مدخل

«ضرب الكليم»

بقلم  عبد الوهاب عزام

ديوان يشتمل على آراء ونظرات في الناس؛ جماعاتٍ ووحدانًا، وفي الدين، والتربية، والفنون، والأدب، والسياسة، فهو أدخل في الفكر والفلسفة ولكن فيه من العاطفة والخيال ما يدخله في الشعر.

وكل حقيقة في هذا الكون أهل أن تدخل في الشعر، إن صبغتها عاطفة الإنسان، أو صوَّرها خياله، وموضوعات الشعر تتوالى من محيط دائرته إلى مركزها؛ بعضها عند المحيط يدخل في الشعر قليلًا، ويجاور ما هو خارج الدائرة، وبعضها أدخل في الدائرة، وهكذا تتوالى إلى مركز الدائرة، على قدر نصيب الموضوعات من العاطفة والخيال.

فالكلام في ضرب الكليم شعر يقارب الحقائق المجردة أحيانًا، ويمعن في الشعر أحيانًا، ولكنه في جملته أقرب إلى المحيط منه إلى المركز.

ومن أجل هذا لقيت في ترجمته عناءً أكثرَ مما لقيت في ترجمة بيام مشرق؛ إذ حرصت على ألا تذهب الترجمة بقَسَمات الشعر فيه، وألا ينصِل بها الخضاب الشعري القليل، وألا يذبل هذا الزهر الصغير بالانتقال من روضة إلى روضة، وألا تضيع الدقائق الشعرية بين لغتين مختلفتين وأسلوبين من البيان متباعدين.

والكتاب في جملته ضرب يفجر الماء من الحجر لا موسيقى وغناء كما قال إقبال:

كفاح شديد وضرب سديد
فلا تبغ في الحرب عزف الوتر

ومن أجل هذا سماه ضرب الكليم؛ رمزًا إلى قصة موسى حين ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا.

فلعل القارئ يقدر حقائقه في معرض من الشعر شفاف أكثر مما يلتمس فيه خيال الشعر وزينته وبهجته، ولعله كذلك يقدر عناء المنشئ والمترجم في عرض هذه الحقائق والإبانة عنها في أسلوب من الشعر الرصين.

(١) فصول الديوان

قسم الشاعر ديوان ضرب الكليم على ستة فصول، وقدم قبلها قطعتين وقصيدة: القطعة الأولى أبيات قدم بها الديوان إلى أمير بهوبال حميد الله خان، والثانية يخاطب فيها القراء، والقصيدة سماها تمهيدًا.

وهذه فصول الديوان:
  • (١)

    الإسلام والمسلمون (وهو أطول الفصول).

  • (٢)

    التعليم والتربية.

  • (٣)

    المرأة.

  • (٤)

    آداب الفنون الجميلة (وهو ثاني الفصول طولًا).

  • (٥)

    سياسيات المشرق والمغرب.

  • (٦)

    أفكار محراب جل الأفغاني.

وهذه الفصول مؤلفة من قطع صغيرة بين بيتين وعشرة لا تتجاوز العشرة إلا قليلًا.

والفصل الأخير منظومة واحدة مقسمة عشرين قسمًا تختلف أقسامها أوزانًا وقوافيَ، ولكن الشاعر جعلها منظومة واحدة وربط بين أقسامها بأعداد متوالية.

والقطع في الفصول كلها، إن عددنا أقسام الفصل الأخير، مائتان واثنتان.

وفي المقدمة أربع قطع.

(٢) فلسفة إقبال

لا بد من كلمة موجزة في فلسفة إقبال تعين القارئ على إدراك مرامي الشاعر.

أساس فلسفة إقبال ما سماه «خودي»: «الذات أو الذاتية».

وقد بين مذهبه هذا في كثير من شعره وخص به منظومة سماها أسرار خودي.

وخلاصة هذه الفلسفة، وما بني عليها، وما يتصل بها من آراء:
  • (أ)

    أن الذاتية جوهر الكون وأساس نظامه، وسر الحياة فيه.

  • (ب)

    وأن الذاتية هذه تحيا من تخليق المقاصد، وتوليد الآمال، كما يقول إقبال: «نحن أحياء بتخليق المقاصد ونحن منيرون من شعاع الأمل.»

  • (جـ)

    وأن الذات تقوى بعشق ما تؤمل، وسعيها إليه غير متوانية، وإقدامها عليه غير هيابة، واقتحامها كل عقبة في سبيله؛ كما قال: «وهي بالمحبة أقوى، وأحيا وأضوأ.»

  • (د)

    والجهاد الدائم، والكفاح المتصل تقوى به الحياة وتزداد وتنير. والإحجام، والتردد والسكون إلى الدعة والخضوع تضعف الحياة وتطفئها.

  • (هـ)

    وعلى الإنسان أن يستخرج كل ما في فطرته من مواهبَ، وأن يعتمد على نفسه، ويظهر ذاته في قوله وفعله، ويحذر التقليد والاعتماد على غيره، وطلب ما عند الناس والغفلة عما في نفسه من كنوز.

  • (و)

    بهذا كله تقوى الذات، وقوة الذات هي مقصد هذه الحياة، والشاعر معجب بالقوة في كل شيء؛ القوة الحسية، والقوة المعنوية، وهو بهذا يعجب بالفيلسوف الألماني نيتشه ويذكره كثيرًا ولكنه يأخذ عليه أنه عرف العقل لا القلب، والجسم لا الروح، والعلم لا العشق، ويقول عنه: لم يكن أهلًا لنكتة التوحيد، وإنه آمن عقله وكفر قلبه، وإنه بنى موثنًا على أسس مسجد.

    بل القوة عند إقبال من عناصر الجمال، فإن الجمال لا يكون بغير جلال.

    يقول في القطعة التي عنوانها «الجلال والجمال»:

    عندي جمال في بهاء أن تُرَى
    في سجدة للقوة الأفلاكُ
    ولنغمةٌ من دون نار نفخة
    ما الحسن إلا بالجلال يُحاكُ

    بل يقول في هذه القطعة: إنه لا يحب أن يعذب بنار غير قوية:

    لا أرتضي نار الجزاء ولم تكن
    وهاجة ولهيبها درَّاكُ
  • (ز)

    والحسن والقبح، أو الخير والشر من علو الذات وانحطاطها وقوتها وضعفها:

    عالَم الذات به علو وسفل
    وبه معرك قُبح وجمالِ
    في اعتلاء الذات ما يبدو جميل
    وقبيحٌ ما بدا في الاستفال
  • (ح)
    والذات المفردة القوية الناضجة تنسلك في الجماعة، ولا تفنى فيها، وقد بين إقبال في ديوانه أسرار خودي كيف يلتئم الواحد القوي في جماعته، وكيف يسعد بهذا الالتئام ويبقى ولا يفنى، ومن إشاراته في هذا:

    يا من في القافلة سِرْ رفيقًا وكن وحيدًا.

    ويقول في ضرب كليم في القطعة التي عنوانها «الرجل العظيم»:

    هو في المجمع خال
    ومن الحشد طليق
    مثل شمع الحفل، في الـ
    ـحفل وحيد ورفيق
  • (ط)
    والإنسان أعظم الكائنات، وكل شيء في العالم مسخَّر له كما في القرآن الكريم:
    • وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.
    • وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.
    • وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا.
  • (ي)

    والإنسان حر غير مجبر، ومخيَّر غير مسيَّر، عزمه دليل على القضاء أو مشير عليه، والمؤمن الحر هو مقياس الصلاح والفساد والبقاء والفناء في هذه الدنيا، بل في الدنيا والآخرة:

    فيه عزم على القضاء مُشير
    وهو في العالمَيْن كالميزان

    النبات والجماد في قهر الطبيعة ولكن المؤمن الحر لا يقيده إلا إطاعته أحكام ربه:

    إن النبات وإن الجامدات لها
    من القضاء قيود ذات إحكام
    والمؤمن الحر لا شيء يقيِّده
    لكنْ لخالقه في قَيد أحكام

    (ي-أ) الحضارة الحديثة: ويرى إقبال أن الحضارة الأوروبية مادية، لا روح لها ولا قلب، ويشتدُّ في نقدها، ويذكر فلاسفتها فيقبل من آرائهم قليلًا ويردُّ كثيرًا، ويرى أن في الإسلام وحضارته سعادة البشر والتأليف بينهم، وجمعهم على شرعة الحق إخوةً متحابِّين متعاونين.

    (ي-ب) فلسفته في هذا الديوان: تتجلى فلسفة إقبال، في الذات وما يتصل بها، ونظره إلى الحضارتين الإسلامية والأوروبية وسائر آرائه، في كل فصول هذا الديوان، حتى الأدب والفنون الجميلة.

    الشعر فيه من الحياة رسالة
    أبديَّة لا تقبل التبديلا
    إن كان من جبريل فيه نغمة
    أو كان فيه صُور إسرافيلا

    •••

    صمت طير الصبح أولى من غناء
    إن سرى في الرَّوض باللحن ذبول

    والغناء إن أدى إلى ضعف أو خَوَر فهو حرام:

    إن سرت في اللحون دعوة موت
    حرُم النايُ عندنا والربابُ

    والمصور ينبغي أن يصور الحياة وأن يطبع ذاته على الطبيعة لا أن يحاكيها:

    مقصد الفنِّ في الحياة لهيب
    أبديٌّ فما وَميضُ الشرار؟
    يا خبيرًا بفنه فيه تمت
    صنعةُ العصر والعصور الخوالي
    كم تَرى من طبيعة وتريها؛
    أرِنا الذات فوق هذي المجالي

(٣) تفسير اصطلاحات في الديوان

الفقر

يشيد إقبال بالفقر في مواضعَ كثيرةٍ من شعره في هذا الديوان وفي غيره، ويعدُّه مفتاح كل خير والوسيلة إلى كل سؤدد، والمقتحم كل عقبة.

ومن الأبيات التي ذكر فيها الفقر في هذا الديوان في القطعة: «على ذكر الإذن بحمل السيف»:

أيها المسلم تَدري اليوم ما
قيمة الفولاذ والعَضْبِ الذكَر
هو مِصراعٌ من البيت الذي
مضمرٌ فيه من التوحيد سر
وأرى مصراعَه الثانيَ في
سيف فقر تحتويه كفُّ حر

وقوله في القطعة «الفقر والملكية»:

الفقر يمضي بلا سلاح
في حومة الحرب كالرجوم

وقوله في قطعة «السلطان»:

تعلَّم فألف مقام وشأن
لفقر بدا فيه روح القُرآن

وقوله في قطعة «الإمامة»:

يُمِرُّ عليك من فقر مِسَنًّا
فيطبع منك سيفًا للمنايا

وقوله في القطعة «نكتة التوحيد»:

أيُّ ملك مقام فقر، ولكن
تؤثر الذل مذعنًا، ما احتيالي

وقوله في القطعة التي أولها «متاعك في الحياة فنون علم»:

وما إن ذل قوم قد أعدُّوا
حماس العشق والفقرِ الغيور

ويتبين من التأمل في هذه الأبيات أن الفقر في لغة إقبال ليس عدم المال أو قلته، ولا هو حاجة إلى ما يعيش به الإنسان ويعتز به من متاع الدنيا، فماذا يعني إقبال حين يذكر الفقر ويشيد به ويبالغ في إكباره؟ الذي أدركته من كلام الشاعر أن الفقر الذي يعنيه هو خلاص النفس من قيد التملك أو الطمع، ومضيها عاملة مقدمة لا يطغيها وجدان ولا يذلها حرمان، وربما يملك الفقير قناطيرَ من الذهب وربما يكون ملكًا مسلَّطًا لا يُعجز سلطانه مال أو متاع.

وليس هذا المعنى بعيدًا عما فسَّر به بعض الصوفية الفقر.

ففي رسالة القشيري: سئل يحيى بن معاذ عن الفقر، فقال: «حقيقته ألا يستغنى إلا بالله.»

وقال الشبلي: أدنى علامات الفقر أن لو كانت الدنيا بأسرها لأحد فأنفقها في يوم، ثم خطر له أن لو أمسك منها قوت يوم ما صَدَق في فقره.

وفي الرسالة أيضًا: وقيل: صحة الفقر ألا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره.

وفي كتاب عوارف المعارف للسهروردي: وقال الكتاني: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الغنى بالله تعالى؛ لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بالآخر.

فترى أن الفقر في هذا الكلام ليس عدم الملك وفوات المال؛ ولكن ألا يرتبط الإنسان بما أدرك أو بما فات، أعني: ألا تكون الدنيا في قلبه؛ وإن كانت في يده.

قلندر

يعني به إقبالُ الإنسانَ الذي لا يصل نفسه بمال ولا أهل ولا دار.

وهو في الأصل اسم رجل ذهب هذا المذهب وأحدث طريقة كان سالكوها يديمون السفر لا يلبثون في مكان، ولا يقيدهم ملك ولا أهل ولا وطن، ويحلقون رءوسهم ولحاهم.

وسمي سالك هذه الطريقة: قلندرًا؛ باسم صاحب الطريقة.

وقد رأيت أن أبقي اللفظ في الترجمة؛ لأنه علم في الأصل، وجعلته أحيانًا وصفًا وأحيانًا نسبت إليه فقلت: القلندر والقلندريّ.

الجنون

يكرر الشاعر ذكر الجنون في هذا الديوان؛ ففي القطعة التي أولها:

إلى عصبات العرب ما أنا منتمٍ
ولا أنا هندي ولا أنا أعجمي

يقول:

فلست أرى في بِيدِك اليوم جِنَّة
تَشبُّ بهذا العقل نار التقدم

وفي القطعة التي أولها:

متاعك في الحياة فنون علم

يقول:

ومزّقتُ الجيوبَ وأنت خال
جنوني — لا ألومك — في قُصور

وفي القطعة، «يا شيخ الحرم»:

في جنوني لك أسرار بدت
فاجْزني يا شيخُ عن هذا اللمم

وفي القطعة التي عنوانها «المدرسة»:

أبعَد الدرس عن حماك جنونًا
قال للعقل: لا تَلُذْ بنقاش

وفي القطعة «فلسفة»:

إن في حلقة المجانين عقلًا
في شرار يرى لهيبًا مُضِيّا

وظاهر أن إقبالًا يعني بهذا الجنون الحماسَ والإقدامَ وأداء الواجب دون تردد، وفي غير حساب للمشقة والربح والخسارة، فهو قريب من العشق الذي يذكر في مقابلة العقل.

وكأنه يقول: إن هذا الإقدام يَعُدُّه الناس جنونًا، ونحن نحب هذا الجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤