الفصل السابع

جاك بوجل يتبنى الهوس بالأداء، ويحقق النصر

الدرس القائل بأن التفوق على السوق ربما لا يستحق حتى تجربته يشق طريقه مباشرة إلى عالم الاستثمار.

***

في ١٩٥٩، توصل رفيقا غرفة في جامعة شيكاجو إلى فكرة ظنَّاها رائعة، وهي ضرورة أن ينشئ شخص ما صندوقًا استثماريًّا مشتركًا يشتري أسهم متوسط داو جونز الصناعي ويحتفظ بها. لم يكن إدوارد إف رنشو — الاقتصادي الذي يوشك على نيل الدكتوراه — وبول جيه فيلدشتاين — طالب ماجستير إدارة الأعمال — في وضع يسمح لهما بتدشين مثل هذا الصندوق بأنفسهما؛1 فقررا إطلاع العالم على فكرتهما المتعلقة بإنشاء «شركة استثمارية غير مدارة» بتقديم مقالة بشأنها إلى دورية «فاينانشال أناليستس جورنال».
لم تشتمل المقالة — التي نُشرت في عدد يناير-فبراير ١٩٦٠ — على إشارات إلى أي سوق كفء أو سير عشوائي، بل أوردت تقييم ألفريد كاولز المسيء لمتنبئي وول ستريت الذي يعود إلى سنة ١٩٣٢، وقالت إن «الأدلة التي يمكن الاستشهاد بها … تدل على أن متوسط العائد المحقَّق من وراء المشورة المهنية والإشراف المستمر منخفض جدًّا.» لكن الحجة الرئيسية التي أوردتها المقالة أفادت بأن صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة نمت كثيرًا جدًّا لدرجة أن اختيار الصناديق الاستثمارية المشتركة بدأ يصير في مثل صعوبة اختيار الأسهم الفردية بالنسبة للمستثمرين، وسيوفر الصندوق غير المدار — استنادًا إلى داو؛ ببساطة لأن ذلك ما كان المستثمرون أكثر دراية به — بديلًا بسيطًا منخفض التكلفة.2
كانت تلك نهاية المطاف بالنسبة للمؤلفين، فلم يتصل بهما أحد راجيًا تمويل خطتهما، فواصلا حياتهما. لكن بعد مرور بضعة أشهر، نُشر على صفحات دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» تفنيد لمقالتهما لكاتب اسمه «جون بي أرمسترونج»، وهو اسم مستعار — كما كشف تذييل بالمقالة — «لرجل قضى سنوات عديدة في مجال الأوراق المالية وكتب أطروحة تخرُّجه في برنستون عن «الدور الاقتصادي للشركة الاستثمارية».» كان اسمه الحقيقي جون سي بوجل، وكان مسئولًا تنفيذيًّا شابًّا آخذًا في الصعود في ويلنجتون ماندجمينت كومباني، وهي شركة للصناديق الاستثمارية المشتركة مقرها فيلادلفيا، وقد آثر الاسم المستعار (أرمسترونج هو اسم عائلة جده لأمه) كي لا يورِّط ويلنجتون في مشكلة مع هيئة الأوراق المالية.3
جادل بوجل في تفنيده بأن الصندوق غير المدار حل يبحث عن مشكلة؛ إذ كتب يقول إن أقدم أربعة صناديق استثمارية مشتركة (لم يسمها بوجل لكنها كانت ماساتشوستس إنفستورز ترست، وإنفستورز إنكوربوريتد (يسمى الآن بوتنام إنفستورز)، وستيت ستريت، وويلنجتون) كلها تفوقت على داو في الأداء منذ سنة ١٩٣٠ مع تعرضها لتقلبات أقل من السوق الكلية. أضف إلى ذلك أن داو لم يكن مدارًا. وقد أدخل المحررون في صحيفة «وول ستريت جورنال» على المتوسط ثمانية وعشرين تغييرًا منذ سنة ١٩٢٨. وأخيرًا فإن فكرة الصندوق غير المدار جُرِّبت من قبل على هيئة «شركات استثمار محددة المجالات» كانت تشتري قائمة محددة مسبقًا من الأسهم وتحتفظ بها، وكانت قد تلاشت من الوجود.4

كان بوجل يجادل بأن المستثمرين أحسن حالًا مع صندوق استثماري مشترك مدار بذكاء منهم بمقارنته بصندوق مدار كيفما اتفق، وكان على صواب من الناحية التاريخية. فلم يكن مديرو الأموال المحترفون يملكون إلا نحو ١٠ في المائة من أسهم الشركات الكبيرة المتداولة في بورصة البلاد في خمسينيات القرن العشرين (ارتفع هذا الرقم إلى ٧٦ في المائة بنهاية سنة ٢٠٠٧). لم يكن مستبعدًا أن يظن المرء أنهم يستطيعون التفوق على طائفة من الهواة. كانت الصناديق التي استشهد بها بوجل أيضًا تدار بمعرفة شيوخ صعاب المراس يذْكرون الكساد الكبير؛ مما يعطيهم فهمًا فطريًّا للمخاطر. وحتى إذا لم يتفوقوا على السوق، كان يمكن القول إنهم يحمون مستثمريهم من بعض من مخاطرها المحتملة.

لكن بحلول سنة ١٩٦٠، كان هناك جيل جديد يزيح العدد القليل من الصناديق التي نجت من الكساد الكبير. كانت سمات الصناديق الاستثمارية المشتركة التي ثمَّنها بوجل أكثر مما سواها (التحفظ، التنويع، حسن الإدارة) تُفْسِح المجال لروح جديدة قوامها الهوس بالأداء والتخصص والتسويق. ولن يزداد الأمر إلا سوءًا مع مضي ستينيات القرن العشرين المزدهرة. صار الأمر شديد السوء، لدرجة أنه بعد ذلك بعقد ونصف، لم يدشن أحد سوى جاك بوجل أول صندوق استثماري مشترك مرتبط بمؤشر. كان لزامًا أن يحدث الكثير من الأشياء قبل أن يتمكن بوجل من الوصول إلى تلك النقطة، ولعب القائلون بالسير العشوائي وأنصار كفاءة السوق دورًا كبيرًا في إيصاله إلى هناك. كان تضافرًا غير مسبوق بين النظرية الأكاديمية وواقع وول ستريت، لكن هذا سبْق للأحداث.

•••

وُلدت صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة الحديثة سنة ١٩٢٤ عندما رأى سمسار أسهم في بوسطن — أفزعه إلى أي مدى تبتز سوقُ الأسهم المستثمرين الهواة وتحيِّرهم — أن الوقت قد حان لطريقة جديدة للاستثمار. كان من المفترض أن يصبح ماساتشوستس إنفستورز ترست — الصندوق الذي أسسه — صندوقًا استثماريًّا «مشتركًا» مملوكًا لمن يضعون مالًا فيه. لم يكن هذا مجرد خيال قانوني. كان ماساتشوستس إنفستورز ترست كيانًا غير ربحي يديره مجلس إدارة مسئول أمام مستثمري الصندوق. كانت الصناديق الأخرى التي تأسست في بوسطن وغيرها في عشرينيات القرن العشرين، والتي اندرجت فيما بعد تحت اسم «المشتركة»، واقعة في الحقيقة تحت سيطرة مستشارين استثماريين ربحيين. لكن هذه الصناديق كانت تشترك في الحقيقة مع ماساتشوستس إنفستورز ترست في بعض السمات، فكان سعر السهم يتحدد بالقيمة الصافية للأوراق المالية المملوكة للصندوق، وكان يتم الإفصاح عن تلك الأوراق المالية بالمحفظة دوريًّا. كان المديرون يتقاضون نسبة مئوية من الأصول الخاضعة للإدارة وليس رسمًا يستند إلى الأداء. والأهم من هذا أن الصناديق كانت مفتوحة، فكلما تدفَّقت الأموال إليها، اشترى المديرون مزيدًا من الأسهم، وكلما تدفقت منها، باعوها.5
كان ميلاد الصندوق الاستثماري المشترك شأنًا منخفض الميزانية؛ حيث بدأ ماساتشوستس إنفستورز ترست بمبلغ ٥٠ ألف دولار لا غير. كانت شركات السمسرة في وول ستريت تدشن أوعيتها الاستثمارية — وهي صناديق مغلقة — بدعاية أكثر جلبة وميزانية أكبر حجمًا بكثير. كان أول صندوق كبير هو شركة يو إس آند فورين سيكيوريتيز كورب — ضَمِنه بنك ديلون ريد — التي جمعت ١٠ ملايين دولار في طرحها الأولي. وبحلول عام ١٩٢٩ كان هناك المئات من هذه الصناديق، بإجمالي ٧ مليارات دولار، تحت الإدارة (نحو ٨ في المائة من القيمة الإجمالية لسوق الأسهم).6 كانت تجمع الأموال في طروح عامة، وتشتري بها أسهمًا، وبعد ذلك كانت تخفي غالبًا شئونها عن مساهميها بينما تُثري مؤسسيها. بعض هذه الصناديق تحول إلى مخططات «بونزي» فعلية؛ حيث كانت تقترض المال لإعادة شراء أسهمها ودفع الأسعار إلى الارتفاع.

بعد الانهيار، كانت الأسهم التي في حوزة كثير من هذه الصناديق المغلقة أقرب إلى انعدام القيمة. كانت هناك بالتأكيد خسائر في ماساتشوستس إنفستورز ترست وغيره من الصناديق المفتوحة، لكن الإخفاقات كانت قليلة، وبحلول نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، كان واضحًا أن نموذج ماساتشوستس إنفستورز ترست هو الفائز. وفي سنة ١٩٤٠ حفظ الكونجرس طريقة ماساتشوستس إنفستورز ترست على هيئة قانون؛ حيث تولى محامو الصندوق جُل مهمة كتابة قانون لشركات الاستثمار. بعض الصناديق المغلقة استمر، لكن مع بدء عودة الأشخاص العاديين بحذر شديد إلى سوق الأسهم في أربعينيات القرن العشرين، صوتوا مراعاة لمصالحهم المالية لصالح طريقة ماساتشوستس إنفستورز ترست المفتوحة في ممارسة العمل.

لم تكن صيغة ماساتشوستس إنفستورز ترست صيغة للتفوق على السوق. كانت الصناديق الاستثمارية المشتركة الأخرى قد أغلقت أبوابها أمام المستثمرين الجدد في مرات عديدة في خضم قلق المديرين من تأثر الأداء سلبًا عند نموِّ حجمها أكثر مما ينبغي. لم يفعل ماساتشوستس إنفستورز ترست ذلك قط. لم يكن هدف الصندوق التفوق على السوق بقدر ما كان المشاركة في مكاسبها، وهو ما يسَّره أمناء ماساتشوستس إنفستورز ترست بتقاضي رسم إدارة ضئيل. لم يكن المستثمرون مضطرين إلى دفع ٧ في المائة مصاريف سمسرة لشراء أسهم في الصناديق من الأساس (كانت شركة السمسرة الموكل إليها بيع الصندوق هي النغمة الربحية النشاز الوحيدة في سيمفونية ماساتشوستس إنفستورز ترست الصديقة للمستثمرين)، لكن بعد ذلك، كنتَ تملك السوق دون تكلفة تقريبًا. في مقالة نشرتها مجلة «فورتشن» سنة ١٩٤٩ عن ماساتشوستس إنفستورز ترست، وجَّه أحد المنافسين النقد بقوله إن الصندوق استثمار ممتاز «إذا كان كل ما تريدون هو جزء من متوسط داو جونز.» فردَّ أحد المسئولين التنفيذيين في الصندوق بقوله: «امتلاك متوسط داو جونز ليس بالشيء السيئ؛ بما أن المستثمر الصغير، الذي يقيِّم السوق لنفسه، نادرًا ما يحقق أداءً يماثل في جودته أيًّا من المتوسطات المقبولة.»7

استهوت هذه المقالة جاك بوجل؛ إذ كانت أول تمحيص متعمق لصناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة المتنامية في وسائل الإعلام. كان لزامًا على طلاب السنة النهائية في جامعة برنستون كتابة أطروحة، وفي أواخر سنة ١٩٤٩ كان بوجل طالبًا بالسنة النهائية في تخصص الاقتصاد يبحث عن شيء يكتب عنه، بخلاف جون مينارد كينز الذي كان يمثِّل الموضوع التلقائي لعلم الاقتصاد آنذاك. كان في مكتبة الجامعة يتصفَّح المجلات عندما عثر على موضوعه ومشواره المهني.

اشتملت الأطروحة التي نتجت عن ذلك على تأكيدين مدهشين ومتناقضين نوعًا ما؛ أحدهما — يكاد يكون قد ذُكر عرضًا — أن «الصناديق لا يجوز لها أن تدعي تفوُّقها على متوسطات السوق»، والآخر — وخصَّه بوجل بتفصيل أكبر — أن السوق التي يلعب فيها مديرو الصناديق الاستثمارية المشتركة دورًا قياديًّا لا تمثل شيئًا مثل «مسابقة الجمال» التي وصفها كينز، والتي يقضي فيها المضاربون وقتهم كله «يتنبئون بما يتوقع الشخص العادي أن يكون عليه رأيُ الشخص العادي.»

كتب بوجل يقول: «الأدلة … تشير إلى أن الشركة الاستثمارية يجب أن تُقرَّ السوق لا أن تزعزعها فيما تقترب أصولها من حجم يكون معه مثل هذا التأثير عليها ملحوظًا. وبمجرد بلوغ هذا الحجم، ستناضل ضد استنتاجات اللورد كينز الكئيبة والاشتراكية.»8 كان بوجل من ولاية نيوجيرسي، وكان قصير الشعر متواضع الدخل (أفلس أبوه في انهيار سنة ١٩٢٩) ومتواضع الدرجات الدراسية حتى ذلك الحين. حصل على تقدير ممتاز على أطروحته، وأرسل نسخة منها إلى خريج برنستون الذي كان يدير شركة ويلنجتون ماندجمينت، فنال وظيفة.

•••

كان عالَم الاستثمار الاحترافي الصغير الذي دخله بوجل سنة ١٩٥١ يمتلك بالفعل شيئًا من الطبيعة المُقرَّة للسوق التي نسبها إليه في أطروحته. فالمستثمرون الذين نجوا وازدهروا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين كانوا هم من أعاروا اهتمامًا شديدًا للقيمة الأساسية للشركات التي يشترون أسهمها. كان أحدهم كينز، الذي كتب إلى صديق له سنة ١٩٤٢ يقول: «غايتي شراء أوراق مالية حيثما أكون راضيًا عن الأصول والقدرة على الربح النهائية وحيثما يبدو سعر السوق رخيصًا فيما يتعلق بهما.»9 حقق نجاح هذا النهج الاستثماري القائم على القيمة الثراء لكينز في ثلاثينيات القرن العشرين، وبما أنه لم يناقشه علنًا قط، فقد رُبط بدلًا من ذلك بشخص ناقشه علنًا، وهو بنجامين جراهام.
عندما تخرَّج جراهام في كلية كولومبيا سنة ١٩١٤، طلب منه رؤساء أقسام الفلسفة والرياضيات واللغة الإنجليزية ثلاثتُهم البقاء للحصول على الدكتوراه. ورأى عميد كولومبيا ضرورة أن يحصل جراهام على بعض الخبرة العملية أولًا؛ لذا حصل للشاب على وظيفة لدى سمسار في وول ستريت.10 عمل جراهام هناك في وظيفة «إحصائي»، وسرعان ما اكتشف أن معظم ممارسي وول ستريت لا يفهمون قيمة البيانات التي كانت ستاندرد ستاتيستيكس وموديز وأمثالهما ترميهم بها. كتب جراهام في سيرته الذاتية بعد ذلك بخمسين سنة يقول: «في سنة ١٩١٤، كان هذا المقدار الكبير من البيانات يذهب سدى إلى حد كبير في مجال تحليل الأسهم العادية. لم تكن الأرقام تُتجاهل، بل كانت تُدْرس دراسة سطحية وبقليل من الاهتمام … ومن ثَمَّ فإنه إلى حد كبير، وجدتُ وول ستريت أرضًا بكرًا لتمحيصها بتحليل حقيقي ثاقب لقيم الأوراق المالية.»11

جاءت أول ضربة كبيرة موفقة لجراهام بعد تخرجه بسنة واحدة فحسب؛ حيث أعلنت جوجنهايم إكسبلوريشن كومباني — التي كانت تملك حصة في العديد من مناجم النحاس الكبرى التي هي ذاتها مدرجة في بورصة نيويورك — أنها ستُجري عملية تصفية لممتلكاتها وتوزعها على المساهمين. أجرى جراهام بعض الحسابات، ووجد أن السوق تقيِّم هذه الشركات التابعة أعلى بكثير من الشركة الأم، فأشار على عملاء شركته بشراء أسهم جوجنهايم وبيع أسهم شركاتها التابعة على المكشوف (بمعنى اقتراض الأسهم من الآخرين وبيعها على أمل أن يستطيعوا إعادة شرائها فيما بعد بسعر أقل). هذا ما يسمى المراجحة، وهي أن تجد الشيء نفسه يباع بأسعار مختلفة في أماكن مختلفة، فتشتريه بالسعر المنخفض وتبيعه بالسعر المرتفع. وقد ربح من عملوا بنصيحة جراهام ثروة طائلة.

لم يكن جراهام — الذي سرعان ما أنشأ شركته الخاصة لإدارة الأموال — بكل تأكيد أول من اتبع هذه التكتيكات. ربما كان أول من يكتب بوضوح عنها في مطبوعات مثل مجلة «مجازين أوف وول ستريت» وصحيفة «بارونز» (كما ألَّف أيضًا مسرحيات نجحت إحداها في الوصول إلى برودواي لكنها توقفت بعد أربعة عروض سنة ١٩٣٤). في سنة ١٩٢٧، بدأ يُدرِّس مقررًا في مدرسة ليلية في كولومبيا فيما سمَّاه «تحليل الأوراق المالية». من البداية، كان جراهام ينوي تحويل مواد مقرره إلى كتاب دراسي؛ حيث كانت الكتب الدراسية القائمة في مجال الاستثمار مملَّة بشدة ومعظمها يتناول السندات. وفي سنة ١٩٣٤، وبمساعدة من أستاذ شاب بكلية كولومبيا لإدارة الأعمال يسمى ديفيد دود كان طالبًا في تلك الدورة الأولى المنعقدة سنة ١٩٢٧، انتهى جراهام من تأليف «تحليل الأوراق المالية». أعاد هذا الكتاب تسمية «الإحصائيين» باسم «المحللين» وصار دستور هذه المهنة الجديدة.

كان «تحليل الأوراق المالية» دليلًا يشق به المرء طريقه عبر «أدغال» قوائم الأرباح والميزانيات العمومية بحثًا عن القيمة. وكما ذكر جراهام فيما بعد في كتابه «المستثمر الذكي»، ينبغي أن يرى «المستثمر الحقيقي» نفسه كشريك في مشروع مع شريكة مصابة باضطراب هوسيٍّ اكتئابي تسمى «السيدة سوق». في كل يوم تعرض هذه السيدة شراء حصة المستثمر أو بيع حصتها. في بعض الأيام تعرض سعرًا معقولًا، وفي بعض الأحيان يكون السعر أعلى مما ينبغي أو أقل مما ينبغي. مهمة المستثمر في القيمة أن يكون لديه إدراك كافٍ لقيمة هذا المشروع ليعرف متى يبرم صفقة مع السيدة سوق ومتى يتجاهلها.12 ما يبدو أنه فات كثيرين من قراء جراهام على مر السنين هو أنه قلما رأى أن أي مستثمر يمكنه الوثوق من التفوق على السيدة سوق. كتب سنة ١٩٣٤ يقول: «فيما يخص السهم العادي النمطي — وهو إصدار اختِير عشوائيًّا من القائمة — من غير المحتمل أن يتمخَّض أي تحليل — مهما كان دقيقًا — عن نتيجة جديرة بالثقة بشأن جاذبيته أو قيمته الحقيقية.»13

من ثم ركَّز جراهام على الأسهم العادية الرخيصة على غير المعتاد، وهي التي تباع بأسعار أقل كثيرًا مما اعتبره «قيمة التصفية» الخاصة بها. فإذا كانت شركة ما مسعَّرة بما يقل كثيرًا عما يمكنها أن تدره بإيقاف نشاطها وبيع جميع مصانعها ومعداتها وأرصدتها من الأوراق المالية، فشراء أسهمها على الأرجح صفقة جيدة. فإذا أخفق كل ما عدا ذلك، يمكن لملاك الشركة ببساطة أن يغلقوها ويبيعوا أصولها. كانت تلك — إلى حد ما — صورة أخرى من صور المراجحة.

صار جراهام يشير إلى مثل هذه الشركات باسم «أعقاب السيجار»، وكانت إبان ثلاثينيات القرن العشرين موجودة في كل مكان. كانت حقبةً كافأت المستثمرين الصبورين العقلانيين مكافأة عظيمة، وهم بدورهم دفعوا الأسعار ببطء معيدين إياها إلى مستويات عقلانية. نمت أعداد هؤلاء المستثمرين بمرور الوقت، والفضل في ذلك يرجع — إلى حد كبير — إلى نجاح كتاب جراهام الدراسي وتأثير المقرر الذي درَّسه في كولومبيا. في سنة ١٩٣٧، تأسَّست جمعية محللي الأوراق المالية بنيويورك بمشاركة عشرين عضوًا، وبعد ذلك بعشر سنوات، انضمت إلى الجمعيات المماثلة في بوسطن وشيكاجو وفيلادلفيا لتكوين اتحاد المحللين الماليين (يُعرف الآن باسم معهد المحللين الماليين المعتمدين). دشَّنت الجماعة مطبوعة دورية «أناليستس جورنال» — التي أصبحت فيما بعد دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» — وبدأت تشترط الحصول على دورات واجتياز اختبارات للانضمام إلى صفوفها.

كان هذا كله كافيًا ليشعر جراهام بالتوتر. فلم تعد السوق ملكًا خالصًا له، ولم يلم إلا نفسه. عندما تخرج النبراسكيُّ وارين بافيت في كلية كولومبيا لإدارة الأعمال سنة ١٩٥١، أشار عليه جراهام — الذي كان قد منح بافيت درجة ممتاز في مادته — بالابتعاد عن الأسهم، على الأقل حتى ما بعد الانهيار التالي.14 فتجاهله بافيت، وما أعقب ذلك على مدى نصف العقد التالي «كان وفق أي معيار إحصائي أعظم انتعاش مسجَّل» كما كتب جون بروكس — مؤرخ سوق الأسهم بمجلة «نيويوركر»، سنة ١٩٥٨ — الذي أضاف قائلًا: «من حيث الجنون الوطني المحض، ربما يحتل مرتبة متأخرة عن انتعاش أواخر عشرينيات القرن العشرين … ومع ذلك كان قويًّا بدرجة كبيرة.»15

مع ارتفاع أسعار الأسهم (فاق متوسط داو جونز أخيرًا سنة ١٩٥٥ ذروته التي بلغها سنة ١٩٢٩)، بدا جراهام غير مواكب لعصره أكثر وأكثر. كتب طالب بالدراسات العليا في الاقتصاد بجامعة برنستون سنة ١٩٦٣ يقول: «كان تحليل الأوراق المالية لجراهام ودود — الذي كان فيما سبق دستور المحلل المالي — قد فقد صلته بواقع «الحقبة الجديدة» الثانية، حقبة تقييم الأسهم العادية (كانت «الحقبة الجديدة» الأولى هي عشرينيات القرن العشرين). صار البحث عن النمو الشغل الشاغل لدى محللي الأوراق المالية.»

شرع بيرتون جي مالكيل — طالب الدراسات العليا والضابط السابق في الجيش والمصرفي الاستثماري في سميث بارني — يصف كيف قاد هذا البحث عن النمو وول ستريت إلى جون بير وليامز ونموذجه الخاص بخصم أرباح الأسهم. صارت معادلة حساب القيمة الحالية لأرباح الأسهم المستقبلية المتوقعة إحدى أدوات كل المحللين. كتب مالكيل يقول إن هذا التحول إلى نهج استثماري أكثر تفاؤلًا وتطلعًا إلى المستقبل كان مبرَّرًا في جزء منه. لكن عندما أضاف المحللون إلى حساباتهم لسعر السهم المناسب خمسين سنة من النمو المستقبلي، أنَّت المعادلات تحت وطأة كل ذلك التوقع. فعندما تعتمد على أرباح أسهم وأرباح بعيدة جدًّا في المستقبل، فإن أقل تبدُّل في أسعار الفائدة المتوقعة يعني تأرجحات هائلة في قيم الأسهم. فالمستقبل غامض، وكلما تعمَّقت بنظرك فيه، قلَّ ما تعرفه. وانتهى مالكيل إلى أن عملية تقييم الأوراق المالية «عملية قصيرة الأجل».16

أيَّد جراهام ذلك بقوة. كان قد أغلق شركته العاملة في إدارة الأموال سنة ١٩٥٦، وانتقل إلى جنوب كاليفورنيا. كان أول من اعترف بأن الظروف التي سمحت لطُرقه بالازدهار في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين لم تعد قائمة. وفي كلمة له بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتأسيس جمعية محللي الأوراق المالية بنيويورك سنة ١٩٦٢، نوَّه إلى أن الجمعية التي كانت ذات يوم بالغة الصغر صارت تضم الآن ٢٩٤٥ عضوًا، وقال: «ليس بمقدور المحللين الماليين ككل أو صناديق الاستثمار ككل أن يتوقعوا «التفوق على السوق»؛ والسبب يرجع في الأساس إلى أنهم هم (أو أنكم أنتم) السوق.»

ثم على نحو أشبه قليلًا باقتصاديٍّ من شيكاجو، استطرد قائلًا:

يقدم المحللون في واقع الأمر خدمة جليلة للمجتمع بدراستهم وتقييمهم الأسهم العادية، لكن هذه الخدمة لا تتجلى في النتائج المذهلة التي تحققها اختياراتهم الفردية، بل بالأحرى في تحديد مستوى سعري — في معظم الأحيان ولمعظم الأسهم — يمثِّل قيمها النسبية تمثيلًا عادلًا، وذلك على النحو الذي تؤكده الحقائق المعروفة والتقديرات المعقولة بشأن المستقبل.

كان هذا التصريح جوهر فرضية كفاءة السوق، وذلك على النحو الذي صاغه صياغة فضفاضة ومعقولة شخص لديه خبرة سوقية فعلية. كتب جراهام يقول إنه يعني أنه من الأفضل أن يقبل المحلل العادي ببساطة أسعار السوق كما هي، وينفق وقته وطاقته الذهنية في إنشاء محافظ تُوازن بفعالية بين المخاطر والعائد. حاضَر جراهام بين الفينة والفينة في كلية إدارة الأعمال بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وتابع التطورات هناك عن كثب. كان يعرف كل شيء عن محافظ هاري ماركويتز الكفء، ورأى ميزة عظيمة فيها ما دام يستطيع المرء التوصل إلى طرق أفضل لقياس خطورة الأسهم الفردية.17

•••

وبالعودة إلى وول ستريت، كان القلق بشأن المخاطر قد انقضى زمانه. فقد كانت صناعة إدارة الأموال التي كانت تواجه مزيدًا من الصعوبة في التفوق على السوق قد بدأت تخلق نوعًا من الهوس بتحقيق هذا التفوق. أعلن الصحفي جورج إيه دبليو جودمان — الذي كان يكتب باسم «آدم سميث» — في تصويره الرائع لوول ستريت في ستينيات القرن العشرين والمعنون «لعبة المال»، قائلًا: «حتى بضع سنوات قليلة مضت، كنتَ بمأمن كمدير صندوق إذا اشتريت أسهم الشركات الممتازة الكبرى، مثل ألكوا ويونيون كاربايد، وشركة الهاتف وتكساكو. لم تكن لتتعرض للنقد حتى لو كان أداء تلك الأسهم سيئًا؛ لأن هذا سيكون أشبه بانتقاد الولايات المتحدة الأمريكية.»18

كانت الشركات الممتازة آنذاك تفسح المجال لنوعية جديدة من الشركات، وهي الشركات متعددة الأنشطة سريعة النمو — مثل ليتون، وإل تي في (لينج-تمكو-فوت) — بالإضافة إلى المعجزات التكنولوجية من أمثال زيروكس، وبولارويد، وسبيري راند (وهذه الأخيرة تجسيد جديد عجيب لرمنجتون راند التي أسسها إرفينج فيشر). كان المشتري الأشد نهمًا لأسهم هذه الشركات، والرجل الذي يُنسب إليه عمومًا الفضل في تدشين هوس ستينيات القرن العشرين «بالأداء»؛ هو جيري تساي، المولود في شنجهاي، والذى تلقى تعليمه في بوسطن، والمعروف للجميع في وول ستريت بلقب «الرجل الصينيُّ». كان تساي قد عمل سنة ١٩٥٢ كمحلل لدى صندوق فيديليتي الكائن في بوسطن، وبعد ذلك بخمس سنوات، طلب من إدوارد كروزبي جونسون الثاني — رئيس صندوق فيديليتي — صندوقًا خاصًّا به.

كان جونسون محاميًا من بوسطن «أُعطي» صندوق فيديليتي سنة ١٩٤٣ من قبل الرئيس السابق للصندوق، وقد أدرك قبل أي من أقرانه المحافظين في الصناديق الاستثمارية المشتركة أن أيام الوصاية التقليدية المشددة قد ولَّت. فأنشأ لتساي صندوقًا — وهو فيديليتي كابيتال — سرعان ما اشتهر بجنون تعاملاته وعوائده الأكثر جنونًا؛ حيث حقق مكاسب مذهلة سنة ١٩٦٥ بنسبة ٥٠ في المائة.19 أسند جونسون إلى ابنه نيد المسئولية عن صندوق جديد آخر اسمه فيديليتي تريند، فاق في الواقع صندوق تساي في أدائه (فوق ٥٧ في المائة سنة ١٩٦٥)، على الرغم من أنه لم يستهو وول ستريت على النحو نفسه تمامًا.
لم تطق شركات الصناديق الاستثمارية المشتركة الأخرى تجاهل شابيْ فيديليتي الواعدين. كتب جودمان يقول: «عدد من مديري الصناديق الذين أعرفهم يصفون مهامهم وصفا بسيطًا جدًّا، وبطريقة واحدة تقريبًا، فيقول الواحد منهم: «مهمتي هي التفوق على فيديليتي».»20 لم يستطع أحد أن يفعل ذلك بانتظام، لكن صناديق كثيرة تفوقت على داو في تلك الأيام شديدة التقلب. في سنة ١٩٦٥، سجَّل التسعة والعشرون صندوقًا المصنفة في فئة «الأداء» بمعرفة شركة الوساطة المالية آرثر ويسنبرجر آند كومباني (المصدر الرئيسي لبيانات الصناديق الاستثمارية المشتركة في ذلك الوقت) متوسط مكاسب بلغ ٤٠ في المائة بمقارنته بنسبة ١٥ في المائة حققها داو.21
فكيف تفوق مديرو الصناديق على السوق بالرغم من هذه المنافسة الحادة؟ بالدرجة الأولى بإكثارهم من شراء الأسهم مفرطة المضاربة ذاتها التي كان تساي قد بدأ شراءها في أواخر خمسينيات القرن العشرين، والتي كانت بحلول ذلك الوقت مسعَّرة بأثمان فادحة. عندما صعدت السوق — كما كان حالها طوال معظم ستينيات القرن العشرين — ازدادت تلك الأسهم ارتفاعًا فوق ارتفاعها. فهل كانت هناك أية مهارة لها علاقة بمثل هذا الاستثمار؟ قطعًا، كما قال شباب وول ستريت الواعدون. كتب أحدهم في دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» سنة ١٩٦٦ يقول: «أداء بعض المؤسسات المحسَّن في إدارة صناديقها هو المحصلة الطبيعية لتولي رجال أصغر سنًّا وأكثر نشاطًا وأحسن تدريبًا زمام القيادة.»22 لم يكن الشيوخ موقنين تمامًا. وفي مقالة نُشرت في الدورية ذاتها في ذلك العام، أبدى أحد أعضاء اتحاد المحللين الماليين المؤسِّسين قلقه قائلًا:
توجد مشكلة حيوية وراء المعادلات متزايدة الإتقان — التي ستزداد إتقانًا مع تزايد استخدام أجهزة الكمبيوتر — المستخدمة في قياس معدل العائد؛ وهذه المشكلة هي: ما مقدار المخاطر التي تم تكبُّدها؟ لا يشكل هذا فارقًا بأثر رجعي. الأهم من هذا أنه من المستحيل قياسه كميًّا. لكن ذلك الجزء الحيوي في المعادلة موجود ولا داعيَ للتستر عليه.23
كان الحرس القديم محقًّا في ضرورة عدم تجاهل المخاطر، لكن من الصعب أن تفوز في مجادلة كمِّيَّة بالاتكاء على شيء تدعي أنه «من المستحيل قياسه كميًّا». في سنة ١٩٥٧، كان جاك بوجل قد اقترح مقياسًا جديدًا للأداء يقسِّم عائد الصناديق حسب التقلب،24 وهو الأفضل لعرض نهج ويلنجتون منخفض المخاطر.25 لكن معظم ممارسي وول ستريت لم يكونوا يرون أن التقلب والمخاطر سيان، وقد كفَّ بوجل نفسه في النهاية عن محاولة محاربة هوس «الأداء». في البداية أقنع رؤساءه بتدشين صندوق وندسور المقتصر على الأسهم. ثم في سنة ١٩٦٦، وقُبيل توليه رئاسة ويلنجتون، رتَّب لدمجه مع شركة صغيرة في بوسطن تدير واحدًا من أنجح الصناديق أداءً ذلك اليوم.

ترك هذا المجالَ مفتوحًا أمام ممارسي المالية الكمية الأكاديمية الجديدة. كان الأول وصولًا هو جاك ترينور — الموظف بشركة آرثر دي ليتل. ففي أواخر خمسينيات القرن العشرين، فاقت إنفستورز دايفرسفايد سيرفيسيز (أميريبرايز فاينانشال حاليًّا) — وهي شركة بولاية مينيسوتا تعمل بها جحافل من البائعين من الباب للباب — صندوق ماساتشوستس إنفستورز ترست وشقيقه صندوق ماساتشوستس إنفستورز جروث لتصبح أكبر مجمَّع في البلاد للصناديق الاستثمارية المشتركة. أرادت إنفستورز دايفرسفايد سيرفيسيز مشورة بشأن ما تفعله بكل الأموال التي يأتيها بها بائعوها، فاستعانت بآرثر دي ليتل. درس ترينور وزميل له التصنيفات التي أعطاها محللو إنفستورز دايفرسفايد سيرفيسيز للأسهم، والأداء التالي لتلك الأسهم، ووجدا أنه لا يوجد ارتباط بين الاثنين. فأبلغا إنفستورز دايفرسفايد سيرفيسيز بهذه النتيجة، لكنها لم تتمخَّض عن شيء، اللهم إلا المزيد من المهام الاستشارية من مديري الأموال الآخرين. وبقدر ما تذكَّر ترينور، فإن أيًّا منهم لم يغيِّر ممارساته نتيجة توصياته.

بعد أن كتب ترينور بحثه عن تسعير الأصول وعاد من تكليفه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تساءل رئيسه في آرثر دي ليتل عمَّا إذا كان من المحتمل أن يكون هناك أي تطبيق عملي للعمل الذي كان يعكف عليه؛ فاقترح ترينور قياس أداء الصناديق الاستثمارية المشتركة. وكتب في مقالة نشرتها مجلة «هارفرد بيزنس ريفيو» سنة ١٩٦٥ يقول: «عادة ما تطغى التقلُّبات في السوق العامة على الأثر الذي تحققه الإدارة على معدل العائد على الاستثمارات في أية فترة.» واقترح أن المرء، لكي يحكم على الأداء على نحو أفضل، يحتاج إلى تدقيق تلك التقلبات السوقية عن طريق قسمة عائد الصندوق على مقياس حساسيته للتحركات السوقية الذي صار يعرف باسم «بيتا».26

بدأ ترينور يستخدم مقياسه الجديد للأداء لصالح العملاء. في جامعة ييل، كان رئيس الوقف يتعرض لضغوط من الخريجين والإداريين لتحسين أسلوبه الاستثماري المحافظ. قال ترينور متذكرًا: «قالوا له: «انظر إلى أصحاب السجلات الاستثمارية الرفيعة، مثل الرجل الصيني. ينبغي أن تحاكيهم».» حلل ترينور سجل صندوق فيديليتي كابيتال تحت رئاسة تساي، وقال في هذا الشأن بعد ذلك بعقود: «وجدت أن مستوى أدائه المذهلَ كان نتيجة لمستوى مخاطره السوقية المذهل.» وقدم النتائج التي توصل إليها إلى قاعة مليئة بأمناء جامعة ييل وخريجيها الآتين من وول ستريت. يقول: «جلت ببصري في أرجاء القاعة وكل ما رأيته بعد حديثي كان وجوهًا غاضبة. ضربت جامعة ييل بتوصياتي عُرض الحائط.»

بعد ذلك بسنوات، صارت «نسبة ترينور» مقياسًا واسع الاستخدام لأداء المدير الاستثماري، بل والأكثر منها شهرة «نسبة شارب»، وهي مقياس مماثل — اصطُلح أصلًا على تسميته «نسبة العائد إلى التذبذب» — استحدثه زميله رائد نموذج تسعير الأصول الرأسمالية بيل شارب في مقالة سنة ١٩٦٦. ولعل الأشهر من كل ما سواه هو مقياس «ألفا» الذي ابتكره مايكل جنسن لأطروحته حول أداء الصناديق الاستثمارية المشتركة لنيل الدكتوراه من جامعة شيكاجو سنة ١٩٦٨. وألْفا هذا هو أداء المحفظة ناقص أداء محفظة معيارية افتراضية ذات مخاطر مكافئة. ويبدو هذا المقياس معقدًا، لكنه يعطي نتيجة بسيطة ورائعة. فإذا كان لديك ألفا مقداره ١ في المائة، فهذا هو المقدار الذي تتفوق به «بالفعل» على السوق.

لم يحقق أي من هذه المقاييس شعبية على الفور، واستخدمها مخترعوها في البداية بالدرجة الأولى كأسلحة يهاجمون بها صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة وادعاءاتها. يقول شارب: «كنا جميعا نقسو على وول ستريت.» ساعد فراغ السنوات المزدهرة على توحيد حركة الأسواق الكفء واجتذاب مؤيدين جدد. كان الاقتصاديون الذين لا تربطهم صلة بأبحاث السير العشوائي السابقة يشكُّون على الرغم من ذلك في قدرة نجوم وول ستريت الشباب على التفوق على السوق بطريقة يعوَّل عليها. كانت مثل هذه الادعاءات تشي بتلك الاستحالة الاقتصادية الكبرى، وهي الحصول على صفقة دون عناء أو بغير تكلفة.

حتى بول سامويلسون اتخذ موقفًا. ففي شهادته سنة ١٩٦٧ أمام اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ، التي كانت تنظر في تشريع جديد للتعامل مع صناعة الصناديق الاستثمارية سريعة النمو، أعلن سامويلسون أن كثيرًا من الصناديق الاستثمارية المشتركة جمعت رسومًا طائلة نظير عمل مشكوك في قيمته. ويتذكر أنه رأى عقد سكرتير في أحد الصناديق الاستثمارية المثقلة بالرسوم قبل سنوات فأدرك أن «هناك مكانًا واحدًا فقط لكسب المال في صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة، كما أن هناك مكانًا واحدًا فقط في الحانة لرجل غير مخمور، وهو خلف البار لا أمامه.» كما استشهد أيضًا بأطروحة دكتوراه حديثة في جامعة ييل أوردت محافظ تتألف من عشرين سهمًا مختارة عشوائيًّا تفوق في أدائها الصناديق الاستثمارية المشتركة؛ مما أثار بعض الأسئلة المشككة من رئيس اللجنة المصرفية جون سباركمان:

الرئيس : عندما تقول عشرين سهمًا عشوائيًّا، هل تشير إلى أسهم تغمض عينيك وتمد يدك وتختارها؟
السيد سامويلسون : نعم، بالضبط.
الرئيس : أم أن خبيرًا مثلك يختارها؟
السيد سامويلسون : كلا. عندما أقول «عشوائي»، فأنا أريد أن ينصرف ذهنك إلى نرد أو أرقام عشوائية أو سهم تقذفه.
اختتم سامويلسون هذا الحوار بنبرة تصالحية فقال: «أنا شخصيًّا أعتقد أن هناك شيئًا في الأداء. أظن أنه من الصعوبة بمكان أن أحدد مؤديًا، لكني أظن أن هناك شيئًا في الأداء.»27

•••

عندما تعثَّر أشهر مؤدٍّ من بينها جميعًا، بدأت الشكوك تساور البعض حتى في ذلك. في سنة ١٩٦٦، بعد أن صار واضحًا أن نيد نجل جونسون وليس جيري تساي هو الذي سيرث صندوق فيديليتي، رحل تساي لينشئ صندوقه الخاص باسم صندوق مانهاتن. كان يأمل جمع ٢٥ مليون دولار للمشروع الجديد، فصبَّ عليه المستثمرون ٢٧٥ مليونًا في اليوم الأول. حقق الصندوق أداءً جيدًا بدرجة كافية في سنته الأولى بأكملها، لكن بعد انقضاء سبعة أشهر من ١٩٦٨ انخفض بنسبة ٦٫٦ في المائة؛ مما جعله واحدًا من الصناديق الأسوأ أداءً في البلاد. باع تساي لشركة سي إن إيه فاينانشال للتأمين الصندوق بالكامل مقابل نحو ٣٠ مليون دولار، وهجر إدارة الصناديق، وانتقل إلى جناح المسئولين التنفيذيين في سي إن إيه.28
ربما كانت هذه المناورة دليلًا على مهارة تامة من جانب تساي، فالعقد ونصف العقد التاليان كانا قاسيين بالنسبة لوول ستريت وصناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة، وقد صفى أعماله في الوقت المناسب تمامًا. لكن عجز تساي أو أي من نجوم وول ستريت الآخرين المتصدرين عناوين الأخبار إبان ستينيات القرن العشرين عن ضمان استدامة أدائهم المتفوق على السوق بدا أنه يؤكد ما كانت أبحاث مايكل جنسن وبيل شارب وجاك ترينور الأولية قد ألمحت إليه. كان عباقرة السنوات المزدهرة المزعومون يقْدمون على مخاطر طائشة، إذا ما نظرنا إليها الآن. بدأ يترسَّخ إجماع الأكاديميين على أنه «لا أحد» في وول ستريت يعرف ما يفعل. كتب بيرتون مالكيل وزميل له في برنستون سنة ١٩٦٨ يقولان: «انتهى كثير من الأكاديميين إلى أن قيمة المشورة الاستثمارية تكاد تكون صفرًا.»29

لم تتعايش هذه النتيجة في سلام مع إيمان السوق الكفء بأن كل هؤلاء المستثمرين الحمقى — كمجموعة — نجحوا في تحديد أسعار الأسهم عند قيمها الحقيقية أو قريبًا جدًّا منها، كما لم تكن هذه النتيجة — إذا تحرينا الدقة — مؤيَّدة بأدلة. ما كانت الدراسات التي أجراها جنسن وآخرون قد أثبتته هو أن «متوسط» قيمة المشورة الاستثمارية المقدمة من قبل صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة ككل لم يكن صفرًا فحسب، بل أقل من الصفر. كانت هذه نتيجة مهمة، وبالنسبة للبعض كانت صادمة، لكنها لم تمنع وجود مديري أموال أصحاب مهارة فعلية ولا وجود أوعية استثمارية أكثر ملاءمة من الصناديق الاستثمارية المشتركة المفتوحة لاستيعاب مثل هذه المهارة.

غير أن البحوث الأكاديمية وإخفاقات الصناديق الاستثمارية المشتركة أظهرتا بوضوح أن الصناديق الاستثمارية المشتركة «غير المدارة» المنخفضة الرسوم، التي اقترحها طالبا الدراسات العليا هذان بجامعة شيكاجو سنة ١٩٦٠؛ لم تكن فكرة مجنونة. ويبدو أن أول من اقترحها رسميًّا كان آرثر ليبر الثالث، الذي أحدثت شركة السمسرة خاصته رجَّة في الصناعة عندما بدأت تنشر بيانات «أسبوعية» حول أداء الصناديق الاستثمارية المشتركة سنة ١٩٦٧. طلب ليبر إذنًا من هيئة الأوراق المالية سنة ١٩٦٩ لتدشين ما سماه «صندوق متوسط أسعار الأسهم» يحتفظ بأسهم داو الثلاثين. وبحسب ليبر، فإن هيئة الأوراق المالية لم تستجب قط. فلم تكن الأجهزة التنظيمية بعدُ مهيَّأة لمثل هذه الفكرة الغريبة تمامًا.

لم يكن ليبر الممارس الوحيد في وول ستريت الذي بدأ يعير اهتمامًا لحجج القائلين بالسير العشوائي. فبعد تدشين مركز بحوث أسعار الأوراق المالية بشيكاجو بمنحة من ميريل لينش، وعد مديره جيمس لوري بأن يجد مصادر تمويل أخرى كي يواصل المركز عمله، فواتته فكرة ذكية سنة ١٩٦٦؛ وهي عقد ندوة يمكن للبنوك وشركات التأمين وشركات إدارة الأموال أن تبعث عددًا من موظفيها لحضورها، وسماع أحدث ما توصلت إليه البحوث الأكاديمية في مجال سوق الأسهم مقابل ٥ آلاف دولار للفرد. حتى الشركات التي كانت لديها شكوكها بشأن قطاع المالية الجديد كانت مستعدة للإقدام على ذلك الاستثمار الصغير، فبيعت كل الأماكن في الندوة الأولى؛ حيث شاركت فيها ست وثلاثون شركة. وبعد ذلك، صارت اجتماعات كرسب حدثًا مؤثرًا يقام في العام مرتين. وأنشأت شركة سمسرة أخرى غير قائمة حاليًّا، وهي جودبدي آند كومباني، سلسلة ندوات منافسة أطلقت عليها معهد البحوث الكمية في قطاع المالية أو «كيو جروب». كان قد اعتاد حضور ندوات كلتا المجموعتين في الأيام الأولى شباب مغمورون لديهم خبرة بالكمبيوتر وُضعوا على رأس قسم التحليل الكمي في ركن قصيٍّ بإحدى شركات الاستثمار. وفي غضون عقدين من الزمن، كان كثير من أولئك الشباب المغمورين الخبراء بالكمبيوتر قد أصبح ثريًّا ومؤثرًا.

كانت ميريل لينش أنجح شركة في وول ستريت قد اقتربت أشد ما يكون من التحول إلى جانب القائلين بالسير العشوائي في ستينيات القرن العشرين. من الصعب أن تتصور اليوم بالضبط كيف كانت ميريل لينش مختلفة عن بقية وول ستريت آنذاك. كان سماسرتها يتقاضون رواتب لا عمولات. ولم تكن تستخدم الإعلانات فحسب، بل كانت تستخدم الإعلانات «التلفزيونية».30 وقد مولت بعض أهم الجهود في المالية الأكاديمية، من هولبروك وركينج إلى هاري ماركويتز إلى كرسب. وعيَّنت جاك ترينور سنة ١٩٦٦ ليكون من يُفترض أنه إمبراطور التحليل الكمي. كما عيَّنت الأستاذ بجامعة شيكاجو لوري في مجلس إدارتها. واستقطبت بيل شارب للمساعدة في إطلاق «خدمة بيتا» تمخَّضت عن مقاييس تاريخية لحساسية الأسهم الفردية للتحركات السوقية.

لكن حتى شركة ميريل لينش كان إيمانها بالأساليب القديمة التي تدر عليها أرباحًا أكبر من أن تنضم إلى الثورة مباشرة. رحل ترينور سنة ١٩٦٩ ليتولَّى تحرير دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» — وهذه في حد ذاتها نقلة تاريخية لمطبوعة كهذه تنتمي إلى الاتجاه السائد في وول ستريت — ورحل معظم المحللين الكميين الآخرين بالشركة في أوائل سبعينيات القرن العشرين. يقول جيل هامر، الذي كان يدير خدمة بيتا ميريل: «كان هناك نوع من الشيزوفرينيا يقول: «هذا مهم، لكنه ليس مهمًّا بدرجة كافية ليكون جزءًا من التيار السائد.» فميريل لينش وُجدت لتبيع الأوراق المالية للعملاء.»

وهكذا تُرك الأمر للشركات التي لم تكن من قبل تجني الملايين من وراء بيع الأوراق المالية كي تقْدم على هذه المجازفة، وأعني الشركات من قبيل بنك ويلز فارجو في سان فرانسيسكو. كان ويلز فارجو قد استأجر ماك ماكواون — المحلل في سميث بارني وخبير الكمبيوتر غير المتفرغ — سنة ١٩٦٣ ليرأس فريقًا جديدًا لعلوم الإدارة مهمته جلب التفكير العلمي الحديث إلى كافة جوانب أعمال البنك، فكان أبرز إنجازات الفريق بطاقة ماستر تشارج (ماستركارد حاليًّا)، البديل متعدد البنوك لبطاقة بنك أمريكارد (التي حُدِّثت فيما بعد على غرار ماستر تشارج لتصبح فيزا) التي دشنها منافسه بنك أوف أمريكا. كما ابتكر الفريق الصندوق المرتبط بمؤشر.

أراد الرئيس التنفيذي لويلز فارجو أن يتيح لعملاء بنكه الأفراد إمكانية الوصول إلى سوق الأسهم، بعيدًا عن النهج الذي يتبعه سماسرة وول ستريت القائم على الدعاية الترويجية والأسهم المنفردة، فتحطم حلمه على صخرة تقييدات قانون جلاس-ستيجل الصادر في زمن الكساد الكبير، والذي حظر على البنوك مزاولة أعمال السمسرة.31 لكن فريق ماكواون كان قد قضى سنوات عديدة في دراسة مزايا إنشاء صندوق استثماري مشترك مرتبط بمؤشر، وفي هذه الأثناء صار أكبر جهة عمل في البلاد لأساتذة المالية الذين يشتغلون بأشغال إضافية، والذين كان ماكواون قد التقى معظمهم في ندوات كرسب. كان مايرون سكولز ومايكل جنسن أول اثنين جرى التعاقد معهما، وتلاهما أعيان حاليون ومستقبليون مثل شارب وبيرتون مالكيل وبار روزنبرج، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وفيشر بلاك، عالم الكمبيوتر الذي خلف ترينور في آرثر دي ليتل.
في سنة ١٩٧١، أغلق القضاء الباب نهائيًّا أمام إنشاء ويلز فارجو صندوقًا استثماريًّا مشتركًا للأفراد. كان فريق ويلز يتساءل عمَّا سيفعل بعد ذلك عندما جاءه زائرًا خريج حديث من جامعة شيكاجو تملك أسرته شركة سامسونايت لتصنيع الحقائب. كان الشاب — بفعل تأثره بما درس في الجامعة — قد أقنع أكابر عائلته باستثمار بعض أموال معاشات موظفي الشركة في صندوق مرتبط بمؤشر. وعندما سأل أساتذته بجامعة شيكاجو عمن قد يكون لديه استعداد لإدارة مثل هذا الصندوق، وجهوه إلى ويلز فارجو. لم تكن إدارة أموال المؤسسات مخالفة لقواعد جلاس-ستيجل؛ لذا وضع طاقم ويلز رأس مال شركة سامسونايت الذي بلغ الستة ملايين في كل أسهم بورصة نيويورك، مع استثمار مبلغ متساوٍ في كل سهم. كانت الفكرة السائدة من قبل أن صندوق الأوزان المتساوية قد يتفوق على المؤشر المباشر، لكن سرعان ما اتضح أن الحفاظ على الأوزان متساوية يتطلب كثيرًا جدًّا من التعاملات، لدرجة أن الصندوق لم يكن عمليًّا منخفض التكلفة كما كان متصورًا.32

بعد سنوات عديدة من التجربة والخطأ، أنشأ ويلز صندوقًا مرتبطًا بمؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ لصناديق المعاشات التقاعدية وكبار المستثمرين المؤسَّسِيين الآخرين، وكان هذا الصندوق يحتفظ بالأسهم على حسب وزنها في المؤشر. لكن بحلول الوقت الذي دُشن فيه الصندوق، كان ويلز يواجه منافسَين؛ أحدهما أمريكان ناشونال بنك في شيكاجو، الذي كان القوة المحركة فيه ريكس سينكوافيلد، الحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة شيكاجو سنة ١٩٧٢. والآخر هو باتريمارش، وهو شركة مبتدئة في بوسطن كانت تروج لفكرة المؤشر منذ سنة ١٩٧١، لكنها لم تكسب أول عملائها إلا بحلول سنة ١٩٧٤.

•••

في غضون ذلك، كان المستثمرون الأفراد قد فقدوا للتوِّ أقرب ما لديهم إلى صندوق مرتبط بمؤشر، وهو ماساتشوستس إنفستورز ترست منخفض الرسوم ومنخفض دوران الأسهم. ففي سنة ١٩٦٩، أقنع أمناء الصندوق المساهمين بالتصويت لصالح «تحويل الصندوق إلى شركة مساهمة»، واضعين الإدارة في أيدي مستشار ربحيٍّ يسمى ماساتشوستس فاينانشال سيرفيسيز. وسرعان ما بدأت الرسوم التي كان يدفعها مساهمو ماساتشوستس إنفستورز ترست في الارتفاع بعدئذ،33 ولم تعد صناعة الصناديق الاستثمارية المشتركة تضم صندوقًا استثماريًّا واحدًا «مشتركًا» بحق.

بعبارة أخرى، لم تعد كذلك حتى جاء جاك بوجل ومد يد المساعدة. لم يمض بوجل ومديرو أموال بوسطن الذين كانت شركتهم قد اندمجت مع ويلنجتون سنة ١٩٦٧، في وئام قط، وخلال السوق المتدهورة سنتي ١٩٧٣ و١٩٧٤ صار التوتر لا يحتمل. كان شركاء بوسطن الأربعة يسيطرون فيما بينهم على ٤٠ في المائة من أسهم ويلنجتون مقابل الثمانية والعشرين في المائة التي يسيطر عليها بوجل، فطردوه من الرئاسة.

لكن كصندوقين استثماريين «مشتركين»، كان ويلنجتون ووندسور لا يزالان يشتملان على هيكل اتخاذ قرار منفصل عن هيكل اتخاذ القرار بالشركة التي تديرهما، وهو تمييز لا يشكل في العادة إلا فرقًا قانونيًّا طفيفًا، لكن مجلسي إدارة الصندوقين كانا قد عُينا بمعرفة بوجل وسلفه، وقد أفزع الأعضاء عزل بوجل. وعندما اقترح أن يشتروا ويلنجتون ماندجمينت من إدارته الجديدة تقاعسوا، لكنهم حاولوا فعلًا التوصل إلى تفاهم. كان الصندوقان سيعلنان استقلالًا جزئيًّا، تاركين إدارة الصندوقين والتوزيع (من خلال جيش من السماسرة يتقاضون «عمولات» مدفوعة مقدمًا من المستثمرين الجدد) لويلنجتون ماندجمينت، لكن واضعين «الإدارة التنفيذية» في أيدي كيان جديد سيسمى — اتساقًا مع محور الحروب النابليونية — «فانجارد»؛ تيمنًا بسفينة القيادة في أسطول اللورد نلسون. في ذلك الزمان، لم تكن «الإدارة التنفيذية» تستلزم الكثير بخلاف إرسال الكشوف السنوية إلى المساهمين، لكن بوجل كان لديه فكرتان للالتفاف حول هذا التقييد؛ أولاهما: أن بيع الأسهم مباشرة إلى المستثمرين — ودون عمولة — لا يعتبر توزيعًا، وأخراهما: أن تسيير صندوق استثماري مشترك غير مُدَارٍ لا يعتبر إدارة، وقبل مجلس إدارة فانجارد هذا الأمر. وفيما بعد قال بوجل: «كان ذلك واحدًا من أعظم الأفعال الانتهازية المخادعة التي عرفها البشر.»

غير أن الكثير من الفضل في كون بوجل الانتهازي فكَّر أصلًا في اقتراح صندوق مرتبط بمؤشر — وعدم إحراج أعضاء مجلس الإدارة له بشدة مما يضطره إلى مغادرة الغرفة — يرجع لبعض الأُسس الأدبية التي أُرسيت في السنوات السابقة، وأكثرها شهرة اليوم هو «سير عشوائي في وول ستريت» لمؤلفه مالكيل — أستاذ الاقتصاد في برنستون — الذي نُشر أول مرة سنة ١٩٧٣. كان مالكيل مؤيدًا لحركة السير العشوائي إبان ستينيات القرن العشرين لا قائدًا لها، لكن الفترة التي قضاها في وول ستريت قبل استكماله دراسته العليا وسلوكه الوقور وقدرته على ترجمة الرطانة الأكاديمية إلى الإنجليزية؛ جعلته سفيرًا إلى العالم الخارجي أكثر فعالية بكثير من جين فاما على سبيل المثال. نال الكتاب على الفور إشادة مجلة «فوربز» كعمل من الطراز الأول، وقال فيه بول سامويلسون إنه سيصبح «دكتور سبوك عالَم الاستثمار».34 والحقيقة أنه صمد أكثر من ذلك بكثير، فكتاب «العناية بالطفل» لمؤلفه الدكتور سبوك صار تحفة عجيبة في زمانه، في حين أن «سير عشوائي» ما زال متداولًا إلى اليوم، وقد صدرت منه الآن طبعته المنقحة التاسعة. كانت رسالة الكتاب في الواقع أقل راديكالية مما فُهم ضمنًا من عنوانها. وقد اعترف كاتب متخصص في الأعمال في صحيفة «نيويورك تايمز»، كان قد قرأ الكتاب متوقعًا دروسًا في رمي السهام، بخيبة أمله؛ لأن معظمه كان دليلًا إرشاديًّا للاستثمار التقليدي في القيمة.35 كما أن الطبعة الأولى لم توصِ بصناديق استثمار مشتركة مرتبطة بمؤشر؛ لأنها لم تكن وُجدت بعد. ولم يجد بوجل نفسه وقتًا لقراءة الكتاب حتى بعد ذلك بسنوات. لكن «مسيرة عشوائية» لعب بلا منازع دورًا كبيرًا في إضفاء الاحترام على الاستثمار في المؤشرات، وانتهى الحال بمالكيل فيما بعد عضوًا في مجلس إدارة فانجارد.
ما تناول هذا الموضوع تناولًا مباشرًا (وكان على قائمة قراءة بوجل في ذلك الحين) هو مقالة نشرها بول سامويلسون في دورية «جورنال أوف بورتفوليو ماندجمينت»، وهي مطبوعة جديدة غير موثوقة لمديري الأموال ومسئولي المعاشات التقاعدية التنفيذيين وأمثالهم من ذوي الميول الكمية.36 أعلن سامويلسون أن «معظم متخذي القرارات بشأن المَحافظ ينبغي أن يتوقفوا عن مزاولة أنشطة الأعمال» وناشد شخصًا — «أي شخص» — أن يدشن صندوقًا مرتبطًا بمؤشر لصغار المستثمرين.37 بعد ذلك بعام نُشرت مقالة في دورية «فاينانشال أناليستس جورنال» لاستشاري المعاشات التقاعدية تشارلي إليس بعنوان «لعبة الخاسرين» كررت الفكرة التي كان قد طرحها بن جراهام قبل عقد من الزمان، وهي أن المستثمرين المحترفين آنذاك هم السوق؛ مما يعني ضرورة أن يكون أداؤهم — في المتوسط، وبعد الرسوم — تاليًا لأداء السوق.38
حصل بوجل على موافقة هيئة الأوراق المالية على الصندوق سنة ١٩٧٦، لكنه كافح ليجد شركة في وول ستريت لديها استعداد لضمان هذا التدشين. عندئذ فعلت المجلة التي أدخلته مجال أعمال الصناديق الاستثمارية المشتركة، وهي «فورتشن»، المطلوب بمقالة مطولة بقلم خريج حديث من كلية إدارة الأعمال بجامعة روتشستر بعنوان «الصناديق المرتبطة بمؤشر: فكرة حان وقتها».39 وبعد ذلك انهمرت الأموال.40

من «الجائز» الآن أن الصندوق المرتبط بمؤشر كان سيُنشأ حتى في غياب هذه المؤلفات وغياب فرضية كفاءة السوق التي كانت مصدر إلهام لها، لكن من الصعب أن ندرك كيفية حدوث ذلك. كان عمل أكاديميي الأبراج العاجية قد دشن مدرسة استثمارية جديدة، مدرسة بقيت وازدهرت في العقود المقبلة. كان ذلك واحدًا من الانتصارات العملية العظيمة في تاريخ العلوم الاجتماعية.

•••

بعد تدشين صندوق فانجارد المرتبط بمؤشر، أعلن بول سامويلسون في عموده المنشور في مجلة «نيوزويك» أنه احتفل بميلاد أول حفيد له بشراء بعض الأسهم من أجله،41 وأعلن بن جراهام دعمه قبيل وفاته سنة ١٩٧٦. ففي حوار مع تشارلي إليس نُشر في دورية «فاينانشال أناليستس جورنال»، دافع جراهام عن الصناديق المرتبطة بمؤشر في مواجهة المنتقصين من شأنها في وول ستريت، وقال إنه يعتبر الآن نفسه في بعض المسائل «مؤيدًا لمذهب «كفاءة السوق» المقبول الآن عمومًا لدى الأساتذة.»
اعتُبرت هذه المقولة منذ ذلك الحين اعترافًا بالهزيمة من جانب شيخ منهَك، لكنها لم تكن كذلك على الإطلاق.42 فقد كان جراهام يقول أشياء مماثلة لسنوات. بل وإذا دققت بدرجة كافية، يمكنك أن تجد تلميحات لمثل هذه الآراء في الطبعة الأولى من كتاب «تحليل الأوراق المالية» الصادرة سنة ١٩٣٤. في غضون ذلك — وفي سنة ١٩٧٦ — كان ما زال يرى أن الأسهم العادية «عرضة لتقلبات سعرية غير عقلانية ومفرطة»، وأن تلك التقلبات تتيح فرصًا متفرقة للمستثمرين في القيمة، ولا سيما المستثمرين الأفراد؛ لأنهم يستطيعون شراء أسهم الشركات الأصغر حجمًا التي كانت في أغلب الأحوال محظورة على المؤسسات الكبيرة.43 كل ما كان يحاول قوله هو أنه لا توجد «اختيارات سهلة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤