الفصل الثامن

فيشر بلاك يُؤْثر التركيز على المحتمل

أساتذة المالية يتوصَّلون إلى بعض الطرق لقياس المخاطر والسيطرة عليها، والأهم من هذا أنهم يتوصلون إلى طريقة يتقاضون بها أجرًا على فعلهم هذا.

***

في لندن سنة ١٩٥٢، رأى أستاذ الإحصاء موريس كندال «الرأس الجميل» لمنحنى الجرس يرتفع «في خضم جلبة سوق قمح شيكاجو». بعد ذلك ببضع سنين، اقترح الاقتصادي بول سامويلسون والفيزيائي إم إف إم أوسبورن — كل على حدة — أن تغيرات أسعار الأسهم تتخذ مسارًا ملتويًا لا يمكن التنبؤ به، وعلى الرغم من ذلك يتوافق مع منحنى الجرس للتوزيع الطبيعي، بمعنى أنه سيكون لديك كثير وكثير من التغيرات السعرية الصغيرة (التي تؤلف منتصف الجرس)، وبعض التغيرات الأكبر قليلًا، دون وجود تغيرات هائلة. كان هذا هو السير العشوائي مع التركيز على «السير».

كما كان أيضًا مريحًا للغاية. فإذا كانت تحركات أسعار الأسهم تتبع التوزيع الطبيعي، فمن الممكن استنباط كل أنواع الاستنتاجات المفيدة. كانت معادلات هاري ماركويتز للموازنة بين المخاطرة والمكافأة تعتمد على لزوم تحركات أسعار الأسهم منحنى جرس، ومثلها كانت مقاييس أداء الاستثمار التي ابتكرها بيل شارب ومايك جنسن وجاك ترينور.

كانت المشكلة الوحيدة هي أن أسعار الأسهم الفعلية لا تتبع دائمًا «سيرًا» عشوائيًّا؛ إذ تتجول بهدوء وإنْ كانت مترنِّحة معظم الوقت لكن ليس طوال الوقت. فهي أحيانًا تنخفض فجأة، مثلما فعل متوسط داو جونز الصناعي في ٢٨ أكتوبر ١٩٢٩. فداو يتحرك عادة على درجات يومية أقل من ١ في المائة، وفي ذلك اليوم انخفض ١٣٫٥ في المائة، واليوم التالي ١١٫٧ في المائة، وفي ٣٠ أكتوبر، ارتفع بنسبة ١٢٫٣ في المائة.

بلغة الإحصاء، تسمى هذه الأحداث النادرة، والتي تحمل دلالة في الوقت نفسه، الذيول السمينة؛ لأنها توجد في النهايات الذيلية للتوزيع الإحصائي وتمنعها من التقارب سريعًا مع الصفر، كما كانت ستفعل في منحنى جرس حقيقي. ويسمى ميل أحداث الذيول السمينة إلى اتِّباع إحداها الأخرى: التبعية.

•••

رأى بينوا ماندلبرو — الرياضي في آي بي إم — ذيولًا سمينة وتبعية في مخطط لأسعار عقود القطن المستقبلية في جامعة هارفرد سنة ١٩٦٠. كان ماندلبرو يهوديًّا بولنديًّا هاجر إلى فرنسا سنة ١٩٣٦، وقضى السنوات التي كان ينبغي أن يقضيها في المدرسة الثانوية مختبئًا من النازيين، ثم حصل على الدكتوراه في الرياضيات من جامعة السوربون. ما أثار اهتمامه بالتوزيعات الإحصائية الغريبة كتاب نُشر سنة ١٩٤٩ لجورج زيف، اللغوي بجامعة هارفرد. خذ مَتنًا معينًا وصنِّف ما به من كلمات حسب تكرار ورودها، ثم ارسم النتائج بيانيًّا — مثلما فعل زيف — وسوف تحصل على نمط ساحر. أبدى ماندلبرو ملاحظته قائلًا: «المنحنى لا ينخفض بسلاسة من الكلمة الأكثر شيوعًا إلى الكلمة الأقل شيوعًا، بل يهبط هبوطًا شديد الانحدار في البداية، ثم ينخفض ببطء، على نحو أشبه بصورة جانبية لشخص يمارس القفز التزلجي يثب في الفضاء ليحط على الأرض وينزلق بسلاسة أسفل المنحدر البسيط من تحته.»1
صارت هذه التوزيعات الإحصائية تعرف باسم «قوانين القوة»؛ لأن متغيرًا ما يرتبط ارتباطًا أُسيًّا بالآخر. لوحظت هذه الأنماط — التي تسمح بمجال أكبر بكثير للقيم الشاذة من منحنى الجرس المعياري — أول ما لوحظت قرب نهاية القرن التاسع عشر في توزيع الثروة،2 وما درَسه ماندلبرو هو إحصاء الثروة والدخل، ثم زار قاعة محاضرات هندريك هاوثاكر في جامعة هارفرد، ورأى أن أسعار عقود القطن المستقبلية تنخفض بالنمط نفسه كانخفاض الدخول والكلمات. لم يكن الأمر قاصرًا على خط القفز التزلجي، فالبيانات كانت أيضًا «متشابهة ذاتيًّا»، بمعنى أن مخططات المقتطفات الصغيرة كانت تبدو مماثلة تمامًا لمخططات القطاعات الكبيرة. وقد اكتشف ماندلبرو فيما بعد أنماطًا مماثلة في بيانات المناخ التاريخية على امتداد نهر النيل وساحل بريطانيا وتفاصيل لِحاء الشجر. وبعد أن سماها «الأنماط الهندسية المتكررة» سنة ١٩٨٢، امتُدح كشخص صاحب رؤية وأحد آباء العلم الجديد المسمى علم الشواش والتعقيد الذي كان يُحدث تحولًا في الفيزياء وميادين أخرى.
لكن بحلول ذلك الوقت، كان ماندلبرو قد هجر المالية منذ زمن طويل. في البداية رُحب به ترحيبًا حارًّا في صحبة أنصار السير العشوائي، وكانت صحبة صغيرة لكنها في تنامٍ. أصبح جين فاما تلميذه غير الرسمي. وقد دعته جامعة هارفرد لقضاء السنة الأكاديمية ١٩٦٤-١٩٦٥ كأستاذ اقتصاد زائر. وألَّف بحثًا نُشر قبل مُضي وقت طويل على إثبات سامويلسون رياضيًّا أن السوق العشوائية ستكون سوقًا عقلانية.3 يقول ماندلبرو متذكرًا: «كانت الفترة الأولى طيبة جدًّا؛ كانوا منفتحين، لكن مع وجود غمامة تنذر بسوء.»

كانت «الغمامة» هي الإحباط الذي نما بين الاقتصاديين عندما اكتشفوا مدى صعوبة العمل بقوانين القوة لماندلبرو. ففي تصوير ماندلبرو لتحركات أسعار الأسهم، كان التباين (مقياس مدى انتشار مختلف نقاط البيانات) «لانهائيًّا»، وبالنسبة للأكاديميين الذين كانوا بالكاد في طور التعرف على تصوير ماركويتز لاختيار المحفظة كمفاضلة بين الوسط والتباين، لم تكن اللانهائية مُعينًا لهم.

كتب رائد السير العشوائي بول كوتنر سنة ١٩٦٤ يقول: «إن ماندلبرو — مثله مثل رئيس الوزراء تشرشل من قبله — لا يعدنا بعالم مثالي بل بالدم والعرق والكدِّ والدموع. فإذا كان مصيبًا، فإن معظم أدواتنا الإحصائية يكون باليًا … لا ريب أننا نودُّ — قبل إعدام عمل استغرق قرونًا — أن نحصل على تأكيد أنَّ عملنا كله عديم الجدوى بحق.»4 لم تكن هذه الضمانات وشيكة، وقبل مضيِّ وقت طويل، كان أساتذة المالية قد توقفوا عن إعارة ماندلبرو اهتمامًا بالكلية. يقول يوجين فاما، الذي تحول من مُريد لماندلبرو إلى متجاهل لماندلبرو في غضون بضع سنوات في ستينيات القرن العشرين: «السبب في عدم تعلق الناس بذلك الشيء هو أنه ليس طيِّعا جدًّا. ليس بهذه السهولة أن نتعامل مع تلك التنبؤات بطريقة منهجية.» قال الفيزيائي إم إف إم أوسبورن — الذي زار كلية إدارة الأعمال بجامعة كاليفورنيا في بيركلي سنة ١٩٧٢ لتدريس مقررين في المالية — لتلاميذه إن أفكار ماندلبرو عن التباين اللانهائي «مزيج من الإلهاء والهراء». واعترف أوسبورن بقوله إنه كانت هناك بالتأكيد ارتفاعات وانخفاضات في أسعار الأسهم لا يمكن إقحامها في توزيع طبيعي، لكن في معظم الأحوال لم يكن هناك بأس في تجاهلها. كان الشيء المهم هو معرفة لأي غرض تقيس الاحتمال:
أنت تسأل عما هو محتمل وما هو غير محتمل، لكن قطعًا ليس بالمستحيل. بالنسبة لكمية الأمطار، أنت تأخذ ٩٩٪ من المناسبات (الأيام) عندما تحسب متوسط أقل من بوصتين من الأمطار … ذلك النوع من المعلومات له دلالته بالنسبة للرعي أو الزراعة، وبالنسبة لنوع النبات الذي سينمو على الأرجح. الموقف غير المحتمل — الذي قد يعطي أكثر بكثير من ١٪ من إجمالي الأمطار التي قد تسقط — يُعنى في الحقيقة بمستوى مختلف من المشكلات. هل ستنجرف الطرق، وهل من المأمون بناء بيت في مواقع معينة إذا كنت تريد العيش هناك على مدى عشرين أو ثلاثين سنة؟5

لم يكن من الممكن لإحصاء منحنى الجرس أن يتعامل مع الشيء «غير المحتمل وغير المستحيل في الوقت ذاته»، لكن أوسبورن لم يرَ أي معنى في إعادة اختراع إحصاء للتعامل معه، وجادل بأنه عندما يتعلق الأمر بالأحداث النادرة، يجب أن ينظر المرء خارج إحصاء العشوائية ويتعرف على الأسباب الحقيقية للانحرافات. كان هذا يتطلب اجتهادًا وخبرة، وهما مجالان لم يكن لأساتذة المالية فيهما ميزة نسبية؛ حيث ركزوا بدلًا من ذلك على ما هو محتمل.

•••

كانت المكافآت على فعل هذا عظيمة في سبعينيات القرن العشرين، فيما بدأت الحرب بين أنصار السير العشوائي والمستثمرين المحترفين تهدأ في إطار هدنة مضطربة لكن مربحة. كانت الأعمال العدائية ما زالت تحتدم بين الفينة والأخرى، كما حدث في صبيحة يوم صيفي في منتصف العقد في كلية ستانفورد لإدارة الأعمال. ففي أول يوم من ندوة تدوم أسبوعًا لمديري الأموال، استهل الأمور أستاذ محاسبة شاب وصل للتو من جامعة شيكاجو — وهو بيل بيفر — بهجوم شرس على فكرة أن «أي شخص» يمكنه التفوق على السوق. وبحلول الأصيل، كان رجال المال يعبرون عن تذمرهم علانية، وهدد البعض بالرحيل. كان خبير تسعير الأصول بيل شارب، الذي انضم إلى هيئة تدريس جامعة ستانفورد سنة ١٩٧٠ — وكان قد ساعد في تنظيم الفعالية — يعرف أنه بحاجة إلى فعل شيء ما لوقف الثورة.

نهض شارب واقفًا أمام المجموعة ورسم خطًّا على السبورة، وقال: «ها هو الطيف.» ثم استطرد:
هنا نجد الأسواق مفرطة الكفاءة. فكل معلومة من المعلومات تُعْرف وتُضمَّن فورًا في أسعار السوق في غضون ثوانٍ. وهناك على الطرف الآخر، نجد سوقًا جنونية تمامًا. فالأسعار لا تربطها علاقة بالقيمة ولا بأي شيء. نحن جميعًا متفقون على أن السوق ليست هنا، وهي ليست هناك، والشيء الذي يجب الحديث عنه هو: أين هي؟ بيل بيفر يعتقد أنها في أقصى هذا الطرف هنا، وبعضكم ربما يعتقد أنها في الطرف الآخر هناك. لكن يجب أن نفهم طبيعة الأمر هناك عند ذلك الطرف للإجابة عن السؤال والالتفات إلى حياتنا.6

لزم مديرو الأموال أماكنهم. لم يكونوا يريدون التعرض للإهانة، لكنهم كانوا يريدون النصيحة. كان انخفاض سوق الأسهم سنتي ١٩٧٣ و١٩٧٤ — وفق المقاييس المعدلة حسب التضخم — أسوأ من انخفاض سنتي ١٩٢٩ و١٩٣٠، وقد أفقر ممارسي وول ستريت وأضعف ثقتهم بأنفسهم وجعلهم أكثر استعدادًا للاستماع إلى أفكار جديدة.

في الوقت نفسه، كانت صناعة الاستثمار في خضم تحوُّل جعلها منفتحة على نحو خاص على ما لدى الأساتذة من نصائح. كانت أرصدة الأسهم قد بدأت تنتقل في خمسينيات القرن العشرين من المحافظ الفردية إلى المحافظ المدارة مؤسسيًّا. وفي مرحلة مبكرة، كانت الصناديق الاستثمارية المشتركة هي المحركات الرئيسة لهذا التغيير، لكن في سبعينيات القرن العشرين، وفيما واجهت الصناديق الاستثمارية المشتركة في الأسهم صعوبات، برزت على الواجهة فئة أخرى من المؤسسات. كانت هذه هي صناديق المعاشات التقاعدية، التي كانت قائمة في الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، لكن انطلاقتها الحقيقية جاءت بعد الحرب العالمية الثانية. كانت في أول الأمر تُستخدم كوسيلة للتحايل على الضوابط التي فرضت فيما بعد الحرب العالمية الثانية على الأجور والأسعار بإعطاء العمال مزايا لا تُحسب كأجور، وسرعان ما أصبحت جزءًا من العقد الاجتماعي بين الشركات الكبيرة وعمالها. وفيما حملت جنرال موتورز اللواء، بدأت الشركات الكبيرة في أمريكا تخصص أموالًا لتستثمرها من أجل سداد المزايا التقاعدية المستقبلية. كانت صناديق المعاشات التقاعدية — بجانب المؤسسات الخيرية والأوقاف الجامعية — قد صارت تؤلف مستجمعًا جديدًا هائلًا من الأموال المؤسَّسِية بحلول أواخر ستينيات القرن العشرين.

نادرًا ما كان الأشخاص المسئولون عن هذا المال يختارون الأسهم والسندات التي تضمها محافظهم لأنفسهم. في الأيام الأولى تركوا المهمة إلى أقسام أمناء الاستثمار بالبنوك أو شركات التأمين. ثم بداية من ستينيات القرن العشرين، بدأت نوعية جديدة من مديري الأموال المستقلين تبحث عن عمل لها. بصفتهم وسطاء، كان رؤساء صناديق المعاشات التقاعدية والأوقاف الذين استعانوا بمديري الأصول هؤلاء يميلون إلى التركيز على جانب العائد أقل من تركيزهم على جانب المخاطر. كانوا يتبعون قاعدة «الرجل المتعقل» البالغة من العمر ١٥٠ سنة، وهي مبدأ قانوني يوجِّه الأمناء على أموال الآخرين إلى «مراعاة كيف يدير الرجل المتعقل الحكيم الذكي شئونه الخاصة» والتصرف وفقًا لذلك.7

كانت هذه القاعدة قد فُسرت منذ زمن طويل بأنها تعني ضرورة أن يضع الأمناء ما في عهدتهم من أموال في السندات عالية الرتبة و«ربما» بعض أسهم الشركات الممتازة. فتعرض ذلك النهج لاختبار موجع في ستينيات القرن العشرين، عندما بدا أن المستثمرين غير المتعقِّلين يتمتعون كل المتعة ويربحون كل الربح. بل تعرض لاختبار أكبر في سبعينيات القرن العشرين، عندما تبيَّن أنه لا السندات ولا أسهم الشركات الممتازة آمنة؛ مما ترك فرصة كبيرة للنهج الجديد؛ نهج المخاطر والعائد والتنويع الذي كان هاري ماركويتز قد طرحه قبل عقدين من الزمان. وفقًا لهذا المنظور، لم تكن خطورة سهم أو سند فردي هي التي تهم بل مدى توافقه مع المحفظة. وبحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين، صار لهذا النهج اسم، وهو نظرية المحفظة الحديثة، وكان آخذًا في إحراز تقدم طفيف في عالم الاستثمار المؤسَّسِي. وبعد ذلك أعطته واشنطن دفعة هائلة.

في أعقاب إشهار العديد من الشركات إفلاسها مما تمخض عن العجز عن سداد المعاشات التقاعدية، أصدر الكونجرس تشريع إصلاح المعاشات التقاعدية سنة ١٩٧٤، ومنذ ذلك الحين مضى قانون ضمان تقاعد الموظفين ليترتب عليه كثير من العواقب المثيرة للاهتمام. كانت الأولى تتعلق بمستوى الحرص الذي قرره القانون وما تلاه من لوائح صادرة عن وزارة العمل. فقد أعيد تعريف الحرص — الذي لم يعد مفهومًا قانونيًّا قائمًا على العرف — ليعني اتباع القواعد العلمية التي تمليها نظرية المحفظة الحديثة.8

•••

وفقًا لهذا التفسير، لم تعد المخاطر تهديدًا غامضًا غير قابل للقياس لا يمكن تطويعه إلا بالاجتهاد والتقدير، بل كانت رقمًا، تباينًا، يمكن تقديره بالدرجة الأولى بدراسة التباين الماضي. كان هذا التطور غريبًا نوعًا ما؛ فأساتذة المالية الذين كانوا يزعمون عدم إمكانية التنبؤ بتحركات أسعار الأسهم المستقبلية بدراسة تحركات أسعار الأسهم الماضية؛ كانوا أنفسهم يعتنقون الفكرة القائلة بإمكانية التنبؤ بتذبذب الأسهم المستقبلي بدراسة تذبذب الأسهم في الماضي.

برر فيشر بلاك — أحد أبرز مهندسي المخاطر في السبعينيات — ذلك بقوله: «تقدير التباينات أسهل عشرات المرات من تقدير … العوائد المتوقعة.»9 لم يكن هناك قانون اقتصادي يُلزم بأن تكون التقلبات المالية ثابتة أو قابلة للتنبؤ بها، لكن على الأقل، لم يكن هناك أي قانون اقتصادي «يمنع» أن تكون كذلك. فإذا كان اتجاه أسعار الأسهم يمكن التنبؤ به، فستتاح صفقات للجميع يمكنهم الحصول عليها من غير عناء وبدون تكلفة. وإذا كان يمكن التنبؤ بالتقلبات، فهذا يعني بالضبط المزيد من العمل لأساتذة المالية.
كانت هناك أيضًا بعض الأدلة التجريبية التي تثبت أن تقلبات أسعار الأسهم أظهرت على المدى الطويل ثباتًا معينًا حتى في خضم الوثبات والانخفاضات الحادة التي أثارت اهتمام ماندلبرو بشدة. وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، تأمل بار روزنبرج — الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في بيركلي — بيانات سوق الأسهم عبر قرن كامل ليجد أنه:

إذا قسمت التباين نصفين، وجدت التباين الموجود في النصف الأول والتباين الموجود في النصف الثاني متطابقين في الأساس، وهذه ليست صدفة. فهذا يعني أن مجتمعنا يوطِّن نفسه على قدر معين من المفاجأة باعتباره مقبولًا، بل وفي الحقيقة مستحبًّا. فما زاد عن الحد فهو زائد عن الحد، وما قل عما ينبغي فهو أقل مما ينبغي؛ لذا فذلك أمر غامض تمامًا.

تتلمذ روزنبرج في جامعة هارفرد على يدي جون لنتنر، ذلك الشخص المتردد الذي شارك في إنشاء نموذج تسعير الأصول الرأسمالية. كان بلاك عالم كمبيوتر اكتشف المالية بعمله بجانب شخص آخر شارك في إنشاء نموذج تسعير الأصول الرأسمالية — وهو جاك ترينور — في شركة آرثر دي ليتل الاستشارية. وبمشاركة شارب، وضع الاثنان نهجًا للمخاطر المالية حافظ على بقائه، وفي الأغلب نجح حتى يومنا هذا. كانت لديهم وجهات نظر متباينة حول كفاءة السوق، فروزنبرج لم يكن يؤمن بها كثيرًا، بينما كان شارب وبلاك يؤمنان بها، لكنهما كانا يريانها ككلٍّ مُتصِل أكثر منها كحقيقة مطلقة. ما كان يشترك فيه ثلاثتهما هو الاعتقاد الجازم بأن المسار المثالي المباشر — ومن ثَمَّ الذي يمكن تعليمه أكثر مما سواه — نحو النجاح في الاستثمار يكمن في فهم المخاطر فهمًا أدقَّ، مهما كانت أسعار الأسهم صحيحة أو غير صحيحة.

وفقًا لهذا الرأي، لم يكن يتسنَّى بالضرورة تصوير المخاطر أو قياسها كميًّا «على نحو تام» كامل، لكن ذلك لم يكن يعني أنها لا تستحق محاولة قياسها كميًّا. فمن أجل فهم الذيول السمينة في بيانات أسعار الأسهم التي لاحظها ماندلبرو — على سبيل المثال — برهن روزنبرج سنة ١٩٧٢ أن المرء يمكنه تفسير معظمها بعمل سلسلة من منحنيات الأجراس المختلفة واستخدام البيانات الاقتصادية للتنبؤ بالوقت الذي تحركت فيه من توزيع طبيعي إلى آخر. قد يبدو هذا معقدًا إلى أبعد حد، لكن العمل به كان أسهل من قوانين القوة لماندلبرو.

لم تُتح لروزنبرج الفرصة قط لنشر فكرته، وبعد ذلك بعقد توصل اقتصادي آخر — وهو روبرت إنجل — على نحو مستقل إلى الفكرة ذاتها، وفاز بفضلها بجائزة نوبل سنة ٢٠٠٢. لم يجد روزنبرج الوقت لنشر بحثه لأنه كان يبني شركة استشارية بالاستناد إلى أفكاره سماها «بارا»، وكانت توفر مقاييس بيتا — حساسية السهم لتحركات السوق الكلية — معززة ببيانات أساسية حول الأرباح والمبيعات وقطاع الصناعة وما شابه ذلك.

كانت «مقاييس بيتا المحسِّنة من بار» (المعروفة أيضًا باسم «مقاييس بيتا البيونية») مستساغة لدى مديري الأموال بدرجة أكثر من الإصدارات الأساسية التي طُرحت من قبل. كان روزنبرج نفسه داعية فعالًا وفريدًا لنظرية المحفظة، بين غير المقتنعين بها في وول ستريت. دفعه اعتقاده أن اختيار الأسهم بعيد كل البعد عن كونه عديم الجدوى، بالإضافة إلى ثقته الهادئة بالنفس وحضوره الطاغي غير الموجودَين في كثير من خبراء المالية، إلى مكانة جعلت منه ما يشبه زعيم طائفة دينية في الدوائر الاستثمارية. زعمت قصة غلاف نشرت سنة ١٩٧٨ في مجلة «إنستتيوشنال إنفستور» أنه «عندما يتحدث روزنبرج، يخيم الصمت في العادة على الجمهور، وتنحني الرءوس انحناءة طفيفة على نحو ما يفعل المذنبون، وتدمع الأعين وتكتسي بنظرة جامدة بعض الشيء، ويكاد يسمع المرء تمتمات «آمين، يا أخي» و«سبحوا الرب».»10

كان المشتغلون بالاستثمار يريدون أجوبة، وبدا أن روزنبرج لديه هذه الأجوبة. ولم يكن بمفرده. فخلال سبعينيات القرن العشرين، مُنح الأكاديميون الشباب الحاصلون على تدريب كمي قوة ونفوذًا مدهشين من جانب مديري صناديق التقاعد وغيرهم من مديري الأموال الباحثين عن المشورة والتوجيه، وكان من بين أكثرهم نفوذًا اثنان من جامعة شيكاجو هما ركس سِنكوافيلد وروجر إبتسون، اللذان بَدَوَا أنهما يجدان إجابة عن أكبر سؤال على الإطلاق، وهو إلى أين تتجه أسعار الأسهم. كان سنكوافيلد الطالب اللاهوتي الكاثوليكي السابق والحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة شيكاجو سنة ١٩٧٢؛ هو الذي أعلن أن فرضية كفاءة السوق «نظام في الكون»، ودشَّن واحدًا من أوائل الصناديق المرتبطة بمؤشر. وكان رفيق غرفته إبتسون قد التحق ببرنامج الدكتوراه في كلية شيكاجو لإدارة الأعمال بعد حصوله على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة إنديانا سنة ١٩٦٧، وكفاحه قليلًا في دنيا الأعمال.

حصل إبتسون وهو لا يزال طالبًا في الدراسات العليا على وظيفة بنصف دوام في إدارة محفظة سندات الجامعة. وفيما يتعلق بالأسهم، كان نهج جامعة شيكاجو يشجع المتعاملين الذين كانوا متهورين في السابق، على الشراء والاحتفاظ. كان الاستثمار في السندات يُعنى منذ زمن طويل بالشراء والاحتفاظ، لكن التضخم المرتفع في سبعينيات القرن العشرين جعل ذلك غير مبرر. كان التمسُّك بسند يدر فائدة بنسبة ٥ في المائة عندما كانت نسبة التضخم ١٠ في المائة هو والاستغناء عن المال سواء. بدأ إبتسون — باستخدام الأدوات التحليلية التي يجري تطويرها أو إعادة اكتشافها في الحرم الجامعي (كانت معادلة فريد ماكولاي للمدة قد أميط عنها اللثام للتو بمعرفة اثنين من أساتذة جامعة شيكاجو) — شراء السندات وبيعها والتفوق تمامًا على السوق.

نظرًا لوظيفته في مجال السندات، كان إبتسون راغبًا في حيازة ذلك النوع من البيانات التاريخية حول السندات الذي تولى أستاذاه بجامعة شيكاجو جيمس لوري ولورانس فيشر تجميعه فيما يخص الأسهم. كان سنكوافيلد في غمرة إنشاء صندوق مرتبط بمؤشر أسهم في أمريكان ناشونال بنك، وكان يريد بيانات محدَّثة حول سوق الأسهم. لم يُبد فيشر رغبة في تكرار المهمة المضنية التي قام بها في أوائل ستينيات القرن العشرين؛ لذا اضطلع إبتسون وسنكوافيلد بهذه المهمة بنفسيهما. كان من المفترض أن يصبح هذا تكرارًا لإدجار لورانس سميث بشحمه ولحمه، لتكون هذه المرة الرابعة التي يعاد فيها بناء تاريخ السوق (بعد سميث سنة ١٩٢٤ وألفريد كاولز سنة ١٩٣٨ ولوري وفيشر سنة ١٩٦٤). عندئذ توصَّل فيشر بلاك — الذي كان قد انضم مؤخرًا إلى هيئة تدريس جامعة شيكاجو كأستاذ للمالية — إلى مفاجأة.

كان بلاك قد التحق بشركة آرثر دي ليتل الاستشارية الكائنة في كامبريدج بعد حصوله على الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية (المعروفة أيضًا بعلوم الكمبيوتر) من جامعة هارفرد سنة ١٩٦٥، وهناك عرَّفه جاك ترينور على نموذج تسعير الأصول الرأسمالية وربْطه البسيط بين المخاطرة والمكافأة السوقية. وسرعان ما تواصل بلاك مع واضعَي النظرية الآخرَيْنِ؛ حيث قام بزيارات دورية إلى جون لنتنر في هارفرد وأقنع رب عمله بالإتيان ببيل شارب جوًّا إلى شيكاجو لحضور اجتماع في فندق قرب مطار أوهير (كان مايكل جنسن حاضرًا أيضًا) لمناقشة آثار نموذج تسعير الأصول الرأسمالية على قياس الأداء. كتب الاقتصادي بيري ميرلنج — كاتب السيرة الذاتية لبلاك — يقول: «كان نموذج تسعير الأصول الرأسمالية … القفزة النهائية التي يحتاج إليها لحل مشكلة ماذا يفعل بحياته. فمنذ ذلك الحين فصاعدًا، كان يعرف ما يجب عليه فعله، وهكذا فعَله.»11

عندما سمع بلاك بخطط إبتسون وسنكوافيلد لجمع بيانات عن عوائد الأسهم والسندات، رأى في ذلك صلة بنظرية تسعير الأصول، فقال لإبتسون إنه بوجود بيانات حول الأسهم الخطرة في يدٍ، وبيانات حول السندات الحكومية الخالية من المخاطر في اليد الأخرى؛ يمكنه هو وسنكوافيلد أن يحسبا العلاوة التاريخية التي حصل عليها المستثمرون مقابل امتلاك الأسهم. كان الأمر بسيطًا على نحو مدهش، فكل ما كان عليهما فعله هو طرح شيء من آخر. وحال توصلهما إلى «علاوة مخاطر الأسهم»، كان بإمكان إبتسون وسنكوافيلد أن يضيفا إليها سعر الفائدة السائد على السندات الحكومية للحصول على ما سمياه «متوسط التنبؤات السوقية» للمسار المستقبلي. بدا الأمر أشبه كثيرًا جدًّا باستقراء المستقبل من الماضي، وهذا بالضبط ما قاله بعض النقاد في ذلك الزمان. لكنك إذا كنت مقتنعًا بفهم أساتذة المالية للمخاطر، فذلك كان شيئًا أكثر رصانة. وكما قال إبتسون فيما بعد، كان «أول تنبؤ علمي بالسوق.»

قدم إبتسون وسنكوافيلد النتائج التي توصلا إليها في ندوة مايو ١٩٧٤ لمركز بحوث أسعار الأوراق المالية الذي يديره لوري، وكان جمهورهما يتألف في معظمه من محللين كميين؛ لذا عرضا تنبؤهما احتماليًّا، متَّبِعِين مسيرة عشوائية ليريا إلى أي مدى قد تنحرف العوائد الفعلية عن المتوسط المتوقع.12 وعلى سبيل المرح فحسب، أصدرا أيضًا إصدارًا موجهًا بدرجة أكبر إلى حساسيات وول ستريت؛ حيث تنبآ بأن متوسط داو جونز الصناعي، الذي كان يتخبط حول ٨٠٠ نقطة في ذلك الحين، سيبلغ ٩٢١٨ نقطة في نهاية سنة ١٩٩٨. كما قالا أيضًا إنه سيصل إلى ١٠ آلاف نقطة بحلول نوفمبر ١٩٩٩.

تبيَّن أن تلك النبوءة في الصميم تمامًا، ففي نهاية سنة ١٩٩٨، كان داو عند مستوى ٩١٨١ نقطة؛ أي أقل مما تنبَّآ به بسبع وثلاثين نقطة لا غير. وبلغ ١٠ آلاف نقطة في مارس ١٩٩٩؛ أي مبكرًا بستة أشهر. آنذاك في سنة ١٩٧٤، لم يكن أحد يعرف طبعًا أن التنبؤات ستصدق. لكن كان هناك اهتمام كافٍ بالبيانات والتنبؤات من جانب السماسرة والمستثمرين المؤسَّسِيين، حتى إن إبتسون — الذي كان بحلول ذلك الوقت أستاذًا مساعدًا في جامعة شيكاجو — أقام مشروعًا تجاريًّا جانبيًّا مهمته تحديث بيانات الأسهم والسندات كل سنة.

صارت حوليات إبتسون أسوشييتس جزءًا من مكتبة كل مدير أموال جاد. كما شرع إبتسون أيضًا في نشر ملصقات جدارية تُظهر كيف تفوَّقت الأسهم على السندات على مر العقود، فأصبحت من المقتنيات الدائمة في مكاتب السماسرة والمستشارين الماليين. صارت تنبؤات عوائد سوق الأسهم السنوية البالغة ١٠ في المائة فأكثر، ولا سيما بعد أن بدأت تتحقق في ثمانينيات القرن العشرين، مقبولة كحقيقة استثمارية أبدية، ولعبت دورًا كبيرًا في دفع صناديق التقاعد إلى التحول من المحافظ التي تهيمن عليها السندات إلى المحافظ التي تهيمن عليها الأسهم.13

صارت إبتسون أسوشييتس، بجانب بارا التي أسسها بار روزنبرج، ركيزة مؤسسة استثمار جديدة لم تُبن في معقلَي الأموال الطائلة التقليديين؛ نيويورك وبوسطن، بل في شيكاجو، بل والأكثر من ذلك على امتداد الساحل الغربي؛ حيث وفرت جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وجامعة كاليفورنيا ببيركلي، وستانفورد، وراند، بل ومختبر الدفع النفَّاث التابع لوكالة ناسا، ما يلزم من مواهب. من بين الشركات الاستشارية الأخرى التي تأسست أو وُلدت من جديد في تلك الأيام على غرار النموذج الكمي: ويلشر أسوشييتس، وراسل إنفستمنتس، وكلتاهما أنشأتا مؤشرين جديدين أوسع لسوق الأسهم صارا أساسين مهمين للقياس لدى مديري الأموال. ثم ظهرت بعد ذلك بقليل مورننجستار، التي أسسها سنة ١٩٨٤ أحد الحاصلين على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة شيكاجو، وقد أراد توفير أدوات مماثلة للمستثمرين الأفراد. وكان بيل شارب استشاريًّا مؤثرًا لصناديق المعاشات التقاعدية ومديري الأموال، على الرغم من أنه لم يؤسس فعليًّا شركة خاصة به حتى تسعينيات القرن العشرين.

لم يقتصر الأمر على مكاتب الاستشارات والبحوث؛ حيث استغلت ويلز فارجو إنفستمنت أدفايزرز بسان فرانسيسكو عملها الرائد في المؤشرات لتصبح ما كان سنة ٢٠٠٨ أكبر مدير للمحافظ الاستثمارية على كوكب الأرض، ويحمل اسم باركليز جلوبال إنفستورز. أما صاحبة المركز الثاني، وهي ستيت ستريت جلوبال، فكانت أيضًا شركة كبيرة في مجال توفير المؤشرات وتوزيع الأصول.14 كل مدير أموال آخر بأي حجم في العالم يستخدم الآن على الأقل بعض الأدوات الكمية التي ابتكرها أساتذة المالية في سبعينيات القرن العشرين.

زد على ذلك أن إحدى الأدوات الكمية في سبعينيات القرن العشرين حققت نجاحًا في مجال بعيد جدًّا عن صناعة إدارة الأموال؛ حيث يستطيع المرء الآن — مسلحًا بمقياس إبتسون لعلاوة مخاطر الأسهم ومقياس بارا (أو مقياس شركة أخرى) لخطورة الأسهم بمقارنته بالسوق الكلية — حساب التكلِفة الرأسمالية لأية شركة متداولة في البورصة. كان هذا المقياس هو الكأس المقدسة التي دفع البحثُ عنها ميرتون ميلر وفرانكو مودلياني إلى شن هجومهما في خمسينيات القرن العشرين على علم المالية المنتمي للطراز القديم، وقد صار آنذاك في متناول أي شخص. وسرعان ما صار حساب تكلفة رأس المال على هذا النحو ممارسة معيارية لطلاب ماجستير إدارة الأعمال والمصرفيين الاستثماريين والاستشاريين ومديري المالية بالشركات.

•••

كانت هذه أول موجة من علم المالية الكمي. وفي أوائل سبعينيات القرن العشرين، بدأت عصبة صغيرة من أساتذة المالية — الذين سرعان ما أصبحوا من كبار الشخصيات المؤثرة — تجهيز الموجة الثانية. نحَّى هؤلاء الأكاديميون الأسئلة الكبرى المتعلقة بالمخاطر والعائد جانبًا ليركزوا على طبيعة العلاقة بين أسعار مختلف الأوراق المالية وبعضها، واقترحوا أن بإمكانهم الإجابة عن جميع الأسئلة التي تهُم بخصوص السوق انطلاقًا من تلك البداية.

بدأ هذا البحث، بداية اعتيادية، بالبحث عن معادلة لتثمين خيار شراء أحد الأسهم. فالمضارب في الخيارات يظن عادةً أنه يعرف شيئًا عن السهم المرتبط بالخيار لا يعرفه سائر السوق، وعندما يشتري خيارًا فهو يراهن رهانًا برفع مالي على مسار ذلك السهم.15 وعندما لا يكون لدى المرء فكرة في أي اتجاه يتجه السهم لكنه يعتقد أنه يعرف شيئًا ما عن تذبذبه، فإن تثمين خيار ما يكون مسألة مختلفة بالكلية. وكلما كانت تحركات السهم أكثر تذبذبًا، ازداد احتمال أن يحقق أي خيار مرتبط بهذا السهم مكافأة كبيرة.

كان لوي باشوليي قد أدرك هذا قديمًا في سنة ١٩٠٠، واستخدَم تمثيله الرياضي للتحركات العشوائية لأسعار الأوراق المالية قصيرة المدى من أجل وضع معادلة لتثمين الخيارات. حققت معادلة الخيارات التي وضعها بعض النتائج بائنة الخطأ، وفي بعض الحالات أعطت الخيارات قيمة أعلى من الأسهم المرتبطة بها، لكنه صوَّب هذا الانحراف العام، ووجد أن أسعار الخيارات في بورصة باريس تسير في الاتجاه الذي بيَّنته معادلته.

كان بول سامويلسون في ذلك الحين يتفكر مليًّا في الخيارات عندما اكتشف أطروحة باشوليي في منتصف خمسينيات القرن العشرين، بل وازداد تفكره فيها بعد ذلك، غير أنه أعمل فكره جاهدًا أكثر مما ينبغي؛ ما حال بينه وبين فعل هذا على نحو صحيح تمامًا. وفي سنة ١٩٦٥، وفي العدد نفسه من المجلة نفسها التي نشرت مقالته «برهان أن الأسعار المتوقعة على نحو صحيح تتذبذب عشوائيًّا»، نشر سامويلسون عشرين صفحة من المعادلات التي حاولت بلا جدوى إثبات مبرهنة لتسعير الأصول، بل وأُتبعت بملحق أعظم صفحاتٍ من قبل أحد رياضيي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.16 لم يكن سامويلسون قد استطاع تقليص عدد المتغيرات بدرجة كافية لحل الأحجية. كما شابت حلين جزئيين آخرين نشرهما طالبا دراسات عليا في الاقتصاد في ستينيات القرن العشرين عوارات مماثلة.17

كأحد أفراد جماعة محللي المالية الكميين الصغيرة الكائنة في تلك الأيام في كامبريدج، سمع فيشر بلاك بأحجية تسعير الخيارات هذه، فمضى محاولًا حلها. ولا عجب أنه استرشد بنموذج تسعير الأصول الرأسمالية الذي تمثل فيه المخاطرُ حساسيةَ سهمٍ ما لتقلبات السوق، والعائد المتوقع هو محصلة ذلك. لم يكن يهم ما العائد المتوقع لسهم معين ما دام يُنظر إلى هذا العائد على هذا النحو. فالعائد كان منعكسًا بالفعل في سعره، وكل ما كان يهم هو التذبذب.

تعاون بلاك مع مايرون سكولز، الذي كان قد جاء للتوِّ من شيكاجو لتدريس المالية في كلية سلوان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فاستنبط الثنائي برهان معادلة تثمِّن الخيار باستخدام سعر السهم المرتبط به، وسعر ممارسة الخيار، والزمن المتبقي على انقضاء الخيار، وسعر الفائدة الخالي من المخاطر، وتباين السهم. استنبط بلاك وسكولز كل هذا سنة ١٩٦٩، وقدماه لأول مرة علانية سنة ١٩٧٠. تطلَّب الأمر ثلاث سنوات أخرى لنشر المعادلة؛ إلى حد ما لأن اقتصاديي جامعة شيكاجو الذين كانوا يديرون دورية «جورنال أوف بوليتيكال إيكونومي»، لم يدركوا ما الذي يدعوهم إلى المبالاة بمثل هذه الأداة المالية المغمورة وسيئة السمعة نوعًا ما.

في ذلك الزمان، كانت الخيارات تُنشأ عشوائيًّا على أيدي السماسرة ولا يُتعامل عليها إلا خارج المقصورة. وأما الضمانات — الخيارات طويلة الأجل التي تنشئها الشركات أحيانًا كمكافأة للمصرفيين أو كحافز إضافي للمستثمرين — فكانت أكثر احترامًا وشفافية. لكن كل ما هنالك أنه لم يكن هناك الكثير منها على الإطلاق. غير أن هذا كان يوشك أن يتغير، وكان ميرتون ميلر وجيمس لوري — الأستاذان بكلية شيكاجو لإدارة الأعمال — يعكفان على هذا، فيما مضى أعضاء فرقة عمل تابعة لمجلس شيكاجو للتجارة قُدمًا في التوصل إلى كيفية إنجاح مبادلة الخيارات.

مع ازدهار بورصة نيويورك في ستينيات القرن العشرين، فترت بورصتا شيكاجو للعقود المستقبلية الزراعية، وبدأت كلتاهما البحث عن سبل للتوسع خارج نطاق العقود المستقبلية للقمح ولحم بطن الخنزير. كانت بورصة شيكاجو التجارية أول بورصة تطرح عقود العملات المستقبلية سنة ١٩٧٢، شجعتها على ذلك شكوى ميلتون فريدمان من رفض البنوك عندما أراد شراء جنيهات إسترلينية للمراهنة على انخفاض في سعر الدولار.18 وأما مجلس شيكاجو للتجارة، وهو البورصة الأقدم والأكبر، فسار بتروٍّ أشد، لكنه دشَّن في نهاية المطاف بورصة مجلس شيكاجو للخيارات في أبريل ١٩٧٣.

بحلول هذا الوقت، كان لوري وميلر قد عيَّنا فيشر بلاك لتدريس المالية في جامعة شيكاجو وكانا يعملان على إعادة مايرون سكولز، كما كانا قد أزالا أسباب انزعاج أصدقائهما في قسم الاقتصاد لنشر البحث الثنائي في دورية «جورنال أوف بوليتيكال إيكونومي» المرموقة. لم تكن المقالة قد نشرت بعد عندما افتتحت البورصة الجديدة؛ لذا اقترح الطالب روجر إبتسون على بلاك أن يشتريا مقعدًا في البورصة معًا لاستخدام المعادلة التي ما زالت سرية عمومًا من أجل تحقيق ثراء، فرفض بلاك قائلًا لإبتسون إن مثل هذه المعلومات خير أن تباع من أن تُستخدم. فاشترى إبتسون المقعد وحقق أرباحًا طيبة لنحو عام، حتى أفسد بلاك كل شيء بتدشين خدمة توفر تقديرات للتذبذب بشأن الأسهم التي كانت خياراتها متداولة في البورصة. يقول إبتسون عائدًا بذاكرته: «بمجرد وضع الخدمة على أجهزة الكمبيوتر في ردهة الأعضاء، قضى ذلك على المشروع إلى حد كبير.»

دل تحقيق إبتسون أرباحًا باستخدام معادلة بلاك-سكولز قبل أن يفسد بلاك عليه الأمور على قيمة تلك المعادلة، لكن الدقة غير المعتادة لأسعار الخيارات المتداولة بعد أن دشَّن بلاك خدمته المعنية بالتذبذب كانت شيئًا آخر. لم تكن معادلة بلاك-سكولز تتنبَّأ بأسعار الخيارات فحسب، بل كانت — باعتبارها المعادلة المعتمدة لبورصة الخيارات الجديدة تمامًا — «تحدد» هذه الأسعار.

كان نموذج بلاك-سكولز قد أصبح نبوءة تحققت من تلقاء نفسها. فثمة افتراض أساسي وراء هذا النموذج — وهو أن أسعار الأسهم تتبع مسيرة عشوائية على شكل منحنى جرس — لم يكن، كما نوهنا من قبل، صحيحًا تمامًا. وهذا في حد ذاته لم يُبطل النموذج. فكما كان ميلتون فريدمان قد جادل قبل ذلك بعقدين من الزمن، فإن أي نموذج علمي ناجح هو دائمًا «خاطئ وصفيًّا في افتراضاته». ويكمن اختبار قيمته فيما إذا كان مفيدًا بأي حال في التنبؤ، وبحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين بدا أن نموذج بلاك-سكولز مفيد «على نحو مدهش» في التنبؤ بأسعار الخيارات. كان هذا هو النوع من الأدلة — على نحو أشبه بالفشل المفاجئ والذريع لكل الصناديق الاستثمارية المشتركة الجريئة عالية البيتا تلك في أواخر ستينيات القرن العشرين — المؤكد أن يملأ أساتذة المالية بالثقة في أن نظرياتهم لم تكن مجرد تقريبات مفيدة بل حقائق أبدية، حتى وإن كان بعض تلك الحقائق متحققًا من تلقاء نفسه.

كان أستاذ علم الاجتماع روبرت كيه ميرتون هو من صاغ تعبير «نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها».19 كما كتب ميرتون أيضًا عن مفاهيم الفضل في الاكتشافات العلمية وتسميتها، وبالأخص حقيقة أن الأشخاص المستحقين غالبًا ما لا يُنسب إليهم الفضل في الاكتشافات الكبرى. كانت معادلة الخيارات تنطوي على شيء من ذلك. فإدوارد أُو ثورب — أستاذ الرياضيات بجامعة كاليفورنيا في إرفين — كان قد استنبط آلياتها قديمًا في سنة ١٩٦٨، لكنه لم يبتكر برهانًا للمعادلة، اللهم إلا أنه ربح أموالًا عندما استخدمها، بالإضافة إلى احتفاظه بها لنفسه. فمن منظور علمي، هو لم يستحق أن ينسب إليه الفضل فيها بحق. وقد جادل البعض منذ ذلك الحين بأن عمل باشوليي هو الإنجاز الحقيقي في تسعير الخيارات، وكل ما عداه مجرد مُحسِّنات مضافة إلى فكرته. لكن بلاك وسكولز كانا دون منازعة هما أول من أعطى المعادلة أساسًا راسخًا في النظرية الاقتصادية.20

كانت الحالة الأكثر تعقيدًا هي حالة روبرت سي ميرتون، نجل ميرتون؛ فقد جاء ميرتون الابن بعد أن كان بلاك وسكولز قد توصلا إلى معادلتهما، فاستنبطها من جديد بطريقة مختلفة أبرع رياضيًّا. وإنَّ نهجه — لا نهجهما — هو الذي هيَّأ الأجواء للتطور المستقبلي للمالية الرياضية. ومنذ سنة ١٩٩٧، وهي السنة التي اقتسم فيها ميرتون وسكولز جائزة نوبل في الاقتصاد — كان بلاك قد مات السنة السابقة — بدأ معظم الأكاديميين يسمون المعادلة «بلاك-سكولز-ميرتون».

كان ميرتون يستثمر في سوق الأسهم منذ الطفولة. درس الهندسة في جامعة كولومبيا، وتزوج ممثلة تليفزيونية وراقصة في برنامج «أمريكان باندستاند» الاستعراضي تعرف عليها في لقاء جرى بينهما دون سابق معرفة، ثم اتجه غربًا للالتحاق ببرنامج الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك). كان ميرتون خلال سنته الأولى في كالتك يذهب إلى شركة سمسرة في باسادينا في تمام السادسة والنصف صباحًا في معظم الأيام ويتعامل هناك حتى التاسعة والنصف، وعندها يغادر لحضور دروسه. فقرر أنه ربما يجدر به أن يدرس الاقتصاد بدلًا من الكمبيوتر.

كان معهد كالتك ما زال تفصله بضعة أعوام عن منح درجة الدكتوراه في الاقتصاد؛ لذا تقدم ميرتون بأوراقه إلى ست جامعات تمنحها، فلم يُقبل إلا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكان المكان الوحيد الذي رجحت فيه مؤهلاته في العلوم الصلبة افتقاره التام إلى مؤهلات في علم الاقتصاد، فدرس مقرر بول سامويلسون في الاقتصاد الرياضي في فصله الدراسي الأول هناك سنة ١٩٦٧. كان ميرتون مفتونًا، ومثله كان سامويلسون، الذي عيَّن الطالب مساعدًا له في أبحاثه وأقنعه بالمشاركة في بحثه عن الخيارات.21

بعد أن بدأ بلاك وسكولز يتناقلان معادلتهما، استنبطها ميرتون على نحو جعلها أكثر منطقية لديه. كان المنطلق في نسخته هو أنه من المستحيل تحقيق أرباح سهلة من المراجحة؛ إذ يمكن التعويل على بيع محفظتين ذواتيْ عوائد ومخاطر متكافئة بسعر واحد؛ لأنهما إن لم تباعا بسعر واحد، فإن شخصًا ما سيستفيد من التسعير الخاطئ ويُنهيه.

كان فرانكو مودلياني وميرتون ميلر قد أدخلا هذا النوع من البرهان إلى المالية في بحثهما الشهير بشأن تكلفة رأس المال سنة ١٩٥٨؛ حيث أثبتا أن أي مستثمر يمكنه نظريًّا أن يحاكي أي مستوى من مديونية الشركات ببساطة باقتراضه المال هو نفسه، وانتهيا إلى أن مزيج الدين وحقوق الملكية الخاص بأي شركة ينبغي ألا يكون له أثر على قيمتها. وبرهن ميرتون على أنه من الممكن — باقتراض المال وشراء سهم به — تجميع محفظة ذات عوائد مطابقة لعقد خيار مرتبط بذلك السهم، وذلك بافتراض أنك تستطيع تعديل هذا المركز دون تكلفة طوال أجل الخيار. وقادته بعض العمليات الرياضية الغريبة (لعب شيءٌ يسمى «نظرية إيتو المساعدة» دورًا حيويًّا) من هناك إلى معادلة مطابقة لمعادلة بلاك وسكولز.

على هذا النحو، تمكَّن ميرتون من بناء معادلة تعتمد فقط على كفاءة عمل السوق. كان نموذج تسعير الأصول الرأسمالية نظرية اقتصادية، وكانت نسخة ميرتون من معادلة الخيارات مالية محضة. «المالية النيوكلاسيكية هي نظرية انتهازيين لا نظرية رجال اقتصاديين عقلانيين.»22 هو ما قاله أكاديمي ماليٌّ بعد ذلك بسنوات. كان هؤلاء الانتهازيون هم المراجحين الذين يمكن التعويل عليهم للانقضاض على فرص الربح الخالية من المخاطر والقضاء عليها.
كان الانتهازيون الذين يحافظون على كفاءة الأسواق يتطلبون بيئة نظرية نخبوية كي يزدهروا. فيما بعد سماها ميرتون «نموذج السوق فائقة الكمال». لم تكن توجد فيها تكاليف معاملات ولا مخاوف بشأن تحرك الأسعار مع شراء المرء أو بيعه ولا تقطعات سوقية، بمعنى أن الأسواق كانت دائمًا مفتوحة والأسعار لا تتغير إلا بدرجات طفيفة.23 كان لوي باشوليي قد تصور هو أيضًا مثل هذه السوق، لكن لم تكن لديه رغبة في استطلاع مستقبلها لأكثر من «لحظة». ومن المؤكد أن أستاذه هنري بوانكاريه حذَّره من أن ميل الناس إلى السلوك كالخراف القافزة إلى المحيط يقف في طريق النظريات العقلانية لسلوك السوق على مدى أية فترة أطول من ذلك. واجتنب ميرتون هذا بافتراض أنه من الممكن دائمًا، في أي لحظة في الزمان، أن يعيد المرء ترتيب أرصدته لتعكس ظروف السوق، وكان هذا يعني أن «لحظة» باشوليي يمكن استنساخها مرة بعد مرة بعد مرة لأجل غير محدود مستقبلًا.

كان هذا يقينًا حلًّا حاذقًا، وقد جعل بلاك وسكولز برهان ميرتون محور النسخة المنشورة التي تأخرت طويلًا من بحثهما. قُدِّم برهان بلاك الأصلي المستند إلى نموذج تسعير الأصول الرأسمالية على هيئة «استنباط بديل»، لكن بلاك لم يعتنق قط نهج ميرتون بالكلية؛ إذ كان يخشى أن التعامل في الأسواق الحقيقية ليس متصلًا ولا سلسًا البتة.

لم يكن هذا مسألة صواب أو خطأ؛ إذ كان كلا النهجين — مثل كل النظريات — تبسيطين غير واقعيين. ولاقى نهج ميرتون هوًى أكبر لدى الطلاب ذوي الميول الرياضية الذين كانوا قد بدءوا يَعْمُرون برامج الدراسات العليا في المالية. كما أنه كان يناسب بناء النماذج لتسعير الأوراق المالية أكثر من خيارات الأسهم، وقد راحت تلك النماذج — الخاصة بالأوراق المالية المضمونة برهون وعمليات مقايضة أسعار الفائدة والعملة وكل أنواع الأدوات المالية الغريبة الأخرى — تُحدث تحولًا في الأسواق المالية حول العالم.

كما وجهت المالية على طريقة ميرتون أتباعها نحو فهم مختلف للمخاطر. ففي نسخة علم المالية المبني على نموذج تسعير الأصول الرأسمالية لترينور وشارب ولنتنر وبلاك، كان يمكن التلاعب بالمخاطر والسيطرة عليها وتقليصها، لكن دون القضاء عليها بالكلية أبدًا، حتى ولو نظريًّا. وفي النسخة الخالية من المراجحة التي ابتكرها ميرتون، يمكن للتوليفة الصحيحة من الأوراق المالية القضاء على المخاطر بالكلية.

إن مقدارًا كافيًا من مثل هذه الأوراق المالية يمكنه أيضًا جلب شيء أقرب إلى الكمال الاقتصادي. ولتيسير التوازن الاقتصادي في مواجهة اللايقين الاقتصادي، كان كنيث أرو قد اقترح في خمسينيات القرن العشرين أن هناك حاجة إلى وجود أوراق مالية للبيع تمثل كل حالة مستقبلية ممكنة. بدا ذلك أمرًا مثاليًّا نظريًّا محضًا في ذلك الزمان طبعًا. لكن بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين، كان أحد تلاميذ أرو — وهو ستيف روس — يعلن أن العالم المالي يسير في ذلك الاتجاه بفضل نظرية تسعير الخيارات.

كان روس قد تخصَّص في الفيزياء وهو في مرحلة البكالوريوس في كالتك، ثم درس الاقتصاد في جامعة هارفرد على يدي كنيث أرو، وحصل على وظيفة في التدريس في جامعة بنسلفانيا، واكتشف نظرية الخيارات عندما أقام فيشر بلاك ندوة في الحرم الجامعي. أُولع روس بهذا الموضوع فأقبل عليه بحماس، وسرعان ما كان يحاول أن يربطه ربطًا صريحًا بعمل معلمه النظري في التوازن الاقتصادي. توصل هو وأكاديميان آخران إلى معادلة جديدة وعملية بدرجة أكبر لتسعير الخيارات استنادًا — على نحو جزئي — إلى فكرة «الأوراق المالية بسعر الحالة» لأرو.24 وقد جادل بأن هذا العمل يقود العالم أقرب وأقرب إلى الكمال الاقتصادي النظري الذي تصوره أرو وجيرار دبرو. كتب روس سنة ١٩٧٦ يقول: «على الرغم من أنه لا يوجد إلا عدد محدود يجري تسويقه من الأصول الرأسمالية أو الأسهم أو السندات أو كما سنسميها «الأوَّليات»، يوجد عدد يكاد يكون غير متناهٍ من الخيارات أو الأصول «المشتقة» التي يجوز أن تنشئها هذه الأوليات.»25

منذ الكساد الكبير، كان النهج التنظيمي الغالب في كبح جماح المخاطر المالية هو تقييد ما هو مسموح للمؤسسات المالية والمستثمرين فعله، وذلك للحد من عدد الرهانات المالية التي يمكن الإقدام عليها. كان هذا النظام واقعًا بالفعل تحت هجوم مستدام بحلول سبعينيات القرن العشرين من جانب كلٍّ من اليمين السياسي والواقع الاقتصادي. لم يكن روس يجادل انطلاقًا من اليمين السياسي ولا حتى من الواقع العملي. كان ماركسيًّا سابقًا تخلى عن الفيزياء جزئيًّا؛ لأنه كان معارضًا بشدة لحرب فيتنام، ولم يشأ أن يرى عمله يُستغل لغايات عسكرية. ومع ذلك فهو ها هنا، كان يجادل مؤيدًا حرية إنشاء ضروب لانهائية من الأدوات المالية الجديدة؛ لأن نظرية التوازن تقول إنها ستقرِّب العالَم الاقتصادي إلى الكمال.

•••

صار ظهور هذه المشتقات — كما سماها روس — واحدة من القصص المالية العظيمة لربع القرن المقبل، والتأريخ لها بما يوفيها حقها يتطلب كتابًا مستقلًّا. لكن أحد المنتجات المشتقة المبكرة يستحق نظرة أقرب، وذلك بصفته نموذجًا أوليًّا لما سيأتي، وما يمكن أن يخفق. وقد سُمي التأمين على المحافظ، وكان محاولة للتحوط من مخاطر سوق الأسهم.

كان ميرتون وسكولز — اللذان صارا صديقين مقربين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — أول من سوَّق مثل هذا المنتج؛ حيث دشنا صندوقًا استثماريًّا مشتركًا في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وفَّر — بشرائه كلًّا من خيارات الأسهم والسندات الحكومية — بعض التأمين ضد انخفاضات سوق الأسهم. لكن المستثمرين الأفراد، الذين كانوا يملكون من الجرأة ما يكفي للاستثمار في السوق في منتصف سبعينيات القرن العشرين، لم يبدوا مهتمِّين بوثائق التأمين، وفشل الصندوق. كان مديرو صناديق المعاشات التقاعدية مسألة أخرى. كانوا أمناء، ويخشون الخسائر والدعاوى القضائية، وكان لديهم استعداد تام للتضحية بالمكاسب المحتملة لتجنب الأخبار السيئة. وقرب نهاية العقد، توصل اثنان من أساتذة المالية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي — بالإضافة إلى رائد أعمال مالية مخضرم — إلى طريقة لإغرائهم بالحصول على حماية للمحافظ.

في أوائل سبعينيات القرن العشرين، كان الحاكم آنذاك رونالد ريجان قد اتخذ إجراءات صارمة ضد الإنفاق في الجامعات العامة في كاليفورنيا؛ ومن ثم ضد أجور أعضاء هيئة التدريس. في بيركلي مرتفعة التكاليف، حوَّل هذا الإجراء الأساتذة إلى الاشتغال بوظائف إضافية. وكان بار روزنبرج أول من حقق نجاحًا كبيرًا في هذا. وذات ليلة في منتصف العقد، اعتكف صديقه وصنوه أستاذ المالية هين ليلاند في مكتبه، عاقدًا العزم على التوصل إلى فكرة خاصة به للربح قبل أن يخرج منه. تذكر ليلاند تعليقًا أدلى به شقيقه — وهو مدير أموال — بعد انهيار سوق الأسهم سنتي ١٩٧٣ و١٩٧٤؛ إذ قال: «سيئ جدًّا أن الناس لا يمكنهم شراء تأمين ضد الخسائر.» فكر ليلاند في الأمر، وأدرك أن شقيقه كان يتحدث عن خيار بيع؛ عقد خيار لبيع سهم بسعر محدد مسبقًا. لم تكن خيارات البيع في السوق بأكملها متاحة للبيع، لكن جوهر نسخة ميرتون من نموذج بلاك-سكولز كان يتمثَّل في أن المرء يستطيع محاكاة خيار ما بتوليفة من الأسهم والدين. استقطب ليلاند زميله مارك روبنشتاين، الذي اشترك مع روس في وضع ما يسمى الآن نموذج تسعير الخيارات ثنائي الحدين، وصمم الاثنان نهجًا.

لكنهما لم يصلا إلى أية نقطة قريبة من الإتيان به إلى السوق حتى التقيا جون أوبريان. كان أوبريان — الذي يوفر مشواره المهني المبكر ما يشبه جولة مصحوبة بمرشد في مشهد التحليل الكمي الوليد — مهندسًا في راند في ستينيات القرن العشرين عندما حُوِّل قسمه إلى شركة خاصة هادفة للربح وكُلِّف بوضع خطة تقاعد موظفي الشركة الجديدة. فاستأجر بيل شارب، وكان آنذاك يدرِّس في جنوب كاليفورنيا بجامعة كاليفورنيا في إرفين، ليقدم له المشورة. ولما أن رأى أوبريان أن هناك فرصة لمشروع تجاري في نوع المشورة التي يقدمها شارب، تعاون مع شركة سمسرة بشيكاجو ابتكر لها «خدمة بيتا» نافست الخدمة التي صممها شارب لميريل لينش، ثم أسَّس شركة سمسرة صغيرة لها مكاتب في ويلشر بوليفارد في لوس أنجلوس تقدم المشورة لصناديق المعاشات التقاعدية حول كيفية اختيار مديري الأموال وتوزيع استثماراتها. كما دشَّنت أوبريان أسوشييتس — وهو الاسم الذي سُميت به — أيضًا مؤشر أسهم خاصًّا بها للسوق كلها، وهو أوبريان ٥٠٠٠.

في سنة ١٩٧١، انتاب أوبريان القلق بشأن عدم قدرة شركته الصغيرة على البقاء بعد الإجراء الوشيك لتخفيف القيود التنظيمية على عمولات السمسرة، فباعها لمساعده المتفائل دينيس تيتو، وحصل على وظيفة لدى شركة سمسرة أكبر في شيكاجو، وهي إيه جي بيكر، كانت تشتغل بقياس أداء مديري الأموال. كان ذلك قرارًا خاطئًا، فالشركة العجوز ازدهرت باسم ويلشر أسوشييتس، مع تحقيق تيتو ما يكفي من ثروة لتمويل رحلته إلى الفضاء بعد ذلك بسنوات كأول سائح فضائي على الإطلاق؛ وصار أوبريان ٥٠٠٠ ويلشر ٥٠٠٠. وطفق أوبريان يبحث عن طريقة لتعويض تلك الفرصة الضائعة.

وجدها في ندوة أقيمت سنة ١٩٧٩ في بيركلي تحدث فيها ليلاند وروبنشتاين عن التأمين على المحافظ. وسرعان ما توحَّد الثلاثة باسم ليلاند أوبريان روبنشتاين (أو «لور»)، وبدءوا يبيعون وثائق التأمين قبل مضي وقت طويل. لقد بات بالإمكان آنذاك أن يبدأ التخلص من المخاطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤