الفصل الثالث والثلاثون

وأحلت إلى المعاش بعد أن بلغت سن الستين، وكم كنت أتمنى أن أخرج من وظائف الحكومة وأنا في غير سن الكهولة لأعمل حرا؛ لا تقيده اللوائح والقوانين، ولا يطبع بطابع الموظفين، ولكن لم يكن لي من الشجاعة ما أرفض به الوظيفة و«الولد مجبنة مبخلة» وربما كان السبب أيضا أن وظيفة الأستاذ في الجامعة من أبعد الوظائف عن السلطة الحكومية، وأنها تتفق مع مزاجي إذا خلت من الصبغة الإدارية واقتصرت على الاتصال بالكتب والاتصال بالطلبة.

على كل حال بقيت في الوظيفة إلى الستين، وخفت من الفراغ الذي سأقابله إن خلصت من الوظيفة ففكرت ماذا أعمل: فكرت أن أكون هيئة لنشر الكتب القديمة، أستقل بالعمل فيها، ويكون لي ربحه المادي والأدبي أو خسارته، ولكن حال دون ذلك اتصالي بلجنة التأليف والترجمة وإشرافي عليها أكثر من ثلاثين عاما، فعمل اللجنة من جنس ما أنوي أن أعمل، ولكنه مقيد بمجلس إدارة قد يقيد حريتي فيما أنشر، ويسألني عن عملي هل خسر أو ربح وأنا أريد عملا لا يسألني عنه أحد، وعرضت على زملائي في لجنة التأليف أن أستقيل فأبوا، ولم يكن عندي من الحماسة ما يجعلني أصمم على الانفصال، وبقيت في اللجنة أشرف عليها وهي عزيزة علي، فقد صحبتها منذ أول عهدي بالشباب، وصارت جزءا من نفسي، نمت بنموي وإن لم تشخ شيخوختي — استفدت منها تجارب كثيرة في التأليف والترجمة والطبع والنشر ومتى تروج الكتب ومتى لا تروج، وعلاقتنا بالعالم العربي من حيث تصريف الكتب وما إلى ذلك. وحازت اللجنة ثقة الناس بما تخرج، إذ لا تقدم على طبع كتاب حتى يقرأه الخبيرون ويقروا صلاحيته، كما اكتسبت من زملائي في اللجنة آراء قيمة، إذ كانت اللجنة بجانب إنتاجها العلمي والأدبي منتدى يجمع الأصدقاء والزائرين وبخاصة في مساء الخميس من كل أسبوع، تطرح فيه الموضوعات المختلفة حيثما اتفق، وتتبادل الآراء من ثائرين ومعتدلين ومحافظين، ويتحدث المجتمعون عما طالعوا من كتب وما عرض لهم من آراء، أو تتبادل فيه الشكوى من حالة الشرق وعيوب المجتمعات، وما إلى ذلك من أحاديث ممتعة طريفة.

وقد نمت اللجنة نموا مطردا من حيث أعضائها، إذ تجاوزوا الثمانين من خيرة رجال مصر، ومن حيث إنتاجها إذ بلغ ما أخرجته أكثر من مائتي كتاب، ومن حيث ماليتها إذ بلغ ما تملكه من كتب في مخازنها ومال في مصرفها آلاف الجنيهات. وكانت أول مؤسسة في الشرق للتأليف والترجمة والنشر، ثم حذت هيئات كثيرة حذوها، وأنشئت الدور المختلفة في الشرق لهذا الغرض، وفاقها بعضها من الناحية التجارية والمالية وإن لم يفقها من الناحية العلمية.

عدلت إذن عن إنشاء مكتب للنشر — وفي ليلة من ليالي رمضان سنة ١٩٤٦ — وكنت أصيف في الإسكندرية — أتتني دعوة من المرحوم النقراشي باشا لأقابله في مصيف في محطة فكتوريا برمل الإسكندرية، فذهبت إليه فعرض علي أن أكون رئيس تحرير جريدة يريدون إنشاءها لتكون لسان حزب السعديين وهي جريدة «الأساس»، فاعتذرت في الحال محتجا بأني لم أشتغل بالصحافة إلا على هامشها، وفرق بين صحيفة أدبية كالثقافة وصحيفة سياسية كالأساس، ثم هذا العمل يتطلب انغماسا في السياسة إلى الأعماق وقد كرهت العمل فيها من قديم، ثم هو يتطلب الكتابة في تأييد الحزب تأييدا مطلقا، والخضوع لآراء قادة الحزب وأفكارهم، ومهاجمة الآراء المعارضة وتوهينها والحط من شأنها، وهذا ما لم أرتضه لنفسي في حياتي، فقد تلونت باللون العلمي الذي يبحث الأمر وهو على الحياد، ثم يرتقب النتيجة كائنة ما كانت، وليس هذا منهج السياسة الحزبية؛ وأخيرا هذا العمل يتطلب سهرا بالليل ونوما بالنهار، ومقابلة زيد وعمرو وتلقي الأفكار من زيد وعمرو وهو عمل لا أرتضيه ولا تحتمله صحتي، فقال رحمه الله إنك تسرعت في الحكم، وخير أن تفكر يومين أو ثلاثة في الأمر، فقبلت وفكرت ثم قابلته ورفضت. واكتفيت أن أعمل الأعمال التي لا تتطلب جهدا عنيفا، فأنا أعمل في لجنة التأليف وفي الجامعة الشعبية وفي دار الكتب وفي المجمع اللغوي وفي اللجان المختلفة التي أنا عضو بها، وإلى جانب ذلك أستمر في الكتب التي أؤلفها والمقالات التي أنشرها، والأحاديث التي أذيعها.

ولم ألبث إلا قليلا حتى عرض علي أن أكون مديرا للإدارة الثقافية في الجامعة العربية، فقبلت بكل سرور، لأنه عمل ثقافي من جنس عملي، ومحقق لرغبتي في السعي للتعاون العلمي بين الأقطار العربية.

فأنا وإخواني في الإدارة الثقافية ننشئ معهدا للمخطوطات نريد به أن نصور كل المخطوطات القديمة في العالم على أفلام صغيرة ونشتري الآلات اللازمة لذلك، ونصور أهم المخطوطات في دار الكتب وفي الجامعة المصرية وفي بلدية الإسكندرية وفي سوهاج ونبعث لتصوير المخطوطات في الشام ولبنان، وأخيرا نبعث بعثة إلى الآستانة لتصوير جزء كبير من مخطوطاتها القديمة وهكذا، ونضع خططا للتعاون الثقافي عن طريق ترجمة الكتب القيمة، وعن طريق السينما والإذاعة.. إلخ. ونفتتح عملنا أيضا بالتحضير لمؤتمر ثقافي يبحث في مناهج اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية في الأقطار العربية والقدر المشترك الذي ينبغي أن يوحد بينها والقدر الذي تستقل به كل أمة. وقد تم تحضير هذا المؤتمر وتحضير مؤتمر آخر للآثار الشرقية في بضعة أشهر، وعقد المؤتمر الثقافي في بيت مري في لبنان في صيف سنة ١٩٤٧ ومؤتمر الآثار في دمشق عقبه مباشرة، وقد كنت في هذين المؤتمرين أغبط نفسي على نشاطي وحركتي واشتراكي الجدي في العمل.. وتحاول هذه الإدارة الثقافية أن تنشئ متحفا للثقافة فتتمه، وأن تستخدم السينما والإذاعة في التقريب بين العالم العربي، كما تحاول أن تنشئ علاقة متينة بينها وبين اليونسكو في الشئون الثقافية وبخاصة ما يتعلق منها بالعرب.

وفي هذه الآونة انتقلت من مسكني بمصر الجديدة الذي سكنته أكثر من عشرين عاما إلى مسكني في الجيزة ليكون أبنائي قريبا من الجامعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤