الفصل السادس

جين فاما يقدم أفضل افتراض في علم الاقتصاد

الحجة القائلة بصعوبة التفوق على السوق تتطوَّر إلى إيمان بكمالها في كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو في ستينيات القرن العشرين.

***

في ستينيات القرن العشرين، كانت جامعة شيكاجو تحتل موقعًا نائيًا؛ إذ كان حرمها الكائن في منطقة هايد بارك يبعد ألف ميل عن منافساتها الكبرى على الساحل الشرقي، وعلى حافته كانت تقع منطقة «ساوث سايد» الجنوبية الموبوءة بالجريمة. أعلنت إحدى شخصيات رواية «هدية همبولت» التي كتبها الأديب سول بيلو في هايد بارك، قائلة: «هذا موقف أشبه بمعركة حصن ديربورن … والهنود الحمر هم وحدهم الذين لديهم بنادق وفئوس توماهوك.»1

كان أساتذة الاقتصاد بجامعة شيكاجو يرون عزلتهم — بل وتخندقهم — من منظور أكثر إيجابية. كانوا يسكنون عالمًا يختلف عن عالم نظرائهم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهارفرد وبيركلي وستانفورد، وكانوا مسرورين. استخدم أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاجو إلى حد كبير الأدوات النظرية ذاتها التي اكتسحت سائر المهنة في خمسينيات القرن العشرين — وإنْ بحماس رياضي أقل نوعًا ما بعد رحيل هيئة كاولز إلى جامعة ييل سنة ١٩٥٥ — لكنهم طوَّعوها لغايات مختلفة.

بعد ذلك بسنوات — وفي محاولة لتحديد ما يميز اقتصاد شيكاجو عما سواه — كتب ميلفن ريدر — الأستاذ بجامعة شيكاجو — يقول إنه هو وزملاءه يؤمنون بما أطلق عليه «التوازن القبْلي الضيق»، في حين كان الاقتصاديون في الجامعات الأخرى يتمسكون بما أطلق عليه «التوازن القبْلي الفضفاض».2 ما عناه ريدر بهاتين العبارتين غير الموفقتين هو أن أساتذة شيكاجو يتعاملون مع جُلِّ المشكلات الاقتصادية بالافتراض المبدئي أن السوق — في غياب تدخل من الحكومة — تصوِّب الأمور. أما نظراؤهم في الجامعات الأخرى فلم يكونوا على يقين تمامًا. بعبارة أخرى، كان معظم اقتصاديي ذلك الزمان يرون أن الحكومة هي حل المشكلات الاقتصادية، في حين أن أساتذة شيكاجو كانوا مقتنعين بأن الحكومة هي المشكلة.

يشتمل الوصف الموجز لهذا الانقسام على جماعة من الأصدقاء درسوا معًا في جامعة شيكاجو في ثلاثينيات القرن العشرين، وذهبوا للعمل في واشنطن إبان الخطة الاقتصادية الجديدة؛ حيث خيبت آمالهم محاولات الحكومة إدارة الاقتصاد، ثم عادوا إلى جامعة شيكاجو في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين لفرض طابع تحرري دائم على المكان. كان أبرزهم ميلتون فريدمان، وصديقه جورج ستيجلر، وصهره آرون دايركتور. كما لعب أستاذ الإحصاء دبليو ألن واليس دورًا أيضًا، وإن كان إداريًّا أكثر منه طرفًا فاعلًا.

قال كلٌّ من فريدمان وستيجلر فيما بعد إن نقطة التحول الحاسمة في تفكيرهما جاءت عندما قرآ كتاب «الطريق إلى العبودية» لفريدريش هايك. كان هايك قد درس الاقتصاد في فيينا في عشرينيات القرن العشرين، وانتقل سنة ١٩٣١ إلى كلية لندن للاقتصاد، وكانت في الأصل مؤسسة اشتراكية تحولت إلى معقل لفكر السوق الحرة. وإبان الحرب، نقلت كلية لندن للاقتصاد عملياتها إلى كامبريدج، التي تقاسم فيها هايك وجون مينارد كينز مناوبات كمراقبين في قوة الدفاع المدني وتصادقا وتحدثا في السياسة. بعد أن عايش هايك «فيينا الحمراء» الاشتراكية إبان عشرينيات القرن العشرين وراقب استحواذ النازيين على وطنه من بعيد، روَّعته رباطة الجأش، بل والحماس، اللذان استقبل بهما كينز وغيره من المفكرين الليبراليين الإنجليز نمو الحكومة.

وضَع هايك «الطريق إلى العبودية» وفي باله جمهور أكاديمي بريطاني، ولم يتجاوز الكتاب في بريطانيا حدود هذا الجمهور بكثير. وتحت إلحاح من دايركتور، الذي تعرف على هايك خلال سنة قضاها في كلية لندن للاقتصاد، نشرت مطبعة جامعة شيكاجو الكتاب في الولايات المتحدة، فأحدث ضجة، وبالأخصِّ بعد أن نشرت مجلة «ريدرز دايجست» إصدارًا ملخصًا له في مايو ١٩٤٥.

ظل اليمين السياسي في أمريكا لعقود من الزمان أرضًا يسكنها الريفيون ورجال الأعمال. وكما يقول ليونيل تريلنج — أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا والناقد الأدبي — لم تصبح الليبرالية «المدرسة الفكرية المهيمنة فحسب بل الوحيدة أيضًا» في الولايات المتحدة.3 ومع ذلك كان هناك جدال فكري مهذب يقول بأن الاتجاه الذي يبدو متصلبًا نحو المزيد من السيطرة الحكومية على الاقتصاد لم يكن غير ضروري فحسب، بل كان يشكل تهديدًا هائلًا للحرية. وكان هذا انكشافًا أحدثَ تحولًا في الرؤية الكونية. وبالنسبة لآخرين كثيرين، كانت رواية «المنبع» الذائعة التي نُشرت سنة ١٩٤٣ للروائية آين راند هي التي أحدثت هذا الأثر، لكن الاقتصاديين انجذبوا — وهذا مفهوم — إلى واحد من بينهم.
لم تَجْرِ الأحداث اللاحقة على نفس المنوال تمامًا الذي حذَّر منه هايك في كتابه. كتب ستيجلر سنة ١٩٨٨ يقول: «إنها لقراءة عادلة لكتاب «الطريق إلى العبودية» أن نقول إن أربعين سنة أخرى من المسير نحو الاشتراكية ستؤدي إلى خسائر كبرى لحريات الأفراد السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، في تلك السنوات الأربعين، رأينا ذلك التوسع المستمر للدولة في السويد وإنجلترا، بل وفي كندا والولايات المتحدة، دون عواقب وخيمة على الحرية الشخصية بالقدر الذي تُنبِّئ به.»4 سرعان ما طرح هايك حجة أخرى صمدت على نحو أفضل كثيرًا، وكانت أفضل قابلية للتطبيق المباشر على عمل الاقتصاديين.
كتب يقول في مقالة نشرت سنة ١٩٤٥ بعنوان «استخدام المعرفة في المجتمع»، إن المشكلة في أي محاولة حكومية لإدارة الاقتصاد هي أنه لا مجال أمام من هم في موقع المسئولية لمعرفة كل ما يحتاجون إليه لإتقان أداء المهمة. ومضى قائلًا إن المعرفة المطلوبة لتفعيل أي اقتصاد «لا توجد أبدًا في صورةٍ مركَّزة أو متكاملة، بل مجرد فتات متناثر من المعرفة الناقصة — والمتناقضة في أحيان كثيرة — التي يملكها كل الأفراد المنفصلين.» فمتعهد الشحن أو سمسار العقارات أو سمسار السلع يتصرف بناءً على «معرفة خاصة بظروف اللحظة العابرة»، وهذا ما لا يمكن لمخطط حكومي أن يضاهيه أبدًا.5 و«الأسعار» هي السبيل الذي يوصِّل من خلاله كل هؤلاء الأشخاص الأمناء معرفتهم الخاصة بعضهم إلى بعض. وأية محاولة لتنظيم الأسعار أو نشاط الأعمال مصيرها أن تعوق حركة المعرفة المطلوبة لجعل الاقتصاد يسير بسلاسة.

في سنة ١٩٤٧، نظَّم هايك اجتماعًا للمثقفين أصحاب الأفكار المتشابهة من أوروبا والولايات المتحدة، فانتقل فريدمان وستيجلر ودايركتور كلهم إلى فندق مون بيليران الكائن فوق تل مطل على بحيرة جنيف في سويسرا. كانوا جميعًا يسمون أنفسهم «ليبراليين»، متمسكين بتعريف القرن التاسع عشر المؤيد لسياسة عدم التدخل، وهو التعريف الذي كان اليسار في الولايات المتحدة ينسبه لنفسه بالفعل. أما الاسم الذي سنطلقه عليهم اليوم فهو الليبرتاريون.

فيما بعد كتب فريدمان يقول إن اجتماع مون بيليران كان «بداية انخراطي النشط في العملية السياسية».6 كان قد عاد السنة التي قبلها إلى شيكاجو للتدريس مثلما فعل دايركتور. كما انتقل هايك إلى شيكاجو، لكنه لم ينضم في الواقع قط إلى «مدرسة شيكاجو» للاقتصاد التي ساعد على خروجها إلى الوجود. بدلًا من ذلك كان فريدمان هو الذي اتخذ الدور القيادي، وبنى سمعته بين أقرانه بالعمل النظري، بالإضافة إلى مقالته الشهيرة عن المنهجية. لكن مع مضيِّ خمسينيات القرن العشرين، ركز تركيزًا متزايدًا على قضايا السياسات العامة.
أثناء عمله في باريس لبضعة أشهر سنة ١٩٥٠ مقدمًا استشارات للوكالة الأمريكية التي كانت تدير خطة مارشال، كتب فريدمان مذكرة أوصى فيها بالتخلي عن نظام بريتون وودز لأسعار صرف العملات الثابتة (ابتُكر جزئيًّا بمعرفة جون مينارد كينز الذي كاد يقضي عليه تعامله في العملات سنة ١٩٢٠). جادل فريدمان بأن أسواق العملات الحرة لن تكون أوكار المضاربة المفرطة التي كان يُخشى كثيرًا أن تكونها. وكتب يقول: «إن من يجادلون بأن المضاربة تؤدي عمومًا إلى عدم الاستقرار قلما يدركون أن هذا يضاهي إلى حد كبير قولهم إن المضاربين يخسرون الأموال، بما أن المضاربة لا يمكن أن تُحدث حالة من عدم الاستقرار بوجه عام إلا إذا كان المضاربون في المتوسط يبيعون عندما تكون العملة منخفضة في السعر ويشترون عندما تكون مرتفعة.»7 وكما ذكر فريدمان لاحقًا، فإنه «بدا لي معقولًا أن السبيل الوحيد لتتمكن من جني المال هو الشراء بأسعار منخفضة والبيع بأسعار مرتفعة، وليس العكس. وإذا كان هذا هو الحال؛ إذن فمن يزعزعون السوق يخسرون كل ما يملكون؛ ومن ثَمَّ لن يستمر وجودهم فترة طويلة.»
قُدمت هذه الحجة دون دعم تجريبي. تذكروا أن هولبروك وركينج كان قد وجد قبل ذلك بعقدين من الزمان أن المضاربين في أسواق العقود المستقبلية الزراعية لا يخسرون المال. لكن بالإضافة إلى مقالة نشرت سنة ١٩٥٠ في دورية «جورنال أوف بوليتيكال إيكونومي» الصادرة عن جامعة شيكاجو بقلم أرمين آلتشين — الأستاذ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس — رسمت مقالة فريدمان عن العملات حدود المجال الفكري الذي سيشغله فيما بعد من وصفوا السوق بأنها «كفء». كانت حجة آلتشين أشمل حتى من حجة فريدمان؛ إذ لم تسرِ على أسواق العملات فحسب بل على الأسواق كافة. كتب آلتشين يقول: «من يحققون أرباحًا إيجابية هم الناجون، ومن يتكبدون خسائر يختفون.» لم تكن الإيحاءات الداروينية خطأً؛ حيث اختار آلتشين لورقته البحثية عنوان «اللايقين والنشوء والنظرية الاقتصادية».8 وليس محض صدفة أن أعيد سنة ١٩٥١ نشر كتاب «ما تدين به الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض» لويليام جراهام سمنر — الأستاذ الدارويني الاجتماعي بجامعة ييل — الذي حث إرفينج فيشر على دراسة الاقتصاد؛ فالأفكار والمواقف التي ظلت كامنة لعقود كانت بدأت تستعيد مكانتها الجديرة بالاحترام.

سرعان ما أصبح فريدمان واحدًا من أبرز حواريِّي هذا الإحياء، وقد وطد مكانته المرموقة عملان نشرا في مطلع ستينيات القرن العشرين؛ حيث بعث كتابه «تاريخ الولايات المتحدة النقدي ١٨٥٧–١٩٦٠» — الذي اشترك في تأليفه مع آنا شوارتز بدعم من المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية — الروح في «تقلب الدولار» الذي قال به إرفينج فيشر بصفته التفسير الأولي لتقلبات الأعمال، وقدَّم المبررات الدالة على أن الكساد الكبير لم يكن محصلة طبيعية للرأسمالية الصناعية، بل نتاج سوء إدارة جسيم من جانب الاحتياطي الفيدرالي. ثم كان كتاب «الرأسمالية والحرية»، وهو مجموعة من المحاضرات التي بشرت بوصول صوت جديد مجدِّد إلى المشهد الفكري الأمريكي الأوسع نطاقًا. استهل فريدمان بقوله: «المزايا العظيمة للحضارة، سواء في العمارة أو الرسم، في العلوم أو الأدب، لم تأت قط من حكومة مركزية.» ثم مضى ليطرح مقترحات محرِّضة من قبيل إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية والضمان الاجتماعي والاستعاضة عن التمويل العام المباشر للمدارس بقسائم.

ومثله مثل إرفينج فيشر، الذي وصفه فريدمان بأنه «الاقتصادي المفضل» لديه، كان فريدمان آخذًا في الابتعاد عن المعادلات والأفكار المجردة لمخاطبة عامة الجمهور بشأن قضايا قريبة من قلبه، لكنه خلافًا لفيشر، لم يَبْدُ للناس واعظًا مختلًّا. لا ريب أن حججه كانت تروع بعضًا من رفاقه الاقتصاديين؛ حيث يقول فرانكو مودلياني ساخرًا: «فريدمان مدفوع بفكرة أن أيًّا كان ما تفعله الحكومة فهو سيئ.»9 لكن حججه هذه تركت انطباعًا عميقًا على طلابه في شيكاجو. فحضور درس يلقيه فريدمان — ذلك الرجل الساحر الودود هادئ المزاج ضئيل الجسم الذي يقول أشياء «صارخة» — كان في أغلب الأحوال حدثًا يغيِّر الحياة. يقول روبرت لوكاس — الاقتصادي وتلميذ فريدمان — عائدًا بذاكرته إلى ذلك الزمان: «بالنسبة لكثيرين منا، أجبرتنا الموجة الصدمية لأفكار فريدمان التحررية المحافِظة على إعادة التفكير في فلسفتنا الاجتماعية برمتها. لقد حاولت الاستمساك بأفكاري السياسية المؤمنة بالخطة الاقتصادية الجديدة، وتذكُّر أنني صوَّتُّ لكينيدي سنة ١٩٦٠ … لكن أيًّا كانت الكيفية التي صوَّتنا بها، كان تلاميذ فريدمان يغادرون ولديهم إحساس بأننا اكتسبنا عُدَّة قوية للتفكير في المسائل الاقتصادية والاجتماعية.»10

•••

كان بمقدور طلاب كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو أيضًا حضور دروس فريدمان في علم الاقتصاد، ومما كان شاهدًا على سحر الجامعة متعدد الاختصاصات أنهم كانوا يفعلون ذلك بأعداد عظيمة. لكن مع مضي عقد الستينيات من القرن العشرين، بدأ المرء يسمع حججًا مؤيدة للسوق أجرأ من حجج فريدمان في كلية إدارة الأعمال ذاتها. كان فريدمان يعتقد أن الأسواق تعمل أفضل من الحكومة، وصار بعض أساتذة المالية بجامعة شيكاجو وطلابهم يعتقدون أن الأسواق بلغت حد «الكمال».

أُنشئت كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو سنة ١٨٩٨؛ أي قبل إنشاء كلية هارفرد بعقد من الزمان، ولم توظف قط نهج هارفرد في تعليم إدارة الأعمال. كانت الجامعة تفخر بأصولها كمؤسسة بحثية لا ككلية تدريبية للقساوسة مثل منافساتها عضوات رابطة اللبلاب، ولطالما تمسَّكت كلية إدارة الأعمال بهويتها من المنظور نفسه. كان المراد من أساتذتها إجراء بحوث مبتكرة وتعليم ما تعلموه. كانت أول كلية لإدارة الأعمال تمنح الدكتوراه. لكن مع ارتياد معهد كارنيجي للتكنولوجيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا آفاقًا جديدة في تعليم إدارة الأعمال وصعود نجم قسم الاقتصاد بجامعة شيكاجو، تراجعت مكانة كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو، وبحلول منتصف خمسينيات القرن العشرين كانت الكلية — والحكم على لسان الأستاذ آنذاك جيمس لوري — في حالة «أقرب إلى السُّبات».

في سنة ١٩٥٦، طُلب من لوري — الذي كان يدرِّس في جامعة شيكاجو منذ نيله الدكتوراه هناك قبل ذلك بثماني سنوات — الإسهامُ في إحداث تحول في الكلية، وعُيِّن عميدًا معاونًا لكلية إدارة الأعمال، وتولى العمادة دبليو ألن واليس. كان أول إجراء يتخذه نظام واليس-لوري هو مطالبة الجامعة بالمزيد من المال، وكان له ما أراد. ساهمت بحصة في ذلك مؤسسة فورد، التي كانت في خضم حملة لجمع ٣٥مليون دولار لإصلاح تعليم إدارة الأعمال وفق النهج الذي ابتكره معهد كارنيجي للتكنولوجيا. ثم بدأ التوظيف.

كان جورج ستيجلر أول صيد ثمين، وذلك سنة ١٩٥٨. كان قد مرَّ على وجود ستيجلر في كولومبيا عقد من الزمن، وقد صنع لنفسه اسمًا ببحثه كيف تُنشر المعلومات من خلال الأسعار وكيف يخلق التنظيم حوافز مختلطة. وعلى الرغم من أن ستيجلر لم يكن قط شخصية عامة مثل فريدمان، فإنه كان أكثر إخلاصًا من صديقه القديم لفكرة أن الأسواق تصوِّب الأمور. يقول أحد طلاب الدراسات العليا بجامعة شيكاجو في مطلع ستينيات القرن العشرين: «كان أقرب إلى التفاؤل غير المبرر. القصة هي أن شخصًا كان يمشي عبر حرم جامعة شيكاجو مع ستيجلر وقال: «هناك ورقة فئة ٢٠ دولارًا.» فردَّ ستيجلر: «كلا، لو كانت ورقة فئة ٢٠دولارًا حقيقية لكانت التُقطت من قبل.» كان ستيجلر يؤمن فعلًا بذلك.»11 (تطلق هذه الدعابة الآن عمومًا على الاقتصاديين كافة.)
لم يكن ستيجلر متفرغًا تمامًا لكلية إدارة الأعمال؛ حيث كان راتبه قسمةً بينها وبين قسم الاقتصاد. وحدث سنة ١٩٦١ — وهي السنة التي استقطب فيها واليس ولوري ميرتون ميلر من معهد كارنيجي للتكنولوجيا — أن بدأ العهد الجديد لتعليم إدارة الأعمال في جامعة شيكاجو. أتى ميلر بمزيجه الجديد من الاقتصاد والمالية ونبرة تنبئ عن حدة الطباع. وخلال أحد دروس المالية ذات يوم في أوائل ستينيات القرن العشرين، رسم خطًّا رأسيًّا على السبورة وكتب «م وم» — اختصارًا لاسمي مودلياني وميلر — كعنوان على يسار الخط و«غ» على يمينه، فرفع طالب يده وسأل عما يرمز إليه «غ». قال هذا الطالب بعد ذلك بأربعين سنة متذكرًا ذلك الموقف: «أجاب ميلر بقوله: «غيرهما.» كان دائمًا في حرب مع «غيرهما».»12

بدأ وجود هؤلاء الأساتذة — بالإضافة إلى فرصة تلقي دروس في الاقتصاد على يد صاحب الشهرة المتزايدة فريدمان — يجتذب طلابًا أكثر وأفضل إلى كلية إدارة الأعمال. كان أهم الوافدين الأُوَل يوجين فاما، وهو خريج متحمس في مرحلة الشباب (أول خريج جامعي في أسرته) من جامعة تافتس. أتى فاما جامعة شيكاجو لنيل ماجستير إدارة الأعمال سنة ١٩٦٠ بعدما وجَّهه إليها أساتذة رأوا أنه أرقى فكريًّا من الالتحاق بكلية هارفرد لإدارة الأعمال. كان فاما قد اشتغل في تافتس بالإحصاء لصالح نشرة إخبارية لسوق الأسهم ينشرها أحد أساتذته، فوجد كثيرًا من الأنماط المثيرة للاهتمام في أسعار الأسهم، لكنه لاحظ أنها تميل إلى الاختفاء بمجرد أن يميزها. بهذه التجربة التي عاشها، انجذب نحو عمل السير العشوائي الذي بدأه أستاذ الإحصاء هاري روبرتس. كما التقى عالم رياضيات آي بي إم الجوَّال بينوا ماندلبرو. كان عمله المنشور الأول استكشافًا للتوزيع الإحصائي لتغيرات أسعار الأسهم بإرشاد من ماندلبرو.

ظل فاما في الكلية للحصول على الدكتوراه، وتحت تأثير الوافد الجديد ميلر، بدأ يوجه دفته بعيدًا عن العمل الإحصائي المحض في اتجاه برنامج بحثي تصوغه النظرية الاقتصادية. ومع ذلك كرس جُل أطروحته لنيل الدكتوراه سنة ١٩٦٤، والتي أعيدت طباعتها كاملة في دورية «جورنال أوف بيزنس» الصادرة عن كلية إدارة الأعمال، لأفكار ماندلبرو الإحصائية، لكن ذلك لم يكن الجزء الذي أعار إليه الناس اهتمامهم؛ فما قرءوه — ولا سيما بعد نشر نسخ مختصرة منها في دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» ومجلة «إنستتيوشنال إنفستور»، وهما مطبوعتان موجهتان إلى ممارسي وول ستريت — كان التحية الافتتاحية التي قدَّم فيها فاما أوضح تفسير حتى ذلك الحين لما يجعل تحركات أسعار الأسهم عشوائية.

كتب فاما يقول: ليست المسألة أن الأخبار ذات الصلة بأسعار الأسهم يمكن التعويل على حدوثها عشوائيًّا، أو أن آراء المستثمرين موزعة عشوائيًّا على امتداد منحنى جرس؛ ففي بعض الأحيان تأتي الأخبار على دفعات، فيتصرف المستثمرون كالخراف. لكن فاما جادل بأنه يمكن التعويل على انقضاض «المتعاملين المحنكين» — قراء المخططات ومتبعي التحليل الأساسي على السواء — على أية أنماط غير عشوائية في السوق؛ فيجعلونها تتلاشى فيما يجنون المال من ورائها. كتب فاما يقول إن معنى ذلك أن أية نجاحات في قراءة المخططات هي عابرة حتمًا. ولم يكن هذا ينطبق بالضرورة على ما سماه «التحليل الممتاز للقيمة الحقيقية»:
في أي اقتصاد ديناميكي، ستكون هناك دائمًا معلومات جديدة تتسبب في تغير القيمة الحقيقية بمرور الوقت؛ ونتيجة لذلك، سيحقق من يستطيعون التنبؤ بدقةٍ بظهور معلومات «جديدة»، وتقييم آثارها على القيم الحقيقية في العادة؛ أرباحًا أكبر مما يستطيع تحقيقه من لا يملكون هذه الموهبة.13
لكن لو أن هناك ما يكفي من هؤلاء المحللين «الممتازين»، فإن وجودهم سوف «يضمن أن تكون أسعار السوق الفعلية — على أساس كل المعلومات «المتاحة» — بمنزلة أفضل تقديرات للقيم الحقيقية.» أطلق فاما على هذه الحالة اسم «السوق الكفء»، وهو مصطلح — وإن كان قد استُخدم من قبل في الاقتصاد للإشارة إلى سوق في حالة جيدة صالحة للتشغيل — لم يُعرَّف من قبل على هذا النحو بالضبط. كتب يقول: «في السوق الكفء، ينبغي أن تؤدي أفعال المشاركين المتنافسين الكُثر إلى أن يتراوح سعر الورقة المالية الفعلي عشوائيًّا حول قيمتها الحقيقية.»14 أما مسألة إلى «أي مدى» بالضبط تذهب أسعار الأوراق المالية بعيدًا عن تلك القيم الحقيقية، فقد ظلَّت موضوعًا مهمًّا لمزيد من الأبحاث. وكانت كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو في مستهل ستينيات القرن العشرين تُجمِّع قاعدة بيانات من شأنها أن تجعل الجامعة مركز هذه البحوث لسنوات مقبلة.

•••

بدأ الأمر بمكالمة هاتفية من خريج شيكاجو لويس إنجل — مدير الإعلان والتسويق بشركة ميريل لينش. كان إنجل قد شغل من قبل منصب مدير تحرير مجلة «بيزنس ويك»، وكان أول إجراء مهم يتخذه بعد التحاقه بميريل لينش سنة ١٩٤٦ هو تأليف واحد من أعظم الإعلانات المطبوعة في كل العصور. تضمَّن الإعلان الذي كان عنوانه «ما ينبغي أن يعرفه الجميع … عن تجارة الأسهم والسندات» أكثر من ستة آلاف كلمة، واستغرق صفحة كاملة في صحيفة «نيويورك تايمز». كان الإعلان دعاية ناعمة صريحة، وأجاب عن أسئلة من قبيل «ماذا تتكلف الأسهم؟» و«كيف تزاول الأعمال مع سمسار؟» دون ذكر ميريل إلا في النهاية. وصل أربعة آلاف استفسار في أسبوع نشر الإعلان،15 كما لفت الإعلان أيضًا أنظار أحد الناشرين، فطلب من إنجل أن يصنع منه كتابًا، ففعل وبيع من هذا الكتاب الذي ظهر بعنوان «كيف تشتري الأسهم؟» أكثر من أربعة ملايين نسخة قبل وفاته سنة ١٩٨٢.16

في سنة ١٩٦٠، وَاتَتْ إنجل فكرة لإعلان يجزم بأن الأسهم العادية استثمار ملائم للناس العاديين، فأخبرته هيئة الأوراق المالية بعدم إمكانية نشر هذا الادِّعاء دون أدلة تؤيده، فاتصل هاتفيًّا بكلية شيكاجو لإدارة الأعمال طالبًا المشورة، فرد عليه لوري، وبعد مناقشة المسألة مع بعض الزملاء، انتهى لوري إلى أنه من الأنسب إجراء دراسة لعوائد الأسهم على المدى الطويل على غرار ما كان قد جمعه ألفريد كاولز سنة ١٩٣٩، فوافق إنجل على ذلك.

نصَّب لوري نفسه مديرًا لما أُطلق عليه «مركز بحوث أسعار الأسهم» الجديد الممول من ميريل لينش، الذي سرعان ما صار يعرف باسمه المختصر والحصري تقريبًا «كرسب»، واختار مساعدًا له لورانس فيشر — أستاذ المالية المساعد الذي كان يحمل شهادة في الاقتصاد ويُعرف باهتمامه بالتفاصيل ربما اهتمامًا مفرطًا. بدأ فيشر العمل بتجميع خمس وثلاثين سنة من بيانات الأسعار وأرباح الأسهم حول كل الأسهم المتداولة في بورصة نيويورك. كانت مهمة ملحمية، واستغرق إتمامها ثلاث سنوات من التنقيب وإدخال البيانات والتثبت من الحقائق.17
ما أعلنه فيشر ولوري في يناير ١٩٦٤، أن أي شخص اشترى كل الأسهم المتداولة في بورصة نيويورك كل سنة، بداية من عام ١٩٢٦ حتى نهاية عام ١٩٦٠، وأعاد استثمار أرباح الأسهم؛ من المفترض أن يكون قد كسب في المتوسط عائدًا بنسبة ٩ في المائة بعد خصم عمولات السمسرة، لكن قبل احتساب الضرائب. لم يعد الناس في سنة ١٩٣٩، وهي السنة التي أعلن فيها كاولز أنباءً طيبة بالمثل عن عوائد الأسهم فلم يستمع إليه أحد. كانت أسواق وول ستريت قد استهوت الأمة من جديد، وحظيت دراسة فيشر ولوري بقدر وافر من الاهتمام. وعلى خلاف إدجار لورانس سميث في سنة ١٩٢٤، تقبَّل فيشر ولوري صراحةً إمكانية أن تحقق قرودٌ تمارس لعبة رمي السهام تلك العوائد السنوية البالغة ٩ في المائة. بل وفي العام التالي أثبتا هذا؛ حيث ولَّدا عشوائيًّا محافظ متنوعة كلها حققت أداءً جيدًا. قال لوري في مايو ١٩٦٥: «لا توجد أدلة على أن الصناديق الاستثمارية المشتركة تختار الأسهم على نحو أفضل من اختيارها بالطريقة العشوائية.»18
حتى هذه المرحلة، كان الحديث عن السير العشوائي قد تسلَّل بالكاد إلى الوعي الوطني، إذ كان رياضيًّا أكثر مما ينبغي ومُلغزًا أكثر مما يلزم. لكن البيان العملي لإمكانية أن يحقق رامي سهام عوائد في سوق أسهمًا من النوع الذي تتباهى به الصناديق الاستثمارية المشتركة كان كشفًا. أوردت مجلة «بيزنس ويك» ما يلي:
ينبغي أن تكون هذه الدراسة مثار إزعاج لقطاع كبير من أسواق وول ستريت، كالصناديق الاستثمارية المشتركة ومحللي الأوراق المالية والمستشارين الاستثماريين وما شابه. كل شخص في هذا القطاع يكسب ماله، بدرجة أو أخرى، ببيع مهارته إلى المستثمرين الأقل خبرة. والآن تقول دراسة شيكاجو إن أي استثمار عشوائي، استثمار لا تُستعمل فيه أية مهارة على الإطلاق، سيحقق ربحًا معظم الوقت.19
أما في حرم الجامعة، فكانت أكبر دلالة لعمل فيشر ولوري هي كونه كله مسجلًا على شريط كمبيوتر. فأول أجهزة كمبيوتر صالحة للاستعمال بحق كانت قد بدأت تصل إلى الجامعات نحو سنة ١٩٦٠، وكان الكمبيوتر الذي وصل جامعة شيكاجو هو آي بي إم ٧٠٩. في البداية، «لم يكن هناك أي شخص آخر يستخدمه.» كما يقول يوجين فاما عائدًا بذاكرته إلى ذلك الزمان. «كنت أنا وزميل في قسم الفيزياء من يستخدمانه.» لكن سرعان ما تغير هذا. فالجهد بالغ المشقة المتمثل في معالجة الأرقام يدويًّا حل محله جهد أيسر يتمثل في برمجة كمبيوتر لفعل ذلك، وسرعان ما أصبحت بحوث سوق الأسهم نشاطًا أكثر شعبية وجاذبية. تلقى أرنولد مور — وهو طالب دراسات عليا في جامعة شيكاجو، كان قد أمضى أشهرًا في جمع بيانات أسعار الأسهم ومعالجتها يدويًّا لأطروحته قبل رحيله سنة ١٩٦٠ دون إتمامها — اتصالًا بعدئذ بوقت ليس بطويل من فاما قال له فيه: «الناس يأتون بأجهزة كمبيوتر ويُدخلون فيها كل هذه البيانات. إنْ لم تعجل فإن شخصًا آخر سيُنجز أطروحتك في أصيل يوم واحد.»20

بحلول الوقت الذي فرغ فيه فاما من «أطروحته»، وذلك سنة ١٩٦٤، وطُلب منه البقاء في الجامعة كأستاذ مساعد، كان هناك عدد كبير من الطلاب ذوي الميول الكمية البارعين في استخدام الكمبيوتر قد بدءوا يغيِّرون الموقف. أما الأشخاص الذين سيحققون أقصى درجة من الشهرة فهم مايكل جنسن ومايرون سكولز وريتشارد رول.

التحق جنسن وسكولز كلاهما ببرنامج ماجستير إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو في خريف سنة ١٩٦٢. كان جنسن ابن عامل طباعة في صحيفة «مينيابوليس ستار-تريبيون»، وقد دبَّر نفقات التحاقه بكلية مكالستر بعمله مناوبة يومية في إحدى المطابع. وبعد محاولته الالتحاق بكلية هارفرد لإدارة الأعمال دون جدوى، حصل على منحة دراسية من جامعة شيكاجو فاتجه جنوبًا دون أن يكون لديه فكرة عما يخبِّئُه له القدر (فيما عدا وظيفة عامل طباعة في مناوبة ليلية في صحيفة «شيكاجو تريبيون»). وكان سكولز حاصلًا على بكالوريوس اقتصاد من جامعة أونتاريو يحاول تأخير التحاقه بالعمل في شركة النشر المملوكة لعمه، واختار جامعة شيكاجو ليحظى بفرصة حضوره دروسًا لفريدمان وستيجلر. مكث كلا الرجلين للحصول على الدكتوراه، وفي سنة ١٩٦٤ صار الثنائي ثلاثيًّا بوصول رول. كان رول، وهو عالم صواريخ أصيل، يرجع منشؤه إلى ولاية ألاباما، قد أرسلته جهة عمله — شركة بوينج — للدراسة بكلية إدارة الأعمال بجامعة واشنطن، فأثارت مهاراته التحليلية إعجاب أحد أساتذته في مادة المالية بشدة لدرجة أن الرجل أرسله إلى جامعة شيكاجو للحصول على الدكتوراه.

كان رول على دراية من قبل باستعمال الكمبيوتر، فحصل على وظيفة كمساعد لفيشر في كرسب، وسرعان ما صار سكولز وجنسن هما أيضًا على دراية تامة بالكمبيوتر. في زمان ومكان آخرين، كانت مثل هذه المهارات وإمكانية الحصول على بيانات غير متوفرة حتى ذلك الحين عن سوق الأسهم ستُستخدمان في البحث عن سبل لتحقيق الثراء. لكن بما أن هذه كانت جامعة شيكاجو في ستينيات القرن العشرين، فإنهم رأوا بدلًا من ذلك أن هدفهم إثبات مدى حُسن أداء السوق. فمعظم أبحاث السير العشوائي المبكرة كانت قد وُجِّهت إلى إبطال حجج محللي المخططات. أما الآن فالاستقصاء يمضي في طريقه إلى مسألة أعمق، وهي ما إذا كانت توجد أية معلومات كافية للتفوق على السوق.

في سنة ١٩٦٧، اقترح هاري روبرتس — الرجل الذي كان قد دشَّن جهود جامعة شيكاجو في مجال السير العشوائي — أن يشرح زملاؤه ما يعنونه بالسوق الكفء، واقترح تصنيفًا نقَّحه فاما فيما بعد. فالكفاءة «الضعيفة» هي فرضية السير العشوائي القديمة، وهي أنك لا تستطيع توقُّع التفوق على السوق باستخدام بيانات حول تحركات سابقة للسوق. والكفاءة «شبه القوية» تعني أنك لا تستطيع التفوق عليها باستخدام أية معلومات متاحة علنًا. والكفاءة «القوية» تصف سوقًا بلغت حد الكمال لدرجة أنه حتى المستثمرون الذين يملكون إمكانية اطلاع على معلومات خاصة لا يمكنهم التفوق عليها.

كان أساتذة جامعة شيكاجو على قناعة بأن كفاءة السوق من الصورة الضعيفة قد أُثبتت تمامًا. وعندما قدَّم روبرت ليفي — طالب الدكتوراه بالجامعة الأمريكية — رأيًا مخالفًا على صفحات دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» سنة ١٩٦٧، مدعيًا نجاح طريقة «القوة النسبية» المتمثِّلة في الإقبال على الأسهم التي حققت أداءً أفضل على نحو ملحوظ من غيرها في فئتها؛21 كُلف جنسن بمهمة تفنيد ادِّعاءاته، فلم يفعل هذا إلا جزئيًّا، معترفًا بأنه «لم يستطع تفسير نتائج ليفي كافة.»22 وفي لمحة كاشفة على رؤية جامعة شيكاجو العالمية، كتب جنسن يقول إنك إذا اختبرت قواعد تعاملات مختلفة بدرجة كافية قياسًا على بيانات أسعار الأسهم التاريخية، فمن المؤكد أنك ستجد بعضها يتفوق على السوق. واستطرد قائلًا: «لكن السؤال الحاسم هو: هل يعني هذا أن قاعدة التعامل نفسها ستتمخَّض عن أرباح أعلى عندما توضع موضع التنفيذ فعلًا؟ كلا بالتأكيد.»23

•••

لم تزدد قناعة أساتذة جامعة شيكاجو بأن سوق الأسهم اقتربت من نوع عشوائي من الكمال إلا مع انقضاء العقد. كان جنسن على وجه التحديد بارعًا في ابتكار اختبارات لكفاءة السوق حققت نتائج إيجابية بشكل مدهش. وفي سنة ١٩٦٥ أو نحو ذلك، اقترح على رول أن يستخدما قاعدة بيانات كرسب لاختبار مدى سرعة رد فعل السوق تجاه المعلومات الجديدة، واستعانا في جهدهما بفاما ولاري فيشر — مساعد مدير كرسب — ومحَّصا تحركات الأسعار قبل الإعلانات عن تجزئة الأسهم وبعدها. كان يُعتقد أن تجزئة الأسهم تدل على تفاؤل الإدارة، وغالبًا ما كانت تسبق زيادات في أرباح الأسهم. وجد فريق جامعة شيكاجو أن الأسواق عادة تستشمُّ هذا التفاؤل قبل الإعلان جماهيريًّا عن التجزئة بفترة لا بأس بها.24 وصار هذا النهج يعرف باسم «دراسة الحدث»، بل واستُحدث فيما بعد نهج في ورشة عمل محاسبية بجامعة شيكاجو عرض حجج الأسواق الكفء بمزيد من الوضوح؛ حيث انتهى إلى أن ما بين ٨٥ في المائة و٩٠ في المائة من الأخبار الواردة في تقارير أرباح الشركات السنوية وجدت بالفعل طريقها إلى الأسعار — من خلال الأعمال التحضيرية التي يؤديها المحللون، والتخمينات المستنيرة من جانب المستثمرين، وربما بعض التعاملات من جانب العالمين بأسرار الشركات — قبل نشر هذه التقارير.25

صارت دراسة الحدث العنصر الرئيسي في المالية على طريقة أساتذة شيكاجو، في ظل تأكيد الآلاف من هذه الدراسات بما لا يدع مجالًا لأي شك منطقي أن الأسواق المالية قد برعت بالفعل في أن تعكس وتبث المعلومات الجديدة — حتى المعلومات الجديدة المحجوبة جيدًا — بواسطة الأسعار. كان فريدريش هايك قد أوضح سنة ١٩٤٦ أن هذا ينطبق على الأسواق عمومًا، ويبدو أنه كان محقًّا.

لكن ما تم تجاهله في خضم الانفعال بدراسات الحدث كان شيئًا يعرفه جيدًا أي شخص لديه خبرة بالسوق، بمعنى أن تحركات الأسعار تعكس أيضًا في بعض الأحيان معلومات كاذبة وتفسيرات خاطئة وتأرجحات مزاجية قديمة. كان تشارلز داو قد كتب سنة ١٨٩٩ يقول إن «وول ستريت يستبق المستقبل، لكن قادته الأعظم براعة غالبًا ما يخطئون بكونهم أسبق من الجمهور أكثر مما ينبغي.»26 لم يكن هذا الميل ليظهر في دراسة حدث. كان يتطلب «دراسة اللاحدث»، وافتراض كفاءة السوق في حد ذاته كان يستبعد ذلك؛ فإذا تحركت السوق بلا داعٍ واضح، فلا بد أن هذا يعني أن السوق تعرف شيئًا لا يعرفه الباحث الذي يدرسها.
فيما يخص أطروحته لنيل الدكتوراه، استقر جنسن على طريقة أخرى لاختبار كفاءة السوق، وهي قياس أداء الصناديق الاستثمارية المشتركة. كان هذا قد حدث من قبل في ١٩٦٢ على يد فريق من كلية وارتون وجد أن الصناديق الاستثمارية المشتركة في الأسهم أخفقت، كمجموعة، في مواكبة ستاندرد آند بورز ٥٠٠.27 كان جنسن يملك أداة جديدة تحت تصرفه، وهي العلاقة بين المخاطر السوقية والعائد، التي جرى تناولها في أبحاث تسعير الأصول الرأسمالية التي نشرها بيل شارب سنة ١٩٦٤ وجون لنتنر سنة ١٩٦٥.
محَّص جنسن أداء أكثر من مائة صندوق استثماري مشترك ووجد أن عوائدها — عند تعديلها حسب المخاطر — تخلَّفت بدرجة كبيرة عن عوائد السوق. وإذا تجاهل المرء كل الرسوم والمصاريف التي تتقاضاها الصناديق الاستثمارية المشتركة وسماسرتها، بدا أداء الصناديق أقل كآبة قليلًا، لكنه على الرغم من ذلك لم يكن أفضل من أداء السوق على أساس تعديل المخاطر. فكل مهارة مديري الصناديق الاستثمارية المشتركة ومحلليها، وكل الأموال التي أنفقوها على جمع المعلومات، لم تستطع أن تصل بها إلا إلى قدم المساواة. أبدى جنسن اندهاشه:
يجب أن يدرك المرء أن هؤلاء المحللين يملكون موارد هائلة، أضف إلى ذلك أنهم يعملون في أسواق الأوراق المالية كل يوم ولديهم اتصالات واسعة وعلاقات في مجتمعي الأعمال والمالية على حد سواء. ومن ثم، فإن حقيقة أنهم كما يبدو غيرَ قادرين على التنبؤ بالعوائد بدقة كافية لاسترداد تكاليف البحوث والمعاملات، دليل لافت للنظر في صالح الصورة القوية من فرضية كفاءة السوق.28

باتِّباع السابقة التي أرساها فاما قبل ذلك ببضع سنين، نُشرت أطروحة جنسن بالكامل على صفحات «جورنال أوف بيزنس» الصادرة عن جامعة شيكاجو سنة ١٩٦٩. تفوَّق ريتشارد رول على جنسن؛ حيث فازت أطروحته المعنونة «تطبيق نموذج كفاءة السوق على أذون الخزانة الأمريكية» بجائزة إرفينج فيشر لأحسن أطروحة في علم الاقتصاد في البلاد، ونُشرت على هيئة كتاب تُوِّج بمقدمة ملؤها الإعجاب كتبها بول سامويلسون. يقول رول: «كنت مذهولًا تمامًا عندما حدث ذلك؛ لأنني حتى لم أكن اقتصاديًّا.»

بعد سنوات من النظر بازدراء إلى العمل الذي يجري في كليات إدارة الأعمال، بدأ الاقتصاديون يعِيرونه اهتمامهم. كان ميرتون ميلر وفرانكو مودلياني — وهما اقتصاديان يعملان أيضًا كأستاذَي مالية — قد بدآ تحويل هذا الفرع المعرفي إلى شيء أشبه بعلم. وفي أواخر ستينيات القرن العشرين، انطلق يوجين فاما — أستاذ المالية المتفرغ كليةً لهذا العمل — لإتمام هذا العلم.

على خلاف كثيرين جدًّا من زملائه بجامعة شيكاجو، لم يكن فاما مدفوعًا بأي تحيُّز أيديولوجي واضح لصالح الأسواق الحرة. كانت ميوله السياسية لغزًا إلى حد كبير وظلت كذلك. لكنه كان باحثًا منهجيًّا مثابرًا، وكان يريد متابعة العمل الذي كان هو وآخرون في جامعة شيكاجو يفعلونه حتى نهايته المنطقية. كُلِّف فاما لدى انضمامه إلى هيئة تدريس جامعة شيكاجو بتدريس نظرية المحفظة وتسعير الأصول. كان هذان موضوعين لم يجد قط وقتًا للنظر فيهما كطالب دراسات عليا؛ لذا تعرف على عمل هاري ماركويتز وقرأ مقالتي بيل شارب وجون لنتنر المَعلَميتين لدى نشرهما. كان فاما أول من أثبت أن هاتين النسختين اللتين تبدوان مختلفتين من نموذج تسعير الأصول الرأسمالية تقولان في حقيقة الأمر الشيء نفسه، وكان فاما هو الذي قرر أنه كي يكون للسوق الكفء التي يقول بها أي معنى حقيقي، لا بد من ربطها ربطًا وثيقًا بنموذج تسعير الأصول الرأسمالية.

قام فاما بهذا الربط في الاجتماع السنوي لجمعية المالية الأمريكية سنة ١٩٦٩. صارت مقالته التي نُشرت في دورية «جورنال أوف فاينانس» في السنة التالية تحت عنوان «الأسواق الكفء: النظرية والأدلة» — بالإضافة إلى نظرية المحفظة لهاري ماركويتز وافتراضيْ مودلياني وميلر والأبحاث العديدة لنموذج تسعير الأصول الرأسمالية — وثيقة جوهرية للمالية الكمية الجديدة. كان فاما يحاول إضفاء صرامة على مشروع اتسم حتى ذلك الحين بالحماس عمومًا. فَأَنْ يجادل المرء بأن السوق يصعب التفوق عليها شيء، وأن يجادل بأنها على صواب شيء آخر. وكان فاما يريد الجزم بأن السوق تحدد أسعارًا صائبة:
الدور الأوَّليُّ لسوق المال هو تخصيص ملكية أسهم رأس المال الخاصة بالاقتصاد. والأمثل بوجه عام هو سوق توفر فيها الأسعار إشارات دقيقة لتخصيص الموارد، وأقصد سوقًا يمكن فيها للشركات اتخاذ قرارات بشأن الإنتاج والاستثمار، ويمكن للمستثمرين الاختيار من بين الأوراق المالية التي تمثل ملكية أنشطة الشركات بافتراض أن أسعار الأوراق المالية في أي وقت «تعكس تمامًا» البيانات المتاحة كافة. وأية سوق «تعكس دائمًا» فيها الأسعار «على نحو تام» البيانات المتاحة توصف بأنها «كفء».29

استشهد فاما بالأدلة الوفيرة التي جُمعت في العقد السابق، والتي تدل على أن السوق يصعب التنبؤ بها وأنها تسير بسرعة البرق، وخلص قائلًا: «باختصار، الأدلة المؤيدة لنموذج الأسواق الكفء كثيرة والأدلة المعارضة ضئيلة، وهذا قاصر نوعًا ما على علم الاقتصاد.» لكن قبل أن يتسنَّى لنا القول بأن الأسواق تصوب الأسعار، كان المرء يحتاج إلى اقتراح نظرية اقتصادية توضح كيف تتحدَّد الأسعار، ثم اختبارها قياسًا على بيانات سوق الأسهم. كان نموذج تسعير الأصول الرأسمالية هو النظرية، وكتب فاما يقول إن اختبارها هو التطور التالي.

سرعان ما أُجري أول اختبارين تجريبيين مكثفين لما سماه فاما «الفرضية المشتركة» لكفاءة الأسواق، ونموذج تسعير الأصول الرأسمالية بعد ذلك؛ حيث أجرى أولهما فاما وأحد الطلاب، وأجرى الآخر جنسن وسكولز والوافد الجديد فيشر بلاك، وهو استشاري في آرثر دي ليتل تحول إلى أستاذ للمالية في جامعة شيكاجو. وجدت كلتا الدراستين أن المفاضلة بين المخاطرة والمكافأة أكثر تعقيدًا مما تُصُوِّر في النظرية، لكن النتائج جاءت قريبة بدرجة كافية من الأمثل لتبعث الثقة أكثر مما تثير الشك.30

حوالي ذلك الوقت، تعاون فاما مع ميرتون ميلر لتأليف «نظرية المالية»، الذي كان أول كتاب دراسي يضفر الطاقات المختلفة التي ظلت تتطور على مدى العقدين السابقين في ضفيرة واحدة. كان الكتاب صارمًا ومليئًا بالمعادلات لدرجة تحول دون تدريسه لطلاب ماجستير إدارة الأعمال خارج جامعة شيكاجو، ومع ذلك فقد كان معلمًا بارزًا؛ حيث آذن بمولد علم المالية الأكاديمية من جديد.

يقول ركس سنكوافيلد — طالب اللاهوت الكاثوليكي السابق الذي التحق ببرنامج ماجستير إدارة الأعمال في خريف سنة ١٩٧٠ — متذكرًا: «في أول درس أحضُره لميرتون ميلر، شرح نظرية السوق الكفء، وبعد نحو عشر دقائق، خطر ببالي أن هذا لا بد أن يكون صحيحًا. كانت الفكرة بالنسبة لي قوية جدًّا، فقلت في نفسي: «هذا نظام في الكون».»

•••

لم يكن يسهُل تحويل قناعة الجميع بالتأكيد. في سنة ١٩٦٦، ألقى كثيرون من القدامى خطابات متقدة خلال الاجتماع السنوي لجمعية المالية الأمريكية شاكين من أن دورية «جورنال أوف فاينانس» اجتاحتها أبحاث مُغرقة في الرياضية والنظرية. تصدى لهذه الثورة رئيس الجمعية فريد وستون — الأستاذ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس — (الذي كان من قبل مدير تحرير الدورية المشارك عندما فجرت الأحداث مقالة اختيار المحفظة لهاري ماركويتز سنة ١٩٥٢). كتب وستون سنة ١٩٦٧ يقول: «مشكلات وقضايا المالية الناشئة تجعل من غير المُرضي بالنسبة لنا أن نتوقع قدرتنا على المساهمة في تحسين القرارات الاقتصادية وقرارات الأعمال بالتعميم والاجتهاد.»31 كانت النماذج والرياضيات هي المستقبل.
جاء هجوم نهائي من إروين فريند — الأستاذ بكلية وارتون والأكاديمي المخضرم — الذي كان يمكنه على الأقل القيام ببعض المهام الرياضية الجديدة، لكنه كان يظن أن معظمها عبث. ففي خطابه الرئاسي سنة ١٩٧٢ أمام جمعية المالية الأمريكية، شجب فريند ما سماه «منهجية» الطراز الجديد من المالية، وقال إن اختباراته التي أجراها لنموذج تسعير الأصول الرأسمالية «لم» تحقق نتائج إيجابية، وإن أيًّا من اختبارات فرضية كفاءة السوق لا يمحص ما إذا كانت المعلومات المتضمَّنة في أسعار الأسهم مفيدة فعلًا لتقرير الأرباح المستقبلية أو المخاطر. وانتهى إلى أنه «خلافًا للانطباع الذي يتمخض عنه نموذج «السير العشوائي» ونماذج أداء السوق ذات الصلة، فإن قدرة السوق على إرساء مبادئ إرشادية ملائمة لتوجيه أموال الاستثمارات إلى استخدامها على النحو الأمثل؛ ليست مثيرة للإعجاب، على الأقل عند النظر إليها بأثر رجعي.»32

بعد ذلك بأقل من عقد من الزمان، سيقدم أكاديميون أصغر سنًّا حججًا مماثلة تستهل فصلًا جديدًا بمنزلة بقايا لفكر بائد. لكن هذه الحجج كانت تُعتبر سنة ١٩٧٢ هدير احتضار الحرس القديم. يقول مايكل جنسن في ذلك: «إروين العجوز الطيب، لقد سُحق. ما كانوا يحاولون الدفاع عنه لم يكن جيدًا جدًّا.»

كان قد قُبل نموذج فكري جديد، ومن لم يكونوا يريدون العمل في إطاره لم يعودوا مرغوبين. صار مفهوم النموذج الفكري — ولا سيما التحول في النموذج الفكري — منذ ذلك الحين كليشيهًا، لكنه كان ما زال حديثًا في أوائل السبعينيات، وكان يصف جيدًا ما كان يجري في المالية. كان من بنات أفكار الفيزيائي توماس كون، الذي كان قد لاحظ خلال إجازة تفرغ قضاها في مركز الدراسة المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد في أواخر الخمسينيات، أن الأكاديميين المجتمعين (علماء نفس واجتماع وفلاسفة واقتصاديًّا واحدًا أو اثنين) مبتَلُون بنقاشات حول أُسس نوع لم يسمع به أحد في العلوم الطبيعية. وأوضح كون في كتابه الصادر سنة ١٩٦٢ بعنوان «بنية الثورات العلمية» أن المشكلة هي أن هذه الميادين لم تتطور تمامًا إلى علوم بعد. فالعلم الحقيقي — حسب تعريف كون — هو فرع معرفي يأخذ فيه الممارسون عددًا من الافتراضات الأساسية باعتبارها من المسلَّمات، ويمضون أيامهم في حل ألغاز دقيقة على نحو يتسق مع هذه الافتراضات. وغالبًا ما يتبيَّن في نهاية المطاف أن هذه الافتراضات خاطئة، لكن كل ذلك العمل في حل الألغاز كان مفيدًا على الرغم من ذلك. تمكَّن العلماء من إنجاز الكثير لأنهم إلى حد كبير لم يضيعوا وقتهم في جدال حول الأسس.

بالنسبة لبعض المنتمين إلى العلوم الراسخة، كان سرد كون سردًا مزعجًا؛ حيث بدا أنه يتهمهم بضيق الأفق. أبدى الاقتصاديون رد فعل مختلفًا؛ حيث استعرضوا القائمة التي وضعها كون بخصائص العلم الحقيقي (الاتفاق على أسسه، وغموضه على الدخلاء عليه، ونشره من خلال مقالات المجلات لا الكتب، وافتقاره العميق إلى الاهتمام بالتاريخ)، واعترفوا بفرعهم المعرفي على النحو الذي تطور عليه منذ الحرب العالمية الثانية. لم يعد ممكنًا تصنيف الاقتصاديين مع علماء النفس أو علماء الاجتماع المشاكسين أولئك. كانوا ينتمون إلى علم حقيقي. وفي غضون بضع سنين، وبفضل سخاء المصرف المركزي السويدي، صار لديهم حتى جائزة نوبل سنوية مخصصة لهم.33

كانت المالية الجديدة قد خرجت من رحم هذا الاقتصاد الذي كان حديث العهد كعلم. في الاقتصاد، كانت العقيدة الأساسية أن الناس عقلانيون، أما في المالية، فكانت العقيدة أن الأسواق المالية عقلانية. كان هذا — إلى حين — نقطة انطلاق مثمرة على نحو مدهش. فبوضع افتراض مبسِّط عن العالم الحقيقي، تمكَّن أساتذة المالية من إنتاج أبحاث عظيمة الفائدة.

لكن لا ينكر أحد أنهم صاروا أيضًا يعانون من ضيق الأفق، وأشهر ما عبر عن عقلية المالية الضيقة مقالة نُشرت سنة ١٩٧٨ لمايكل جنسن، الذي كان قد ساعد — بعد تركه شيكاجو — على تحويل جامعة روتشستر نوعًا ما إلى شيكاجو مطلة على بحيرة أونتاريو. استهل قائلًا: «أعتقد أنه لا توجد في علم الاقتصاد فرضية أخرى تؤيدها أدلة تجريبية أقوى من تلك التي تؤيد فرضية كفاءة السوق.»34

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤