملياتية في المملكة المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين، وسرعان ما انتشرت عبر الأطلنطي، وقد لعبت دورًا حاسمًا — وإن كان لا يُقْدَر عمومًا حق قدره — في مساعدة الحلفاء على الفوز بالحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الأعمال العدائية، بدأ مخضرمو البحوث العملياتية إبان الحرب يطبِّقون أساليب مماثلة على الاستخدامات السلمية كالاستثمار في سوق الأسهم. ففي سنة ١٩٥٢، نشر هاري ماركويتز — طالب الدراسات العليا بشيكاجو — مزاوجة تاريخية بين البحوث العملياتية والمشورة الاستثمارية في دورية «جورنال أوف فاينانس». كان نهجه فيما سماه «اختيار المحفظة» يُعنَى كل العناية بالموازنة بين المخاطرة والعائد، وكان يشترك في نواحٍ كثيرة مع تلك الحسابات التي أُجريت زمن الحرب على تشظِّي القنابل.

يقول فريدمان — الذي كان ضمن لجنة مناقشة أطروحة ماركويتز — عائدًا بالذاكرة إلى الوراء: «الأمر بالصورة نفسها بالضبط: ما مقدار القوة الذي تريد التضحية به لكي تحقق احتمال إصابة أعلى؟ هذا هو الأمر نفسه تمامًا: ما مقدار العائد الذي تريد التضحية به لكي تزيد احتمالَ حصولك على ما خططت له؟ كانت الطبيعة المنطقية للمشكلة سواء.» في ظل هذا التماثل، ربما لا تكون مفاجأة كبيرة أنْ كتب أستاذ بجامعة أكسفورد وضابط مدفعية إبان الحرب العالمية الثانية مقالًا لمجلة «إيكونومتريكا» يلخص نهجًا مماثلًا في اختيار الأصول يعطي «الأولوية للأمان» بعد نشر ماركويتز نتائجه الأولية في مارس ١٩٥٢ بثلاثة أشهر.2 ولم يتابع الأستاذ بجامعة أكسفورد، وهو إيه دي روي، هذه المسألة بعد ذلك، أما ماركويتز فثابر عليها.

•••

اختيار محفظة مثلى من الأسهم أصعب من حساب عدد الشظايا التي تريدها من قنبلتك بعد انفجارها. ففي المثال الذي بيَّنه فريدمان، كان من الممكن أن نعرف بالضبط، من خلال التجارب التي يجري التحكم في ظروفها، عدد القطع التي يرجح أن تولِّدها دانات المدفعية. ويكاد يكون من المستبعد تمامًا أن نقول بيقين ماذا ستكون المحصلة النهائية لاختيار اقتصادي ما أو حتى ماذا قد تكون الاحتمالات. لم يكن الاقتصاديون الرياضيون الأوائل يعرفون كيفية تضمين هذا اللايقين في معادلاتهم الخاصة بالتوازن؛ لذا تجاهلوه، مفترضين أن نشطاءهم الاقتصاديين يملكون بصيرة تامة. وكانت هذه مشكلة؛ لأن البصيرة التامة ليست غير واقعية فحسب، بل مستحيلة منطقيًّا.

صار هذا الخلل المنطقي هاجسًا لدى الاقتصادي النمساوي أوسكار مورجنشتيرن. النمساويون معروفون بميلهم إلى السوق الحرة، لكن مدرسة الفكر الاقتصادي التي ظهرت في فيينا في أواخر القرن التاسع عشر أظهرت أيضًا احترامًا كبيرًا للايقين، الذي اختار مورجنشتيرن التركيز عليه. ولتوضيح السبب وراء استحالة وجود اليقين مطلقًا في الشئون البشرية، ألَّف مورجنشتيرن حكاية عن تعرض المحقق الخيالي شرلوك هولمز لمطاردة على يدي الدكتور موريارتي، وإذا أمسك به موريارتي فسوف يقتله.

يستقل هولمز في لندن قطارًا متجهًا إلى دوفر، ويتوقف مرة واحدة في منتصف الطريق. يرى هولمز موريارتي في المحطة، فيفترض في البداية أنه سيستقل قطارًا سريعًا بلا توقف إلى دوفر للوصول إلى هناك أولًا، ويقرر النزول من القطار في المحطة الوسيطة. لكن موريارتي قد يخمن ما سيفعله هولمز، وفي هذه الحالة ينبغي أن يواصل هولمز طريقه إلى دوفر. وهكذا دواليك. كتب مورجنشتيرن سنة ١٩٣٥ يقول: «هناك دائمًا سلسلة غير متناهية من ردود الفعل وردود الفعل المضادة التخمينية بالتبادل. إذن فالبصيرة المطلقة والتوازن الاقتصادي لا يتفقان.»3
أراد مورجنشتيرن علم اقتصاد يتضمن حدودًا للقدرة على التبصر بالمستقبل، ولم يرَ أثرًا لهذا الاقتصاد في عمل رفاقه الاقتصاديين، الذين ازداد ازدراؤه لهم. وأثارت غضبه تطورات أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، التي أقحم فيها الكينزيون الشباب معادلات مهلهلة ناقصة البصيرة على علم الاقتصاد الرياضي تام البصيرة، فبدأ يتناغم مع علماء فيينا ورياضييها، الذين وجَّهه أحدهم إلى ورقة بحثية تعود إلى ١٩٢٨ عن البوكر كتبها الرياضي المجري جون فون نويمان.4

صار فون نويمان بعد هجرته إلى الولايات المتحدة سنة ١٩٣٠ أسطع مصباح ثقافي في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون — وهو المكان الذي عمل فيه ألبرت أينشتاين أيضًا — حيث ساعد على تخطيط معركة الأطلنطي وتصميم القنبلة الذرية واختراع الكمبيوتر. وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين، وبينما كان يصارع الموت متأثرًا بسرطان العظام الذي أصابه على الأرجح نتيجة حضوره تجارب تفجير ذرية، نشر مذهبه حول استراتيجية حافة الهاوية النووية وهو يتجول بكرسيه المتحرك عبر أروقة السلطة في واشنطن؛ حيث استُوحي من قصته — جزئيًّا على الأقل — فيلم «الدكتور سترينجلاف» للمخرج ستانلي كوبريك.

لعب فون نويمان في عالم الاقتصاديين دور كائن غريب ينتمي إلى جنس أعظم تقدمًا بكثير، فيهبط لفترة وجيزة لإطلاع الآخرين على معارفه. وقد غيَّرت ورقة بحثية كتبها في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين عن رياضيات التوازن الاقتصادي أسلوب مناقشة هذا الموضوع تغييرًا تامًّا.5 بل وربما كانت الثورة الفكرية التي فجرتها الورقة التي كتبها عن استراتيجية البوكر سنة ١٩٢٨ أعظم أهمية.

كان يوجد بالفعل تراث علمي قوامه استجلاء المبادئ الرياضية المباشرة لألعاب كالشطرنج، أما البوكر فلعبة مختلفة؛ إذ لا يشتمل على مجموعة «صحيحة» من الحركات، بل مجرد مزيج غير يقيني من الغش والانسحاب. شرع فون نويمان يستعيض عن الحدس والاجتهاد اللذين يعتبران أساسيين في نجاح البوكر بنهج عقلاني رياضي اشتمل على تغيير المرء تحركاته عشوائيًّا بحيث لا يستطيع الخصم التعرف على نمط ما. بعبارة أخرى، يقرر اللاعب ما إذا كان يستمر أو ينسحب برمي عملة معدنية، وحيث إن بعض الحركات تبشر بالنجاح أكثر من غيرها، يرجِّح اللاعب القرعة العشوائية نحو هذا التحرك أو ذاك (تأمَّل نرد فريد ماكولاي المثقل أو عملة معدنية غير متوازنة تستقر على «الوجه» بنسبة ٦٠ في المائة من المرات). لم تكن هذه الاستراتيجية طريقًا سريًّا إلى فوز مؤكد، بل كانت مجرد طريقة متسقة منطقيًّا لممارسة هذه اللعبة، ولاتخاذ قرارات في مواجهة اللايقين.

وصل مورجنشتيرن إلى الولايات المتحدة سنة ١٩٣٨ بعد أن أجبره النازيون على الرحيل عن فيينا، وحصل على وظيفة في برنستون. بحث عن فون نويمان وأخذ يلح عليه كي يعيد النظر في نظرية البوكر التي وضعها ويبحث آثارها على الاقتصاد، فكانت النتيجة كتاب «نظرية المباريات والسلوك الاقتصادي» الواقع في ٦٤١ صفحة، الذي اشترك في تأليفه فون نويمان ومورجنشتيرن ونُشر سنة ١٩٤٤. فيما يتعلق بمحض نظرية المباريات، لم يُضِف الكتاب إلا قليلًا إلى ما كان فون نويمان قد كتبه سنة ١٩٢٨،6 وإن كان أعطى شكلًا ووزنًا لفكرة فون نويمان الكبرى، كما حلَّ أيضًا المأزق الذي واجهه شرلوك هولمز المسكين والدكتور موريارتي. فوفقًا لحسابات فون نويمان، ينبغي أن يقرر هولمز عشوائيًّا مع وجود احتمال بنسبة ٦٠ في المائة أن ينزل من القطار في المحطة الوسيطة، فيما ينبغي أن يقرر موريارتي مع وجود احتمال بنسبة ٦٠ في المائة أن يمضي في رحلته مباشرة إلى دوفر.7 أفهمت ذلك؟
بالنسبة للاقتصاديين، لم تكن نظرية المباريات نفسها هي الجزء الذي ولَّد أكبر انطباع فوري من أجزاء الكتاب، بل الفصل الذي يتناول كيف ينبغي أن يزن المرء المحصلات المحتملة قبل أن يقرر اتخاذ خطوة ما، وخلاصته: عندما تكون المحصلات غير يقينية، فكِّر بطريقة احتمالية. خصص قيمة عددية (تعرف أيضًا باسم المنفعة) لكل محصلة محتملة، ثم قرِّر مدى احتمال كلٍّ منها. اضرب الاحتمال في المنفعة، تحصل على ما صار يعرف باسم «المنفعة المتوقعة لفون نويمان-مورجنشتيرن». وينبغي للأشخاص العقلانيين تعظيم هذه المنفعة. لم تكن هذه فكرة جديدة بالكلية؛ حيث ذكر الرياضي دانيال بيرنولي نهجًا مماثلًا سنة ١٧٣٨ (نُشرت مقالته في مجلة «إيكونومتريكا» باللغة الإنجليزية أول مرة سنة ١٩٥٤).8 لكن في ذلك الزمان كان هناك كثير من الاقتصاديين مهتمون بمعرفة المزيد، وصار معلِّمُهم الأول الأوكرانيُّ المولد جاكوب مارشاك، أستاذ الاقتصاد بجامعة شيكاجو والمدير البحثي لهيئة كاولز.
كان ألفريد كاولز الثالث قد نقل المنظمة (وانتقل هو الآخر) إلى شيكاجو سنة ١٩٣٩ عندما آل إليه مقعد العائلة في مجلس إدارة تريبيون كومباني بوفاة أبيه. وبعد ذلك ببضع سنين، اجتذب مارشاك — الذي سبق أن رفض الوظيفة نفسها عندما كان مقر الهيئة ما زال في كولورادو — من نيو سكول فور سوشال ريسيرتش في نيويورك. كان مارشاك قد تعلم الإحصاء في كييف على يد يوجين سلوتسكي، الذي أثبت أن الأمواج الظاهرية في البيانات الاقتصادية يمكن أن تكون عشوائية تمامًا. وبعد مشوار مهني مقتضب وزاخر بالأحداث على نحو مدهش كسياسي ديمقراطي اجتماعي في سن المراهقة خلال السنوات التي تلت الثورة الروسية مباشرة، فر مارشاك إلى ألمانيا؛ حيث درس الاقتصاد والتقى فون نويمان. وفي هيئة كاولز، جمع مارشاك حوله كوكبة متألقة ممن فازوا فيما بعد بجائزة نوبل (قال مارشاك مفسرًا: «أختار أشخاصًا أصحاب رؤية نافذة».)9 ليبحثوا معًا آخر ما توصل إليه علم الاقتصاد الرياضي.
كان كتاب فون نويمان ومورجنشتيرن من ضمن آخر ما توصل إليه هذا العلم، وأتى مارشاك بفون نويمان إلى شيكاجو لحضور ندوة مدتها يومان حول نظرية المباريات سنة ١٩٤٥. وبعد ذلك بقليل، كتب مقالًا ترجم فيه مفهوم فون نويمان ومورجنشتيرن للمنفعة المتوقعة إلى لغة يفهمها رفاقه الاقتصاديون. وقد أجمل مارشاك بقوله: «أن تكون «رجلًا اقتصاديًّا» يعني ضمنًا أن تكون «رجلًا إحصائيًّا».»10

•••

لو كان هناك في أي وقت رجل إحصائي، فهو هاري ماركويتز. فابن البقال الذي ينتمي إلى شمال غرب شيكاجو أتم بسرعة برنامجًا خاصًّا للبكالوريوس مدته سنتان في جامعة شيكاجو، وكان يدرس لنيل الدكتوراه وهو «عضو طالب» في هيئة كاولز. درس الإحصاء في شيكاجو على يد أستاذه ليونارد «جيمي» سافيدج، أحد مخضرمي فريق البحوث الإحصائية بجامعة كولومبيا إبان الحرب، الذي وصفه ميلتون فريدمان، الذي تعاون معه في وقت ما، بأنه «أحد قلائل لقيتهم ويمكنني أن أنعتهم بالعباقرة بلا تردد.»11 درس رياضيات المفاضلات على يد جالينج كوبمانز، وهو فيزيائي هولندي تحول إلى اقتصادي، فازَ فيما بعدُ بجائزة نوبل. كان كوبمانز قد طور إبان الحرب طريقة سُميت فيما بعد «البرمجة الخطية» لتحديد أكفأ استخدام للسفن التجارية العابرة الأطلنطي جيئة وذهابًا.12 كان جيكوب مارشاك هو المشرفَ على أطروحة ماركويتز وأستاذه في الاقتصاد الكلي ومرشده إلى أفكار فون نويمان ومورجنشتيرن. يقول ماركويتز عائدًا بالذاكرة إلى الوراء: «عندما قرأت مسلمات فون نويمان لأول مرة، لم أقتنع. فقال لي أحدهم في هيئة كاولز: «حسنًا، عليك بقراءة صياغة مارشاك لمسلمات فون نويمان.» فقرأت صياغة مارشاك فاقتنعت.»
ذات يوم سنة ١٩٥٠، كان ماركويتز جالسًا خارج مكتب مارشاك في هيئة كاولز منتظرًا الحديث مع مشرفه عن موضوعات الأطروحة المحتملة، وكان هناك سمسار أسهم ينتظر أيضًا، فدار بينهما حديث اقترح على الطالب فيه الكتابة عن سوق الأسهم.13 عندما أطلع ماركويتز مارشاك على فكرته، أبدى الأستاذ رد فعل حماسيًّا، ربما بدافع الشعور بالذنب لتوجيهه أبحاث هيئة كاولز بعيدًا جدًّا عن اهتمام مؤسسها الأصلي بهذه السوق، ثم أعطى ماركويتز نسخة من ورقة كاولز البحثية عن التنبؤ التي أعدَّها سنة ١٩٣٢ وتأريخه لسوق الأسهم لسنة ١٩٣٨، وأرسله إلى عميد كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال بشيكاجو طلبًا لنصيحته حول ما ينبغي له قراءته بخلاف ذلك.

أوصاه العميد مارشال كتشام بعدَّة كتب منها «تحليل الأوراق المالية» لبنجامين جراهام وديفيد دود، و«نظرية القيمة الاستثمارية» لجون بير وليامز. كان جراهام مدير أموال ناجحًا في نيويورك ومحاضرًا في جامعة كولومبيا، وكان دود أستاذًا بكلية كولومبيا لإدارة الأعمال. كان «تحليل الأوراق المالية»، الذي نشر أول ما نشر سنة ١٩٣٤، قد تحول إلى عمل شديد التأثير في وول ستريت. قرأ ماركويتز كل كلمة وكل حاشية فيه، لكنه لم يجد فيه مصدر إلهام. فالكتاب دليل ممتاز للبحث عن الصفقات، لكنه ليس عونًا كبيرًا لشخص يبحث عن نظرية عامة للاستثمار.

كان كتاب «نظرية القيمة» لوليامز أكثر ملاءمة في نهجه. كان وليامز مصرفيًّا استثماريًّا صغيرًا في بوسطن عندما حلَّ الانهيار الكبير، فظل في شركته حتى سنة ١٩٣٢، ثم التحق ببرنامج هارفرد لدكتوراه الاقتصاد على أمل أن يتعلم «فهم آليات الاقتصاد ككل». كان مشرفه جوزيف شومبيتر قلقًا من أن معتقدات وليامز السياسية المحافظة ربما تثير سخط غيره من أعضاء اللجنة المشرفة على الأطروحة، فحثه على التركيز على موضوع لا يجرؤ أحد على تحديه فيه.14 فكانت النتيجة «نظرية القيمة الاستثمارية». كتب وليامز يقول: «لن يدفع أبدًا الرجال العقلانيون — عندما يشترون الأسهم والسندات — أكثر من القيمة الحالية للأرباح المستقبلية المتوقعة … ولا يمكنهم أن يدفعوا أقل، بافتراض وجود منافسة تامة وامتلاك كل المتعاملين معلومات متساوية.»15

وهكذا كان الكتاب دليلًا لتقييم الأسهم على أساس الأرباح المستقبلية المتوقعة على نحو يشبه كثيرًا ما ذكره إرفينج فيشر قديمًا سنة ١٩٠٦. أهمل وليامز الجزء الثاني من معادلة التقييم لفيشر، وهو اللايقين، وكتب في أولى صفحات الكتاب يقول: «لا يوجد مشترٍ يعتبر جميع الأوراق المالية متساوية الجاذبية بأسعارها السوقية الحالية مهما تصادف أن تكون عليه هذه الأسعار. بل على العكس، هو يبحث عن «أفضل ورقة مالية بهذا السعر».» كان ماركويتز مرتابًا. فقد نصح جراهام ودود قُرَّاءهما بتنويع المحفظة، وإن كانا لم يتعمَّقا في كيفية هذا التنويع ودواعيه. ومع تعمُّقه في قراءة «نظرية القيمة الاستثمارية»، رأى ماركويتز أنه حتى وليامز افترض أن المستثمرين سيملكون أوراقًا مالية كثيرة. فالشخص الذي كان عازمًا على شراء «أفضل ورقة مالية بهذا السعر» دون غيرها لم يكن ليشتري إلا سهمًا واحدًا، وأعني أفضل سهم. ومع ذلك، الحمقى وحدهم هم من كانوا يفعلون ذلك.

يقول ماركويتز: «لا شك أن المستثمرين ينوِّعون لتجنب المخاطر. ما كان ينقص تحليل وليامز هو فكرة مخاطر المحفظة ككل.» بدأ ماركويتز يتفكر في نهج قائم على المنفعة المتوقعة لفون نويمان ومورجنشتيرن. فأي مستثمر كان سيجري تقييمًا للعائد الذي يتوقعه من سهم معين، ثم يقيِّم احتمال أن يكون تقييمه صحيحًا. عبَّر ماركويتز عن هذا التقدير باعتباره المتوسط (العائد المتوقع) والتباين (مقياسًا لمدى انتشار توزيع ما). فكلما كان التباين أعلى، ازداد احتمال أن يكون أداء السهم أسوأ من المتوقع أو أفضل منه. وفي حين أن هذا لم يكن هو الفهم السائد للمخاطر في وول ستريت — الذي كانت المخاطر فيه تعني احتمال تدهور الأمور — كان منطلَقًا معقولًا لمعادلة رياضية للتنويع.

تفكَّرَ ماركويتز في هذا مليًّا وهو جالس في مكتبة كلية شيكاجو لإدارة الأعمال يقرأ كتاب وليامز. وبعد أن اختار التباين، نهض واقفًا ووجد كتابًا يتحدث عن الاحتمال «أظهر أن تباين مجموع مرجَّح لمتغيرات عشوائية (مثلًا، العائد على محفظة أوراق مالية) يشتمل على التباينات المشتركة والترابطات بين المتغيرات العشوائية.» حسبما قال بعد ذلك بسنوات. أما صياغة ماركويتز فكانت كالتالي: «قال الكتاب إن مخاطر المحفظة لا ترتبط بمخاطر الأوراق المالية الفردية الموجودة بها فحسب، بل أيضًا بمدى تحركها صعودًا وهبوطا معًا.» انطلاقًا من ذلك، كان ماركويتز على مبعدة بضعة معادلات عن التفرقة بين المحفظة «الكفء» (المحفظة التي تحقق أعلى أرباح ممكنة نظير مقدار معين من المخاطر) والمحفظة «غير الكفء». وقد استمد المصطلحات، والمبادئ الرياضية، مباشرة من مقرر البرمجة الخطية الذي درسه على يد جالينج كوبمانز.16

لم يحصل ماركويتز على موضوع لأطروحته فحسب، بل على فكرة ستُحدث تحولًا في الاستثمار. لكن قبل أن يتمكَّن من الحصول على درجته العلمية، كان عليه أن يتحمل مضايقة غير متوقعة من فريدمان أثناء مناقشة الأطروحة. يقول ماركويتز عائدًا بالذاكرة إلى ذلك الموقف: «يقول فريدمان بعد بدء المناقشة بدقيقتين: «حسنٌ، أنا لا أجد خطأً في المبادئ الرياضية، لكن هذه ليست بأطروحة في علم الاقتصاد، ولا يمكن أن نمنحك درجة دكتوراه في الاقتصاد.» ويستمر الحال هكذا، وفي مرحلة ما يقول: «لديك مشكلة يا هاري. إنها ليست اقتصادًا ولا إدارة أعمال ولا رياضيات.» ويقول مارشاك إنها ليست «أدبًا».»

حصل ماركويتز على الدكتوراه، وقال له فريدمان فيما بعد إنه لم يكن هناك أي احتمال «ألا» يحصل عليها. لكن بعد ذلك بنصف قرن، أيَّد فريدمان ما قاله من قبل. «كل عبارة هناك صحيحة. إنها ليست اقتصادًا ولا رياضيات ولا إدارة أعمال. إنها شيء مختلف. إنها مالية.»

•••

لم يكن هناك طلب كبير على هذه الصورة الكمية الجديدة للمالية سنة ١٩٥٢. فحصل ماركويتز بعد إتمامه دراسته في جامعة شيكاجو على وظيفة في مجال البرمجة الخطية في مؤسسة راند، وهي مؤسسة بحثية أنشأها سلاح الطيران بعد الحرب جمعت بين رياضيين (كان فون نويمان من أعضائها المخلصين) وفيزيائيين واقتصاديين وأساتذة علوم سياسية ومبرمجي كمبيوتر لدراسة أهم مسائل الحرب والدبلوماسية. غير أن مقاله عن نظرية المحفظة استرعت انتباه مؤسسة ميريل ذاتها التي سبق أن موَّلت أبحاث هولبروك وركينج، فمولت — بالاشتراك مع ما كانت تسمى آنذاك مؤسسة كاولز (التي كان ألفريد كاولز قد نقلها إلى جامعة ييل في صيف ١٩٥٥) — ماركويتز لقضاء السنة الأكاديمية ١٩٥٥-١٩٥٦ في جامعة ييل عاكفًا على توسيع أطروحته لتصبح كتابًا نُشر سنة ١٩٥٩ بعنوان «اختيار المحفظة».

أراد ماركويتز أن يكون الكتاب دليلًا عمليًّا بحق للاستثمار الحديث حتى ولو بالغ في جانبه الكمِّيِّ. وللوصول به إلى ذلك الحد، كان عليه أن يواجه مباشرة بعض المسائل الشائكة التي تجاهلها في ورقته البحثية الأصلية. كانت أكبر معضلة هي كيف يُفترض لشخص أن يمارس حياته كرجل إحصائي لا في لعبة ذات قواعد محددة بوضوح بل في عالم ملتبس مشوش. كيف يمكن للمرء أن يخصص احتمالات عددية لأحداث مستقبلية غير مؤكدة؟

الإجابة — كما خلص إليها لوي باشوليي قديمًا في سنة ١٩٠٠ — أنه لا سبيل إلى ذلك. فتقييمات كل واحد للمستقبل هي بالضرورة تقييمات شخصية وذاتية. لكن «يمكن» استحداث قواعد تحكم كيفية تعديل تلك التقييمات في مواجهة أدلة جديدة، والرجل الذي وضع هذه القواعد في أوائل خمسينيات القرن العشرين هو جيمي سافيدج — أستاذ ماركويتز الذي علمه الإحصاء. يقول ميلتون فريدمان عائدًا بذاكرته إلى الوراء: «كان جيمي سيقول: «ليس دور علم الإحصاء اكتشاف الحقيقة، بل دوره حل الخلافات بين الناس».»17
عرض سافيدج فلسفة الاحتمال لديه في كتاب نُشر سنة ١٩٥٤ بعنوان «أُسس الإحصاء» احتفظ ماركويتز بنسخ ورقية الغلاف منه في مكتبه بعد ذلك بنصف قرن ليعطيها زوَّاره. يعقد سافيدج في مستهل الكتاب مقارنة بين المثلين القائلين: «انظر قبل أن تقفز»، و«يمكنك عبور ذلك الجسر عندما تبلغه.» حيث كتب يقول: «عندما يتضارب مثلان على هذا النحو، فالصحيح عمومًا أن هناك بعض الحقيقة في كليهما، لكن قلَّما يمكن — هذا إنْ حدث من الأساس — أن يصور مثل بليغ واحد حقيقتهما المشتركة.»18 كانت مهمة اتخاذ القرار الإحصائي أن يجد الحقيقة المشتركة التقريبية بين طرفي المثلين النقيضين.
يعجُّ التراث الاستثماري بالأمثلة التي يتضارب كثير منها، ولتنظر إلى النصيحة العتيقة: «لا تضع البيض كله في سلة واحدة»، ونقيضها الذي يُنسب إلى أواخر القرن التاسع عشر — لعل أول من قاله أندرو كارنيجي، لكنه اشتهر على لسان شخصية ديفيد ويلسون في إحدى روايات مارك توين — «ضع البيض كله في سلة واحدة وراقب تلك السلة19
كان ماركويتز يحاول استخدام الإحصاء لإيجاد الحقيقة المشتركة التقريبية بين هذين الطرفين. في القرن السادس عشر، أعلن أنطونيو — إحدى شخصيات مسرحية تاجر البندقية لشكسبير — في سعادة (وإنْ أفرط في ثقته):
ثروتي لم أودعها كلها في سفينة واحدة، ولم أوجِّهها إلى مكان واحد، بل وهي ليست مرتبطة بأسرها بمصير تجارتي هذا العام وحده؛ ولهذا فليس صحيحًا أن مصدر حزني هو القلق على تجارتي.20
علق ماركويتز قائلًا بإعجاب: «لا شك أن شكسبير لم يكن على دراية بالتنويع فحسب، بل كان — على مستوى بدهي — يدرك التباين المشترك.»21 كان هناك كثيرون في وول ستريت أيضًا يدركون كلا المفهومين بدهيًّا. وكان هدف ماركويتز هو إنشاء ما اقترحه إرفينج فيشر أول ما اقترحه سنة ١٩٠٦، وأعني نظامًا يخصص أرقامًا لحدس المستثمر؛ ومن ثَمَّ يُنتج معادلة متسقة لبناء المحفظة. كان يحاول تحويل القواعد المستمدة من الخبرة إلى علم.
قورن نهج ماركويتز في اختيار المحفظة بنهج جيرالد لويب، المؤسس المشارك لشركة إي إف هاتون للسمسرة التي كانت ذات يوم من الشركات العظمى. في سنة ١٩٣٥، ألَّف لويب كتاب «معركة البقاء الاستثماري»، وهو دليل للمتهوِّرين لفهم السوق ما زال له أتباعه إلى اليوم. ومن الرسائل الأساسية التي يتضمَّنها الكتاب أنه «حالما تُحقق الكفاءة، لا يكون التنويع مستحبًّا.»22 لم يكن ذلك يقينًا موقف ماركويتز، لكن عمله لم يتعارض معه بالكلية. فقد منح مقياس ماركويتز للتباين المستثمرين إمكانية التعبير عن مستوى كفاءتهم، أو ثقتهم في آرائهم. فالشخص الذي يظن أنه يعرف عن المستقبل قدر ما يظن جيرالد لويب أنه يعرف، سيخصص تباينًا صغيرًا لمختاراته المفضلة. أضف اليقين إلى معادلة ماركويتز، وستتمخَّض عن محفظة كفء تتألف من بضعة أسهم فحسب.
قدم كتاب ماركويتز إرشادات مكثفة حول كيفية اتباع مسلَّمات سافيدج لترجيح الأدلة في مواجهة اللايقين، لكنه لم يكن بذلك يحاول اغتصاب عمل إصدار تنبؤات سوق الأسهم وتقييمات المخاطر من وول ستريت؛ حيث قال: «كانت رغبتي أو افتراضي أنها ستأتي من محللي أوراق مالية. وما زلت أقول: «وظيفتي كأخصائي بحوث عمليات هي أن تعطيني التقديرات فأحسب المحافظ أسرع من أي شخص آخر».»23 اشتمل الكتاب على العديد من التنازلات لصالح الواقع العملي، على الرغم من كل صفحاته وصفحات الرموز الرياضية.

كان ماركويتز يعلم أن رؤيته الإحصائية للمخاطر بصفتها انتشار المحصلات المحتملة حول متوسطٍ ما ليست بالضرورة المخاطر التي تهمُّ المستثمر، الذي يهتم بما يمكن أن يُخفق أكثر من اهتمامه بما يمكن أن ينجح فجأة. فابتكر مقياسًا سماه «شبه التباين» — يسمى الآن عادة مخاطر الهبوط — ليقيس فحسب مخاطر كون أداء الاستثمار أسوأ من المتوقع. لم يكن ممكنًا أن تفعل بشبه التباين كل الأشياء التي يمكنك فعلها رياضيًّا بالتباين، لكن ماركويتز اعترف على الأقل بأن شبه التباين مهم.

كما اعترف أيضًا بأن اختلاف المستثمرين ربما يؤدي إلى اختلاف الأشياء التي يرغبون في تعظيمها. كانت معادلته الأصلية لاختيار المحفظة تستهدف أعلى متوسط حسابي ممكن للثروة المتوقعة، بمعنى أنك تأخذ كل المحصلات الممكنة لاستثمارك (ربح مليون دولار، الإفلاس، إلى آخره)، وتجمعها مع ترجيحها حسب إمكانية حدوث كل احتمال، وتقسمها للحصول على المتوسط. وللحصول على المتوسط الهندسي، اضرب واحسب الجذر. يعطي هذا المتوسطُ الهندسي المحصلاتِ المتطرفة وزنًا أكبر بكثير. فإذا كان هناك احتمال أن يحقق رهانٌ ما عائدًا مذهلًا، فسيقودك نهج المتوسط الحسابي إلى المراهنة بالكثير من الأموال — ما لم يكن هناك أيضًا احتمال أن يَقضي عليك تمامًا، وفي هذه الحالة فإنك لن تراهن بتاتًا (فإذا ضربنا صفر دولار في أي شيء يظل الناتج صفرًا). كان محلل سابق في وول ستريت يدْرس المالية في جامعة نورث كارولينا قد اقترح هذا النهج الهندسي في ورقة بحثية قدمها خلال ندوة لمؤسسة كاولز سنة ١٩٥٦، وقد خصص له ماركويتز فصلًا في كتابه الذي نشر سنة ١٩٥٩.24

كان ماركويتز يحاول صياغة نصيحته لتتطابق مع واقع وول ستريت. وكان من يدركون هذا في وول ستريت قليلين. فحاول ماركويتز إقناع المسئولين التنفيذيين في شركة سمسرة صغيرة نوعًا ما بنهجه، واصفًا كيف يمكنهم تتبع تقديرات محلليهم على مدار بضع سنوات، والتعرف على ماهية هامش الخطأ المعتاد وما إذا كانت هناك أية تحيزات منتظمة، ثم إدخال متوسط معدل الخطأ في معادلة اختيار المحفظة. كان رئيس الشركة محللًا مخضرمًا وما زال يجري عمليات انتقاء للأسهم، ولم يخطر ببال أحد اختبار «تنبؤاته» للتأكد من دقتها. يعود ماركويتز بذاكرته إلى ذلك الموقف قائلًا: «كان الرد: «كلا، نشكرك».»

خلَّف ذلك دارسي السوق الأكاديميين، الذين صاروا يعتنقون نهج ماركويتز الإحصائي بحماس، لكنهم لم يعتنقوه إلى الحد الذي كان ماركويتز قد تصوره. في أواخر ستينيات القرن العشرين، حصل ماركويتز على فترة راحة أخرى من راند لإعداد طبعة جديدة من كتابه وتدريس نظرية المحفظة في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. أعدَّ أحد طلابه — وهو مارك روبنشتاين — قائمة بالبحوث الأكاديمية التي تضمَّنت عمله بين مراجعها، وعندما بدأ ماركويتز قراءتها، أصابته الدهشة، وقال لروبنشتاين: «الناس لم يقرءوا كتابي. لقد قرءوا ورقتي البحثية، لكنهم لم يقرءوا كتابي.»25 كان السبب في هذا نوعًا ما أن الاقتصاد والمالية كانا قد بلغا تلك المرحلة المتقدمة من مراحل تطورهما الأكاديمي، التي لم تكن هناك أهمية فيها إلا للمقالات المنشورة في المجلات. فلم يعد هناك أحد يقرأ كتبًا. كما كان السبب أيضًا أن معظم الأكاديميين المتخصصين في المالية كانوا قد كفوا عن الاهتمام بالعمل الشاق المتمثِّل في إبداء اجتهادات بشأن المخاطر والعائد في سوق الأسهم. ففي النهاية، من ذا الذي يحتاج إلى اجتهادات بينما كان يعرف الجميع أن تحركات أسعار الأسهم عشوائية تمامًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤