٢٧

يُنادي ألفارو عمال الشحن والتفريغ معًا. يقول: «يا أصدقائي، هناك مسألةٌ نحتاج إلى مناقشتها. كما تذكُرون، اقترَح رفيقنا سيمون أن نتخلى عن تفريغ الحمولات بالأيدي ونلجأ بدلًا من ذلك إلى رافعةٍ آلية.»

يومئ الرجال. ينظر البعض في اتجاهه. ويبتسم له يوجينيو.

– «حسنًا، اليوم عندي خبرٌ لكم. يُخبرني رفيقٌ من أعمال الطرق أن في مستودعكم رافعةً تقف خاملةً لشهور. يقول إننا إذا أردنا استعارتَها للتجربة، فعلى الرحب والسعة.

– «ماذا نفعل يا أصدقاء؟ هل نَقبَل عرضه؟ هل نرى إن كانت الرافعة، كما يزعم سيمون، ستُغيِّر حياتنا؟ مَن يريد الحديث أولًا؟ سيمون، أنت؟»

أذهلَته المفاجأة تمامًا. ذهنه مشغول بإيناس وخطَطِها للهروب؛ لأسابيع لا يفكِّر في الرافعات أو الفئران أو اقتصاديات نقل الحبوب؛ في الحقيقة، أصبح يعتمد على طحن العمل المستمر ليُنهِكَه ويمنحَه نعمة النوم العميق بلا أحلام.

يقول: «ليس أنا. قلتُ كلمتي.»

يقول ألفارو: «مَن غيره؟»

يتحدث يوجينيو: «أقول ينبغي أن نُجرِّب الرافعة. للصديق سيمون رأس حكيم على كتفَيه. مَن يعرف، قد يكون محقًّا. قد يكون علينا أن نتحرَّك بالفعل مع الزمن. لن نعرف بالتأكيد إلا إذا جرَّبنا.»

هناك همهمة موافقة من الرجال.

يقول ألفارو: «هل نجرِّب الرافعة إذن؟ هل أُبلِغ الرفيق في أعمال الطرق بإحضارها؟»

يقول يوجينيو، ويرفع يده: «أجل!» ويقول العمال في كورس وهم يرفعون أيديهم: «أجل!»

وحتى هو، سيمون، يرفع يده. التصويت بالإجماع.

تصل الرافعة صباح اليوم التالي على ظهر شاحنة. طُلِيَت ذات يومٍ باللون الأبيض، لكن الطلاء قُشر وصدأ المعدن. يبدو وكأنها وقفَت في العراء في المطر فترةً طويلةً جدًّا. وهي أيضًا أصغَر من المتوقع. تسير على مسارات من الصلب الذي يُقرقِع؛ والسائق يجلس في كابينة على المسارات، يُشغِّل أجهزة التحكم ويُدير الذراع ويُشغِّل الونش. يستغرق الأمر ساعةً تقريبًا لنقل الآلة من على ظهر الشاحنة. يتلهَّف صديق ألفارو من أعمال الطرق على المغادرة. يسأل: «مَن يسوقها؟ أعطيه فكرةً سريعةً عن أجهزة التحكُّم، ولا بد أن أنصرف.»

يُنادي ألفارو: «يوجينيو! تحدَّثتَ لصالح الرافعة. هل تُحب أن تسوقها؟»

يتلفت يوجينيو. «إذا لم يرغب شخصٌ آخر فسوف أسوقها.»

– «حسنًا! مبروك إذن.»

يُبرهِن يوجينيو على أنه يتعلم بسرعة. بسرعةٍ شديدة يقودها ذهابًا وإيابًا بطول الرصيف ويُدير الذراع، ويتأرجح عليه الخطَّاف بخفَّة.

يذكُر السائق لألفارو: «علَّمتُه ما أستطيع. اسمَح له بأن يسير بحذَر في الأيام الأولى، وسيكون كل شيء على ما يُرام.»

ذراع الرافعة طويلة بالضبط بما يكفي للوصول إلى ظهر السفينة. يُحضِر العمال الأجولة واحدًا واحدًا من المخزن، كما كان يحدُث من قبلُ؛ لكن الآن، بدلًا من حَملِها إلى اللوح الخشبي، يُسقِطونها في حمالةٍ من القماش. وحين تمتلئ الحمالة للمرة الأولى يُنادُون على يوجينيو. يُمسِك الخطَّاف بالحمالة؛ يضيق الحبل الصُّلب؛ وترتفع الحمالة على قضبان سطح السفينة؛ وبزهو يؤرجِح يوجينيو الحمولة بسرعة ويُنزِلها إلى أسفل في قوسٍ واسع. يهتف الرجال؛ لكن هُتافَهم يتحوَّل إلى صرخات تحذير والحمالة تَرتطِم برصيف الميناء وتبدأ اللفَّ والدورانَ خارج نطاق السيطرة. ويهُبُّ الرجال، يُنقِذونه جميعًا، يُنقِذون سيمون المستغرق بدرجةٍ تجعَلُه لا يرى ما يحدُث أو الأكسَل من أن يتحرك. يلمحَ يوجينيو يحدِّق فيه من الكابينة، ويتفوَّه بكلماتٍ لا تُسمَع. ثم تصطدم به الحمولة المتأرجحة في الحجاب الحاجز وتدفَعُه إلى الخلف. يترنَّح أمام دعامة، ويتعثَّر في حبل، ويتقلَّب في المساحة بين الرصيف واللوحات الصُّلب للسفينة. للحظة يُحتجَز هناك، ويُحبَس بشدة بحيث لا يستطيع التنفُّس. يُدرِك بشدَّة أن السفينة إذا انحرفَت بوصةً واحدةً فسوف يُسحَق مثل حشرة. ثم يضعف الضغط ويُسقِط قدمَيه أولًا في الماء.

يلهث: «النجدة! أنجدوني!»

يُلقِي طَوقَ نجاة بجانبه في المياه، مطليًّا بالأحمرِ اللامع وشرائطَ بيضاء. من أعلى يأتي صوت ألفارو: «سيمون! اسمَع! تشبَّث به وسنسحَبُك.»

يقبض على الطوق؛ مثل سمكة يسحب بطول رصيف الميناء إلى المياه المفتوحة. صوت ألفارو مرةً أخرى: «أمسِك بقوة، سنسحَبُك إلى أعلى!» لكن حين يبدأ الطوق في الارتفاع يشتد الألم فجأة. تفشَل قبضتُه ويسقُط مرةً أخرى في المياه. فوقَه زيت، وفي عينَيه، وفي فمه. يقول لنفسه: هل هكذا تكون النهاية؟ مثل فأر؟ يا له من أمرٍ مُخزٍ!

لكن ألفارو بجانبه الآن، يضرب في المياه، وشعره ملتصقٌ في فروة رأسه بفعل الزيت.

يقول ألفارو: «اهدَأ، يا صديقي العجوز. سأُمسِك.» بامتنانٍ يسترخي في ذراعَي ألفارو. ينادي ألفارو: «اسحبوا!» ويخرج الاثنان في عِناقٍ قويٍّ من المياه.

يستردُّ نفَسَه بارتباك. إنه على ظهره يتطلع إلى سماءٍ خالية. حوله أشكالٌ غامضة، وضجة حديث، لكنه لا يتبيَّن أية كلمة. عيناه مُغلَقتان ويُغمَى عليه مرةً أخرى.

يستيقظ مرةً أخرى على ضجةٍ صاخبة. يبدو أن الضجَّة تأتي من داخله، من داخله. يقول صوت: «استيقظ، يا عجوز!»١ يفتح عينًا، يرى فوقه وجهًا بدينًا يتصبَّب عرقًا. يودُّ أن يقول أنا مستيقظ، لكن صوته لا يخرُج.

تقول الشفتان البدينتان: «انظر إلىَّ! هل تسمعُني؟ ارمش بعينَيكَ إذا كنتَ تسمعُني.»

يرمش.

– «سأعطيك حقنة مُسكِّن، ثم نُخرِجك من هنا.»

مسكِّن؟ يودُّ أن يقول لا أعاني من ألم. لماذا أعاني من ألم؟ لكنه لن يتكلم اليوم مهما يكن هذا الحديث بالنسبة له.

لأنه عضو في اتحاد عمَّال الشحن والتفريغ — وهو انتماءٌ لم يكن على علم به — يحقُّ له العلاج في غرفةٍ خاصة في المستشفى. يرعاه في غرفته فريقٌ من الممرِّضات اللطيفات، مع إحداهن، امرأة في منتصف العمر، اسمها كلارا، لها عينان رماديَّتان وابتسامةٌ هادئة، يرتبط بها ارتباطًا قويًّا في الأسابيع التالية.

يبدو الإجماع أن الحادث أصابَه بمشاكلَ أقلَّ من المتوقَّع. كُسِرَت ثلاثة ضلوع. ثقبَت الرئةَ شظيةٌ من العظام، وتطلَّب الأمرُ عمليةً جراحيةً صغيرة لإزالتها (هل يودُّ الاحتفاظ بالعظمة للذكرى؟ — إنها في قارورة بجوار سريره). وهناك جروحٌ وكدَماتٌ على وجهه والجزء العلوي من جسمه، وفقد بعض الجلد، وليس هناك دليل على إصابة في المخ. بضعة أيام تحت الملاحظة، وبضعة أسابيعَ أخرى لتتحسَّن الأمور، ويرجع إلى حالته الطبيعية مرةً أخرى. وفي أثناء ذلك ستكون السيطرة على الألم الأولوية القصوى.

يوجينيو الزائر الأكثر تردُّدًا عليه، مُثقَلًا بالألَم لعدم كفاءته مع الرافعة. يُحاوِل قصارى جهده لتهدئة الشاب — «كيف تتوقَّع أن تُتقِن العمل على آلةٍ جديدةٍ في وقتٍ قصير؟» — لكن يوجينيو لا يهدأ. وحين يستيقظ من غَفْوته يكون يوجينيو غالبًا هو الذي يسبح في رؤيته، يرعاه.

يزوره ألفارو أيضًا، كما يزوره الرِّفاق الآخرون من أحواض السفن. تحدَّث ألفارو إلى الأطباء، ويحمل الأخبار بأنه، رغم توقُّع الشفاء الكامل، لن يكون من الحكمة بالنسبة له، في عمره، أن يعود لحياة الشحن والتفريغ مرةً أخرى.

يقترح: «ربما يمكن أن أصبح سائقَ رافعة. لا يمكن أن أكون أسوأ من يوجينيو.»

يردُّ ألفارو: «إذا كنتَ تُريد العمل سائقَ رافعةٍ فسيكون عليك الانتقال إلى أعمال الطرق. الروافع خطيرةٌ جدًّا. ليس لها مستقبلٌ في أحواض السفن. كانت الروافع دائمًا فكرةً سيئة.»

يتمنَّى أن تأتي إيناس لزيارته، لكنها لا تأتي. يخشَى الأسوأ؛ أن تكون قد نفَّذَت خطَطَها لأخذ الولد والهروب.

يذكُر ما يُقلِقه لكلارا. يقول: «لي صديقة، أنا معجب جدًّا بابنها الصغير. لأسبابٍ لن أخوض فيها، كانت السلطات التعليمية تهدِّد بانتزاع الولد منها وإرساله إلى مدرسةٍ خاصة. هل يُمكِن أن أطلبَ منكَ خدمة؟ هل يمكن أن تتصلي بها تليفونيًّا وتعرفي إن كانت هناك أيُّ تطورات؟»

تقول كلارا: «بالطبع. لكن ألا تريدُ الحديثَ إليها بنفسك؟ يمكن أن أُحضِر التليفون لك في السرير.»

يتصل بالبلوكات. يردُّ جارٌ على التليفون، يذهب ويعود ويذكُر أن إيناس ليست في البيت. يتصل في وقتٍ لاحقٍ من اليوم، بدون نجاحٍ مرةً أخرى.

مبكرًا في صباح اليوم التالي، في الفاصل الهُلامي بين النوم واليقظة يرى حُلمًا أو رؤية. بوضوحٍ غير عادي يرى عربةً بعجلتَين تحُوم في الهواء عند نهاية سريره. العربة مصنوعة من العاج أو من معدنٍ ما مطعَّم بالعاج، ويجرُّها حصانان أبيضان، لا أحد منهما الملك. قابضًا على اللجام في يد، ورافعًا اليد الأخرى في لفتةٍ ملكية، عاريًا إلا من وزرة من القطن.

كيف تدخل العربة والحِصانان في غرفةٍ صغيرة في المستشفى سرٌّ بالنسبة له. يبدو أن العربة معلَّقة في الهواء بدون أي جهد من جانب الحِصانَين أو السائس. بعيدًا عن أن يكون الحصانان متجمِّدَين، من حينٍ إلى آخر يضربان الهواء بحوافرهما أو يحرِّكان رأسَيهما ويصهلان. وبالنسة للولد، لا يبدو أنه يتعَب من إبقاء ذراعه مرتفعة. النظرة على وجهه مألوفة؛ رضًا عن الذات، وربما حتى انتصار.

في لحظة ينظر إليه الولد مباشرة. يبدو أنه يقول اقرأ عينيَّ.

يستمرُّ الحلم، أو الرؤية، دقيقتَين أو ثلاثَ دقائق. ثم تتَلاشى، وتكون الغرفة كما كانت من قبلُ.

يحكي لكلارا عنها. يسأل: «هل تؤمنين بتوارُد الأفكار؟ كنتُ أشعُر أن ديفيد يُحاوِل أن يُخبرَني بشيء.»

– «بِم؟»

– «لستُ متأكدًا. ربما يحتاج هو وأمُّه إلى مُساعدة. وربما لا. كانت الرسالة — كيف أعبِّر عنها؟ — مظلمة.»

– «حسنًا، تذكر أن المسكن الذي تتناوله من مشتقات الأفيون. ومشتقات الأفيون تجعلنا نحلُم، أحلام الأفيون.»

– «لم يكن حلم أفيون. كان شيئًا حقيقيًّا.»

من ذلك الوقت بدأ يخفِّض المسكنات، ويعاني بالتالي. الليالي أسوأ؛ حتى أقل حركة تسبِّب طعنةً كهربيةً من الألم في صدره.

ليس لديه ما يشغله، لا شيء يقرأه. لا تُوجد مكتبة في المستشفى، تقدم فقط الأعداد القديمة من المجلات الشعبية (وصفات الطعام، الهوايات، أزياء النساء). يشكو ليوجينيو، فيستجيب بإحضار كتابٍ مدرسي من فصل الفلسفة الذي يحضره («أعرف أنك رجل جاد»). الكتاب، كما خَشِي، عن الطاولات والكراسي. يضعه جانبًا. «آسف، ليس النوع الذي أحبُّه من الفلسفة.»

يسأل يوجينيو: «أي نوعٍ من الفلسفة تُحبُّه بدلًا من هذا؟»

– «النوع الذي يهزُّ المرء. ذلك الذي يغيِّر حياة المرء.»

ينظر يوجينيو إليه بارتباك. يسأل: «هل هناك شيءٌ خطأ في حياتك إذن؟ بعيدًا عن جروحك.»

– «شيءٌ مفتقَد يا يوجينيو. أعرف أنه لا ينبغي أن يكون كذلك، لكنه كذلك. حياتي ليست كافية لي. أتمنى أن ينزل شخصٌ ما، مخلِّص، من السموات ويحرِّك عصًا سحرية ويقول، خذ، اقرأ هذا الكتاب وسوف تُجاب كل أسئلتك. أو خذ، هنا حياةٌ جديدةٌ تمامًا لك. لا تفهم هذا النوع من الحديث، أليس كذلك؟»

– «لا، لا يمكن أن أزعُم أنني أفهَم.»

– «لا تهتم. إنه مجرد مزاجٍ عابر. غدًا أكون نفسيَ القديمةَ مرةً أخرى.»

يُخبره الطبيب بضرورة التخطيط للخروج. هل لديه مكانٌ يقيم فيه؟ هل هناك شخصٌ يطبخ له، ويعتني به، ويساعده على التجوُّل حتى يتحسَّن؟ هل يريد الحديث مع أخصائي اجتماعي؟ يرد: «لا أحتاج إلى أخصائيٍّ اجتماعي. دَعْني أناقش المسألة مع أصدقائي وأرى ما يمكن ترتيبه.»

يعرض عليه يوجينيو غرفة في الشقة التي يشترك فيها مع رفيقَين. سيكون يوجينيو سعيدًا بالنوم على الأريكة. يشكُر يوجينيو ويرفُض.

بناءً على طلبه، يبحث ألفارو عن دُور الرعاية. يذكُر أن البلوكات الغربية فيها مُنشَأة، رغم أن الهدف منها رعاية المسنين، تستوعب أيضًا من هم في مرحلة النقاهة. يطلُب من ألفارو وضع اسمه في قائمة انتظار المنشأة. يقول: «من المشين أن أقول ذلك، لكنَّني أتمنى أن يكون هناك مكانٌ شاغر قبل فترةٍ طويلةٍ جدًّا.» يُطمئِنه ألفارو: «إذا لم يكن في قلبك مرَض، يُعتَبر هذا أملًا مباحًا.» يستفهم «مباحًا؟» يؤكِّد له ألفارو «مباحًا».

وفجأةً تنزاحُ كل مِحَنه. من الدهليز يأتي صوت أصواتٍ شابةٍ متألقة. تظهر كلارا عند الباب. تُعلِن «لديك زوَّار.» تتنحَّى جانبًا، يدخل فيدل وديفيد مندفعَين، يتبعهما إيناس وألفارو. يصرخ ديفيد «سيمون! هل سقطتَ حقًّا في البحر؟»

يقفز قلبه. يفرد ذراعَيه بحذَر. «تعالَ هنا! أجل، تعرَّضتُ لحادثٍ بسيط، سقطتُ في المياه، لكنني ابتللْتُ بالكاد. وأخرجَني أصدقائي.»

يتسلق الولد السرير المرتفع، يرتطم به، ويُرسِل طعناتٍ من الألم فيه. لكن الألم ليس شيئًا. «يا أعز ولد! يا كنزي! يا نور حياتي!»

يتخلص الولد من حِضْنه. يُعلِن: «هربتُ. قلتُ لك إنني سأهرب. مشيتُ خلال الأسلاك الشائكة.»

هرب؟ مشيٌ خلال الأسلاك؟ يرتبك. عم يتحدَّث الولد؟ ولماذا هذا الزي الجديد الغريب؛ سويتر برقبةٍ ضيقة، بنطلون قصير (قصير جدًّا)، حذاء مع جوربٍ أبيضَ قصير جدًّا يغَطي الكاحلَين بالكاد؟ يقول: «شكرًا لحضوركم جميعًا، لكن يا ديفيد — من أين هربت؟ هل تتحدث عن بونتو أريناس؟ هل أخذوك إلى بونتو أريناس؟ إيناس، هل سمحْتِ لهم بأخذه إلى بونتو أريناس؟»

– «لم أسمح لهم. جاءوا وهو يلعب في الخارج، وأخذوه في سيارة. كيف كان لي أن أمنعهم؟»

– «لم أتخيل قَط أن الأمر قد يصل إلى هذا. لكنك هربتَ، يا ديفيد؟ احكِ لي عن ذلك. احكِ لي كيف هربتَ.»

لكن ألفارو يتدخل. «قبل أن نأتي إلى هذا يا سيمون، هل يمكن أن نُناقِش انتقالك؟ متى، في اعتقادك، تكون قادرًا على المشي؟»

يسأل الولدُ: «ألا يستطيع المشي؟ ألا تستطيع المشي يا سيمون؟»

– «سأحتاج فقط إلى مساعدة في الفترة القصيرة التالية. حتى تختفي كل الأوجاع والآلام.»

– «هل ستستخدم كرسيًّا متحركًا؟ هل يمكن أن أدفعك؟»

– «أجل، يمكن أن تدفعَني في كرسيٍّ متحرك، طالما كنتَ لا تسير بسرعةٍ شديدة. ويُمكِن أن يدفعني فيدل أيضًا.»

يقول ألفارو: «سبب سؤالي أنني كنتُ على اتصال بدار الرعاية مرةً أخرى. أخبرتُهم بأن من المتوقع أن تُشفَى تمامًا ولا تحتاج إلى رعايةٍ خاصة. وفي تلك الحالة، كما قالوا، يمكن إدخالك على الفور، طالما كنت لا تمانع في غرفةٍ مشترك. ما رأيك في ذلك؟ يمكن بذلك حل مشاكلَ كثيرة.»

الاشتراك في غرفة مع عجوزٍ آخر. يشخرُ بالليل ويبصُق في منديله. يشكو من ابنته التي تخلت عنه. ويستاء تمامًا من الوافد الجديد، المقتحم لفضائه. يقول: «بالطبع لا أمانع. من المريح أن يكون هناك مكانٌ محدَّد أذهب إليه. راحة للجميع. شكرًا لك يا ألفارو، شكرًا لاهتمامك.»

يقول ألفارو: «وسوف يدفع الاتحاد بالطبع. مقابل إقامتك، ووجباتك، مقابل كل احتياجاتك وأنت هناك.»

– «رائع.»

– «حسنًا، لا بُد أن أعود إلى العمل الآن. سأتركك لإيناس والولدَين. أنا متأكدٌ من أن لديهم الكثير يخبرونك به.»

هل يتخيَّل أشياء، أم أن إيناس تُلقِي نظرةً خاطفةً لألفارو وهو يغادر؟ لا تتركني وحدي معه، هذا الرجل نحن في سياق خيانة! يُوضَع في غرفةٍ معقَّمة في البلوكات الغربية البعيدة، حيث لا يعرف أحدًا. يُترَك ليتعفَّن. لا تتركني وحدي معه.

– «اجلسي يا إيناس. ديفيد احكِ لي قصتك من البداية إلى النهاية. لا تترك شيئًا. لدينا الكثير من الوقت.»

يقول الولد: «هربتُ. أخبرتُك بأنني أستطيع. مَشَيتُ خلال الأسلاك الشائكة.»

تقول إيناس: «تلقَّيتُ اتصالًا تليفونيًّا. من امرأةٍ غريبةٍ تمامًا. قالت إنها وجدَت ديفيد يتجول في الشوارع بدون ملابس.»

– «بدون ملابس؟ هربتَ من بونتو أريناس، يا ديفيد، بدون ملابس؟ متى كان ذلك؟ ألم يحاول أحدٌ إيقافك؟»

– «تركتُ ملابسي في الأسلاك الشائكة. ألم أعِدْكَ بأنني أستطيع الهروب؟ أستطيع الهروب من أي مكان.»

– «وأين وجدَتكَ هذه السيدة، السيدة التي اتصلت تليفونيًّا بإيناس؟»

– «وجدَته في الشارع، في الظلام، بردان وعريان.»

يقول الولد: «لم أكن بردانًا. لم أكن عريانًا.»

تقول إيناس: «لم تكن ترتدي أي ملابس. هذا يعني أنك كنتَ عريانًا.»

يقاطع سيمون: «لا تُبالِ بذلك. لماذا اتصلَت المرأةُ بكِ يا إيناس؟ لماذا لم تكن المدرسة؟ كان ذلك بالتأكيد ما عليها أن تفعله.»

يقول الولد: «إنها تَكرَه المدرسة. الجميع يكرَهونها.»

– «هل هي حقًّا مكانٌ رهيب بهذه الصورة؟»

يومئ الولد بقوة.

يتكلم فيدل للمرة الأولى: «هل ضربوك؟»

– «لا بد أن تبلغ الرابعة عشرة قبل أن يضربوك. حين تكون في الرابعة عشرة يمكن أن يضربوك إذا كنتَ عاصيًا.»

تقول إيناس: «احكِ لسيمون عن السمك.»

يهتزُّ الولد بشكلٍ مسرحي: «كانوا كل جمعة يجعلوننا نأكل سمكًا. وأنا أكرَه السمك. عيونها مثل السنيور ليون.»

يُقهقِه فيدل. في لحظةٍ يغرَق الولدان في الضحِك.

– «ماذا أيضًا كان فظيعًا في بونتو أريناس بالإضافة إلى السمك؟»

– «جعلونا نلبس صنادل. ولم يسمحوا لإيناس بالزيارة. قالوا إنها ليست أمي. قالوا إنني قاصر تحت الحِراسة. القاصر شخصٌ ليس له أم أو أب.»

– «هذا هُراء. إيناس أمك وأنا أبوك الروحي، وهو جيد مثل الأب، وأحيانًا أفضل. أبوك الروحي يرعاك.»

– «لم تَرعَني. تركتَهم يأخذونني إلى بونتو أريناس.»

– «صحيح. كنتُ أبًا روحيًّا سيئًا. نمتُ بينما كان ينبغي أن أرعاك. لكنني تعلَّمتُ الدرس. سأهتم بك بشكلٍ أفضل في المستقبل.»

– «هل ستقاتلهم إذا عادوا؟»

– «أجل، بأقصى ما أستطيع. سوف أستعير سيفًا. سأقول، حاولوا أن تسرقوا ولدي مرةً أخرى وسوف تجدون دون سيمون يتعامل معكم!»

يتألق الولد بهجةً. يقول: «بوليفار أيضًا. يمكن أن يحرُسَني بوليفار في الليل. هل ستأتي لتعيش معنا؟» يلتفت إلى أمه: «هل يمكن أن يأتي سيمون ويعيش معنا؟»

– «لا بد أن يذهب سيمون إلى دار الرعاية ليتعافى. لا يستطيع المشي. لا يستطيع صعود السلالم.»

– «يستطيع! تستطيع المشي، ألا تستطيع، يا سيمون؟»

– «أستطيع بالطبع. لا أستطيع بشكلٍ طبيعي، بسبب أوجاعي وآلامي. لكن من أجلك أستطيع فعل أي شيء: أصعد السلالم، وأركب الجِياد، أي شيء. عليكَ فقط أن تقول الكلمة.»

– «أية كلمة؟»

– «الكلمة السحرية. الكلمة التي سوف تشفيني.»

– «هل أعرف الكلمة؟»

– «تعرفها بالطبع. قُلْها.»

– «الكلمة هي … تعويذة!»

يُبعِد الملاءة (لحسن الحظ يرتدي بيجامة المستشفى) ويؤرجح ساقَيه الضامرتَين على جانب السرير. سأحتاج إلى مُساعدة، أيها الولدان.»

ساندًا على كتفَي فيدل وديفيد، يقف بحذَر، يخطو خطوةً أولى بترنُّح، وثانية. «انظر، أنت تعرف الكلمة! يا إيناس، هل يمكن أن تُقرِّبي الكرسي المتحرك؟» يستقر في الكرسي المتحرك. «الآن، لنذهب في نزهة. أودُّ رؤية العالم، بعد كل هذا الوقت من الحبس. من يريد أن يدفع؟»

يسأل الولدُ: «ألن تأتي معنا إلى البيت؟»

– «ليس بعدُ. ليس حتى أستردَّ قوَّتي.»

– «لكننا سنكون غجرًا! إذا بقيتَ في المستشفى لا يمكن أن تكون غجريًّا!»

يلتفت إلى إيناس: «ما هذا؟ اعتقدتُ أننا صرَفنا النظر عن مسألة الغجر.»

تتجمَّد إيناس. «لا يمكن أن يعود إلى تلك المدرسة. لن أسمح بذلك. سوف يذهب أخواي معنا، الاثنان. سنأخذ السيارة.»

– «أربعة أشخاص في تلك العربة القديمة؟ ماذا إذا تحطَّمَت؟ وأين ستُقيمون؟»

– «لا يهم. سنقوم بوظائفَ غريبة. سأجمع الفاكهة. أقرضَنا السنيور داجا نقودًا.»

– «داجا! داجا إذن وراء ذلك!»

– «حسنًا، لن يعود ديفيد إلى تلك المدرسة الرهيبة.»

– «حيث يجعلونه يلبس صندلًا ويأكل سمكًا. لا تبدو رهيبةً بهذا الشكل بالنسبة لي.»

– «فيها أولاد يدخِّنون ويشربون ويحملون سكاكين. إنها مدرسةٌ للمجرمين. إذا عاد ديفيد فسوف يحمل نُدوبًا طول حياته.»

يتحدث الولد: «ماذا يعني ذلك، يحمل نُدوبًا طولَ حياته؟»

تقول إيناس: «إنها مجرد طريقة في التعبير. تعني أن أثَر المدرسة سيكون سيئًا عليك.»

– «مثل جرح؟»

– «أجل، مثل جرح.»

– «أصِبتُ بجروحٍ كثيرة بالفعل. أصِبتُ بها من الأسلاك الشائكة. هل تريد أن ترى جروحي يا سيمون؟»

– «قصدَت أمك شيئًا آخر. تقصد جرحًا في نفسك. جرحًا من نوعٍ لا يلتئم. هل صحيح أن الأولاد في المدرسة يحملون سكاكين؟ هل أنت متأكدٌ من أنه ليس ولدًا واحدًا فقط؟»

– «الكثير من الأولاد. وقد أحضروا بطة أمًّا وبطاتٍ صغيرات وداس أحد الأولاد على بطةٍ صغيرة فخرجَت أحشاؤها من مؤخرتها، وأردت أن أعيدها لكن المدرِّس لم يسمح لي، قال لا بد أن أترك البطة الصغيرة تموت، وقلتُ إنني أريد أن أنفُثَ فيها الحياة، لكنه لم يسمح لي. وكان علينا أن نقوم بأعمال البستنة. بعد ظهر كل يوم بعد المدرسة يجعلوننا نَحفِر. أكره الحَفْر.»

– «الحَفْر جيد بالنسبة لك. إذا لم يكن أحد مستعدًّا للحَفْر، فلن تكون لدينا محاصيل، لن يكون لدينا طعام. الحَفْر يجعلك قويًّا. يمنحُك عضلات.»

– «يمكن إنبات بذور على ورق نشاف. وضَّح لنا مدرِّسنا ذلك. لا تحتاج إلى الحَفْر.»

– «بذرة أو اثنتان، أجل. لكن إذا أردتَ محصولًا حقيقيًّا، إذا أردت إنبات قمحٍ كافٍ لصناعة الخبز وإطعام الناس، فلا بُد من وضع البَذْرة في الأرض.»

– «أكره الخبز. الخبز ممل. أحب الآيس كريم.»

– «أعرف أنك تحب الآيس كريم. لكن لا يمكن أن تعيش على الآيس كريم، بينما يمكن أن تعيش على الخبز.»

– «يمكن أن تعيش على الآيس كريم. السنيور داجا يعيش عليه.»

– «يتظاهر السنيور داجا فقط بأنه يعيش على الآيس كريم. سرًّا أنا متأكد من أنه يأكل الخبز مثل الآخرين. على أية حال، لا ينبغي أن تتخذ السنيور داجا نموذجًا.»

– «السنيور داجا يعطيني هدايا. لا تعطيني أنت وإيناس هدايا أبدًا.»

– «غير صحيح، يا ولدي، غيرُ صحيحٍ وقاسٍ. إيناس تحبُّك وتهتم بك، وأنا أيضًا. بينما السنيور داجا، ليس في قلبه حب لك إطلاقًا.»

– «يحبُّني! يريد أن أذهب وأعيش معه! أخبرَ لإيناس وإيناس أخبرَتْني.»

– «أنا متأكد من أنها لن توافق أبدًا على ذلك. أنت تنتمي لأمك. هذا ما كنا نُصارِع من أجله طول الوقت. قد يبدو السنيور داجا فاتنًا ومثيرًا لك، لكن حين تكبر تدرك أن الناس الفاتنين والمثيرين ليسوا بالضرورة أناسًا طيبين.»

– «ما معنى فاتن؟»

– «فاتن يعني يلبَس قُرطًا ويحمل سكينًا.»

– «السنيور داجا يحب إيناس. وسيصنع أطفالًا في بطنها.»

تنفجر إيناس: «ديفيد!»

– «صحيح! قالت إيناس لا ينبغي أن أخبرك، ستكون غيورًا. هل هذا صحيح يا سيمون؟ هل أنت غيور؟»

– «لا، لست غيورًا بالطبع. لا شأن لي بذلك. ما أريد أن أقوله لك إن السنيور داجا ليس شخصًا طيبًا. قد يدعوك إلى بيته ويعطيك آيس كريم، لكنه لا يضع أفضل مصالحك في القلب.»

– «ما أفضل مصالحي؟»

– «مصلحتُك الأولى أن تكبر وتكون رجلًا طيبًا. مثل البذرة الطيبة، البذرة التي تُوضَع عميقًا في الأرض وتمُد جذورًا قوية، ثم حين يأتي وقتها تنبثقُ في النور وتحمل الكثير. هكذا ينبغي أن تكون. مثل دون كيخوته. أنقذ دون كيخوته العذارى. حمَى الفقراء من الأغنياء والأقوياء. خُذه نموذجًا لك، وليس السنيور داجا. احمِ الفقير. أنقِذ المظلوم. وشرِّفْ أمك.»

– «لا! ينبغي أن تشرِّفَني أمي! على أية حال، يقول السنيور داجا إن دون كيخوته قد عفا عليه الزمن. يقول لم يعُد أحدٌ يركَب حصانًا.»

– «حسنًا، إذا أردتَ يمكن أن تُبرهِن له بسهولةٍ أنه مخطئ. اركَب حصانَك وارفع سيفَك عاليًا. سوف يسكت هذا السنيور داجا. اركَب الملك.»

– «الملك ميت.»

– «لا، الملك ليس ميتًا. الملك حي. تعرف ذلك.»

يهمس الولد: «أين؟» تمتلئ عيناه فجأة بالدموع، وترتجف شفتاه، يُخرِج الكلمة بالكاد.

– «لا أعرف، لكن في مكانٍ ما ينتظر الملك مجيئك. إذا بحثتَ فستعثُر عليه بالتأكيد.»

١  بالإسبانية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤