الفصل السادس والعشرون

وانتهزنا فرصة إجازة نصف السنة، فدبرنا رحلة إلى الشام في خمسة عشر يوماً والزمن شتاء والبرد قارس، فخرجنا من مصر في ديسمبر سنة ١٩٣٠ في رهط من الطلبة والأساتذة، وعهدت إلي الكلية الإشراف على الرحلة، فها نحن نرحل من القاهرة إلى القنطرة ونعبر القنال، ونخترق صحراء سيناء بالقطار ونمر على غزة ثم بعض المستعمرات الصهيونية؛ ونستمع إلى بعض الأحاديث عن منشآتهم في مستعمراتهم، فنشعر الخوف من المستقبل، حتى نصل إلى محطة «اللد» فنستقل قطارا آخر إلى بيت المقدس، وبين اللد والمقدس نستمتع بالمناظر الطبيعية من جبال ووديان نشأت — ولابد — من ثورات أرضية عنيفة فعلت أفاعيلها القاسية فرفعت بعضها إلى أعلى وسميناه جبلا، وخفضت جزءا آخر وسميناه وهدة أو واديا، وهي مناظر تملأ القلب روعة وهيبة، حتى نصل إلى المقدس فيستقبلنا بعض علمائه وأدبائه، وعلى رأسهم المرحوم إسعاف بك النشاشيبي، ويبالغ في إكرامنا، ونلتقي بالأستاذ السيد الحسيني مفتي فلسطين فيوحي إلي منظره بقوة إرادة وتصميم وعزم ونفس لا تهدأ حتى تتسلط. وأنتهز الفرصة فأجتمع برؤساء بعض الأحزاب في فلسطين، فأستمع إلى أحاديثهم وأعرف كيف يتنازعون على المصالح الشخصية لا على المبادئ العامة، فأرثي لحالهم وأتوقع من ذلك الشر لبلادهم — ونزور بيت لحم، ونرى كيف تتنازع الطوائف المسيحية المختلفة على الأمكنة وكيف يتقاسمونها شبراً فشبرا، فأعجب بسماحة الإسلام وعده الأرض كلها مصلى، والأرض كلها لله، ونذهب إلى قرية الخليل ونزور مسجده ونعجب ببنائه الضخم ونرى فيه مظهراً من مظاهر البناء الروماني وطابعاً من طوابعه.

ونزور المسجد الأقصى فنعجب بفنائه، وننتقل إلى الصخرة ونقف تحت القبة العظيمة، وننظر إلى الأبنية الجليلة التي بناها صلاح الدين.

ونرحل بعد ذلك إلى البحر الميت، ويقص علينا الدليل ما يحوي هذا البحر من ذخائر كيماوية سيستغلها العلم الحديث، وينتفع بها مستخرجوها، ونعود هنا أيضاً فنستشعر الخوف من الصهيونية المقبلة. ونسير إلى أريحا، ونهر الشريعة، ونرى الجسر الذي يفصل بين فلسطين وشرق الأردن، ثم نمر على نابلس ونصل بعدها إلى الناصرة بلد المسيح عليه السلام. ثم نصل إلى طبريا ونشعر بالدفء الذي يطرد ما حزناه من برد، ونعجب بما حولها من جبال عالية تتفجر منها مياه حارة أنشئت حولها حمامات. ثم نسير بعدها إلى دمشق، ونحن متطلعون إلى رؤيتها، نحمل ذكريات من أحداثها من عهد أن كانت مركز الخلافة الإسلامية في عهد معاوية والخلفاء الأمويين من بعده، ونتجول في أنحائها ونزور مصانعها ومساجدها ونخرج إلى ضواحيها ننعم بجمالها؛ ولكن كانت دمشق وسورية كلها إذ ذاك في حوزة الفرنسيين، وهم يخشون من طلبة الجامعة وأساتذتها لأنهم يعتقدون أنها بؤرة أفكار وطنية ثورية، فخشوا أن نلتقي بأمثالنا من الناقمين على الاستعمار، فأحاطونا بسياج لطيف الملمس في شكل إكرام، فكنا كلما سرنا احتاط بنا موظفو الحكومة يستقبلوننا ويطلعوننا على ما أحبوا لا على ما نحب، وهذا ظن ظننته، دل عليه ما رأيته.

ونزور المسجد الأموي بدمشق فنسحر بعظمته وجلاله، وسعته وجماله. وضريح شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي، وقبر صلاح الدين الأيوبي وأستاذه نور الدين محمود زنكي، ونقضي سهرة لطيفة في نادي الموسيقى بدمشق.

ثم نركب القطار إلى حلب، ونزورها ويستقبلنا رجال المعارف أيضاً فنتجول معهم في المدينة، وقد أعجبتنا نظافتها وجد أهلها، ونرى استحواذ الأرمن على أهم الصناعة فيها، ونزور الجامع الأموي فيها أيضاً كما نزور قلعتها العظيمة وتثور في نفوسنا ذكريات سيف الدولة في حلب ومجلسه الأدبي الفخم يصول فيه المتنبي ويجول.

ثم نقصد إلى زيارة أبي العلاء المعري في معرة النعمان، فنرى بناء متواضعاً يحتوي على فناء صغير وحجرتين، وفي إحدى الحجرتين قبر كتب عليه: أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري. فنقف على قبره طويلا نذكر لزومياته وسقط زنده، وزهده واحتقاره للدنيا ونعيمها، وجرأته التي ليس لها مثيل في نقده اللاذع للتقاليد والأوضاع.

ونمر بحماه ونخترقها ونسر بنواعيرها، ونصل إلى بيروت فنزور (كلية المقاصد) الإسلامية والجامعة الأمريكية ومدرسة الآباء اليسوعيين، ونعود على الباخرة إلى الإسكندرية.

كل هذا في خمسة عشر يوماً حتى لكأننا نرى هذه الأماكن من طيارة، أو نستعرض فيلما سينمائياً سريعاً.

لقد استفدت من هذه الرحلة رؤية هذه البلاد وأهلها، وعرفت طرًفا من حياتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية ومناظرها الطبيعية، ولكن عكر صفوها أني لم أستطع أثناءها الانفراد بنفسي، وأنا أكره اليوم الذي لا تتاح لي فيه فرصة الوحدة والعزلة، أحلم فيها وأتأمل.

والرحلة في نظري لا تكون لها قيمة حقة إلا إذا تفتح القلب لما يرى، وجال الخيال في ذلك جولته، ومزج الإنسان ما يرى بنفسه. ولم أتمكن في هذه الرحلة من ذلك كله، فاعتزمت في هذا المأزق أن أجتر كما يجتر الجمل ويخزن سريعاً ما يأكل، ثم يمضغه ويهضمه بعد ذلك على مهل. وكان مما أتعبني في هذه الرحلة كثرة ما أدعى إلى الأكل وكثرة ما يلقي من الخطب على الموائد، فلا يزال الشرقيون يتصورون الكرم أكلا وخطابة، وكلما كثر الأكل وكثرت الخطابة كان عنوان الكرم. وإني لأرجو أن يتحول هذا الكرم في المستقبل إلى اقتصاد في الموائد وتوسع في الإفادة بالمعاني؛ وبخاصة مع رجال العلم. وزاد العبء على أنني كنت الخطيب الوحيد غالباً، فكلما دعينا إلى مأدبة خطب صاحبها وطولبت بالرد عليه؛ لهذا ملئت هذه الرحلة بالرسميات، والرسميات عدو الرحلات ومضيعة لبهجتها؛ ومع هذا فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو من غير وعي. ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع حتماً على كل حال.

ولا بأس هنا أن أذكر رحلة أخرى رحلتها إلى بيت المقدس كانت عجيبة حًقا مربكة حًقا ذلك أني تلقيت يوما خطابا من جمعية الشبان المسيحية في القدس، تطلب مني محاضرتين في أي موضوع أختاره، وحددت لي موعداً بعد شهر تقريباً، فقبلت الدعوة واخترت موضوعاً هو: «ما الذي يعوق المسلمين اليوم عن المشاركة في بناء المدنية الحديثة؟» وعكفت على كتابة المحاضرتين حتى تممتهما وتهيأت للسفر، وإذا بتلغرافات، ترد إلي من جمعيات الشباب المسلمين في القدس ويافا وحيفا وغيرها تحذرني من الحضور من غير أن تذكر سبباً، فلم أعبأ بذلك، وسافرت، فلما وصلت إلى القدس لم أجد من يستقبلني إلا مندوباً من جمعية الشبان المسيحية وأستاًذا في القدس كان طالباً في كلية الآداب١ فدعاني مندوب الجمعية إلى النزول في بنائها فاعتذرت، ودعاني الأستاذ تلميذي أن أنزل في بيته إذ كان يسكن بمفرده فقبلت، وقد أسر إلي صاحبي بأن الأستاذ المفتي وإسعاف بك النشاشيبي والأستاذ الثعالبي يعتذرون إذ لم يقابلوني ويطلبون إلي أن أقابلهم، فقابلت الأستاذ إسعاف فشرح لي الموقف وقال: إن مركز جمعية الشبان المسيحية متهم الآن بأنه مركز تبشير للمسيحية ومركز تبشير للاستعمار الإنجليزي، وقد ثبتت عليه بعض الأحداث فقاطعه المسلمون من أجل ذلك، وقد أرادت الجمعية أن تكسر هذه القطيعة وتبطل الإضراب بدعوتك لإلقاء هذه المحاضرات. فقلت: كان عليكم أن تخبروني بهذه التفاصيل من قبل حين أعلنت الجرائد عن سفري ولنتدبر الآن في الحل. فطلب أحدهم إلغاء المحاضرات فأبيت، وطلب آخر أن ألقي المحاضرات نفسها في جمعية إسلامية، فقلت إن هذه المحاضرات قد أصبحت ملكا للداعي إليها. وأخيراً اتفقنا أن ألقى محاضرة في موضوع آخر في جمعية إسلامية قبل إلقاء هاتين المحاضرتين، وأعددت العدة لإلقاء محاضرة في نادي مدرسة روضة المعارف. وكان عنوانها تفسير آية إِنَّ اللهَ يأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ.

وقد بدأت المحاضرة ببيان وجهة نظري في المحاضرة التي أتيت من أجلها، مستنداً إلى أن المسئول عن ذلك هم لا أنا، إذ كان الواجب عليهم أن يخبروني بمقاطعتهم قبل حضوري. ثم إن موضوع المحاضرة التي سألقيها يدور حول الإشادة بالإسلام والمسلمين، وأن السبب في أنهم لم يبنوا في المدنية الحديثة مع البانين لا يرجع إليهم ولكن يرجع إلى أن الاستعمار الأوربي يأبى رقيهم، ويعمل على إضعافهم لاستغلالهم. ولو أنصف الأوربيون لمهدوا للمسلمين سبيل القوة حتى يقفوا على أجلهم وبينوا في صرح الحضارة معهم. ومثل هذا الكلام إذا ألقي في جمعية مسيحية كان له الأثر الأكبر؛ ثم هبوا أنه قد دعي قسيس مسيحي للتبشير بدينه في مسجد إسلامي ألا ترون أنه يعد ذلك فرصة عديمة النظير. وأخيرا سألقي محاضرتي فمن لم يقتنع بما قلت وشاء مقاطعة المحاضرة فليفعل، ومن شاء أن يسمعها ثم يقاطع فليفعل؛ ثم بدأت في محاضرتي عن العدل والإحسان. ومع هذا البيان خرجت جرائد بيت المقدس تندد بي وتطالب بعدم إلقاء المحاضرة ومقاطعتي إن ألقيتها — وحين ذهبت لإلقائها كان بعض الشبان في مفترق الطرق يحرضون من توسموا فيه الذهاب إلى الجمعية على عدم الذهاب، ولما ذهبت وجدت — مع الأسف — القاعة الكبيرة الفسيحة مملوءة بالمستمعين.

وانتهت المحاضرتان بعد أن لقيت فيهما من العناء الشيء الكثير، ولم أستمتع بطبيعة ولا منظر، فكان درسا قاسيا لا رحلة هادئة.

١  هو الدكتور إسحاق موسى الحسيني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤