الفصل الثاني والثلاثون

انتدبت — وأنا أستاذ بكلية الآداب — مديرا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف وكان ذلك سنة ١٩٤٥، ووزير المعارف إذ ذاك الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وهي إدارة ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف، واختصاصها واسع سعة لا حد لها لمن شاء أن يعمل، وضيق أشد الضيق لمن شاء ألا يعمل، ومن اختصاصها النظر في الأساتذة الذين يندبون إلى الأقطار العربية، والطلبة الشرقيين حين يريدون الدخول في المدارس المصرية، وتنظيم العلاقة بين مصر والبلاد الشرقية والبلاد الأجنبية في الشئون الثقافية، وتنظيم الإذاعة المدرسية، وتنظيم الحياة الاجتماعية للطلبة خارج المدرسة، واستخدام السينما في الثقافة وغير ذلك.

وقد نشأت عندي فكرة لا أدري من أين نبتت، فقد لاحظت خطأ وزارة المعارف في قصرها جهودها على التعليم داخل جدران المدرسة، مع أن في عنقها تثقيف الشعب بأجمعه في المدارس وغير المدارس بالصور المختلفة، وخطأ آخر وقعت فيه وهو فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن نشر الثقافة بواسطة السمع، وبواسطة عرض الأشرطة السينمائية على الناس ونحو ذلك من وسائل من دون القراءة والكتابة؛ وقد كنت قرأت نتفا عن تعليم الكبار في الممالك الأجنبية، فعكفت — أنا وشابان ممن يعملون معي في الإدارة الثقافية — على قراءة الكتب التي تصف النظم التي اتبعت في هذا السبيل، فنحن نجتمع كل يوم عصرا في حجرة متواضعة في لجنة التأليف والترجمة، نقرأ ونترجم وندرس ونبحث: أي هذه النظم يصلح لمصر، وأيها لا يصلح، ونضع تقريراً مفصلا عن هذه الفكرة التي سميناها. «الجماعة الشعبية»، والتي سميت فيما بعد «بمؤسسة الثقافة الشعبية»، يشتمل على نوع من الطلبة والطالبات الذين تلقي عليهم المحاضرات من غير تقييد بسن ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند الدخول، كما يشتمل على شعب الدراسة من دراسة مهنية ودراسة نظرية وبرنامج مائع لكل هذا، يمكن تحويله حسب الظروف والمناسبات، فإذا جدت مسألة فلسطين مثلا ألقيت محاضرات عن فلسطين، وإذا جدت رغبة في تعلم الآلة الكاتبة أنشأنا لها فرعا. ومن حيث الإدارة فقد اقترح لها مجلس إدارة من خيار الرجال في مصر للإشراف عليها. ومن حيث المكان، فمدارس وزارة المعارف والورش الصناعية والميكانيكية أمكنة للجامعة الشعبية، ومدارس البنات أمكنة لتعليم البنات والسيدات. ومن حيث مدرسوها ومدرساتها، فكل المدرسين والمدرسات بوزارة المعارف صالحون لأن نختار منهم أساتذة الجامعة الشعبية. ومن حيث الزمان فهو في المساء من الخامسة إلى الثامنة.

وعرض كل هذا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأدخلت في خطاب العرش، وأصبحت حقيقية بعد أن كانت خيالا، وأعلن عن الجامعة الشعبية وشعبها، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحا يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وكلما ظهرت فيها بعض العيوب تدوركت بقدر المستطاع، واتسعت شيئا فشيئًا، وزادت ميزانيتها شيئًا فشيئا، وبعد أن اقتصرت الفكرة أول أمرها على القاهرة عممت في سائر الأقاليم تقريباً، وأصبح موظفو السينما ينتقلون إلى العمال والفلاحين في القرى وإلى المصانع، يعرضون الأفلام الثقافية، ومعهم بعض المحاضرين، وترى فيها الموظف الكبير والعامل الصغير يدرسان جنبا إلى جنب فنا جديدا، وترى السيدة وبنتها بجانبها تتعلمان تدبير المنزل، والطبخ والخياطة وما إلى ذلك. ولم يمض إلا قليل حتى أصبح عدد الطالبين والطالبات فيها يتجاوز سبعة عشر ألفا، وأصبحت ميزانيتها نحو سبعين ألفا. ومع هذا نرى أننا إذا قسنا أنفسنا ببعض الممالك الأخرى لا نزال في حرف الألف.

وعنيت وأنا في الإدارة الثقافية هذه بتشجيع ترجمة أمهات الكتب الغربية إلى اللغة العربية، فكان هذا العمل نواة توسعت فيها الوزارة فيما بعد.. إلى غير ذلك. ولكني لم أعتز بشيء اعتزازي بابنتي العزيزة الجامعة الشعبية، ولذلك لما تخليت عن الإدارة الثقافية بعد سنة تقريباً كان لي شرف الاحتفاظ برياسة مجلس إدارتها إلى اليوم.

فلما مرضت المرض الأخير، استقلت من رياسة مجلس إدارتها وصممت على الاستقالة وتخففت من كثير من اللجان. وأرسل إلي وزير المعارف إذ ذاك بكتاب، جاء فيه: «كنت أود أن تحظى المؤسسة بجهودكم الطيبة، وآرائكم السديدة ولكني اضطررت عملا بنصح أطبائكم أن أقبل استقالتكم مع الأسف الشديد».

«وإني أنتهز هذه المناسبة فأشكر لعزتكم ما قدمتم للثقافة عامة ومؤسسة الثقافة خاصة من عمل طيب وجهد مشكور راجيا لكم حياة سعيدة وصحة كاملة موفورة».

وحدث بعد ذلك حادث غريب يعد من أعاجيب القدر، ذلك أني في يوم من صيف سنة ١٩٤٦ ذهبت إلى دار الحكومة في «بولكلي» بالإسكندرية لزيارة صديق لي هو سكرتير مجلس الوزراء،١ وعند خروجي إلى فناء الدار وجدت سيارة وقفت ودعيت إلى الركوب، فإذا فيها أستاذنا أحمد لطفي السيد وزير الخارجية إذ ذاك، فدعاني أن أصحبه لتشييع جنازة فشيعناها ورجعنا، ودعائي أن أصحبه إلى حجرته بوزارة الخارجية فصحبته، وجاء وكيل الخارجية يعرض عليه أمراً لم أتبينه، ثم التفت إلى الوزير وقال: ما رأيك في السفر إلى لندن عضوا مع ممثلي مصر في مؤتمر فلسطين؟ فاعتذرت، فسألني عن السبب فقلت إني رجل علم أو — على الأصح — أنتسب إلى العلم، ولم أشتغل بالسياسة إلا على هامش حياتي، وأمور السياسة تحتاج إلى درس طويل ومران كثير، فقال: لا بأس من وجود العالم بجانب السياسي، وصمم فقبلت، واستأذن الجهات المختصة وأنا جالس فقبلت، وخرجت مستغربا كيف دخلت وكيف خرجت. واستعددت للسفر: وأخذت أبحث في المكتبات عن الكتب التي ألفت عن مشكلة العرب والصهيونية في فلسطين، وأقرأ التقارير التي كتبت وأودعت وزارة الخارجية أو الجامعة العربية، والكتاب الأبيض وغير الأبيض … ثم ها أنا ذا أركب الطائرة من محطة ألماظة إلى لندن أول مرة من ركوبي الطائرة في حياتي، فما أعجب ما يفعله الزمان..! لقد كنت في مبدأ حياتي لا أعرف ركوب القطار حتى بلغت السادسة عشرة، ولما ركبته إلى طنطا حزنت وبكيت، وها أنا ذا أركب الطائرة من مصر إلى لندن وأنا لا أحزن ولا أبكي.

وأخاف أول الأمر والطائرة ترتفع وتضطرب، ودليل الطائرة يقول: إننا على ارتفاع ألفي قدم، ثم يقول أربعة آلاف ثم يقول ستة آلاف إلى ثمانية آلاف، لكن بعد أن استوت الطائرة وملكت زمامها في الجو اعتدناها واطمأنت نفوسنا بعض الشيء إليها، ورأيت من بجواري فيها من كبار رجال السياسة وممن اعتادوا ركوب الطائرات وضعوا رءوسهم على مقاعدهم وناموا نوما هادئا مطمئنا كأنهم في غرفة نومهم، فاطمأننت بنومهم، ولكني لم أستطع أن أسير سيرتهم، فلم تذق عيني النوم إلا إغفاءة غفوتها بين مالطة وباريس. ونزلت الطائرة لندن بعد سبع عشرة ساعة، فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!.

وأجد نفسي في جو سياسي لم أعتده، بين كبار الساسة من العرب يتناقشون ويتجادلون على غير النمط الذي ألفته في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، فهم يراعون اعتبارات ونزعات واتجاهات لا يراعيها العالم، فأسمع أكثر مما أتكلم، ولا أشترك في المناقشة إلا بقدر، ولا أبدي الرأي إلا في المسائل الهامة.

ثم أنتقل خطوة أجرأ، فأنا والممثلون العرب على المائدة المستديرة أمام مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية وأمام وزير المستعمرات والمختصين بالأمور الشرقية في إنجلترا، نتبادل الخطب والآراء ونستمر على ذلك أياما، ثم تشكل لجنة صغيرة من ممثلي العرب وممثلي الإنجليز، يضعون مشروع اتفاق ونستشار في كل خطوة من هذا الاتفاق، حتى إذا فرغت اللجنة عرض الاتفاق على الهيئة العامة من الإنجليز والعرب، فإذا بنا نسمع من الإنجليز أنهم عرفوا وجهة نظرنا وعرفنا وجهة نظرهم، وسيبحثون الأمر فيما بعد، وسيخبروننا بالنتيجة وسيدعوننا إذا دعت الحال، ومع السلامة!!

كانت هذه الرحلة كبيرة الأثر في نفسي، فقد استطعت أن أخلو في لندن إلى أصدقاء لي ممن خبروا إنجلترا خبرة طويلة وأقاموا فيها زمنا طويلا قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب؛ فأصغيت إلى حديثهم في شئون إنجلترا الاجتماعية وتطورها وما فعلت الحرب فيها، ورأيت كبار الإنجليز وسمعت أقوالهم، وأصغيت إلى تفكيرهم، فإذا هم ناس كسائر الناس، وعقليتهم كسائر العقليات، مزيتهم في اعتمادهم على الاختصاصيين الذين تخصصوا في كل موضوع وعرفوا دقائقه، فإذا جد أمر استعانوا بهؤلاء الخبراء وأصغوا إلى نتيجة خبرتهم وكونوا من ذلك آراءهم، وأكبر ما يمتازون به علينا توزيع الاختصاص، والنظام الدقيق، وثقة الكبير بالصغير والصغير بالكبير، ومعالجتهم الأمور معالجة علمية منظمة، فكل شيء مدروس ولا شيء مرتجل، والغرض محدود وأساليبه مرسومة، لا ارتجال ولا فوضى ولا تفكير عفو الساعة.

كما أعجبني بالشعب ديمقراطيته الحقة، فكل إنسان ينظر إليه على أنه إنسان كبيرا كان أو صغيرا، ولا يحق للوزير أن ينال شيئا يمتاز به عن الصانع الصغير؛ هذا وزير خارجية إنجلترا يلبس قميصا بليت ياقته، وهذا وزير المستعمرات يقول في بعض أحاديثه معنا: إنه لم يشتر بدلة جديدة منذ نشوب الحرب، وهذا الوزير الكبير يذهب بطبقه وسكينته وشوكته وفنجانه ليأخذ الشاي، وهذا وكيل وزارة يشهر بزوجته لأنها أخذت قنطارا من الفحم زائدا عن سائر الناس وإن كانت في حاجة إليه لأنها تسكن بيت مهجورا مرطوبا يحتاج إلى نار أكثر لتذهب برطوبته. وهذه «الطوابير» المنظمة في كل شيء لا يحق لأحد فيها أن يتقدم من قبله، والموظف الكبير يقف وراء العامل الصغير حتى يأتي دوره، وهذه الاشتراكية قد بلغت في الحياة الاجتماعية مبلغا كبيرا: فرفع مستوى العمال وطبق العدل الاجتماعي تطبيقا دقيقا، وعلا مستوى المعيشة للفقراء، وكثرت الضرائب على الأغنياء حتى لا يستطيع غني مهما كان أن يربح في العام أكثر من خمسة آلاف جنيه تقريبا، فاستوى الجميع في الحقوق والواجبات، وقلت الفروق بين الطبقات. حياة هادئة منظمة ومريحة، فإن أنا نظرت إلى الشعب وأخلاقه وسلوكه سررت وأعجبت، وإن أنا نظرت إلى السياحة الخارجية وما يفعل الاستعمار الإنجليزي في الشرق ألمت وتقززت.

وخطفت رجلي بعد ذلك فذهبت مع بعض أصدقائي إلى سويسرة، نعمنا بمناظرها الطبيعية أياما، ومنها إلى مرسيلية ننتظر الباخرة أياما، ونخرج كل يوم إلى ضاحية من ضواحيها فننعم بشمسها ودفئها ومناظرها، ثم نعود إلى مصر، وقد كسبنا كل شي إلا ما يتصل بفلسطين.

١  كان هو الأستاذ محمد كامل سليم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤