جنة اللصوص

دلَف موسكاري العظيم، الأكثرُ إبداعًا بين شباب الشعراء التوسكان، إلى مطعمه المفضَّل مُسرعًا؛ ذلك المطعم الذي كان يُطلُّ على البحر الأبيض المتوسط وتُغطِّيه ظُلَّةٌ ويُحيط به سورٌ من أشجار الليمون والبرتقال الصغيرة الحجم. كان النُّدُل في مآزرهم البيضاء يضعون البطاقاتِ لغداءٍ مبكِّر وراقٍ على الطاولات البيضاء؛ وبدا أن هذا عزَّز حالةً من الرضا بلغتْ بالفعل من التباهي مبلغًا. كان لموسكاري أنفُ نَسْرٍ مثل دانتي، وكان شعرُه ووشاح رقبته داكنَين ومسترسلين، وكان يحمل عباءةً سوداء، ويُحتمَل أن يكون قد حمل معه أيضًا قناعًا أسودَ اللون، إلى الحد الذي أعطى انطباعًا بأنه قد جلب معه على ما يبدو أجواءَ ميلودراما مدينة البندقية. كان يتصرف كما لو أنه شاعرٌ غنائيٌّ من العصور الوسطى لا يزال يحتفظُ بمكانته الاجتماعية كالأساقفة. وقد طاف بالقَدْر الذي سمح له زمنه به حول العالم كدون خوان بسيفه المدبَّب وجيتاره.

كان لا يسافر قط دون حقيبةِ سيوفه، التي خاض بها عدةَ مبارزات رائعة، ولا دون حقيبةٍ مماثلة لآلة الماندولين، التي عزف بها بالفعل في إحدى العطلات للآنسة إيثيل هاروجيت، الابنة المحافظة للغاية لأحد مصرفِيِّي يوركشاير. ومع ذلك لم يكن مُدَّعيًا ولا طفلًا، ولكنه كان لاتينيًّا منطقيًّا ومفعمًا بالحماس، أحبَّ شيئًا معينًا وأصبح إياه. كان شِعرُه مباشرًا وسهلًا لا يختلف في سلاسته عن النثر، وكانت رغبتُه في الشهرة أو الخمر أو النساء الجميلات ممزوجةً بنوع من المصارحة التي يغلب عليها الحماسةُ على نحوٍ لا يمكن تصورُه في ظل تلك المُثُل الضبابية أو التنازلات غير الواضحة لدى أهل الشمال، وقد يُعطي حماسُه الزائد هذا في بعض الأحيان إحساسًا بأنه يُشكِّل خطورةً أو بأنه ضالعٌ في الإجرام. كان، كالنار أو البحر، بسيطًا إلى الحد الذي لا يمكن الوثوقُ به.

كان المصرفي وابنتُه الإنجليزية الجميلة يقيمان في الفندق القريب من المطعم الذي يتردد عليه موسكاري؛ ولهذا السبب كان مطعمَه المفضل؛ ولكن سرعان ما استدل من خلال نظرة خاطفة على غرفة تلك العائلة الإنجليزية أن المصرفيَّ وابنته لا يزالان في الغرفة. كان المطعم مُبهِرًا، ولكنه ما زال فارغًا بعضَ الشيء. وكان قَسَّان يجلسان إلى طاولة في أحد الأركان يتحدثان، غير أن موسكاري (وهو كاثوليكي غيور) لم يرَهما سوى غُرابَين. ولكن من مقعدٍ أبعد، أخفتْه بعضَ الشيء شجرةُ برتقال صغيرة الحجم ذهبية اللون، نهض وتقدَّم نحو الشاعر شخصٌ يرتدي زيًّا يُناقض زيَّه تمامًا.

كان ذاك الشخص يرتدي زيًّا من نسيجٍ صوفيٍّ خشن مُرقَّطٍ بخطوط عريضة متقاطعة، وربطةَ عنق وردية اللون، وياقة حادة، وحذاءً أصفرَ اللون مقوَّسًا؛ وقد تصنَّع — على الطريقة المبتذلة التي يظهر بها أبناءُ الطبقة العاملة اللندنية على شواطئ مارجيت — ليظهر بمظهرٍ لافت وعاديٍّ في الآنِ نفسه. ولكن مع اقتراب الرجل، أصابتْ موسكاري الدهشةُ عندما لاحظ أن رأسه يختلف تمامًا عن جسده. كان الرأس إيطاليًّا؛ إذ كان أجعدَ الشعر داكنَ اللون مفعمًا بالحيوية. برزَ هذا الرأسُ خارجًا من ياقة مستديرة حول الرقبة أشبه بالورق المقوَّى وربطة عنق وردية مُضحكة. لقد كان في الواقع رأسًا يعرفُه؛ فقد تعرَّف عليه، رغم كل تلك البهرجة في ملابسه؛ إذ كان الوجهُ لصديق قديم منسي يُدعى إيتزا. كان هذا الشاب نابغةً في الكلية، وكانت الدلائل كلُّها تُبشِّر بأنه سيحظى بشهرة في القارة الأوروبية في وقتٍ لم يكن قد بلغ فيه من العمر سوى خمسة عشر عامًا بالكاد؛ لكنه فشل عندما اصطدم بأرض الواقع، في البداية، على المستوى العام، ككاتبٍ مسرحي وخطيب شعبي، ثُم، على المستوى الخاص ولسنواتٍ متتابعاتٍ، كممثِّلٍ أو رحَّالة أو وسيط تجاري أو صحفي. عرفه موسكاري في كواليس المسرح؛ كان مُنسجمًا للغاية مع أجواء الإثارة التي تُحيط بتلك المهنة، ويُعتقَدُ أنَّ كارثةً أخلاقية ما قد أثَّرت عليه سلبًا.

صاح الشاعر واقفًا ومصافحًا له في حالةٍ من الدهشة خالطها شعورٌ بالسعادة: «إيتزا! عجبًا! لقد رأيتُكَ في العديد من الأزياء خلف الكواليس، لكنني لم أتوقع أن أراكَ ترتدي الملابس الإنجليزية.»

ردَّ إيتزا بوقار: «هذه ليستْ أزياء إنجليزية، بل الأزياء المستقبلية للإيطاليين.»

علَّق موسكاري: «في تلك الحالة، أعترفُ بأنني أُفضِّل الإيطاليين في الماضي.»

قال إيتزا وهو يهزُّ رأسه: «ذلك خطؤك القديم، وخطأ إيطاليا؛ ففي القرن السادس عشر، صنعنا نحن التوسكان الحضارةَ: كان لدينا أحدثُ المصنوعات الفولاذية، وأحدثُ المنحوتات، وأحدثُ الكيمياء. لماذا لا يكون لدينا الآن أحدثُ المصانع، وأحدثُ المحركات، وأحدث الأنظمة المالية، وأحدث الملابس؟»

أجاب موسكاري: «لأنها أشياءُ لا قيمةَ لها. لا يمكنك جعلُ الإيطاليين تقدُّميِّين بحقٍّ؛ إنهم شديدو الذكاء. فمَن يعرفون الطرق المختصرة لرغد العيش لن يسلكوا الطرق المُعقَّدة الحديثة.»

قال الآخر: «حسنًا، بالنسبة إليَّ، فإن ماركوني أو دانونتسيو هو نجم إيطاليا. ولذلك أصبحتُ مُستقبليًّا في نظرتي إلى الحياة، كما أصبحتُ مرافقًا سياحيًّا.»

صاح موسكاري ضاحكًا: «مُرافقٌ سياحي! هل هذه آخر مهنة في قائمتك للمهن؟ ومع مَن تتعامل؟»

«أوه، رجلٌ يُدعى هاروجيت، وعائلته، على ما أظن.»

سأل الشاعر بشيء من التلهف: «أليس هو المصرفيَّ المقيم في هذا الفندق؟»

ردَّ المُرافق السياحي: «إنه هو.»

ردَّ موسكاري ببراءة: «هل تحصُل على مقابل جيد؟»

قال إيتزا بابتسامة مبهمة للغاية: «سوف أحصلُ عليه. ولكنني مرافقٌ سياحي غريب بعضَ الشيء.» ثم قال فجأةً كما لو كان يريد تغيير الموضوع: «لديه ابنةٌ وابن.»

قال موسكاري مُصدِّقًا على كلامه: «الابنة من الملائكة؛ أما الأب والابن، فأظنُّ أنهما من بني البشر. ولكن إذا سلَّمنا بأن هذا المصرفيَّ غيرُ مؤذٍ، ألا تتفق معي أنه يُعَدُّ مثالًا جيدًا على وجاهة حجتي؟ فهاروجيت يملُك الملايين في خزائنه، أما أنا فلا أملُك شيئًا من المال. لكنك لا تجرؤ ولا تستطيع أن تقول إنه أذكى مني، أو أكثرُ جرأةً مني، أو حتى أكثر حيويةً مني. إنه ليس ذكيًّا، فلديه عينان جامدتان كزِرَّين أزرقين؛ كما أنه يفتقر إلى الحيوية؛ إذ ينتقل من كرسي إلى آخر كالكسيح. إنه عجوز أحمقُ شديد الحرص ليِّن الجانب، والسبب في امتلاكه المال أنه يحرص على جمْعه مثلما يحرص صبيٌّ على جمع الطوابع. أنت تمتلك عقلًا يتسم بالقوة والاستقلالية يا إيتزا، وهذا لا يُناسب مجال التجارة والأعمال. لن تُبليَ بلاءً حسنًا في هذا المجال. فلكي يكونَ المرء ذكيًّا بما يكفي للحصول على هذا المال كلِّه، يجب أن يكون غبيًّا بما يكفي لأن يرغب فيه.»

قال إيتزا بحزنٍ: «أنا غبيٌّ بما يكفي لذلك، ولكن يجب أن أقترح عليك أن تتوقف عن انتقادك للمصرفيِّ لأنه قد أتى.»

دخل السيد هاروجيت الخبير المالي الكبير بالفعل إلى المكان، ولكن لم ينظر إليه أحدٌ. كان رجلًا كبيرًا في السن ضخمَ الجثة ذا عينَين زرقاوين فاترتين وشاربٍ خفيفٍ رمادي اللون؛ ولولا انحناؤه الشديد، لظنَّه المرء عقيدًا في الجيش. حمل في يده عدَّة رسائل لم تُفتَح بعد. كان ابنه فرانك شابًّا وسيمًا حقًّا، ذا شعر أجعد وبشرة ضاربة إلى السُّمرة وجسد قوي تملؤه الحيوية. لكن لم يُعرْه أحدٌ اهتمامًا هو الآخر؛ فقد كانت كلُّ الأنظار تتجه، على الأقل في اللحظة الراهنة، صوب إيثيل هاروجيت، التي بدا رأسُها اليوناني الذهبي اللون وشعرها الأشبه بلون السماء عند بزوغ الفجر وكأنهما وُضعَا عن قصد فوق ذلك البحر الياقوتي، كما لو كانَا رأسَ وشعر إلهة من الآلهة. تنهَّد الشاعر كما لو كان يستوعب شيئًا ما، وقد كان الحال كذلك بالفعل؛ كان يحاول استيعابَ ذلك الإبداع الكلاسيكي الذي هو من صنع آبائه. أنعم فيها إيتزا النظرَ باهتمام لا يقلُّ عن اهتمام صاحبه وعلى نحو أكثر حيرةً وذهولًا بكثير.

كانت الآنسة هاروجيت تتمتع بجاذبية خاصة كما كانت على استعداد للحوار في هذا الوقت، وقد كان لدى عائلتها تلك العادة الأوروبية الأكثر انفتاحًا؛ إذ سمحوا لشخص غريب وهو موسكاري بل وحتى للمُرافق السياحي إيتزا أن يُشاركاهم الطاولة والحديث. كان السمت التقليدي لإيثيل هاروجيت قد تُوِّج بكمال ورونق خاصَّين بها. كانت فخورةً بنجاح والدها وما حققه من رخاء، كما كانت مُولعةً بالمُتَع العصرية، وكانت ابنةً ودودة ولكنها مُدلَّلةٌ للغاية؛ كانت كلَّ ذلك في آنٍ واحدٍ بالإضافة إلى طابعها الحَسَن، الذي يجعل من كبريائها شيئًا جذَّابًا ومبهجًا ومن جدارتها باحترام الآخرين أمرًا مُتجدِّدًا ومُحبَّبًا.

وقد كانت العائلة في دوامة من الإثارة بسبب بعض المخاطر المزعومة في الطريق الجبلي الذي خططوا أن يجتازوه هذا الأسبوع. لم يكن مصدرُ الخطر الصخورَ أو الانهيارات الجبلية، ولكن كان مصدرُه شيئًا أكثر خيالًا؛ فقد تأكد لإيثيل جدِّيًّا أن قُطاع الطرق، أو يمكنك القول قاطعي الحناجر في الأسطورة الحديثة، ما زالوا يسكنون تلك الحافة الجبلية ويُسيطرون على هذا الطريق في جبال الأبينيني.

صاحتْ بحماس شديد كتلميذة في مدرسة قائلةً: «قالوا إن كل هذا البلد ليس تحت حكم ملك إيطاليا، ولكنه تحت سيطرة ملك اللصوص. مَن يكون ملك اللصوص؟»

ردَّ موسكاري: «رجل عظيم، جدير بالمكانة نفسها التي يتمتع بها روبن هود في ثقافتك الإنجليزية يا سيدتي. سمعنا لأول مرة عن مونتانو، ملك اللصوص، في الجبل منذ عشر سنوات تقريبًا، عندما قال الناس إن قُطاع الطرق قد انقرضوا. لكن سلطته الجامحة انتشرت بسرعة ثورة صامتة، ووجد الرجال تصريحاتِه الشرسة مُعلَّقةً في كل قرية جبلية؛ وكان حُرَّاسه، والبنادق في أيديهم، في كل وادٍ جبلي. حاولت الحكومة الإيطالية مقاومتَه ست مراتٍ وهُزمت في ست معارك ضارية، كما لو كانت قد هُزمت على يد نابليون.»

علَّق المصرفي بتثاقُلٍ: «الآن مثلُ هذه الأمور غيرُ مسموح بها نهائيًّا في إنجلترا؛ وبرغم كلِّ شيء، كان من الأفضل أن نختار طريقًا آخر نسلكه، ولكن المُرافق السياحي ظنَّ أنه آمن تمامًا.»

قال المُرافق السياحي باستهانة: «إنه آمن تمامًا؛ سلكتُه أكثر من عشرين مرة. ربما كان هناك سجينٌ قديم يُدعى الملك في زمن أجدادنا، لكنه ينتمي إلى التاريخ إن لم يكن إلى الخرافة؛ فقد قُضيَ تمامًا على قُطاع الطرق.»

ردَّ موسكاري: «لا يمكن القضاءُ عليهم نهائيًّا؛ لأن التمرُّدَ سمة أهل الجنوب. إن مزارعنا أشبهُ بجبالهم الغنية بالخير والخضرة والبهجة وتُخفي تحتها في الوقت نفسه نيرانًا تستعِر. ولكن الأمر ينطوي على مأساة إنسانية؛ ففقراء الشمال مولعون بالشراب بينما فقراؤنا مولعون بالخناجر.»

ردَّ إيتزا ساخرًا: «الشعراء مُلهمون. فلو كان السيد موسكاري إنجليزيًّا، لوجدناه الآن يبحث عن قُطاع الطرق في واندسوورث. صدِّقوني، احتمال وقوعكم في الأسْر في إيطاليا ليس أكبر من احتمال أن تُسلَخ فروة رءوسكم في بوسطن.»

سأل السيد هاروجيت عابسًا: «أوَتقترح علينا أن نسلكَ ذلك الطريق؟»

صاحت الفتاة بعد أن تحوَّلت عيناها المتلألئتان إلى موسكاري: «أوه، يبدو الأمر مخيفًا للغاية. هل تعتقد حقًّا أن الطريق خطير؟»

أرجع موسكاري شعره الطويل إلى الوراء، وقال: «أعلم أنه خطير؛ سوف أعبُره غدًا.»

تُرك هاروجيت الشاب للحظة كي يحتسيَ كأسًا من النبيذ الأبيض ويُشعِلَ سيجارة، بينما نهض المصرفيُّ والجميلة وسارَا نحو الباب برُفقة المُرافق السياحي والشاعر اللَّذَين استمرَّا في تبادل الكلمات والقهقهات الساخرة فيما بينهما. في اللحظة نفسها، نهض القَسَّان الجالسان في ركن المطعم، وغادر أطولُهما المكان وهو إيطالي ذو شعر أبيض. أما القَسُّ الثاني الأقصر طولًا، فقد التفَّ وسار باتجاه ابن المصرفي، وقد أصابت الأخيرَ الدهشةُ عندما أدرك أنه على الرغم من كونه قَسًّا رومانيًّا، فقد كان رجلًا إنجليزيًّا. وقد تذكَّر دون أن يتأكد أنه قد التقاه في إحدى المناسبات الاجتماعية التي ضمَّت بعضًا من أصدقائه الكاثوليكيين؛ ولكن الرجل تكلَّم قبل أن يشحذ الشابُّ ذاكرتَه.

قال الرجل: «السيد فرانك هاروجيت، على ما أظن. أعتقد أننا سبق أن تعارفنا، ولكنني لا أريد أن أتجاوزَ حدود ذلك التعارف؛ فالشيء الغريب الذي سأخبرك به من الأفضل كثيرًا أن يأتيَك مني بوصْفي غريبًا عنك. سأقول لك كلمة واحدة وأذهب بعدها يا سيد هاروجيت: اعتنِ بأختك في حزنها الكبير.»

حتى في عينَي فرانك، مع فتوره الأخوي تجاهها، كان سحرُ أخته لا يزال برَّاقًا وكانت سخريتها لا تزال رنَّانة؛ فقد كان لا يزال يمكنه سماعُ ضحكتها من حديقة الفندق، وكان يُحدِّق في حيرة في وجه ذلك الناصح الجاد.

سأله: «أتقصد قُطاع الطرق؟» ثم تذكَّر قلقًا غامضًا يعتريه؛ فقال: «أم أنك تقصد موسكاري؟»

قال القَسُّ الغريب: «لا يمكن للمرء أن يتنبأَ بالحزن الحقيقي أبدًا، كلُّ ما يسعه أن يكون عطوفًا عندما يأتي أوانُه.»

ومضى على الفور من المكان، تاركًا الشابَّ فاغرًا فاه.

بعد يوم أو يومين، أخذت حافلةٌ تُقِلُّ الفوج تتقدم ببطء وتترنَّح بشدة على النتوءات الصخرية للسلسلة الجبلية الخطِرة. بين إنكار إيتزا المبتهج للخطر وتحدِّي موسكاري الصاخب له، كانت عائلة المصرفي مُصمِّمةً على تنفيذ خُطَّتها. ورتَّب موسكاري رحلتَه الجبلية لتتزامن مع رحلة العائلة. وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ظهورَ القَسِّ القصير — الذي كان جالسًا في المطعم — في محطة المدينة الساحلية؛ وزعم أن العمل وحده هو الذي اضطره أيضًا لعبور جبال وسط البلاد. لكن هاروجيت الشاب لم يستطع إلا أن يربطَ حضورَه بمخاوف وتحذيرات أمس الغامضة.

كانت الحافلة أقربَ إلى عربة فسيحة، وكانت من ابتكارات المُرافق السياحي العصرية، الذي أثار اهتمام الفوج بنشاطه العلمي وذكائه وخفَّة ظلِّه. تبدَّدت من الأذهان فكرةُ الخطر الذي قد يُشكِّله اللصوص واختفتْ من حديثهم وإن كانوا لا يزالون معترفين حتى ذلك الحين بأن شيئًا من الحماية سيكون مفيدًا؛ فقد كان المُرافق السياحي والمصرفي الشاب يحملان مُسدَّسين محشوَّين بطلقات الرصاص، وكان موسكاري قد ربط (بكثير من الابتهاج الصِّبياني) سيفًا قصيرًا تحت عباءته السوداء.

كان قد أجلس نفسَه بقفزة سريعة بجوار السيدة الإنجليزية الجميلة؛ وعلى الجانب الآخر منها كان يجلس القَسُّ، الذي كان يُدعى براون والذي كان لحسن الحظ صامتًا. أما المُرافق السياحي والأب والابن فكانوا يجلسون في المقعد الخلفي. كانت معنويات موسكاري مرتفعة، وكان واثقًا بشدة من وجود خطر، ويحتمل أن يكون حديثُه إلى إيثيل جعلها تعتقد أنه أصابه شيءٌ من الجنون. ولكن في ذلك الصعود المجنون والمهيب وسط تلك الصخور التي تكسوها نباتاتٌ رائعة الجمال، كان ثمةَ شيءٌ جعل روحَيهما تهيمان في سماواتٍ أرجوانية مذهلة بشموسٍ دوَّارة بديعة. كان الطريق الأبيض يتجه صعودًا إلى أعلى كقطٍّ أبيض؛ كان يلتفُّ حول صدوع لم تصلْها الشمس كحبلٍ مشدودٍ، كما كان يلتفُّ حول نتوءات أرضية مثلما تلتفُّ أنشوطة حبلٍ حول حيوان عند اقتناصه.

ومهما بلغوا من الارتفاع، ظلَّت الصحراء مزدهرة كالوردة. كانت الحقول تتألق تحت أشعة الشمس ووسط الرياح ومما زاد منظرها جمالًا طيور الرَّفراف والببغاوات والطنَّان، بألوانها المُتدرجة البديعة التي جمعت بين ألوان عددٍ لا يُحصى من الزهور. ليس هناك مروجٌ وغاباتٌ أجمل من المروج والغابات الإنجليزية، ولا قممٌ ولا صدوع أروع من تلك التي في سنودون وجلينكو. لكن إيثيل هاروجيت لم يكن قد سبق لها أن رأت الحدائق الجنوبية مائلةً على القمم الشمالية المُتناثرة؛ وادي جلينكو العامر بثمار كينت. ليس ثمة شيءٌ هنا من ذلك الشعور بالوحشة والخوف المرتبط لدى الناس في بريطانيا بالأماكن المرتفعة والبريَّة، بل كان المشهد أشبهَ بقصر فسيفسائي، تشظَّى بفعل هزَّات زلزالية، أو حديقة من زهور التوليب الهولندية تفجَّرت بالديناميت حتى بلغت عنان السماء.

قالت إيثيل: «إنه أشبهُ بحدائق كيو جاردنز في بيتشي هيد.»

ردَّ قائلًا: «إنه سرُّنا، سرُّ البركان، وهو كذلك سرُّ الثورة من منظور أن الشيء يمكن أن يكون عنيفًا ومثمرًا في الوقت نفسه.»

ردَّتْ مبتسمة له: «أنت نفسك عنيفٌ نوعًا ما.»

قال مُقرًّا: «ولكني لستُ مثمرًا؛ إذا مُتُّ الليلة، مُتُّ غيرَ متزوج وأحمق.»

قالت بعد صمتٍ صعب: «ليس ذنبي أنك أتيتَ.»

ردَّ موسكاري: «لن يكون ذنبَكِ أبدًا؛ ليس ذنبكِ أن سقطت طروادة.»

في أثناء حديثهما مرُّوا أسفل منحدرات صخرية ضخمة انتشرت على نحوٍ يكاد يقترب من الأجنحة أعلى زاوية ذات خطورة بالغة. فزع الفَرسان عندما رأيَا الظلَّ الكبير على الحَيْد الناتئ الضيق، فاهتاجَا مرتابَين. قفز السائق على الأرض ليُمسِكَ برأسَيهما، وأصبح يتعذر السيطرةُ عليهما؛ وقف أحدُ الفَرسين على قدميه الخلفيتين رافعًا قدمَيه الأماميتين بأقصى ما يستطيع على نحوٍ يُثير الخوف. كان هذا كافيًا للإخلال بالتوازن؛ وانقلبت الحافلةُ بأكملها كسفينة وارتطمت في سياج شجري فوق المنحدر. لفَّ موسكاري ذراعَه حول إيثيل، التي تشبَّثتْ به وصرخت عاليًا. لقد عاش من أجل لحظاتٍ كهذه.

وفي اللحظة التي أحاطت فيها جنبات الجبل المهيبة برأس الشاعر كأنها تدور كطاحونة هوائية أرجوانية اللون، حدث شيءٌ كان أكثرَ ترويعًا على ما يبدو؛ فسرعان ما وقف المصرفي العجوز والمُتثاقل في الحافلة ثم قفز على الجُرف قبل أن تحملَه العربةُ المائلة إلى هناك. للوهلة الأولى بدا الأمر غريبًا وكأنه أراد الانتحار، ولكن فُهم بعد ذلك أن ما فعله كان منطقيًّا وآمنًا. كان من الواضح أن الرجل اليوركشايري أكثرُ سرعة وحكمة، على عكس ما كان يظنُّ موسكاري؛ إذ نزل في حُفرةٍ كانت مليئةً بالكلأ وكأنها أُعدَّت لاستقباله. في الواقع، كان الحظُّ حليفَ المجموعة بأكملها على الرغم من افتقادهم شيئًا من هيبتهم عندما أُلقيَ بهم خارج الحافلة بعنف. فأسفل هذا الانعطاف المفاجئ للطريق مباشرةً، كانت هناك حفرةٌ مليئة بالأعشاب والزهور مثل مَرْج في أرض منخفضة؛ كانت أشبهَ بجيب أخضر مُخْمليٍّ في ذلك الثوب الأخضر الطويل الذي اكتستْ به التلال. أُلقي بهم جميعًا في تلك الحفرة دون أن يُصيبَهم كثيرُ أذًى باستثناء أن حقائبهم الأصغرَ حجمًا بل وحتى محتويات جيوبهم قد بُعثِرت على العشب من حولهم. كانت الحافلةُ المحطَّمة لا تزال عالقةً؛ إذ كانت قد اشتبكت في السياج الشجري، وسقط الفَرَسان على نحوٍ مؤلمٍ على المنحدر. كان أولَ من نهض القَسُّ القصير، الذي خُدش رأسه، وقد علا وجهَه ذهولٌ ممزوج ببلاهة. سمعه فرانك هاروجيت يقول لنفسه: «لماذا بحقِّ السماء وقعْنا هنا بالتحديد؟»

ألقى نظرةً سريعة على الأشياء المبعثرة من حوله، والتقط مظلَّتَه الشديدة الرداءة. وراءها كانت القبعة المكسيكية الواسعة الحواف التي كانت قد سقطت من رأس موسكاري، وبجانبها كان خطاب عمل مغلق؛ أعاده — بعد نظرة خاطفة على العنوان — إلى هاروجيت الكبير. على الجانب الآخر منه كان العشب يُخفي جزئيًّا مظلةَ الآنسة إيثيل، ووراءها مباشرةً كانت هناك قارورةٌ زجاجية صغيرة غريبة الشكل لا يزيد طولُها على بوصتَين. التقطها القَسُّ؛ وبسرعة ودون أن يلاحظَه أحدٌ نزَع سدادتَها واستنشق ما فيها، وتحوَّل وجهُه البدين إلى لون الصلصال.

قال متمتمًا: «أسألك النجاة يا إلهي! لا يمكن أن تكون لها! هل حلَّ أوانُ حزنها الآن؟» وضعها خلسةً في جيب صدريته، وقال: «أعتقد أن لديَّ مبرراتي، إلى أن أعلم المزيد.»

نظر متألمًا إلى الفتاة في تلك اللحظة التي كان موسكاري يحملها فيها بين الزهور، وهو يقول: «لقد سقطنا في الجنة؛ إنها علامة. يصعد البشر الفانون ويسقطون؛ ولكن الآلهة والإلهات فقط هم مَن يمكنهم السقوط صعودًا.»

ظهر وجهُها من بين تلك الألوان التي لا تُحصَى عددًا، كانت فائقةَ الجمال والسعادة، فلما رآها القَسُّ شعر بتردُّدٍ وتحوُّلٍ في شكوكه، وفكَّر قائلًا لنفسه: «على كلِّ حال، قد لا يكون السُّمُّ لها؛ ربما يكون إحدى حِيَل موسكاري الميلودرامية.»

ساعد موسكاري الفتاة بلُطفٍ لتقف على قدميها، وانحنى لها انحناءةَ مسرحية سخيفة، ثم استلَّ سيفَه وقطع بقوةٍ لجامَي الفرسَين المشدودين؛ ومن ثم استطاعَا بصعوبة أن يقفَا من جديد على أقدامهما ووقفَا ينتفضان على العشب. عندما فرغ من ذلك، حدث شيءٌ شديد الغرابة؛ خرج رجلٌ شديدُ الهدوء، يرتدي ملابسَ رثَّةً للغاية وتظهر عليه بشدة آثارُ حروق الشمس، من بين الشجيرات وأمسك بزمام رأسَي الفرسَين. كان معه سكينٌ غريب الشكل، عريضٌ للغاية وملتوٍ ومثبَّتٌ على حزامه؛ لم يكن شيءٌ آخر يميِّزه باستثناء ظهوره المفاجئ والصامت. سأله الشاعرُ مَن يكون، فلم يُجبْه.

وبالنظر حوله إلى المجموعة المشوشة والمذهولة في الحفرة، لاحظ موسكاري أن رجلًا آخر رثَّ الثياب، أسمرَ اللون من سفعات الشمس ويحمل مُسدَّسًا صغيرًا تحت ذراعه؛ كان ينظر إليهم من الحَيْد الجبلي الذي يقع أدناهم مباشرةً. رفع مُوسكاري بصرَه بعد ذلك لينظرَ إلى الطريق الذي سقطوا منه ورأى، وهو ينظر إلى أسفل، فوَّهات أربع بنادق أخرى وأربعة وجوه سمراء أخرى ذات عيون لامعة ولكنها ساكنة.

صرخ موسكاري بابتهاج مُفزع: «قُطاع الطرق! كان هذا فخًّا. هلَّا صنعتَ بي معروفًا يا إيتزا وأطلقت الرصاص على سائق الحافلة أولًا فلا يزال لدينا فرصة للفرار من هؤلاء. إنهم ستة فقط.»

قال إيتزا الذي كان واقفًا في حالة من التجهُّم واضعًا يدَيه في جيبيه: «لقد اتضح أن السائق هو خادمٌ للسيد هاروجيت.»

صاح الشاعر بنفاد صبرٍ: «إذن فلتُطلقِ النارَ عليه بالأحرى؛ فقد قُدِّمت له رشوة ليُسبِّبَ متاعبَ لسيده. سوف نضع إيثيل في المنتصف، وسنشقُّ الصفَّ هناك على نحوٍ مفاجئ وبقوة.»

مجتازًا العشبَ البريَّ والزهور، تقدَّم بلا خوف إلى حاملي البنادق الأربعة؛ لكن عندما اكتشف أن لا أحد يتبعه إلا هاروجيت الشابُّ، استدار ملوِّحًا بسيفه ليتبعَه الباقون. ورأى إيتزا لا يزال واقفًا منفرجَ الساقين وسط الحلقة العشبية واضعًا يدَيه في جيبَيه؛ وبدا وجهُه الإيطالي النحيل والساخر يستطيل أكثرَ وأكثر في ضوء الغروب.

قال: «ظننتَ يا موسكاري أنني كنتُ الفاشلَ بين زملائنا في المدرسة، وطننتَ أنك كنتَ الناجح، لكني نجحتُ أكثر منك وشغلتُ مكانًا أكبر في التاريخ. لقد كنت أمثِّل الملاحم بينما كنتَ تكتبها.»

صاح موسكاري بقوة من الأعلى: «حسنًا، فلتسمع! هل ستقف عندك تهذي بكلام فارغ عن نفسك ولدَيك امرأةٌ تُنقذها وثلاثة رجال أقوياء لمساعدتك؟ ماذا تُسمي نفسك؟»

صاح إيتزا الغريب بعلوِّ الصوت نفسه: «أُسمِّي نفسي مونتانو. أنا ملك اللصوص، وأرحِّب بكم جميعًا في قصري الصيفي.»

في أثناء حديثه، خرج من الأدغال خمسةُ رجال آخرون صامتين يحملون الأسلحة، ونظروا إليه منتظرين أوامرَه. كان أحدهم يحمل ورقة كبيرة في يده.

استكمل إيتزا قاطع الطرق كلامه بابتسامته الرائقة والمُقلقة في الآن نفسه: «هذا الوكر الصغير الجميل حيث نتنزه جميعًا، إلى جانب بعض الكهوف أسفله، يُعرَف باسم جنة اللصوص. هذا معقلي الرئيسي على هذه التلال؛ إنه وكرٌ بعيدٌ عن الأنظار لا يراه مَن هم على الطريق في الأعلى ومَن هم في الوادي بالأسفل. وكْري هذا أفضلُ من الحِصن؛ فهو مُختفٍ عن الأنظار. في هذا المكان أقضي معظمَ حياتي، وسأموت بالتأكيد هنا إذا حدث وتعقَّبني رجالُ الشرطة. أنا لستُ من هؤلاء المجرمين الذين يستسلمون، ولكني أنتمي إلى ذلك النوع الأفضل الذي يحتفظ بآخر رصاصة ليقتلَ بها نفسَه قبل وقوعه أسيرًا.»

كان الجميع يُحدِّقون به مصعوقين دون حَراك، باستثناء الأب براون، الذي تنفَّس الصعداء بارتياح وتحسَّس بأصابعه القارورةَ الصغيرة التي يحملها في جيبه. تمتم قائلًا: «حمدًا لله! هذا احتمال أكبر بكثير. كبير اللصوص هذا هو صاحب السُّمِّ بالتأكيد. وقد حمله حتى يستحيلَ القبضُ عليه، مثل كاتو.»

مع ذلك استكمل ملكُ اللصوص حديثَه بأسلوب مهذَّب يُشعر في الوقت نفسه بالخطر: «لم يتبقَّ لديَّ سوى أن أُبيِّنَ لضيوفي الظروفَ الاجتماعية التي أسعدتني باستضافتهم. ولستُ بحاجة إلى شرح طقوس الفدية القديمة العجيبة، التي يتعين عليَّ مواكبتُها؛ وحتى هذا لا ينطبق إلا على جزء من المجموعة. فسأُطلق سراحَ الأب براون الموقَّر والسيد موسكاري الشهير غدًا عند الفجر وأرافقهما حتى أصلَ بهما إلى مواقعي الأمامية؛ فالشعراء والقساوسة، واعذروني إن تكلَّمتُ على سجيَّتي، لا يملكون أيَّ أموال على الإطلاق. وعليه (بما أنه من المستحيل الحصولُ على أي شيء منهما) فلنغتنمِ الفرصة لإظهار إعجابنا بالأدب الكلاسيكي وتوقيرنا للكنيسة المقدسة.»

صمت بابتسامة لا تبعثُ على الارتياح؛ وراح الأب براون يختلس النظرة تلوَ الأخرى إليه، وبدا فجأةً أنه كان يُصغي باهتمام كبير. أخذ كبير قُطَّاع الطرق الورقةَ الكبيرة من أحد رجاله، ونظر فيها نظرةً سريعة، ثم تابع حديثَه قائلًا: «نواياي الأخرى منصوصٌ عليها بوضوح في هذه الوثيقة العامة، التي سأُمرِّرها عليكم في غضون لحظات؛ وبعد ذلك سأُعلِّقها على شجرة في كل قرية في الوادي، وعند كلِّ مُفترقِ طرقٍ بين التلال. لن أُرهقَكم بتلاوتي لما جاء فيها على أسماعكم، فستقرءونها بأنفسكم؛ ولكن إليكم فحوى إعلاني: أُعلن أولًا أنني قد أسرتُ المليونير الإنجليزي، السيد صمويل هاروجيت، أحدَ كبار المصرفيين. وأُعلن ثانيًا أنني وجدتُ بحوزته عملاتٍ ورقيةً وسندات تُعادل ألفَي جنيه قد تنازل عنها لي. ولكن بما أنه سيكون من المنافي حقًّا للأخلاق أن أُعلنَ عن مثل هذا الأمر للجمهور الساذج إذا لم يكن قد حدث بالفعل، فإنني أقترح أن يحدث هذا دون مزيدٍ من التأخير. أقترح أن يعطيَني السيد هاروجيت الأب الآن الألفَي الجنيه التي في جيبه.»

نظر إليه المصرفيُّ بوجهٍ أحمرَ عابسٍ خافضًا حاجبَيه، لكنه كان مُستسلمًا على ما يبدو. كان قد استنفد، على ما يبدو، آخرَ ما تبقَّى لديه من قوة عند قفزه من العربة أثناء سقوطها، وقد وقف ذليلًا صامتًا عندما تحرَّك ابنُه وموسكاري بجرأة للهروب من فخِّ قُطاع الطرق. على مضضٍ، دسَّ يدَه الحمراء المرتعشة داخل جيب معطفه، وأعطى رزمةً من الأوراق والمظاريف إلى قاطع الطرق.

صاح الخارج على القانون مبتهجًا: «ممتاز! حتى الآن نحن متفاهمون. أستأنفُ بنود إعلاني، الذي سيُنشَر في إيطاليا كلِّها في القريب العاجل. البند الثالث عن الفدية. أطلب من أصدقاء عائلة هاروجيت فديةً قدرُها ثلاثةُ آلاف جنيه، رغم أنني على يقينٍ من أن هذه الفديةَ لا تليق مُطلقًا بمكانة تلك العائلة؛ فمَن ذا الذي لا يدفع ثلاثةَ أمثال هذا المبلغ لقضاء يوم آخر مع عائلةٍ كهذه؟ لن أُخفيَ عنكم أن الوثيقة تنتهي بعبارات قانونية محددة حول الأمور غير السارة التي قد تحدثُ إذا لم يُدفَع المبلغ؛ ولكن في هذه الأثناء، سيداتي وسادتي، اسمحوا لي أن أؤكدَ لكم أنني ميسورُ الحال هنا في إقامتي حيث النبيذ والسيجار. الآن وبروح رياضية أُرحِّب بكم وأدعوكم إلى الاستمتاع بوسائل الرفاهية في جنة اللصوص.»

طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه، كان الرجال المشبوهون ببنادقهم القصيرة وقبعاتهم المتسخة يحتشدون صامتين بأعداد كبيرة حتى إن موسكاري نفسه أيقن أنه لا جدوى من أيِّ مقاومة قد يُبديها بسيفه. نظر حوله، لكن الفتاة كانت قد ذهبت لتهدئة والدها والتخفيف عنه؛ لأن عاطفتها الفطرية تجاه شخصه كانت على الدرجة نفسها من قوة فخرها المختال بنجاحه أو ربما أقوى منه. وكحالِ العاشقين دومًا من اللامنطق، حظيَ إخلاصُ الفتاة لأبيها بإعجاب موسكاري وفي الوقت نفسه أثار غضبَه. وضع سيفه مرة أخرى في غِمده وذهب عابسًا ليستلقيَ قليلًا على بقعة خضراء. جلس القَسُّ على بُعد ياردة أو ياردتين منه، واستدار موسكاري بأنفه المعقوف إليه وهو غاضب.

قال الشاعر بطريقة لاذعة: «عجبًا! هل ما زال الناس يعتقدون أنني رومانسيٌّ أكثر من اللازم؟ أتساءل هل ما زال هناك المزيد من قُطاع الطرق في الجبال؟»

قال الأب براون مُتشكِّكًا: «قد يكون.»

سأل الآخر بحدَّة: «ماذا تقصد؟»

ردَّ القَسُّ: «أعني أنني متحيرٌ؛ متحيرٌ في شأن إيتزا أو مونتانو، أو أيًّا كان اسمه. كنتُ أرى أنه من غير المنطقي أن يكون مرافقًا سياحيًّا، والآن أصبح كونُه قاطعَ طريق أبعدَ ما يكون عن المنطق.»

قال صاحبُه بإلحاحٍ: «ولكن كيف ذلك؟ يا إلهي! كان يجب أن أرى أن قاطعَ الطريق عادي تمامًا.»

قال القَسُّ بصوت خفيض: «وجدتُ ثلاثَ صعوبات مثيرة للفضول، وأريد أن آخذَ رأيك فيها. أولًا، يجب أن أقول لك إنني كنتُ أتناول الغداء في ذلك المطعم المُطلِّ على البحر. عندما غادر أربعةٌ منكم المكان، مضيتَ أنت والسيدة هاروجيت تتحدثان وتضحكان؛ لحِق بكما المصرفيُّ والمُرافق السياحي، وكانَا يتحدثان بحيطة وبصوت منخفض بعضَ الشيء. ولكني سمعتُ من غير قصدٍ مني إيتزا وهو يقول هذه الكلمات: «حسنًا، لنجعلها تحظى ببعض المرح؛ تعلم أن الصدمة قد تباغتها في أي لحظة.» لم يُجِب السيد هاروجيت بشيء؛ لذا لا بد من أن لهذه الكلمات معنًى. بعدها مباشرةً أسرعتُ لأحذِّر شقيقها من أنها قد تكون في خطر، لم أقل شيئًا عن طبيعة ذلك الخطر لأنني لم أكن أعلم ماذا هنالك. ولكن إذا كان ذلك يعني الخطفَ في التلال، فهذا هُراء. ما الذي يحمل المرافق السياحي أو قاطع الطرق أن يُحذِّر زَبونه، حتى ولو بإيماءة، إذا كان كلُّ هدفه هو أن يستدرجه إلى فخٍّ في الجبال؟ لا يمكن أن يكون هذا هو المقصدَ من كلامه. ولكن إن لم يكن الأمر كذلك، فما هذه الكارثة، التي يعرفها كلٌّ من المرافق السياحي والمصرفي، التي ستحلُّ بالآنسة هاروجيت؟»

صاح الشاعر متفاجئًا وقد انتفض جالسًا في غضب: «كارثة للآنسة هاروجيت! أوضحْ ما تقول؛ هيَّا.»

استأنف القَسُّ حديثه وهو يفكِّر قائلًا: «لكن كل ألغازي تدور حول زعيم قُطاع الطرق، وإليك اللغز الثاني. لماذا أعلن بوضوح في طلبه للفدية معلومةَ أنه أخذ ألفَي جنيه من ضحيته في الحال؟ فليس في ذلك أدنى إشارة إلى الرغبة في المطالبة بفدية. بل العكس تمامًا في الواقع؛ إذ سيصبح أصدقاءُ هاروجيت على الأرجح أشدَّ خوفًا على مصيره إذا اعتقدوا أن اللصوص كانوا فقراء ويائسين. ولكنه أصرَّ على السرقة في الحال، بل وجعلها أولَ مطالبه. فلماذا يريد إيتزا مونتانو إلى هذا الحد أن يُخبر أوروبا كلَّها بأنه نشل جيب الرجل قبل أن يجمعَ حصيلة ابتزازه؟»

قال موسكاري وهو يفركُ شعره الأسود كإشارة إلى عدم اهتمامه: «لا يمكنني أن أتخيَّل. قد تعتقد أنك تُبصِّرني بالأمور، لكنك تغوص بي أكثرَ في الظلام. ما عساه أن يكون اعتراضك الثالث على ملك اللصوص؟» قال الأب براون وهو لا يزال متأملًا: «الاعتراض الثالث هو هذه البقعة الخضراء التي نحن جالسون عليها. لماذا يُطلق المرافق السياحي أو قاطع الطرق عليها حصنَه الرئيسي وجنة اللصوص؟ بالتأكيد هذه البقعة جذَّابة المنظر رائعة الجمال. وأنا أتفق معه تمامًا أنه لا يمكن رؤيتُها من الوادي وقمم المرتفعات، ومن ثَم فهي مكان مثالي للاختباء. ولكنها ليست حصنًا، ولا يمكنها أن تكون حصنًا أبدًا. أظنُّ أنها ستكون أسوءَ حصن في العالم؛ حيث يطلُّ عليها من أعلى الطريقُ السريع عبر الجبال وهو مكان من المحتمل جدًّا أن تمرَّ به الشرطة. لماذا احتجزنا خمسةُ رجال ببنادقَ بالية هنا لما يقرب من نصف ساعة الآن من غير حولٍ منهم ولا قوة. إن رُبع عصبة من الجنود أيًّا كان نوعهم كان بمقدورهم أن يُلقوا بنا من فوق المنحدر. بغضِّ النظر عن معنى هذا المكان المنعزل الصغير الغريب بين العشب والزهور، فهو ليس بالموقع الحصين. لا بد أن لهذا المكان أهمية لا أفهمها أو قيمة لا أُدركها. إنه أشبه بمسرحٍ مؤقتٍ في الطبيعة أو استراحة للممثلين وسط أجواء طبيعية؛ إنه مثلُ مشهد في كوميديا رومانسية، أراه يُشبه …»

مع طول كلمات القَسِّ وفقدانها لترابطها في صدْق مملٍّ وحالم، سمع موسكاري، الذي كانت حواسُّه منتبهةً ونافدة الصبر، ضوضاءَ جديدة في الجبال. حتى بالنسبة إليه، كان الصوت خفيضًا جدًّا وخافتًا؛ ومع ذلك كان بإمكانه أن يُقسِم أن نسيمَ المساء حمل معه صوتَ حوافرِ خيلٍ وصياحًا آتيًا من بعيد.

في اللحظة نفسها، وقبل وقت طويل من وصول ذبذبات الصوت لأذُنَي الرجل الإنجليزي الأقلِّ خبرة، ركض قاطعُ الطرق مونتانو على التلة الواقعة أعلى رأسَيهما ووقف عند السياج المكسور، واستند إلى شجرة وأخذ يُحدِّق في الطريق بالأسفل. كان شكله غريبًا وهو يقف هناك؛ فقد كان يرتدي قبعة رائعة تُغطِّي أذُنَيه وحمَّالة كتفٍ متأرجحة حاملًا سيفًا قصيرًا بصفته ملك قُطاع الطرق، لكن أجزاءً من الزيِّ الصوفيِّ الخشن الذي كان يرتديه المرافقُ السياحي ظلت ظاهرة.

في اللحظة التالية أدار وجهَه الساخرَ الزيتيَّ اللون، وأشار بيده. انتشر قُطاع الطرق على أثر إشارته هذه، في نظام واضح كحروب العصابات ودونما أدنى ارتباك. وبدلًا من إشغال الطريق على طول الحَيْد الجبلي، انتشروا على جانبَيه خلف الأشجار والسياج، كما لو كانوا يُراقبون عدوًّا غير مرئي. عَلَت الضوضاءُ بعد ذلك، وبدأت تُدوِّي في جنبات الطريق الجبلي، وكان ثمة صوتٌ مسموع بوضوح يُصدِر الأوامر. احتشد قُطاع الطرق وأخذوا يسبُّون ويتهامسون. ضجَّت أجواءُ المساء بضوضاء مختلطة مع تجهيز مسدساتهم واستلال سكاكينهم وإشهار سيوفهم. ثم بدا أن الضوضاء من كلَا الطرفين تلتقي على الطريق بالأعلى؛ تكسَّرت فروعُ الأشجار، وصهلت الخيول، وصاح الرجال.

صاح موسكاري قافزًا وملوِّحًا بقبعته: «الشرطة جاءت لتُنقذَنا! إنها تُهاجمهم الآن! فلنقاتلْ من أجل الحرية! فلنتمردْ ضد اللصوص! هيَّا، لا تدعونا نترك الأمرَ كلَّه للشرطة. لننتصرْ من هؤلاء الهمج! لقد جاء رجال الشرطة لينقذونَا؛ هيَّا يا أصدقاء لنُساعد رجال الشرطة!»

ورمى قبَّعتَه على الأشجار، واستلَّ سيفه مرة أخرى وبدأ في تسلُّق المنحدر إلى الطريق بالأعلى. قفز فرانك هاروجيت وركض لمساعدته ومعه مسدسٌ في يده، لكنه اندهش لسماع صوت أبيه الأجشِّ ينادي عليه، الذي بدا في حالة غضب عارمة.

قال المصرفيُّ بصوت خانق: «لن أسمحَ بذلك؛ أوصيك بعدم التدخل.»

قال فرانك بحرارة: «ولكن يا أبي، لقد سبقنَا رجلٌ إيطاليٌّ؛ بالتأكيد لا ترغبُ في أن يُقال إن الإنجليز تخلَّفوا عن المعركة.»

قال الرجل الكبير، الذي كان يرتجف بشدة: «لا فائدة من ذلك، لا فائدة. علينا أن نستسلمَ لقدرنا.»

نظر الأب براون إلى المصرفي؛ ثم بدا كما لو كان يضع يدَه بتلقائية على قلبه، ولكنه في الحقيقة كان يضعها على زجاجة السُّمِّ الصغيرة؛ وظهر على وجهه نورٌ عظيم كنور تجليات الموت.

في أثناء ذلك ودون انتظار الدعم، صعد موسكاري التلةَ إلى أن وصل إلى الطريق بالأعلى وضرب ملكَ قُطاع الطرق بقوة على كتفه، ما جعله يترنَّحُ ويلتفُّ بجسده. استلَّ مونتانو أيضًا سيفَه. سدَّد موسكاري، دون أن ينطقَ بكلمة، ضربةً إلى رأسه، فاضطرَّ لصدِّها وتفاديها. ولكن حتى عندما التقى النصلان القصيران واصطدمَا، أنزل ملكُ اللصوص سيفَه عن عمد وضحك.

قال بلغة إيطالية دارجة حماسية: «ما الفائدة أيها الرجلُ العجوز؟ هذه المهزلة اللعينة ستنتهي قريبًا.»

قال الشاعر المحتدم لاهثًا: «ماذا تعني أيها الجبان؟ هل شجاعتك زائفة كزَيف أمانتك؟»

ردَّ المرافق السياحي السابق قائلًا بروح دعابة شديدة: «كلُّ شيء عني مجردُ خدعة. أنا ممثل؛ وإذا كانت لي شخصيتي الخاصة في يوم من الأيام، فقد نسيتُها. فأنا في الحقيقة لستُ قاطعَ طريق مثلما أنني لستُ مرافقًا سياحيًّا. ما أنا إلا مجموعة من الأقنعة، ولا يمكنك خوضُ مبارزة مع ذلك.» ضحك في سعادة صِبيانية وعاد إلى وِقفته القديمة مباعدًا بين ساقيه، ومُعطيًا ظهرَه إلى المناوشة الدائرة على الطريق.

كان الظلام يزداد عتمةً تحت نواحي الجبال، ولم يكن من السهل كثيرًا تمييزُ الكيفية التي يسير بها الصراع، باستثناء أن الرجال الطوال القامة كانوا يقتحمون بخيولهم حشدًا متلاحمًا من قُطاع الطرق، الذين كانوا يميلون على ما يبدو إلى التحرش بالغزاة ومناوشتهم أكثر من مَيلهم إلى قتلهم. كان الأمر أشبهَ بحشد من الناس يمنعون مرور الشرطة. لم يكن الشاعر يتخيَّل قطُّ أن تكون المواجهة الأخيرة بين الشرطة وهؤلاء الجانحين الخارجين عن القانون على هذا النحو. وبينما وقف مشدوهًا يُحدِّق بعينَيه في حيرة، شعر بلمسة على كوعه، والتفتَ ليجد القَسَّ القصير الغريب بقبعته الكبيرة واقفًا بجانبه ويستأذنه في أن يتحدث معه قليلًا.

قال القَسُّ: «يا سيد موسكاري، في هذه الأزمة الغريبة قد تكون للشخصيات أعذارُها. اسمحْ لي أن أُخبرَك — دون أن تعتبر كلامي إهانة — بطريقة يمكنك بها فعلُ ما هو أفضل من مساعدة الشرطة، الذين لا بد من أنهم سيهجمون على أي حال. اسمح لي بالتطرُّق إلى موضوع شخصي؛ هل تهتمُّ لأمر تلك الفتاة؟ أعني هل تهتمُّ لأمرها للدرجة التي تجعلُك تتزوجها وتكون لها زوجًا صالحًا؟»

قال الشاعر ببساطة شديدة: «نعم.»

«وهل تهتمُّ هي لأمرك؟»

جاء ردُّه على الدرجة نفسها من البساطة: «أعتقدُ ذلك.»

قال القَسُّ: «إذن فلتذهبْ إلى هناك وتتقدَّمْ لخطبتها؛ وقدِّمْ لها كلَّ شيء يمكنك تقديمُه، قدِّم لها السماء والأرض إذا كنتَ تملكهما. فالوقت قصير.»

سأل الشاعر المندهش: «لماذا؟»

قال الأب براون: «لأن قدرَها قادمٌ في الطريق.»

جادله موسكاري قائلًا: «لا شيءَ قادمٌ في الطريق سوى النجدة.»

قال ناصحه: «حسنًا، فلتذهبْ إلى هناك وتستعدَّ لإنقاذها من النجدة.»

في الوقت نفسه الذي كان يتحدث فيه تقريبًا كانت الأسوِجة تتحطم على طول التلة بفعل تدافُع قُطاع الطرق الهاربين. غاصوا وسط الشجيرات والعشب الكثيف كرجال مهزومين فرُّوا من مُلاحقة، وشوهدت القبعات الشُّرطية الكبيرة على رءوس رجال الشرطة الذين كانوا يمتطون الخيول التي كانت تركض على الطريق الذي يعلو السِّياج المكسور. صدر أمرٌ آخر؛ وسُمع ضجيجُ نزولِهم عن صهوة خيولهم. وعند الممرِّ الذي كان بمثابة بوابة جنة اللصوص، ظهر ضابطٌ طويل ذو شارب رمادي مرفوع الطرفين، وعلى رأسه قبعة شرطية وفي يده ورقة. كان ثمة صمتٌ مؤقت، قطعه المصرفيُّ بطريقة مفاجئة؛ حيث صرخ بصوت أجشَّ ومختنقٍ قائلًا: «سُرِقت! لقد سُرِقت!»

صاح ابنُه في ذهول قائلًا: «عجبًا! كان ذلك منذ ساعات مضتْ، عندما سُرق منك ألفَا جنيه.»

قال المصرفيُّ برباطة جأش مفاجئة ومُقلقة: «لستُ أتحدث عن ألفَي الجنيه، بل فقط عن قارورة صغيرة.»

أخذ رجل الشرطة ذو الشارب الرمادي المرفوع الطرفين يسير حول الحفرة الخضراء. ثم اقترب من ملك اللصوص، وطرق بكفِّه على كتفه بشيء بين التربيت والضرب ثم دفعه دفعةً جعلته يترنَّح. قال: «ستتورط في مشكلة، أيضًا، إذا مارستَ هذه الخدع ثانيةً.»

بدا المشهدُ مرة أخرى من وجهة نظر موسكاري الفنية أبعد ما يكون عن القبض على مجرم كبير لم يَعُد أمامه وسيلة للهرب. أثناء مروره، توقَّف الشرطي أمام أفراد عائلة هاروجيت وقال: «صمويل هاروجيت، بموجب القانون، أُلقي القبض عليك بتهمة اختلاس أموال بنك هال آند هيدرسفيلد.»

أومأ المصرفيُّ الكبيرُ برأسه موافقًا على نحوٍ غريب يُذكِّر بموافقات العمل، وبدا وكأنه يفكر للحظة؛ وقبل أن يتمكنوا من التدخل، كان قد التفَّ بجسده فجأةً وأخذ خطوةً جعلته يصل إلى الحافة على الناحية الخارجية للجبل. رفع ذراعَيه لأعلى في استسلام ويأسٍ ثم قفز تمامًا مثلما قفز من الحافلة، لكنه هذه المرة لم يسقط في مَرْج صغير تحته مباشرةً، بل سقط لمسافة ألف قدم، ليُصبح حطامَ عظامٍ في الوادي.

كان غضبُ الشرطي الإيطالي، الذي عبَّر عنه بفصاحة للأب براون، ممزوجًا إلى حدٍّ كبير بالإعجاب؛ حيث قال: «كان من المتوقع أن يهرب منَّا في النهاية. كان من كبار قُطَّاع الطرق إذا أردتَ القول. أعتقدُ أن حيلته الأخيرة هذه لم يسبق لها مثيلٌ على الإطلاق. هرب بأموال الشركة إلى إيطاليا، ودفع لقُطَّاع الطرق المخادعين أجرًا ليخطفوه، وذلك من أجل أن يُعطيَ تفسيرًا لكلٍّ من اختفاء الأموال واختفائه هو شخصيًّا. وقد أخذ معظمُ رجال الشرطة مطلبَ الفدية على محمل الجدِّ بحقٍّ، لكنه لسنواتٍ كان يفعل أشياءَ جيدة كهذه، جيدة جدًّا كهذه. سيغدو خسارةً فادحة لعائلته.»

رافق موسكاري الابنةَ المكلومة بعيدًا عن المشهد، وقد تعلَّقت به بشدة، مثلما فعلت لسنوات كثيرة تَلتْ. ولكن حتى في ذاك الموقف المأساوي وبرغم تلك الصداقة الهزلية بعضَ الشيء التي جمعت بينه وبين إيتزا مونتانو الذي لا يمكن أن يُلتمَس له عُذرٌ فيما فعل، لم يسعْ موسكاري سوى أن يبتسمَ له ويُصافحَه. وسأله في توجُّسٍ وريبة: «وإلى أين ستذهب بعد ذلك؟»

أجاب الممثل وهو ينفث دخان سيجارته: «برمنجهام. ألم أقل لك إنني من أصحاب التفكير المستقبلي؟ فإنْ كنتُ أومِنُ بشيء، فأنا أومِنُ حقًّا بهذه الأشياء: التغيير والصخب والأشياء الجديدة كلَّ صباح. سأذهب إلى مانشستر وليفربول وليدز وهال وهيدرسفيلد وجلاسكو وشيكاجو؛ باختصار، إلى مجتمع مستنير ومفعم بالطاقة ومتحضر!»

قال موسكاري: «باختصار، ستذهب إلى جنة اللصوص الحقيقية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤