الفصل الخامس

مودلياني وميلر يتوصلان إلى افتراض تبسيطي

المالية — نسخة كليات إدارة الأعمال من علم الاقتصاد — تُحوَّل من ميدان بحوث تجريبية وقواعد مستمدة من الخبرة إلى ميدان تحكمه النظرية.

***

بعد أربع سنوات من نشر جون فون نويمان وأوسكار مورجنشتيرن دليلهما المليء بالمعادلات لتقييم المكاسب والخسائر المحتملة في مستقبل غير مؤكد، طرح الاقتصادي ميلتون فريدمان والإحصائي جيمي سافيدج طرحًا مذهلًا؛ حيث كتبا يقولان إنه يمكن — ببعض التعديلات فحسب — أن تصف نظرية المنفعة لنويمان ومورجنشتيرن الطريقةَ التي يتخذ بها الناس القرارات الاقتصادية في الواقع، وجادلا بأن الأفراد — على الأقل — «يسلكون «كما لو» أنهم حسبوا المنفعة المتوقعة وقارنوها و«كما لو» كانوا يعرفون الاحتمالات.»

لتحاشي الاعتراض البديهي بأنه من السخف أن نظن أن الأشخاص العاديين يفكرون وفقًا للقواعد الإحصائية المعقدة، جادل فريدمان وسافيدج بأن لاعبي البلياردو لا يستطيعون تدوين معادلات الفيزياء التي تقوم عليها اختياراتهم للضربات، لكنهم على الرغم من هذا «يتصرفون» كما لو كانوا يستطيعون ذلك.1 أعجب هذا التشبيه فريدمان كثيرًا لدرجة أنه كرره بعد ذلك بخمس سنوات في مقالة بعنوان «منهجية الاقتصاد الإيجابي»، وقد صارت هذه المقالة معلمًا بارزًا، صارت المقالة الأشهر من بين العديد من البيانات المماثلة الصادرة عن اقتصاديين شباب ذوي ميول رياضية في تلك الأيام. آذنت هذه المقالات بنبذ المؤسَّسِيين من التيار الاقتصادي السائد ونبذ تشككهم في النظرية نبذًا قاطعًا.2
لم يكن فريدمان متطرفًا، على الأقل في مناهجه الاقتصادية. فالصبي الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة بمدينة رُواي بولاية نيوجيرسي، والذي تخصص في الرياضيات في جامعة راتجرز وكان يأمل أن يصبح إكتواريًّا، وجَّهه نحو الاقتصاد مُعلِّمان شابان؛ أحدهما أحد تلاميذ نظريات إرفينج فيشر النقدية بجامعة شيكاجو، والآخر (وهو آرثر بيرنز) هو تلميذ الرمز المؤسَّسِي ويسلي ميتشل وخليفته في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في نهاية المطاف. قسَّم فريدمان سنوات الدراسات العليا بين شيكاجو النيوكلاسيكية وكولومبيا المؤسَّسِية، وبعد حصوله على درجته العلمية، عمل لصالح ميتشل في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. وبعد أن نشر جالينج كوبمانز — مدير هيئة كاولز — نقدًا شديد الإساءة لآخر كتب ميتشل (ونسوق نموذجًا لذلك: «تُدْرس تحركات المتغيرات الاقتصادية كما لو كانت اندلاعات بركان غامض لا يمكن أبدًا النفاذ إلى مرجله الفائر».)3 دافع فريدمان عن رئيسه السابق بصفته منظِّرا تجريديًّا.4
على الرغم من ذلك، لم يتردد فريدمان عندما حان الوقت لاتخاذ موقف. كانت الدراسة العملية مهمة، لكن يجب أن تأتي النظرية أولًا. كان أكبر نقد يوجِّهه المؤسَّسِيون للنظرية الاقتصادية التقليدية منذ زمن طويل هو عدم واقعية افتراضاتها، وأن الإنسان ليس في الواقع «آلة حاسبة بشرية للملذات والآلام» كما عبَّر ثورستاين فبلن سنة ١٨٩٨.5 وكان رد فريدمان المحرِّر والرائع سنة ١٩٥٣: وماذا في ذلك؟!
إن السؤال المهم الذي ينبغي طرحه حول «افتراضات» نظريةٍ ما، لا يتعلق بما إذا كانت هذه الافتراضات «واقعية» من الناحية الوصفية؛ لأنها لا تكون أبدًا كذلك، بل يتعلق بما إذا كانت مقاربات جيدة بالقدر الكافي للغرض المعنيِّ. ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بمعرفة ما إذا كانت النظرية تُفلح أم لا، بمعنى ما إذا كانت تتمخَّض عن تنبؤات دقيقة بالقدر الكافي أم لا.6

كتب فريدمان يقول إن كل النظريات العلمية تبسيطات مفرطة غير واقعية. لقد تقدم العلم بغربلة تعقيد الواقع واختزاله إلى نماذج من الواضح أنها غير واقعية. لم تكن هناك قاعدة ثابتة بشأن الكيفية التي ينبغي بها بناء تلك الأنظمة. فعلماء الاجتماع — على سبيل المثال — يركِّزون على مجموعة مختلفة تمامًا من البواعث الإنسانية عما يركِّز عليه الاقتصاديون. لكن سعي الاقتصاديين «الدءوب وراء المصلحة الذاتية المالية» — حسب وصف فريدمان — هو افتراض تبسيطي مفيد وثابت عن السلوك البشري. كتب فريدمان يقول إن تجارب العلوم الفيزيائية التي تخضع ظروفها للتحكم كانت غير عملية بالنسبة لعلماء الاجتماع، والتجول من أجل طرح أسئلة على الناس تتعلق بقراراتهم الاقتصادية «يكاد يستوي مع اختبار نظريات طول العمر بسؤال من بلغوا الثمانينيات عن تفسيرهم لطول أعمارهم.» إذن لم تكن هناك إلا طريقة واحدة مشروعة لممارسة الاقتصاد؛ ألا وهي بناء نماذج استنادًا إلى سلوك عقلاني، ثم اختبار تنبؤاتها قياسًا على بيانات اقتصادية فعلية.

في أواخر أربعينيات القرن العشرين وأوائل خمسينياته، كان لا يزال هناك بعض الجدل حول ما يشكل سلوكًا عقلانيًّا. فحاول فريدمان وسافيدج أن يفسرا — بواسطة ما سمياه منحنى المنفعة «المتذبذب» — سلوك من يشترون كلًّا من التأمين وبطاقات اليانصيب، وهو سلوك غير مشمول في نماذج اتخاذ القرارات لفون نويمان ومورجنشتيرن. اقترح هيربرت سايمون — الأستاذ بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا — أن الناس على أرض الواقع لا يملكون الوقت ولا الطاقة الذهنية لإجراء حسابات للاحتمالات، وأنهم بدلًا من ذلك يتخذون طرقًا ذهنية مختصرة للوصول إلى اختيارات.7 وجادل الاقتصادي الفرنسي موريس أليه بأننا نثمِّن اليقين وشبه اليقين أكثر بكثير مما تسمح به معادلات فون نويمان ومورجنشتيرن.8

لكن قبل مضي زمن طويل، سئم الاقتصاديون الجدل. كانوا منشغلين ببناء نماذج للسلوك الاقتصادي، وكان فريدمان قد علَّمهم أن التمحيص الدقيق للافتراضات القائمة من وراء هذه النماذج مضيعة للوقت. كان لديهم بالفعل إحصائي فون نويمان-مورجنشتيرن، فلماذا يشوشون الصورة؟

جاءت الذروة المجردة للتنظير الاقتصادي التي أتاحتها مثل هذه الافتراضات التبسيطية من أكاديميين شابين كانا قد عملا في هيئة كاولز، وهما كنيث أرو وجيرار دبرو،9 اللذان أعادا — في مقالة كتباها معًا وفي العديد من الأعمال المنفصلة في خمسينيات القرن العشرين — بناء نظرية التوازن الاقتصادي من أساسها. بلغ ما صار يعرف منذ ذلك الحين باسم «توازن أرو-دبرو» (أو «إطار أرو-دبرو» أو «نموذج أرو-دبرو الفكري» أو «أرو-دبرو» فحسب) مبلغ برهان رياضي على وجود اليد الخفية التي قال بها آدم سميث. كانت هذه النسخة أكثر اتساقًا من الناحية المنطقية وتعقيدًا من الناحية الرياضية بكثير من سابقاتها. والأمر البالغ الأهمية أنها أفسحت المجال لنشطاء اقتصاديين لا يستطيعون التنبؤ تمامًا بالمستقبل. ما كان يحتاجه تحقيق التوازن في ظل اللايقين هو ما أسماه أرو سوق أوراق مالية «كاملة» يستطيع المرء فيها أن يراهن على كل حالة مستقبلية ممكنة من أحوال العالم أو يؤمِّن ضدها.

لم تكن مثل هذه السوق موجودة بالتأكيد، وقضى أرو معظم ما تبقى من مشواره المهني يبحث طرق اختلاف الواقع الاقتصادي عن نظرية التوازن. لكن الحماس الذي ولَّده توازن أرو-دبرو والاختراقات النظرية الكبرى الأخرى في ذلك العصر كانت مُعدية؛ حيث انتشرت إلى جُل ربوع علم الاقتصاد، بل وبدأت تترك أثرًا ملحوظًا على علم المالية العصيِّ.

•••

كانت المالية هي ما يتحدث عنه أساتذة كليات الأعمال عندما يتحدثون عن النقود. وحتى وقت متأخر من خمسينيات القرن العشرين، كانت تعاليم هذا العلم مزيجًا من الفطنة والاجتهاد والعُرف لا تربطه بالاقتصاد إلا صلة واهية. ويمكن اقتفاء أثر الانفصال إلى تأسيس كلية إدارة الأعمال الرائدة في جامعة هارفرد سنة ١٩٠٨. والشخص الذي كان بمنزلة القوة المحركة وراء إنشاء كلية هارفرد لإدارة الأعمال كان نفسه اقتصاديًّا، لكنه كان مقتنعًا بأن الكلية الجديدة ينبغي أن تؤكد على الجانب العمليِّ وتتجنب الاحتكاك بالأكاديميين الذين يضعون النظريات، بل إن العميد الثاني للكلية، الذي جلب «منهج دراسة الحالة» في التدريس من كلية هارفرد للقانون، لم يكن يحمل شهادة دراسات عليا.10 كتب جون بير وليامز بعد حصوله على ماجستير إدارة الأعمال من كلية هارفرد لإدارة الأعمال ودكتوراه من قسم الاقتصاد — يقول: «أدرك الآن لماذا تنأى كلية إدارة الأعمال بنفسها عن الجانب النظري. السبب أن كلية إدارة الأعمال ترتاب في النظرية المتاحة الآن.»11
صار هذا الارتياب أحد المبادئ الجوهرية لتعليم كليات إدارة الأعمال، وليس في هارفرد وحدها. وافق ميرتون ميلر — وهو أستاذ اقتصاد شاب بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا — على الانتقال إلى كلية إدارة الأعمال الجديدة بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا في أوائل خمسينيات القرن العشرين في مقابل راتب أكبر، وقبل تقديمه لطلاب إدارة الأعمال، حضر درسًا كاملًا حول المالية أُلقي بأسلوب «منهج دراسة الحالة» المتبع في هارفرد:
أتذكر أنني اندهشت عندما أخذنا الحالة رقم واحد في دفتر الحالات؛ لأن الحل لم يكن واضحًا لي، لكن بعد أن شرحه المعلم، قلت: نعم، هذا صحيح، هذا منطقي. ثم وصلنا إلى الحالة الثانية، فقلت: حسنٌ، أتذكر كيف توصلنا إلى حل للحالة الأولى؛ لذا لا بد أن تكون الإجابة على هذا النحو. وبالتأكيد كانت مختلفة. لم أكن أتبيَّن أية صلة بين أي حالة والتي تليها. كان كل شيء كما يقال عن تذاكر السكك الحديدية، إنها صالحة لهذا القطار بعينه وفي هذا اليوم وحده. بالنسبة لي — كاقتصادي — كان أمرًا محبِطًا بشدة أن أفتقر إلى فهم لإحدى نظريات المالية المؤسَّسِية لربط كل هذه المادة معًا.12

بدأ ميلر — الذي حصل حديثًا على الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز — يفكر في وضع مثل هذه النظرية. كان في المكان المثالي الذي يؤهِّله لذلك. كانت كلية الدراسات العليا في الإدارة الصناعية بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا — التي تأسست سنة ١٩٤٩ بمنحة مقدارها ٦ ملايين دولار قدمها أحد أفراد عائلة كارنيجي — نوعًا جديدًا من كليات إدارة الأعمال. وكان معهد كارنيجي للتكنولوجيا (أعيدت تسميته جامعة كارنيجي ميلون سنة ١٩٦٧) قد أعاد تنظيم برامجه الهندسية في أربعينيات القرن العشرين للتأكيد على الصرامة العلمية والرياضية في تعليم المدارس الصناعية المعتمد على الخبرة، وكان مخططًا فعل الشيء نفسه مع تعليم الإدارة. استعانت كلية إدارة الأعمال باقتصاديين وخبراء في البحوث العملياتية وعلماء سلوكيين شباب واعدين، وأطلقت لهم العنان في هيئة طلابية كانت في مستهل الأمر صغيرة جدًّا.

كان لطريقة التدريس هذه سلبياتها وإيجابياتها بالنسبة لطلاب الماجستير؛ حيث كان التركيز شبه الحصري على الجانب النظري يتركهم أحيانًا يرتجفون في العالم الواقعي. قال أحد خريجي سنة ١٩٥٣ مازحًا عن تجربته فيما بعد كارنيجي في الشركات الصغيرة: «تبحث حولك على نحو هستيري عن شيء تبرمجه خطيًّا، أو ربما أحد مواقف نظرية المباريات. أنت تعرف أنك لست أحسن حالًا من قطة على سطح صفيح ساخن.»13 لكن بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس والقلة من الطلاب الذين كانوا يمكثون للحصول على الدكتوراه، كانت كلية الدراسات العليا في الإدارة الصناعية بكارنيجي بيئة مثيرة للحماس على نحو مدهش. كان عضو هيئة التدريس الأكثر إثارة للحماس عن كل ما عداه هو هيربرت سايمون، الذي أتينا على ذكره من قبل كأحد المشككين في نظرية المنفعة لفون نويمان ومورجنشتيرن. سرعان ما يئس سايمون من اكتساب قبول بين الاقتصاديين بفضل أفكاره عن «العقلانية المحدودة»، فانتقل إلى علم النفس وعلوم الكمبيوتر. وهكذا تُركت إعادة صياغة دراسة المالية على غرار علم الاقتصاد الرياضي الحديث إلى اقتصاديَّين تقليديَّين من أعضاء هيئة تدريس كارنيجي.
كان ميلر أحدهما، وأما الآخر فهو فرانكو مودلياني، وهو إيطالي درس بعد هجرته إلى الولايات المتحدة سنة ١٩٣٩ على يد جاكوب مارشاك في كلية نيوسكول. كانا ثنائيًّا غير متجانس؛ حيث كانت توجهات ميلر السياسية تميل إلى اليمين، وتوجهات مودلياني إلى اليسار. كان ميلر مواليًا لأي فريق يرتبط به، سواء أكان فريق المالية الجديدة الذي أسهم في تمهيد الطريق له أو — بعد انتقاله إلى جامعة شيكاجو سنة ١٩٦١ — فريق شيكاجو بيرز. أما ولاءات مودلياني فكان يصعب إدراكها. بل إنه زعم بعد ذلك بسنوات أن المقالتين اللتين كتبهما مع ميلر وغيَّرتا العالم كُتبتا «على سبيل المزاح لأسخر في الواقع من زملائي.»14 الشيء الذي كان مشتركًا بين ميلر ومودلياني هو اعتقاد أن بناء النماذج الرياضية استنادًا إلى السلوك العقلاني هو ما فعله الاقتصاديون، وكانا يريان أن أساتذة المالية ينبغي أن يفعلوا الشيء نفسه.
كانت المسألة التي اضطلعا بها معًا في معهد كارنيجي للتكنولوجيا محورية لدراسة المالية المؤسَّسِية التي تتناول الكيفية، التي تقرر بها شركة معينة ما إذا كان استثمار معين يستحق الإقدام عليه أم لا. كان النهج العملي — الذي ابتكرته شركة «دوبونت» لتصنيع الكيماويات في العقد الثاني من ذلك القرن — هو المقارنة بين معدل العائد المتوقع على الاستثمار و«التكلفة الاقتصادية لرأس المال» المطلوب لتمويله.15 وبحلول خمسينيات القرن العشرين، كان هذا النهج في إعداد الموازنات الرأسمالية جزءًا من مناهج كليات إدارة الأعمال كلها. لكن كانت هناك عقبة غير متوقعة. لم يكن أحد يعرف في الحقيقة ما «التكلفة الاقتصادية لرأس المال». كانت الممارسة المتبعة هي أخذ سعر الفائدة الذي تدفعه الشركة على سنداتها، ثم إضافة علاوة مخاطر بمقدار نقطة واحدة مئوية أو اثنتين أو ثلاث أو أربع لتعويض عدم التأكد من الاستثمار. كان اختيار علاوة المخاطر تلك يكاد يكون اعتباطيًّا بالكلية.

كان مودلياني، بصفته خبيرًا في الاقتصاد الكلي، قد ظل يحاول حل هذه المسألة؛ نظرًا لأن قرارات الشركات بشأن ما إذا كانت تدخر الأموال أو تستثمرها في النمو المستقبلي تؤثر على دورة الأعمال. فتوصل هو وميلر إلى مقاربة فكرية مباشرة لحل المسألة؛ ألا وهي افتراض أن كل ملاك الشركة، وكل ملاكها المحتملين، يعرفون ما يفعلون. وكتبا سنة ١٩٥٨ يقولان: «بمقتضى هذا النهج، يجب أن يجتاز أي مشروع استثماري وخطته التمويلية المقترنة به الاختبار التالي فحسب: هل يرفع المشروع الذي سيموَّل قيمةَ أسهم الشركة؟ إذا كان سيرفعها، فهو جدير بالتنفيذ، وإذا لم يكن سيرفعها، فسيكون عائده أقل من التكلفة الحدية لرأس المال التي تتحملها الشركة.»

كانت هذه مقاربة ذكية من الناحية النظرية، أما مدلولاتها العملية فكانت مبهمة. فكيف يُفترض أن تعرف شركة ما مسبقًا كيف سيكون رد فعل سوق الأسهم لمشروع استثماري جديد؟ لم يتوصل مودلياني وميلر قط إلى إجابة عن هذا السؤال، غير أن مجرد طرح السؤال جلب بعض الأفكار الثاقبة المثيرة:

أولًا: قاد ذلك مودلياني وميلر إلى استنتاج أنه لا يَهُمُّ من أين تأتي الشركة بمالها، سواء بإصدار سندات أم ببيع أسهم أم بإعادة استثمار أرباحها. كان «برهانهما» على هذا الاستنتاج هو أنه إذا كانت هناك شركتان تحققان أرباحًا متطابقة — لكنهما بهيكلين رأسماليين مختلفين — لا تستحقان السعر السوقي عينه، «يستطيع المستثمر أن يشتري الأسهم والسندات ويبيعهما بحيث يبادل مصدر دخل بمصدر دخل آخر، متطابق في كل النواحي ذات الصلة، لكنه يباع بسعر أقل.»16 إذا كان المستثمرون هم الباحثين عن الربح العقلانيين الذين تتحدث عنهم النظرية الاقتصادية، فذلك ببساطة لا يمكن أن يحدث. كان مودلياني وميلر يعتقدان بالتأكيد أن المستثمرين عقلانيون، أو على الأقل قريبون بما يكفي من العقلانية استيفاءً لأغراضهما.
كان ذلك برهانًا ساطعًا على مدى تلاشي تجربة انهيار سنة ١٩٢٩ والكساد الكبير الذي تلاه من الذاكرة بالفعل. كتب مودلياني وميلر يقولان في مقالة تاريخية أخرى بعد ذلك بثلاث سنوات: أجل، «نشأت الفقاعات المضاربية بالفعل في السابق.» لكنها «لا تبدو لنا ملمحًا غالبًا ولا حتى أساسيًّا من ملامح سلوك السوق الفعلي في ظل اللايقين.» وخَلَصَا إلى أنه نتيجة لذلك، فإن افتراض أن المستثمرين يتصرَّفون بعقلانية كان «مفيدًا — على الأقل كتقريب أولي — لتحليل الاتجاهات طويلة الأمد في الأسواق المنظمة.»17
زعم مودلياني وميلر في هذه المقالة الثانية أنه لا يهم المساهمين ما إذا وزعت الشركات نقديتها المتبقية على هيئة أرباح أسهم أو احتفظت بها. كان هذا من بعض النواحي زعمًا أكثر حتى راديكالية من محاجتهما الأولية بأن هيكل رأس المال لا يهم. كان جون بير وليامز قد اقترح أن السهم يستحق القيمة المخصومة لأرباح الأسهم المستقبلية، مؤكدًا أنه يقصد أرباح الأسهم لا أرباح الشركة. وجادل بنجامين جراهام وديفيد دود، في دليلهما الشهير للاستثمار في القيمة، بأنه إذا كانت لدينا شركتان، متطابقتان في كل ما عدا ذلك، فإن «الشركة التي تدفع ربح سهم أكبر سيباع سهمها دائمًا بالسعر الأعلى.»18 فردَّ مودلياني وميلر على ذلك بالقول إنه في «بيئة اقتصادية عقلانية وكاملة»، تتحدد أسعار الأسهم «فقط بناء على اعتبارات «واقعية» — في حالتنا هذه سياسة الشركة الاستثمارية وقدرة أصول الشركة على تحقيق الأرباح — لا على الطريقة التي يتم بها توزيع الأرباح.»
كانت هذه هي الثانية من المقالتين اللتين صارتا تُعرفان باسم «افتراضي مودلياني وميلر»، واللتين مضتا لتحدثا تأثيرًا عظيمًا على دراسة المالية يضاهي أي تأثير أحدثه اثنان من البحوث الأكاديمية في أي وقت مضى في أي علم من العلوم. يقول الأول: لا يهم كيف تجمع الشركة أموالها، ويقول الثاني: لا يهم ما إذا كانت توزع الأموال على المساهمين أم لا. وفي سبعينيات القرن العشرين قال الأستاذ بجامعة شيكاجو جيمس لوري لطلابه مازحًا: «الشيء العظيم في مبرهنة مودلياني وميلر أنه لا شيء يهم في الواقع.»19 وقد أوضح ميلر نفسه دلالة المقالتين هكذا: «يأتي عامل توصيل البيتزا إلى يوجي بيرا بعد المباراة ويقول له: كيف تريدني أن أقطِّع هذه البيتزا، إلى أرباع أم أثمانٍ؟ فيقول يوجي: قطِّعها ثمانيَ قطع؛ فأنا أشعر بالجوع الليلة.»20

وهكذا كان افتراضا مودلياني وميلر إما جريئين جرأة مذهلة وإما بديهيين إلى حد الابتذال، أو الاثنين معًا. وأعظم دلالة لهما أنهما جعلا استعمال المنطق الاستدلالي مقبولًا في دراسة المالية. بالنسبة لأساتذة الاقتصاد الأكبر سنًّا الذين كرَّسوا حياتهم المهنية للاختبارات التجريبية لسلوك الشركات، كان هذا التطور مربكًا بشدة. تمخَّضت مقالتا مودلياني وميلر عن مقالات نقدية ملتهبة، مما أتاح لمودلياني وميلر الفرصة للرد ردًّا منشورًا، وهو ما أكسب حججهما حتى مزيدًا من الاهتمام.

أثبتت هذه الحجج جاذبيتها لدى الأكاديميين الأصغر سنًّا الذين ليست لديهم مصالح شخصية في طرق المالية القديمة؛ حيث قدمت طريقة نظامية ومنطقية لدراسة المشكلات المالية في زمن كانت تلقى فيه الأنظمة والمنطق رواجًا، كما كانت تبشر بأن يأتي يوم يأمر فيه الأكاديميون الذين يضعون النظريات المسئولين التنفيذيين بما يفعلونه، وهو ما حدث في نهاية المطاف. كانت مقالتا مودلياني وميلر باكورتين للفلسفة العملية التي عُرفت بعد ذلك بعقود باسم «القيمة المضافة للمساهمين» (أطلق عليها هذا الاسم بالتأكيد أحد أساتذة كليات إدارة الأعمال). كان مودلياني وميلر يقولان افعل ما يسرُّ المساهمين، وأنت بذلك تفعل الشيء الصحيح كمدير شركة.

•••

على الرغم من ذلك، لم يعرف مودلياني وميلر قط كيفية حساب تكلفة رأس المال؛ حيث كتبا يقولان سنة ١٩٥٨ إن هذه المسألة «يجب إرجاؤها إلى مقالة أخرى.» وعندما قرأ جاك ترينور هذه الكلمات في مكتبة جامعة دينفر في صيف ١٩٥٨، شعر بأن ثمة فرصة.

كان ترينور مقيمًا في كابينة العطلات الخاصة بوالديه في كولورادو في راحة من عمله لدى شركة آرثر دي ليتل للاستشارات الكائنة في كامبريدج بولاية ماساتشوستس. كانت شركة «ليتل» — كما كان يسميها ترينور — تسعى لأن تكون في عالم الاستشارات الإدارية مثلما كانت «كلية الدراسات العليا في الإدارة الصناعية» بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا بين كليات إدارة الأعمال. وبعد الحرب العالمية الثانية، دشنت الشركة — المعروفة بالدرجة الأولى بخبرتها في مجال الهندسة الكيميائية — قسمًا للبحوث العملياتية لتطبيق الطرق العلمية على المسائل الخاصة بالأعمال. وجد ترينور — خريج كلية هارفرد لإدارة الأعمال سنة ١٩٥٥ وصاحب الخلفية الرياضية من مرحلة البكالوريوس — نفسه في ذلك القسم، الذي استهل عمله فيه ببرمجة أجهزة الكمبيوتر، لكنه سرعان ما انخرط في مشروعات استشارية مالية. كان يستخدم حسابات تكلفة رأس المال في عمله، ولم يكن راضيًا على الإطلاق بالممارسة المعتادة من إضافة نقاط مئوية اعتباطيًّا إلى سعر الفائدة على السندات. يقول ترينور عائدًا بذاكرته: «أزعجني ذلك. كان عمر هذه المشروعات في الغالب ثلاثين سنة، وبتغيير سعر الخصم بنسبة واحد في المائة، كان يمكنك أن تجعله ناجحًا أو عديم الجدوى. لم تكن هذه بالتأكيد إجابة مرضية جدًّا.»

ما كان يحتاج إليه حساب تكلفة رأس المال هو نظرية لأسعار الأصول. فتكلفة رأس مال الشركة — حسب تعريف مودلياني وميلر — هي تكلفة الفرصة البديلة «لعدم» وضع المال في أسهم شركة أخرى في فئة «العائد المكافئ»، لكنهما لم يُعرِّفا في الحقيقة قط ما الذي يُفترض أن يعنيه ذلك.

كان هناك من جادل منذ زمن طويل بأن عوائد الاستثمار مكافأة على قبول المخاطر. في مَثَل الوَزْنات في إنجيل متى، يكافَأ خادمان يخاطران بأموالٍ أعطاهما إياها سيدهما مخاطرةً ذكية، في حين يعاقَب الخادم الثالث الذي يدفن المال في الأرض خشية خسارته عقابًا شديدًا.21 وفيما بعد، وذلك في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ساعد العالمون بالقانون الكنسي على تمهيد الطريق لظهور الرأسمالية بقولهم إن مقرضي الأموال لا ينتهكون تحريم الكتاب المقدس للربا؛ لأن الفائدة المستلمة مكافأة على قبول المخاطر.22

تواتَر ظهور علاقة المخاطرة بالمكافأة في علم الاقتصاد على مر العصور. وعلى الرغم من وضوح ارتباط المخاطرة والمكافأة، كان واضحًا بالقدر نفسه أن بعض المخاطر تلقى مكافأة أكثر سخاءً من بعضها الآخر. فالركض عبر طريق سريع كثيف المرور أمر محفوف بالمخاطر يقينًا، لكن من ذا الذي سيكافئك على فعل ذلك؟ عالج فرانك نايت — وهو من الشخصيات القيادية بقسم الاقتصاد بجامعة شيكاجو خلال سنوات ما بين الحربين — هذه المسألة في كتابه المنشور سنة ١٩٢١ بعنوان «المخاطر واللايقين والربح»، وانتهى إلى أنك لا تتلقى مكافأة على مجرد المخاطرة؛ لأن المخاطر كمية قابلة للقياس يمكن التأمين ضدها. أما الربح فيأتي عندما تسير في مواجهة اللايقين. ولهذا التمييز فضائل كثيرة، لكن نايت كان يقترح التخلص من شيء يمكن قياسه والاستعاضة عنه بشيء لا يمكن قياسه، وهذا لا جدوى منه بالمرة بالنسبة لشخص يحاول حساب تكلفة رأس المال.

نظر ترينور بدلًا من ذلك إلى عمل الشخص الذي كان قد بذل أقصى الجهود حتى آنذاك لقياس المخاطر الاستثمارية؛ ألا وهو هاري ماركويتز.23 كانت نظرية المحفظة لماركويتز تهدف إلى إرشاد المستثمرين إلى اتخاذ القرارات المثلى لا إلى وصف سلوك المستثمرين الفعلي. لكن إذا نظر المرء إلى هذه النظرية كوصف لسلوك المستثمرين، فإنها تشير في اتجاه إجابة مفيدة وتبدو منطقية عن السؤال عمَّا يحدد أسعار الأصول. وخلص ترينور إلى أن المخاطرة التي تهم أكثر هي مخاطرة السوق؛ لذا ينبغي أن يحصل المستثمرون على علاوة مخاطرة على أصلٍ ما «تتناسب مع التباين المشترك للاستثمار مع القيمة الإجمالية لجميع الاستثمارات في السوق.»24 بمعنى أن المخاطرة المعتبرة هي مدى حساسية استثمار بعينه لتحركات السوق الكلية، وكلما ازدادت حساسيته، ازدادت العلاوة. وكما في نظرية فرانك نايت، كان المرء يكافأ على قبوله مخاطر يستحيل تنويعها أو التأمين ضدها. لكن هذه المخاطر — في صيغة ترينور — كان يمكن قياسها.

أطلع ترينور الاقتصادي الأكاديمي الوحيد الذي كان يعرفه، وهو جون لنتنر — الأستاذ بكلية هارفرد لإدارة الأعمال، على نموذج أوليٍّ لعمله، فأبدى لنتنر رفضًا، لكن نسخة من هذا البحث وجدت طريقها من خلال قنوات أخرى (ودون علم ترينور) إلى مودلياني، الذي كان قد انتقل سنة ١٩٦٠ من معهد كارنيجي للتكنولوجيا إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. قرأ مودلياني البحث ودعا ترينور إلى دراسة الاقتصاد والمالية على يديه، وهو ما فعله ترينور لمدة ستة أشهر سنة ١٩٦٢. أضفى أثناء وجوده في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المزيد من التجويد على نظريته لتسعير الأصول، لكنه لم يقدمها للنشر قط، لأسباب منها أنه كان يرى أن هناك عوامل مخاطرة أخرى — بالإضافة إلى التباين المشترك — يحتاج إلى حسمها، وأيضًا لأنه اضطر إلى العودة إلى العمل في آرثر دي ليتل. تُرك الأمر لأستاذ مساعد على الجانب الآخر من البلاد للكشف عما صار يعرف باسم «نموذج تسعير الأصول الرأسمالية»، وهو أيضًا توصل إليه عن طريق هاري ماركويتز.

•••

كان ماركويتز قد عاد إلى مؤسسة راند — التي ابتكر فيها لغة سيمسكريبت للمحاكاة بالكمبيوتر التي ما زالت مستخدمة إلى اليوم — بعد تأليفه كتابه عن اختيار المحفظة، وتجاهل المالية بعض الوقت. ثم ذات يوم سنة ١٩٦٠، أتى ويليام شارب إلى مكتب ماركويتز. كان شارب أحد موظفي راند وطالب دكتوراه في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، التي كانت حمى علم الاقتصاد الرياضي الصارم ذي التوجه إلى البحوث العملياتية إلى درجة يصعب معها أحيانًا معرفة الحدود الفاصلة بين الجامعة ومحراب البحوث العملياتية المسمى راند الكائن غير بعيد على طريق ويلشر بوليفارد في سانتا مونيكا. كان شارب عاكفًا على إعداد أطروحة لم يحرز فيها أي تقدم، فبدأ بالبحث عن موضوع جديد، وجمع بين الاثنين أستاذ بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس كان يعرف ماركويتز، فتحمس ماركويتز للشاب الدمث، وسرعان ما اقترح عليه مشروعًا بحثيًّا.

كان نهج ماركويتز في اختيار المحفظة يتطلب حساب التباينات المشتركة لكل ورقة مالية؛ أي كيف كان يُتوقع أن يتحرك فردا كل زوجين محتملين بالنسبة إلى الآخر، وكانت هذه المهمة جسيمة حتى مع التقدمات السريعة في الحوسبة منذ سنة ١٩٥٢؛ إذ يمكن أن يستهلك حساب محفظة واحدة ما يعادل عشرات الآلاف من الدولارات من وقت الكمبيوتر. كلَّف ماركويتز شارب بالعمل على ابتكار نظام مبسَّط، فتوصل شارب إلى مقياس للتباين المشترك بين ورقة مالية فردية وسوق الأسهم ككل؛ أي بدلًا من مقارنة كل ورقة مالية فردية بكل ورقة مالية أخرى كما كان يفعل نموذج ماركويتز. كتب شارب يقول إنه كان أبسط نموذج للسوق استطاع بناءه «دون افتراض استبعاد وجود العلاقات المتبادلة بين الأوراق المالية»، مضيفًا بقوله إن الأكثر من ذلك أن «هناك أدلة معتبرة على أنه بمقدور النموذج تمثيل جزء كبير من مثل هذه العلاقات المتبادلة.»25

صار هذا البحث الجزء الأول من أطروحة شارب لنيل الدكتوراه، وقد نُشر فيما بعد في مجلة «ماندجمينت ساينس» المعنية بالبحوث العملياتية. صار تحليل مائة ورقة مالية — الذي كان يستغرق ثلاثًا وثلاثين دقيقة على كمبيوتر آي بي إم ٧٠٩٠ باستخدام طرق ماركويتز — لا يحتاج إلا إلى ٣٠ ثانية باستخدام طريقة شارب. كان هناك مكسب آخر من وراء الطريقة الجديدة؛ ذلك أن كل مَن كان يفكر في التنويع قبل ماركويتز كان يفترض أن مخاطر الأوراق المالية المختلفة مستقل بعضها عن بعض. في كتاب «نظرية القيمة الاستثمارية»، كتب جون بير وليامز يقول إنه لم يهتم بالمخاطر في حساباته لأنه افترض أن أي مستثمر حصيف سوف يتَّسم بالتنوع الجيد بدرجة لا تهم معها خطورة الأوراق المالية الفردية. لم يكن ماركويتز يرى أن هذا الافتراض يمكن أن يكون صحيحًا، لكن كان مع ذلك ممكنًا وفقًا لنهجه أن يتم تجميع محفظة من أسهم ذات تباينات مشتركة لا تشكل في مجموعها أية مخاطر على الإطلاق. باستخدام نموذج شارب، لم يكن هناك ببساطة سبيل لتخفيض المخاطر إلى صفر أثناء امتلاك أسهم.

بالنسبة لماركويتز، كانت تلك نهاية القصة، فقد ابتُكرت طريقة أفضل وأبسط لاختيار المحافظ. لكن شارب كانت لديه أطروحة يكتبها، ويقول عائدًا بذاكرته إلى ذلك الحين: «قلت: حسنًا، ماذا لو فعل الجميع ما يقول ماركويتز إنه ينبغي عليهم فعله؟ بم يخبرنا هذا عن التوازن؟» استنبط شارب من ذلك الافتراض نظرية لتسعير الأصول تكاد تطابق نظرية جاك ترينور. فالمال تكون قيمته أكبر بالنسبة للشخص عندما لا يملك أي شخص آخر أية أموال؛ إذن فالورقة المالية التي لا تنخفض بقدر انخفاض السوق الكلية عندما تسوء الأوضاع ورقة قيِّمة. وجادل شارب بأنها قيِّمة جدًّا لدرجة أن المستثمرين العقلانيين سيكونون على استعداد لأن يدفعوا مقابلها ثمنًا أكبر (ومن ثَمَّ يقبلون عوائد أقل من ورائها على المدى الطويل) من ورقة مالية انخفضت أكثر من السوق. وهكذا أصبح مقياس التباين المشترك مع السوق الذي ابتكره شارب بالتعاون مع ماركويتز هو السبيل إلى العوائد الاستثمارية، ورمَز له شارب في المعادلات المتضمنة في أطروحته بحرف الهجاء الإنجليزي الاستهلالي «بي»، الذي حوَّله الأكاديميون الآخرون فيما بعد إلى حرف الهجاء اليوناني «بيتا».

عندما قدم شارب مقالة تشرح الخطوط العريضة لنظرية تسعير الأصول هذه إلى دورية «جورنال أوف فاينانس»، لاقى استقبالًا فاترًا، واعترض أحد مراجعي المقالات قائلًا إن الافتراضات الأساسية حول سلوك المستثمرين غير واقعية على نحو عبثي. بعناد، أعاد شارب تقديم المقالة، كاتبًا خطابًا استشهد فيه بما سُمِّي «منهجية الاقتصاد الإيجابي» لميلتون فريدمان، وجادل بأن مدلولات هذه النظرية هي التي تهم لا الافتراضات. وفيما بعد قال شارب: «صرت منذ ذلك الحين أظن أنه من الجائز أن ذلك كان فيه شيء من المبالغة وكان السؤال هو: «أيُّ» مدلولات؟ لكني على الأقل حاججت بأنه لو كان هذا يخبرنا في الحقيقة بشيء ما عن العوائد المتوقعة، فهو أمر يستحق النظر فيه.» كانت المجلة قد غيَّرت المحررين في أثناء ذلك، وقُبلت مقالة شارب هذه المرة، ونشرت في سبتمبر ١٩٦٤.26
في تذييل بالمقالة المنشورة، ذكر شارب أنه بعد انتهائه منها، اطلع على مسودة لعمل ترينور المماثل غير المنشور. وفي سنة ١٩٦٥، كشف جون لنتنر — الأستاذ بكلية هارفرد لإدارة الأعمال — عن صيغته من نموذج تسعير الأصول الرأسمالية. كان لنتنر يحمل الدكتوراه من قسم الاقتصاد بجامعة هارفرد، ووُظِّف في كلية هارفرد لإدارة الأعمال في أربعينيات القرن العشرين على الرغم من اعتراضات بعض أفراد الحرس القديم المناهضين للمنظِّرين بالكلية. فبذل كل ما في وسعه ليتوافق؛ حيث أصبح ناقدًا صريحًا للنظريات القائمة على علم الاقتصاد حول سلوك الشركات كنظريات مودلياني وميلر. وبعد حديثه مع جاك ترينور عن أفكاره بشأن تسعير الأصول، انطلق لنتنر ليثبت أسباب خطأ ترينور. كان لنتنر يعتقد أن المخاطر النوعية التي تنطوي عليها الشركات الفردية تَهُم بالفعل، مثلما تَهُم مختلفُ آراء المستثمرين الأفراد. لكن فيما كان يجمِّع معادلات لعرض حججه، ظلت المخاطر والآراء الفردية التي كان لنتنر يرى أنها شديدة الأهمية ينفي بعضها بعضًا، تاركة نموذجه معتمدًا على مقياس منفرد للمخاطر يشبه ذلك المقياس الذي استخدمه ترينور وشارب.27 بعد ذلك بسنة، تابع جان موسين — الأستاذ بجامعة بيرجن في النرويج — بنسخة أخرى مستنبطة من نموذج تسعير الأصول يزعم الخبراء أنها النموذج الأبرع بين كل ما سواه.28

لقد توصل أربعة أكاديميين مختلفين كلهم ينتمون إلى اتجاهات مختلفة إلى نظرية كبرى واحدة لأسعار الأصول، ولا شك أنها ربما كانت صحيحة — وأعني من الناحية النظرية — لكن هل ستصمد في مقصورة البورصة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤