دبٌّ في الترام

أرى الناس في هذه المركبة أبدًا مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيهما مطمئنًّا هادئًا، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة، وليس الأمر قاصرًا على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائع البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفد صبره — إن كان ثمة لديه من صبر — لأقل سبب أو لغير سبب!

وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة … ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! ممن تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلا ما لا يحبون؟

أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم، فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟

ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يئودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.

وإنما أردت أن أصور له منظرًا رأيته جديرًا بأن يغضب الراكبين جميعًا، ولو كانوا كلهم هادئين، فهذا شاب آخر غير ذلك الذي سبق الحديث عنه والذي لم يجد قاطع التذاكر يومها بدًّا من نعته بأنه «دغف» أقول: هذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية «مثقفين» انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تذكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجرًا جديدًا إذا شاء أن يستمر راكبًا، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!

ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم أمارات الغضب والقلق والاستنكار …

وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعًا ينظرون إلى هذا الذي كان سببًا في التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق، ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة، وهو في جلسته شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!

وحار هؤلاء العمال — أول الأمر — ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دبًّا أو قرب منه.

ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة، ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس، فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!

وازداد الناس ضيقًا وسخطًا وقلقًا، وبلغ حنقي غايته … ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي، فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، ثم يربت على كتف الدب في رفق ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع: «ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلًا لنا جميعًا؟» وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه، فلم يزد على أن قال له في هدوء: «أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟» … وما سمعها الرجل حتى وثب متراجعًا لا يلوي على شيء.

وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام … وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة … فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف «الكمساري»، ويلومه قائلًا له: «ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطة أو تلاتة وينزل!»

وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعًا مما فعل الشرطي أعظم من خزينا مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته، ولعله خاف أن يقرب من الدب كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر …

وعدت أقول لنفسي كما قلت في موضع سابق: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟ … ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما وصلنا إليه من المدنية، فبهذا الذي تقع عليه أعينهم بيننا تقاس المدنية، كما رجوت ألا يحكموا على شرطتنا جميعًا بما رأوا من هذا الشرطي الهمام الذي لن يوجد نِدٌّ له في لندن ذاتها فيما أعتقد، في سرعة خاطره وحسن تصرفه وسعة حيلته … اللهم إني أستغيثك … اصرف عنا الأذى يا أرحم الراحمين …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤