الباب الثاني

في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان

لما أفرغت دولة العجم في دولة الإسكندر الأكبر بإغارته عليها صارت مصر كباقي دول الشرق القديمة التي كانت تحكم حكم العجم جزءًا من دولته، ثم مكثت تحت حكم اليونانيين مدة ٣٠٢ سنة (٩٥٤–٦٥٢ق.ﻫ)، فأسسوا فيها عائلتين: الثانية والثلاثين، وهي الدولة المقدونية؛ أي مدة تبعيتها لدولة الإسكندر الأكبر، والثالثة والثلاثين، وهي الدولة البطليموسية؛ أي مدة استقلالها تحت حكم عائلة بطليموس أحد قوَّاده.

الفصل الأول

في الإسكندر الأكبر وفتوح اليونانيين لمصر

قد كان الإسكندر الأكبر ملك مقدونية إحدى أقسام بلاد اليونان الشمالية رجلًا عالي الهمة شديد الذكاء حميد الخصال جميل الصورة، وقد أكفل أبوه بتربيته الفيلسوف الشهير أرسطاطاليس فأحسن تربيته، واستخلفه على الملك وعمره سبع عشرة سنة مدة تغيُّبه في حرب طراسة، فقام بأعباء الملك، وكانت تلوح عليه من صغره سمة الفطنة والشجاعة، فلما مات والده، فيلبش ملك مقدونية استولى على المملكة وعمره عشرون سنة، فلم يلبث أن خرج عليه بعض الأمم التي أخضعها أبوه ببلاد اليونان وشواطئ الدانوب؛ أي الطونة، فأرجعهم إلى الطاعة بعد أن هزمهم شر هزيمة، حتى ارتجفت منه بقية المدن اليونانية، وأذعنت له بالطاعة بكل خضوع، ثم عزم على محاربة العجم فعبر بوغاز الدردانيل المسمى قديمًا هلسبونت بجيش مؤلف من ٣٥٠٠٠ مقاتل، وتلاقى بجيوش العجم عند نهر جرانيقة، فهزمها واستولى على جميع آسيا الصغرى بدون أدنى مقاومة، أما ملك العجم دارا الثالث فجهز جيشًا مؤلفًا من ٥٠٠٠٠٠ مقاتل، وحضر لملاقاته فقابله عند مدينة أسوس، وحصلت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها دارا وهرب في داخل بلاده، وترك أمه وأخته وامرأته وأولاده في المعركة فوقعن أسرى في يد الإسكندر، فعاملهنَّ أحسن المعاملة، ثم اتجه إلى بلاد الشام كي يتملَّك على جميع الشواطئ البحرية، ودخل بلاد فينيقية ففتحت له جميع مدنها أبوابها إلا مدينة تير وهي صور؛ فإنه لم يتمكن من فتحها إلا بعد حصارها سبعة أشهر، ثم تملَّك على غزة أيضًا، ودخل مصر من طريق بيلوز وهي الفرما، فخضعت له بكل سهولة لبغضها لحكم العجم، ولما وصل إلى مدينة منف أخذ يتفرج في داخل البلاد، وعامل أهلها بالحلم والعدل، ورتَّب إدارتها ونظَّم سياستها، ولم يغير شيئًا من عوائد أهلها القديمة، ثم نزل النيل حتى وصل إلى قرية راقودة الواقعة بالبرزخ المحصور بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض المتوسط، فاستحسن جدًّا موقع هذا البرزخ، واختاره موضعًا لمدينة الإسكندرية، فخطط بنفسه أساساتها سنة ٩٥٤ق.ﻫ، وأناط المعمار المسمى دينوقراطس بإجراء العمل، ودخلت راقودة في سورها، وبقي اسم راقودة لخطةٍ بالإسكندرية بُنيتْ على آثارها، ثم توجَّه الإسكندر من هناك إلى معبد آمون في واحة سيوة واستجوب الكهانة، ولم يُظهر نفسه، فعرفه الكهان وأعلنوا بأنهم يعهدون أنه ابن المشتري، وقد خضعت له مستعمرة كيرينة اليونانية أيضًا، وهي طرابلس الغرب الآن حينما توجَّه إلى واحة سيوة.

وأما دارا فقد جمع بوادي الدجلة والفرات جيشًا ضعف جيشه الأول الذي انهزم في واقعة أسوس، فخرج الإسكندر من مصر، ورجع على عقبه إلى بلاد الشام، ثم عبَر نهرَي الفرات والدجلة، وتلاقى معه في سهل إربل، فهزمه أيضًا، وهرب دارا إلى مدينة أكبتان، وهي همذان، فلم يقتفِ الإسكندر أثره، بل اتجه جنوبًا، وتملَّك على بابل وسوس وبرسيبوليس وباسارجاد من عواصم مملكة العجم، ثم اتجه شمالًا حينئذٍ ليقتفي أثره، فوصل إلى مدينة أكبتان. غير أن دارا كان قد خرج منها والتجأ إلى ولاية بكتريان من ولايات مملكته، وهي قسم بُخارة الآن، فقتله واليها بسوس، فلم يلبث الإسكندر أن حضر إلى مدينة بكتر، وهي بلخ، تخت هذه الولاية، وقبض على بسوس بعد أن اقتفى أثره خلف نهر أكسوس، وهو نهر جيحون، وسلَّمه إلى أخي دارا فأماته في العذاب الأليم.

ثم قصد الإسكندر نهر السند، فعبَر هذا النهر، وأراد أن يتوغل في بلاد الهند فلم تطاوعه عساكره فنزل فيه إلى مصبِّه، ورجع إلى مدينة بابل من طريق صحراء جدروزية، وهي بلوجستان، فأراد أن يجعلها عاصمة دولته، وينظم أمور المملكة فأدركته فيها الوفاة سنة ٩٤٥ق.ﻫ، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، فمات أثناء فتوحاته قبل أن يتمم جميع مشروعاته العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وترك له من الصيت والشهرة ما ملأ أقطار العالم، وكانت دولته إذ ذاك ممتدة من البحر الأدرياتيقي والبحر الداخل؛ أي البحر الأبيض المتوسط غربًا، إلى جبال إيجود؛ أي جبال هماليا ونهير هيفاز ونهر السند غربًا، ومن نهر الدانوب وهو الطونة وبحر بونت لوكسن؛ أي البحر الأسود وجبال القوقاز وبحر الخزر ونهر ياكسارت؛ أي نهر سيحون شمالًا إلى بحر أريطرة؛ أي بحر عمان وخليج العجم وصحراء بلاد العرب وشلال أصوان جنوبًا، فاقتسمها قواد جيوشه، فكانت مصر من نصيب أحدهم المدعو بطليموس، فأسس فيها عائلة ملوكية جديدة، وهي دولة البطالسة.

الفصل الثاني

في الدولة البطليموسية

قد حكمت هذه الدولة على مصر نحو الثلاثة قرون (٩٤٥–٦٥٢ق.ﻫ)، وبلغت مصر في عهدها في الشوكة والمجد والثروة درجةً عُظمى، لم ترَها من مدة مديدة؛ فقد صارت مدينة الإسكندرية؛ عاصمة المملكة الجديدة، منبعًا للعلوم والمعارف، وكان جميع ملوك هذه العائلة يُطلَق عليهم اسم بطليموس مع أن كلًّا منهم كان له لقب خاص به، وهم نحو الأربعة عشر، استقلوا بحكم مصر، واستعملوا مع المصريين اللين والرفق، وأصلحوا البلاد واحترموا نظاماتها، مع اجتهادهم في إدخال التمدن اليوناني فيها، وكان أشهرهم بطليموس الأول الملقَّب لاغوس أوسوطير؛ أي المخلص، وهو المؤسس لهذه الدولة، فلما قبض على أَزِمَّة الحكومة في مصر وجَّه مزيد همَّته إلى استمالة قلوب الأهالي إليه؛ فاستعمل الرأفة والحلم في أحكامه، وأحسن التدبير والسياسة، وضم إلى مصر كيرينة والشام وقبرص وفينيقية، وشيد بمدينة الإسكندرية معابد كثيرة، وبنى بها منارة في جزيرة فاروس لتسهيل الملاحة بجوار ميناها، ومن أشهر أعماله مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق التي جلب إليها العلماء من اليونان وغيرها من البلدان الرائجة فيها أسواق العلوم والمعارف، وكان هذا الملك محبًّا لمجالسة العلماء ومحادثتهم، وقد جمع لهم كتبخانة عظيمة، فهرع إلى مصر مشاهير الرجال من أهل الشرق والغرب حتى صارت مدينة الإسكندرية مركز العلوم والمعارف.

وبطليموس الثاني الملقَّب فيلادلفوس؛ أي محب أخيه، وهو ابن بطليموس الأول، قد تنازل له أبوه عن الملك في حياته، فلما خلَف أباه على سرير الملك اجتهد مثله في نشر العلوم والمعارف، وترجم إلى اللغة اليونانية كتب اليهود المقدَّمة (المعروفة بالترجمة السبعينية)، وزاد في الكتبخانة التي أنشأها أبوه، وأوسع علمَي الفلك والملاحة، وأمر باستكشاف بلاد النوبة والنيل الأعلى، وكان من أعظم ملوك هذه العائلة، وعصره من أعظم الأعصر في تاريخ الفلسفة.

ثم بطليموس الثالث الملقَّب ويرجيطة؛ أي المحسن أو الرحوم، وهو ابن بطليموس الثاني، خلَف أباه بعد موته على سرير الملك، وكانت مدته من أعظم المدد رفعةً لمصر حيث امتدت فتوحاته إلى أواسط آسيا وبلاد النوبة؛ فقد أغار على بلاد الشام وعبَر نهر الفرات ووصل لغاية بكتريان ببلاد العجم، فأرجع إلى مصر تماثيل الآلهة المصرية التي كان سلبها كمبيز من مصر، وضمَّ إلى مصر الجزء الشمالي من بلاد الإثيوبية لغاية مدينة إبريم.

أما من بعده فقد ابتدأ انحطاط هذه الدولة؛ فإن الملوك الذين خلَفوه كانوا قد تولَّوا جميعًا في حداثة سنهم، فتركوا أمور المملكة في يد أوصيائهم عليها يديرونها حسب أغراضهم، ولم يلتفتوا إلا إلى اللذات والشهوات، فابتدأ حينئذٍ اختلال المملكة، وسقطت شوكتها الخارجية فطمع فيها جيرانها، ووقعت الحروب بين ملوكها وملوك الشام على الدوام، فالتزموا بأن يوسِّطوا دولة الرومانيين في الخلاف بينهم وبين هؤلاء الملوك، حيث كانت هي الدولة ذات السطوة في ذاك الوقت التي لها الكلمة النافذة على جميع ممالك البحر الأبيض المتوسط، فابتدأ تداخل الرومانيين حينئذٍ في أمور المملكة، ثم لما وقعت فيها الفتن والثورات لازدياد اختلالها وانهماك ملوكها على ملاذِّهم الشهوانية التزم هؤلاء الملوك بأن يخضعوا للسلطة الرومانية، ويحكموا برعاية مجلس رومة لهم لخوفهم من أهالي الإسكندرية، فارتبطت أمور مصر حينئذٍ بالدولة الرومانية حتى آل الأمر أخيرًا إلى أن تملكت عليها هذه الدولة بعد موت قليوبطرة آخر ملوك هذه العائلة، فصارت مصر إيالة رومانية تُحكم بعمال من الرومانيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤