الآداب والفنون والمعارف والعلوم

عند الماديين التاريخيين أنَّ «الحاجة» هي مصدر الآداب والفنون والمعارف والعلوم، ولا استثناء في هذه القاعدة للرياضيات ولا للفلسفة والعلوم النظرية، فالإنسان لا يفكر في شيء، ولا يحلم بشيء، ما لم يكن مبعثه الحاجة إلى مطالب المعيشة، ولا تتطور الآداب والمعارف جميعًا إلا وفاقًا لحالة المجتمع في هذه المطالب المعيشية، وتحكمها كلها في النهاية وسائل الإنتاج.

وليس في المجتمع الإنساني معرفة لم تصدر من حاجة معيشته، غير أنَّ المجتمع ينظم هذه المعرفة في تركيبين متصاحبين: أساسي١ ويشمل الحاجات التي تأتي من علاقة الإنسان مباشرة بالطبيعة، والتركيب الآخر يسمونه «بالتركيب الأعلى»٢ ويشمل الحاجات التي تتولد من علاقة الإنسان بالإنسان في المجتمع، وهذه تحتوي فيها مطالبه الأدبية والفنية ومطالب الثقافة الإنسانية على الإجمال.

ولقد كان في مقدور هؤلاء الماديين أن يرجعوا بالآداب والفنون والمعارف إلى حاجة الإنسان، ويحسبون له حاجة عقلية إلى جانب حاجته الجسدية، ولكنهم لو فعلوا ذلك لابتعدت منهم الغاية التي يريدون تقريبها، وهي استغلال الحرمان المطبق — الموعود — للتحريض على النقمة والخراب.

فليس للإنسان إذن حاجة عقلية أو وجدانية إلى جانب حاجته الجسدية. كلا، بل حاجاته كلها مجتمعة في مطالبه الحيوانية، وما عدا هذه الحاجات فهو فروع متشعبة منها، وليست أهلًا لأن تستقل بالطلب لذاتها في مطلع الحياة الاجتماعية، أو في المراحل التي تتقدم منها بعد تلك المرحلة.

لماذا يرجع الماديون التاريخيون بالآداب والفنون والمعارف والعلوم إلى ذلك المصدر: مصدر الحاجة الحيوانية؟

أما الأسباب الفكرية فسنرى أنها لا تلجئهم إلى ذلك المرجع ولا تواتيهم خطوة حتى تدبر بهم خطوتين، كدأبهم في كل علة يتعللون بها لرأي من الآراء.

وأما الأسباب التي ترجع إلى الظواهر النفسية المريضة في طباعهم، فهي على طرف الأصبع ممن يريد أن يلمسها، وهي أنَّ غاية مذهبهم ثورة يدعون إليها المحرومين من حاجات المعيشة، فلا يجوز أن تكون هناك حاجات مثلها أو حاجات تقترن بها، بل لا يجوز أن يتأخر اليوم الموعود لاستحكام ذلك الحرمان، فإن من يخفف الحرمان أو يكذب «اليوم الموعود» به يحل بينهم وبين الأمنية المشتهاة.

وإن حيرة الماديين التاريخيين في البحث عن تلك الغاية لتتجسم بين عيني الناظر، كلما نظر إليهم، وهم يعصرون رءوسهم ليسلكوا بها من جحر إلى جحر، ومن سرداب إلى سرداب وراء تلك الغاية، التي لا يطيقون أن تبتعد ولا أن تتجه الآراء صوب غاية سواها.

وينبغي للباحث المجرد من الهوى أن يسأل نفسه كل سؤال جدي في هذا المبحث، ثم يهتدي إلى الجواب الصواب فيه قبل أن يحسبه في زمرة الحقائق المفروغ منها.

إلا أنَّ الماديين التاريخيين يهربون من الأسئلة الجدية في هذا البحث، أو يسألونها ثم يروغون منها، ويقنعون في الإجابة عنها بتلفيقات صبيانية، لا تحتمل النظر إليها كَرَّة أو كرَّتين في مقام التثبت والتحقيق.

فهل يترقى ذوق الجمال الفني — مثلًا — بمقدار انغماس المرء في الحاجات الضرورية؟! وهل تترقى الآداب والفنون عند اشتداد القحط والفاقة، أو تترقى عند زوال الحاجة وتوفر البذخ والرخاء؟!

وإذا قيل مثلًا: إنَّ الطائر يغني حين يشبع، فلماذا يغني إذا كانت حاجته هي الشبع، ولم تكن له حاجة أخرى هي التعبير عن رضاه بأسلوبٍ مركب في طبيعة البنية كتركيب المعدة والجناح.

وإذا قيل: إنَّ الشعر يروج بين القبائل البادية؛ لأنه يحركهم للحماسة والفخر والذكرى، فليس السؤال هنا أنه نافع أو غير نافع، ولكنه سؤال آخر وهو: لماذا يحركهم؟ ولماذا يستحق عندهم أقل عناء إذا لم يكن حاجة من حاجات نفوسهم، إلى جانب حاجات النضال والغلب في القتال؟!

وكيف نفسر نبوغ الشعراء والمَثَّالِين في اليونان القديمة بنظام الإنتاج الاقتصادي، وهو نظام تسخير الرقيق؟! وكيف يتأتى لهم النبوغ، ولا يتأتى مثله لكل أمة لها نظام اقتصادي أو نظام إنتاج؟!

من الصبيانيات المضحكة حقًّا جواب «ماركس» عن هذا السؤال — حيث عرض له في ذيل الكلام عن نقد «الاقتصاد السياسي» فخيل إليه أنه يجيبه ويفرغ منه إذ يقول: «إنَّ الصعوبة ليست في فهم علاقة الفن اليوناني وعصره ببعض أطوار الاجتماع، ولكن الصعوبة حيث نسأل: كيف بقي حتى اليوم يمتعنا باللذة الجمالية ويكاد أن يمثل لنا نموذجًا لا ينال؟»

والجواب الوافي عن هذا السؤال — في تقدير «ماركس» أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يكون طفلًا ولكنه يسر بأحوال الطفولة البريئة من التكلف، ويجتهد في إبراز حقيقتها على نحو أرفع وأعلى، وكذلك تمثل لنا طفولة النوع البشري سحرًا مضى ولا يعود، وقد كان اليونان أطفالًا طبيعيين عرضوا لنا أجمل طور من أطوار الطفولة الاجتماعية، ومن ثم هذا السحر الذي يسحرنا به فنهم.

جواب صبياني مضحك من وراء تلك اللحية العبرانية السابغة التي يضيفها عليه «ماركس»، ويظن أنه قال في هذا الموضوع قولًا يستحق شيئًا غير السخرية والابتسام، فلماذا تسحرنا الطفولة أولًا؟ وبماذا نفسر هذا الشعور الفني من التفسيرات الاقتصادية؟ ولماذا لم توجد طفولة أخرى كهذه الطفولة؟ أو قبل هذه الطفولة، بين الجماعات البشرية الأولى؟ ولماذا يتفاوت الناس في تذوق هذا الفن وهم سواء في الشغف بالطفولة وسحرها؟ وهل كل ما في إبداع اليونان أنه لثغة صبيانية تأتي من الأطفال عفوًا ولا يحسنها الكبار؟

إن سر الفنون الجميلة مسألة أعمق وأسمى من أن تلفها ترقيعة من ترقيعات الماديين التاريخيين الذين تعودوا أن يلفوا بها مسائل الاقتصاد، ولا يعسر عليهم تدارك الرقعة فيها برقعةٍ أخرى قد تخفى على أناس قليلين أو كثيرين في بدء العهد بالدراسات الاقتصادية. لأن هذه الدراسات الاقتصادية لم يمض عليها أكثر من قرن واحد قبل أيام «كارل ماركس» إمام المادية التاريخية، ولكن الأمم قد أخرجت آيات الفنون وروائعها منذ عشرات القرون، وامتزجت هذه الآيات بعواطفها العامة وبعواطف كل إنسان على حدة، فندر بين الناس من لا يستجيب لآيةٍ من آيات الفنون الكثيرة في لحظةٍ من لحظات الرضا والأمن أو لحظات الحزن والخوف، واستعصى على التعريفات المرقعة أن تفسر لكل إنسان متذوق للجمال حقيقة هواه للفنون، وأن نظفر منه بالارتياح الذي يظفر به الرأي المطابق لبواعث الشعور.

واستعصى هذا على «كارل ماركس» فاضطر إلى استثناء بعض الأحوال، وإخراجها — ولو قليلًا — من نطاق الإنتاج وضرورات الاقتصاد، فاضطر في مقدمة «نقد الاقتصاد السياسي» إلى الاعتراف «بأن فترات من العهود التي يرتقي فيها التطور الفني إلى ذروته العليا لا تكون على اتصالٍ مباشر بالتطور الاجتماعي في عمومه، ولا على اتصالٍ بالأسس المادية في المجتمع أو بهيكل نظامه.»

واضطر «إنجلز» — كما تقدم — إلى الاعتراف في رسائله بالغلو في تعظيم شأن العوامل المادية، وإهمال شأن العوامل الأدبية أثناء الاشتغال بالدفاع عن قواعد المذهب أمام خصومه ومعارضيه.

وكتب «إنجلز» في رسالة من رسائله إلى السيدة «مينا كوتسكي» بتاريخ نوفمبر سنة ١٨٨٥ — يأخذ عليها أنها أذابت «شخصيات» قصتها في الدعاية للغرض الذي سخرتهم له خدمة لمبادئها الشيوعية.

ولما بدأ تطبيق المذهب في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى كان «لينين» يعارض جماعة الأدب الصعلوكي؟٣ ويفضل «بوشكين» وليد المجتمع القيصري على «مياكوفسكي» داعية الأدب الشيوعي، وتقول زوجته «كروبسكايا» في مذكراتها عنه: إنه سأل طائفة من الشبان في سنة المجاعة ماذا يقرءون؟ هل يقرءون «بوشكين» فلما قالوا له: إنهم يفضلون عليه «مياكوفسكي»؛ لأنهم لا يحبون الشعراء البرجوازيين، تبسم وقال: أظن أنَّ «بوشكين» أفضل، ثم تقول زوجته: إنه التفت بعد ذلك إلى منظومات «مياكوفسكي» لما رآه من أثره في تلك النفوس الفتية.

وأصرح من رأي «لينين» رأي «تروتسكي» إذ يقول في رسالته عن الأدب والثورة: «إن ترديد هذه المصطلحات — مصطلحات أدب الصعاليك وثقافة الصعاليك — خطر؛ لأنه يحصر أدب المستقبل في المجاز الضيق من أدب الزمن الحاضر.»

ولما استبد «ستالين» بالأمر خُيِّل إليه أنه قادر على محو كل أدب لا يتشيع لمقاصده، ولا يتغنى بمجده ومجد مشروعاته، وأراد أن يزيل بقايا الأدب التي لا تواتيه على خطته، فأصبحت مشروعات السنوات الخمس للأدب تساير مشروعات السنوات الخمس للصناعة والزراعة، وذهب عهده من ولايته للحكم إلى وفاته بغير أثرٍ يُذكر في الآداب العالمية ولا الآداب القومية، التي تدفقت من روسيا في أواخر أيام الحكم القيصري؛ لأنها كانت في الواقع أوائل أيام النهضة أو أيام الحرية الفكرية، التي لا تقبل التوجيه ولا تستوحي برامج المسيطرين على الأفكار والنيات، وقد كان من أثر الجو الخانق الذي أطبق على قرائح الشعراء والأدباء أنَّ ثلاثة من أشهرهم بخعوا أنفسهم وهم دون الخامسة والثلاثين، وهم «مياكوفسكي» و«ايسنين» و«تاجريتسكي»، الذين كانوا ينزعون ثلاثة منازع متفرقات بين الإشادة بالصناعة، والإشادة بالريف، والإشادة بمجتمع الحضارة، فأحسوا بالاختناق الميئس في هذه المنازع المتفرقات.

وما هو إلا أن زال عهد «ستالين»، وأدرك الشعراء والقصاص أنهم في حلٌّ من التمرد على البرامج القاسرة في النظم والكتابة حتى تنفَّسوا الصعداء، وارتفعت منهم الصيحة بانتقاد أدب الآلات والمشروعات، واجترأت الشاعرة «برجولتز»،٤ فتهكمت على الأناشيد التي كانت تنظم للصغار منذ طفولتهم وفاقًا لتلك البرامج الآلية، فقالت: إنَّ هذه الأناشيد تنظم في الأمم الأخرى لتنويم الأطفال، ولكنهم في روسيا ينظمونها لإزعاجهم وإطارة الرقاد من عيونهم، وكان على رأيها في ثورتها شاعران معروفان هما: «باستوفسكي»٥ و«فاردوسكي»،٦ ثم لحق بالأدباء المتمردين عميدهم الذي اشتهر بفن القصة في اللغات الأوربية «إيليا اهرنبرج»، فنشرت لهم الصحف الأدبية ما كتبوه، ومنها صحيفة الراية «زناميا» وصحيفة «المجلة الأدبية»، وكلتاهما كانت لسان حال لمشروعات السنوات الخمس في الأدب والفن الجميل.

وإن هذا النوع الذي عرفه الأدباء الشيوعيون بالتجربة لخليق أن يعرفوه بداهة، أو يستغنوا فيه بتجارب الأمم الإنسانية على تنوع لغاتها وآدابها وفنونها، فإنه لمن البديه أن يكون الأدب حيويًّا إنسانيًّا قبل أن يجوز في العقل أن تستخدمه طبقة لتسخير الطبقات الأخرى في تعزيز مكانتها أو خدمة مصالحها، حتى الأدب الذي هو أخص الآداب بالأفراد وأبعدها عن مشكلات الاقتصاد والاجتماع كشعر المديح والفخر والرثاء، وإلا فماذا تساوي قصيدة المديح أو الفخر أو الرثاء التي لا تعني أحدًا غير من قيلت له أو قيلت فيه؟ وماذا يساوي الشعر كله في جميع العهود والدول إن لم يكن له رواة وحفاظ من الرعية والرعاة؟

والشعر العربي — على التخصيص — يأتي بالحجة القاطعة في تفنيد أثر الطبقة في الآداب والفنون والرجوع بأقوى المؤثرات وأفعلها إلى العقيدة والبواعث الوجدانية؛ لأنَّ هذا الشعر لم تتغير أبوابه ولا مقاييس الحمد والذم فيه، مع تغير وسائل الإنتاج من أيام الجاهلية إلى أيام الدول الإسلامية، ومن قيام هذه الدول في المشرق إلى قيامها في المغرب بين الأوربيين وشعوب أفريقيا الشمالية.

فالعصر الذي نشأ فيه الشعر العربي كان على حسب تقسيم الماركسيين عصر السادة والأَرِقَّاء، كان في البادية على أيام الجاهلية قليل من الأَرِقَّاء يعملون في الصناعات وسائر الأعمال اليدوية، ثم تجمعوا في الموانئ على شواطئ العراق بعد قيام الدولة العباسية، ثم اجتمع من الموالي والمماليك ألوف مجندون في الجيش، ما برحوا يتكاثرون ويستأثرون بمناصب القيادة والرئاسة، حتى آل إليهم الملك وضعف سلطان الخلافة والوزارة بالقياس إلى سلطانهم، وهذه أطوار في نظام السادة والأَرِقَّاء لم يحدث لها نظير في الأمم الغربية، فهي أصدق المراجع لتصحيح الآراء في أمر الأدب وعلاقته بنظام الإنتاج، وهي أقوى تفنيد لرأي الماديين التاريخيين في ارتباط الأدب والفن بالطبقة والتهوين فيهما من أثر البواعث الحيوية والإنسانية؛ بل الطبيعة التي تحيط بجميع الأحياء.

فالشعر — وهو الفن العربي الأول — قد بقيت له أبواب الفخر والغزل والمديح والرثاء والهجاء من أيام الجاهلية إلى أيام الدول الإسلامية في المشرق والمغرب، وقد بقيت مقاييس الحمد والذم فيه مرعية بين أيام الأَرِقَّاء الأولى وأيامهم الأخيرة وفي أيديهم الصولة والصولجان، ولما اختلفت موضوعات الغزل كان اختلافها في دول الأندلس؛ حيث لا يوجد الرؤساء المتحكمون من المماليك والموالي كاختلافها في دول العراق وفارس ومصر حيث وجد الرؤساء من مماليكها ومواليها، ولما اضطربت أمور الدول الإسلامية، واختلت دعائم الأمن فيها وسرى الضعف إلى اللغة الفصحى من أثر الاضطراب والاختلاط كان النشاط الأكبر لتحرير اللغة وجميع مفرداتها وتصنيف موسوعاتها في دولة المماليك وعلى أيدي أناس من الأعاجم، ولم ينهض هؤلاء وهؤلاء لتحرير اللغة العربية الفصحى؛ لأنها لغة أمهاتهم وآبائهم، ولكنهم نهضوا هذه النهضة؛ لأنها لغة العقيدة التي يدينون بها ولغة الثقافة العامة التي يلتقي فيها أبناء الأمة العربية وأبناء الأمم الأعجمية.

ولقد سأل السائلون: ماذا كان أثر النظام القائم على الأَرِقَّاء في أدب اليونان وفي شعر يوربيدس وارستفان واسكايلوس وسفوكليس وغيرهم من الشعراء والحكماء؟

وسألوا هذا السؤال وعجز المسئولون عن جوابه، وأحرى من ذلك بالسؤال نظام السادة الأَرِقَّاء وأثره في موضوعات الشعر العربي ومقاييس الحمد والمذمة فيه، فإن العجز في جواب هذا السؤال على وفاق المذهب المادي لأظهر من العجز في جواب السؤال عن أدب اليونان الأقدمين؛ لأننا هنا أمام أثر الفكرة في ناحية، وجميع الآثار المزعومة في الناحية الأخرى بين شتى الأقوام والبيئات واللغات والأزمنة ووسائل الإنتاج.

ولدينا في مصر شاهد يضارع هذا الشاهد في قوته وتفنيده للسخافة المادية، وذاك هو الشاهد الذي نستمده من أدب مصر «الشعبي» خلال عصر المماليك من أواخر الدولة الفاطمية إلى أوائل القرن العشرين.

فإذا زالت من آداب الأمم جميع الشواهد التي ترجع بالأدب والفن إلى البواعث الحيوية الإنسانية، كان هذا الأدب الشعبي في مصر قائمًا وحده بالبرهان المكين على هذه الحقيقة، التي لم تبطلها قط تجربة من التجارب الإنسانية.

«على أي موضوع كان الأدب الشعبي يدور بمصر منذ القرن السادس للهجرة؟

إنه كان يدور على ملاحم أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة والزير سالم وسيف ابن ذي يزن وغيرهم من أبطال هذا الطراز.»

«وقد اختلفت الهيئة الحاكمة خلال هذه القرون من الدولة الفاطمية إلى الأيوبية إلى دولة المماليك إلى الدولة العلوية.

واختلفت الأحوال الاقتصادية من رواج النقل في تجارة الشرق والغرب إلى انقطاع الصلة بينهما، إلى نشأة الزراعة القطنية، إلى تجدد المعاملات التجارية بين القارات الشرقية والغربية.

وفي جميع هذه القرون كانت قصة أبي زيد هي هي، وقصة الزير سالم على نسختها الأولى، وقصة الذوين والتبابعة مسموعة في القرن الثالث عشر كما كانت تسمع قبل ذلك بثلاثة قرون أو أربعة. وهذا هو رأي الشعب في الأدب الشعبي، لا سلطان عليه للطبقة الحاكمة، لأن هذه الطبقة الحاكمة كانت تجهل اللغة التي نظمت بها قصائد السيرة الهلالية وما شابهها؛ ولأنَّ قبائل بني هلال وبني تغلب وبني من شئت من الآباء لم يكن لها سلطان على الدولة الحاكمة، ولا كانت الدولة الحاكمة معتزة بهم أو جارية في نظام المجتمع على مثالهم.

إن هذه الملاحم حقيقة واقعة، وإن غرام الشعب بها حقيقة واقعة، وإن ثباته على الافتتان بها مع اختلاف الدول والأحوال الاقتصادية والطبقات الحاكمة حقيقة واقعة.

فأين يذهب تعريفنا للأدب بأنه مسألة اجتماعية بين هذه الحقائق الواقعة؟ وأي فرق بين الأخذ بذلك التعريف وإهماله غاية الإهمال؟

أليس المقصود بالأدب الشعبي أن يكتب بلغة الشعب؟ أليس المقصود به أن يلقى القبول والإقبال عند طبقة الشعب، أليس المقصود به أن يصدر من صميم الشعب ولا يصدر من الحكام والمستغلين؟ أليس المقصود به أن يأتي طواعية من الناظم إلى المستمعين بغير تسلط ولا إكراه؟

بلى! وكل أولئك كان موفورًا للملاحم الهلالية وما جرى مجراها، فلماذا كانت هذه الملاحم دائرة على البطولة والغزل ولم تكن دائرة على الرغيف والفول المدمس؟ ومن الذي أكره الشعب على طلب هذه المعاني والإعراض عما عداها؟

جواب واحد لا سبيل إلى الحيد عنه بكلمة من ألفاظ الرطانة التي يلغط بها أصحاب الأمر والنهي في تعريف الآداب، وذلك الجواب هو شعور الإنسان».٧

نعم، هو شعور الإنسان مرجع كل أدب في كل بيئة، في كل نظام اقتصادي، في كل لغة، في كل جيل.

ولهذا كانت موضوعات الحماسة والحب عامة متقاربة في جميع الآداب والفنون، فلا أدب حيث لا نخوة ولا عاطفة، ولا أدب حيث لا اشتراك بين جميع الطبقات من الرعايا والرعاة.

وإذا التفتنا من المديح الذي يمكن أن يقال: إنه خاص بالسادة الأعلياء ونسينا أن الإعجاب بشعر المديح مقصور على الممدوحين، ثم نظرنا إلى مقاييس المديح أو الحمد في تلك الأشعار، فكيف يتسنى لأحد أن يزعم أنها هي المقاييس التي تخدم الممدوحين ولا تخدم غيرهم من الرواة والحفاظ والنقاد؟

إن الممدوحين يُمدحون بالكرم والشجاعة، وليس الكرم فائدة مقصورة على الممدوح، وليست الشجاعة كذلك فائدة مقصورة عليه، وبخاصة في العصور التي يتكفل فيها الفرسان بالدفاع عن الأوطان؛ لأنهم يمتازون بفنون الحرب والدربة على استخدام أنواع السلاح.

•••

ومما سمعناه في هذا الصدد أنَّ الشعر العربي تغلب عليه الصبغة الغنائية،٨ وأن الشعر الغنائي لا يدل على أطوار المجتمع دلالة الشعر التمثيلي أو شعر الملاحم. ولسنا نعلم أنَّ هذا القول من الأقوال المسلمة في عرف النقاد الماديين أو مدارس النقد الأخرى، إذ من المعلوم أنَّ الشعر الغنائي يتناول المديح وهو كبير الدلالة على شئون الرئاسة في الأمة، ويتناول الغزل وهو كبير الدلالة على شئون المرأة فيها، ويتناول الرثاء والهجاء، وهما معياران صادقان للمحاسن والمساوئ وآداب الناس في حالتي الحزن والغضب. أما شعر الملاحم فقد رأينا شواهده في الملاحم الشعبية التي شاعت بين المصريين، وكان في شيوعها هذا تفنيد لما يراه الماديون من وظيفة الأدب وعلاقته بالطبقة الحاكمة أو بالطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج.

إلا أننا نعمد إلى الشعر التمثيلي في ديوان شاعر من أكبر شعرائه في لغات الحضارة وهو «وليام شكسبير»، وننظر إلى شخصيات ملوكه وأمرائه وملكاته وأميراته، فلا نجد فيها مسوغًا للقول بخدمة الأدب لنظام الدولة القائمة، وقد نجد فيها مسوغًا للقول بالسخط على أولئك الملوك والملكات؛ لأنهم مصورون في روايات الشاعر على صورة منفرة توجب الحذر والريبة، إن لم توجب التمرد والثورة.

ويأتي بعد «شكسبير» شاعر آخر يقاربه في النبوغ ويحسب بين خمسة أو ستة من شعراء الملاحم وهو «جون ملتون» صاحب الفردوس المفقود، فلا ثورة فيه على قواعد النظام الاجتماعي، ولا يجوز لنا أن نتخذ من صورة الشيطان في الملحمة أنها صورة الخلائق المحمودة أو صورة الخلائق المرذولة في زمانه، وأصدق ما يقال فيها: إنها صورة فنية تترجم عن شعور «ملتون» بخلائقه الفردية أو الاجتماعية على السواء.

وإذا كرَرْنا بالنظر راجعين إلى أعلام الشعر التمثيلي في اليونان لم نستطع أن نعرف منه أنه مرتبط بنظام السادة والأَرِقَّاء، ولم يخطر على بال قارئه أنه منظوم لاستبقاء وسائل الإنتاج، إلا أن يكون في البال هوس ينثني به إلى ذلك الخاطر ليبحث عنه بين زوايا السطور.

وأي بديهة سلمت من ذلك الهوس يخفى عليها أن الآداب والفنون هي منافس الطبع البشري التي يلوذ بها من وطأة المعيشة، وليست ضرورة أخرى يضيفها الطبع البشري إلى تلك الضرورات؟

إن طبيعة الإنسان تتنسم من جانب الآداب والفنون نسمات الحرية التي تتفقدها في عالم الضرورات والأثقال فلا تهتدي إليها، وقد ترددت موضوعات الحماسة والحرب في آداب الأمم وفنونها؛ لأنها تجد هذه الحرية في عالم البطولة والعاطفة وتشعر شعور الإنسان الحي، لا لأنها تشعر شعور «المخلوق الاقتصادي» الذي يرسمه لنا الماديون في أسواق البيع والشراء. ومن البلاء على الطبع الإنساني أن نسلط عليه الضرورة تطارده في عالم الخيال كما تطارده في عالم السعي والدأب، وأن تتراءى أمامه في منافذ الأحلام فيسمعها مع الغناء كما يسمعها مع ضجيج الآلات، ويبصرها مع الصورة والتمثال كما يبصرها مع الأفران والقدور. وهذه صفحات الآداب الإنسانية تمتلئ بالأحلام التي وجدها الناس في آدابهم وفنونهم لأنهم لم يجدوها في أعمالهم ومساعيهم، ولم تكن هذه الأحلام عبثًا خاويًا ولا علالة فراغ، لأنها حوافز النفس البشرية إلى تقريب البعيد وتحقيق المحال، وما كان لها من سبيل إلى الطيارة لولا الحصان الطيار وبساط الريح، ولم يكن الحالم بالفص المسحور وقمقم المارد صاحب مصنع يبحث عن زر الكهرباء ومرجل البخار، ولكنه صاحب خيال يحلم للإنسانية، ويلقي بأحلامه إلى ذمة الغيب فتخرج في أوانها من حيز الحلم إلى حيز العيان.

•••

ويحق لنا أن نقول: إنَّ أسوأ الآداب والفنون في عرف الماديين التاريخيين أوفق للطبقة المظلومة من آدابهم وفنونهم كما يرتضونها، وكما يحبون أن يفرضوها على تلك الطبقة.

وأسوأ الآداب والفنون في عرفهم هي تلك التي يسمونها آداب «البرج العاجي» أو فنون البرج العاجي، ويريدون بها كل فن يشغل بوصف محاسن الطبيعة، أو وصف المناظر على عمومها لزينتها وجمالها دون ما يتبعها من المنفعة الاقتصادية أو من الأثر في أحوال المعيشة.

وأول ما نلاحظه على هذا التعريف للأدب المسمى بأدب «البرج العاجي» أنه لا وجود لمثل هذا الأدب، ولا وجود لفن قط يعلمنا أن ننتبه للزينة والجمال، ويتجرد على اليقين من الأثر في أحوالنا المعيشية وإن يكن أثرًا غير مقصود أو غير مباشر. وليكن فن «البرج العاجي» هذا مقصورًا على وصف حدائق الزهر أو جداول الماء أو ما شاكل ذلك من مناظر الطبيعة التي نراها فيما حولنا، فإن هذا لا يجعل الوصف من أدب اللغو والفضول؛ لأنَّ حدائق الزهر لها محل في كل مجتمع نظيف متقدم، وما كان له محل في المجتمع فمن الجائز — بل من الواجب أن يكون له محل في صفحات الآداب وآيات الفنون.

والشاعر الذي ينبه النفس إلى صدق الشعور يزيد نصيب القارئ من الإحساس بالحياة، ويعطيه بذلك قيمة حيوية لا تحسب من اللغو والفضول، وهو عدا هذا يهذبه ويعوده جمال المعيشة، فلا يقنع برثاثة العيش ولا يزال متطلعًا إلى حياة أرفع من حياة الضنك والكفاف، ومتى قورن هذا الأثر «النافع» بأثر الفن الذي يصبح ويمسي في حديث الضرورات أو حديث الصناعات والمصنوعات، فلا ريب في نتيجة هذه المقارنة بغير حاجةٍ إلى التعمق في إدراك النفس البشرية، فإنما الأثر المحتوم للإصباح والإمساء في حديث الضرورات ساعة العمل وساعة الفراغ وساعة النظر إلى التمثيل وساعة الإصغاء إلى الغناء، إنما هو السآمة والتبرم بالأدب والعمل على السواء.

ولا ندري أين يضع الماركسيون تلك المحاسن التي تبذرها الطبيعة بذرًا في حياة النبات والحيوان، سواء حسبوها مع الزينة أو حسبوها مع الضرورة؟ إنَّ الطبيعة لا تنظر إلينا حين تنبت أزهار الفول والحمص والبازلاء، ولا تبالي بأسماعنا حين ترسل الأنغام من حناجر الطير في بكرة الربيع وفي بكرة الصباح من جميع الفصول، ولكننا نحن ننظر إليها ونبالي بها ونفهم من زينتها أنها لازمة لها لا تنفصل من الضرورة في مطالب الغذاء ومطالب البقاء، ومن اللغو أن نقول: إنَّ الزينة برجوازية حين تظهر في الحياة الإنسانية، وطبيعية خالصة حين تظهر في حياة الشجر وحياة العصفور؟

ولسنا نمزح حين نسترسل من هذا السؤال إلى سؤال عن لحية «كارل ماركس» التي أضفاها حول وجهه وحملها طول حياته، ما مكانها من الزينة والضرورة؟ وما مكان هذه الزينة أو الضرورة من وسائل الإنتاج، وإذا كان هذا قسط الزينة في وجه زعيم فيلسوف، فلماذا نلغيه ونحرمه في تعبيرات العواطف وتشبيهات الشعراء؟

لسنا نمزح بحق في هذا السؤال؛ لأنَّ جوابه كيف كان يضطر الماديين الماركسيين إلى فهم آخر لمعنى الزينة وعلاقتها بضرورات المعيشة ووسائل الإنتاج؟

ولسنا نمزح كذلك حين نسترسل في هذا السؤال إلى السؤال عن نموذج الأدب المرتضى بعد قيام المجتمع من طبقةٍ واحدة، هل يحرم فيه ذكر وسائل الإنتاج؛ لأنها بقية من بقايا الاستغلال ورأس المال وأحابيل البرجوازية والانتهازية والابتزازية وما إليها؟

هل يدور على حياة الإنسان بعد ذلك، ولا يدور من قريب ولا بعيد على الفلوس والأجور؟ وهل يتهجى الإنسان بعد ذلك في الذوق الإنساني الخالص، ويتعثر فيه بين الحروف والمقاطع كأنه طفل لم يشهد النور قبل ذلك آلاف السنين؟ وإذا كان الإنسان قابلًا بعد ذلك الماضي السحيق أن يحتفظ بالطبيعة الإنسانية، فلماذا يقال: إنَّ الطبقة قد استنفدته قديمًا، فلم يبق فيه مكان يسمح للإنسانية أن تعيش إلى جانب الطبقة بمقدار النصف أو الربع أو العشر أو أي مقدار؟

لسنا نمزح بحق في هذا السؤال أيضًا، لأننا نحب أن نعرف كيف يتخيل الماديون إنسانًا يولد في المجتمع الموعود، لم يكن إنسانًا قط منذ بدأ أدوار التاريخ كما وصفوه.

•••

ومن التقسيمات التي ضللت العقول زمنًا طويلًا، ولم تزل تضللها تقسيم المطالب العامة إلى ضروريات وكماليات، والاسترسال من ذلك إلى ضروب من الترتيب يعاودون بها التقديم والتأخير أو التأخير والتقديم، فيما يؤخذ وفيما يترك، وفيما هو أولى بالعناية وما هو أحق بالإهمال.

ولا خلاف على تفاوت المطالب في لزومها أو الاستغناء عنها، ولكننا إذا بنينا على ذلك أنَّ المطالب التي لا تلزم في كل حين تهمل، ولا ينظر فيها حتى يستوفي الناس ما يلزمهم، كان العمل بهذا الرأي خطلًا مضيعًا للضروريات والكماليات؛ بل ربما ضيع الضروريات أو ضيع وسائلها قبل الكماليات التي يقال: إنها مما يستغنى عنه.

إن الرغيف ألزم من الكساء والدواء، ولكننا إذا قلنا: إننا نهمل الكساء والدواء حتى نستوفي الرغفان أضعناها جميعًا، ولم نصنع ما نحتاج إليه ولا ما نستغني عنه.

ولا يحتمل هذا القول مغالطة أو مكابرة إلا من جماعة الدعاة الذين يخاطبون الغرائز ولا يخاطبون العقول والضمائر، فإذا قال هؤلاء لأصحاب الغرائز التي تخذلها عقولها وضمائرها: ماذا تصنع المعدة الجائعة بالفن والأدب والعلم؟ فهذا كلام قد يصلح للتدجيل والتضليل، ولكنه لا يصلح لتقرير الحقائق ولا لإشباع الجياع، ولو سمع هذا الكلام من فجر التاريخ لما وجدت الآن الآلات والمكنات التي لولاها لمات العاملون جوعًا، ولم يجدوا ما يعملونه فضلًا عما يكسبونه من العمل، ولو توقف صنع الفن وبناء الصروح ونسج الأكسية واستخراج المعادن والجواهر إلى أن تتم الضروريات المزعومة منذ فجر التاريخ، لذهبت هذه الصناعات الضرورية لحسبانها يومئذ من الكماليات.

وهؤلاء الدعاة يتخيلون أو يريدون من الناس أن يتخيلوا أنَّ الإنسانية معدة واحدة، لا تعمل حتى تشبع وتروى، وينسون أنَّ الإنسانية ملايين من المعدات والعقول والأذواق تستطيع أن تعمل معًا — ولا بد أن تعمل معًا — وإلا ضاع الجياع في مقدمة الضائعين، وهكذا عملت الإنسانية، وهكذا عملت الطبيعة، وهكذا عمل الكون منذ كان. وليس من الكماليات ما هو أقل لزومًا من الصروح التي كانت تبنى منذ خمسين قرنًا في الحضارات الأولى، ولكنها لو توقفت يومئذ لما كان لدينا اليوم صناعة بناء، ولا صناعة ملاحة، ولا صناعة معادن، ولا صناعة نقش وتجميل، ولكان أول الضائعين بذلك طلاب الضروريات!

•••

كنا في لجنة المعارف بمجلس النواب، ودار البحث على الفنون الجميلة، فقال بعضهم: إنها من الكماليات، فكان جوابي للقائل: نعم لعلها كذلك، ولكننا إذا كنا نعيش بالضروريات فإنما نعيش بالكماليات.

وخرجنا من اللجنة، ووصلنا في أثناء الحديث إلى ميدان الأزهار، فلقينا رتل من مركبات النقل ليس بينها مركبة واحدة لم تزوق بالألوان، أو لم تعلق في عنق حصانها شرابة ملونة الأهداب، قلت لصاحبي: أتظن هؤلاء السائقين من المترفين الذين شبعوا من الضروريات؟ أتظن واحدًا منهم في غنى عن ثمن الطلاء الذي يزوق به خشب المركبة؟ أتظن هذه «اللاسة» المزخرفة ضرورية لوقاية رأسه؟ ثم هذا الغناء في إبان الشغل: كيف تحسبه في أبواب الميزانية؟ وكيف تمنعه دون أن تمنع معه شيئًا من النشاط وشيئًا من الحماسة النفسية؟

هذه ملاحظة تُرى في كل مكان، وليست مما نفقده في وقت من الأوقات، ويمكننا جميعًا أن نراه في جميع الأوقات وجميع المناسبات.

وندع مركبات النقل، وننظر إلى السيارات، فكم نرى منها للضرورة وكم نرى منها للكماليات؟ إنها تتفاوت بالمتانة والسرعة، وتتفاوت كذلك بالشكل والقالب، وبالمنظر الذي يأخذ البصر من النظرة الأولى، وإليه يلتفت المعجب بها لأول وهلة، ولأجله قبل غيره يبذل الفرق في الثمن عشرات أو مئات من الجنيهات.

وندع الصناعة والمصنوعات، ونتجه إلى الطبيعة في مروجها وحقولها وغيطانها، ولا نقول إلى بساتينها وحدائقها، ولا إلى ما في البساتين والحدائق من الورد والنرجس والريحان، فربما قيل عن هذه الأزهار بأشجارها جميعًا: إنها «كماليات» مزهود فيها.

ننظر إلى غيط الفول، وناهيك بكلمة الفول وحدها رمزًا للأكل، بل للعلف الذي ينزل من طبقات الضروريات إلى قرار القرار، فأية حسناء من المترفات تتخطر برائحة أجمل من رائحة غيط الفول؟! وأي زينة لديها أنقى من زينة زهرة الفول؟! ما فائدتها؟! ما جدواها؟! ما تفسيرها بلغة الضروريات؟!

لعلها تغري الحشرات بنقل اللقاح؟! ولعلها تغري النحل بصنع الرحيق؟! ربما حدث هذا وذاك، ولا علينا من حاجة القول إلى نقل اللقاح أو استغنائه عنه، ولا علينا من عمى بعض الحشرات عن اللون وعن الرائحة؟ ولا علينا من الحشرات نفسها ما الذي ينقل لقاحها؟ وفي أي شيء ترسم لها الطبيعة ألوانها وتوشي لها أجنحتها؟ بيد أننا نقول: إننا نصف الشيوعيين — أحيانًا — بوصف الحشرات ولا نمزح؛ لأنهم يرتضون لأنفسهم مرتبة من الخلق دون مرتبة الحشرة التي يستهويها الجمال، ولا تفسر كل عمل من أعمالها بوسائل الإنتاج.

•••

وسواء قصدنا إلى المزح، أو لم نقصد إليه، فنحن نمزح على الرغم منا كلما عالجنا البحث في هذا الذي يسميه الماديون التاريخيون رأيًا يرتئونه عن أصل العلوم، لأن رأيهم هذا وقار يشبه الهزل أو هزل يشبه بالوقار.

ماذا يقول القارئ إذا سمع أحدًا يقول له بلهجة الجد والثقة: إنَّ عينك لا تبصر شيئًا إلا أن تكون لك حاجة فيه؟!

إنه قول عجيب، ولكنه أقل عجبًا من قول الماديين التاريخيين في أصل العلوم، إذ يقولون: إنَّ عقل الإنسان لا يعرف شيئًا، وإنَّ معرفته لا تصبح علمًا إلا أن تكون له حاجة إليها، وشرطهم الأخير هنا كشرطهم في سائر آرائهم، أن يئول الأمر في النهاية إلى وسائل الإنتاج.

وهم كدأبهم إليه يتخطون جميع العقبات؛ ليصلوا إلى الغرض الذي يرمون إليه من وراء هذه النظريات، فإن العقبات التي تعترضهم في طريقهم كثيرة، لم يذللوا واحدة منها ولم ينظروا إليها إلا على عجل واختلاج؛ ليهرولوا إلى الخاتمة المأمولة قبل فوات الأوان.

فمن العقبات التي تعترضهم أنَّ الإنسان يعلم بإرادته وبغير إرادته، ولكنه يشعر بالحاجة، فيريدها ويطلبها ويسعى إليها، فنحن لا نعلم باختيارنا أنَّ الشمس تطلع كل يوم من موضعها، بل نراها تطلع يومًا بعد يوم، فتصبح هذه الرؤية مادة من مواد العلم، التي تحصل لدينا حيث نريد وحيث لا نريد، فإذا استخدمنا حرارة الشمس أو نورها بعد ذلك في حاجةٍ من حاجاتنا، فنحن هنا نريدها، ونعتمد على إرادتنا كما نعتمد عليها في كل شيء.

ومن العقبات في طريق التعليل المادي للعلوم، أننا نزداد معرفة فنزداد علمًا بحاجاتنا، وكثيرًا ما يكون العلم سابقًا بذلك للحاجة مهما يكن من اضطرارنا إليها، فقد تعلمنا فعرفنا ما نحتاج إليه من الغذاء والكساء والدواء، ولم يكن أكثرها مما نعلم أننا محتاجون إليه.

ومن تلك العقبات أنَّ الحاجة وحدها لا تحقق لنا الغاية التي نسعى إليها السعي الحثيث من أوائل تاريخنا المعلوم، فمن عشرات القرون يحتاج الناس إلى دواء الأمراض المعضلة، ولا يعرفون دواءها، وفي هذا العصر يصل الباحث بالمصادفة إلى أنفع الأدوية — كالبنسلين مثلًا — فلا نلبث أن نعرف مواضع الحاجة إليه.

ومن تلك العقبات أنَّ الناس يتفاوتون في استنباط العلوم وتحصيلها، على حسب تفاوتهم في العقول لا على حسب تفاوتهم في الحاجات، فوسائل الإنتاج متساوية أو متقاربة في المجتمعات الإنسانية إلى ما قبل عصر الصناعة الكبرى، وليست المجتمعات مع ذلك متساوية في العلم والثقافة وتمهيد طريق الاختراع، وقد كانت معادن الحديد والفحم والنفط موجودة في غير أوربة الغربية من قبل وجود الإنسان، ولكنها لم تحدث المخترعات الصناعية التي حدثت في أوربة الغربية، ولم يكن لها تمهيد غير التمهيد العلمي في عصر النهضة قبل قيام الصناعة الكبرى على سعةٍ أو في نطاقٍ محدود.

•••

ولنتكلم بلغة الماديين التاريخيين فنقول: إنَّ هذه العقبات محتاجة إلى التذليل قبل الوثب منها إلى النتيجة المقصودة، بيد أنَّ الماديين التاريخيين لم يذللوها على شدة الحاجة إلى تذليلها، ووثبوا منها إلى الغاية التي لا بد أن يثبوا إليها، وهي تعليل العلوم جميعًا بالحاجة إليها.

ومن تلك العلوم ما تجوز المغالطة فيه كالعلوم الطبيعية التي ترتبط بالتجربة والتطبيق، ومنها ما تتعذر المغالطة فيه؛ لأن ارتباطه بالتجربة والتطبيق قليل جدًّا في رأي العارفين به، كعلوم الرياضيات.

فمن المتفق عليه أنَّ الحقائق الرياضية عقلية، لا ترتبط كثيرًا بالمشاهدات الحسية، وأنها قد تمت على وجه التقريب قبل تمام العلوم التجريبية بمئات السنين.

وقد رأينا غيرنا أطفالًا في الثانية عشرة يحلون من عمليات الحساب على غير الورق مسائل تحتاج إلى ضرب عشرة أرقام في عشرة، وهم أشباه أميين. وثبت أنَّ علوم الحركة التي مهدت للمخترعات الحديثة لم تكن ميسورة بغير المعلومات الرياضية، التي اقترنت بعلوم النهضة في عصر الحرية الديمقراطية، فأسفرت عن خوارق الصناعة الحديثة.

إلا أنَّ استثناء العلوم الرياضية يفسد الحساب الأخير على الماديين التاريخيين، فلا حقائق رياضية ولا تجريبية يدركها العقل، ويجعلها علومًا مفهومة بمعزلٍ عن وسائل الإنتاج.

ويقول «كارل ماركس» في الجزء الأول من كتاب رأس المال: إنَّ «ضرورة التنبؤ عن موعد الفيضان» هي أصل علم الفلك عند المصريين الأقدمين. ويقول هو ومن على شاكلته: إنَّ الحاجة إلى تقسيم المزارع بعد الفيضان هي أصل علم الهندسة؛ ولذلك سميت في اللغة اليونانية بعلم قياس الأرض.٩

وبعض ما قاله الماديون هنا يقره غيرهم من الباحثين في أصول العلوم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يمنعوا قدرة العقل البشري على استنباط العلم الذي لا تلجئه إليه الحاجة، وفي مقدمته علم الرياضيات بما يشتمل عليه من فلك وهندسة.

فهل من المعقول أن تصبح الشعرى اليمانية موعدًا للفيضان ما لم تكن مرصودة قبل ذلك معروفة المواعيد بمعزلٍ عن مواعيد فيضان النيل.

إن مؤرخي الرياضيات الذين تتبعوا أصولها لا تخفى عليهم هذه الحقيقة، ولا يزالون يعرفون للعقل حقه في الدهشة أمام روائع الكون والشوق إلى استطلاع أسراره، ولا يجعلونه في كل شيء، وفي كل معرفة، عبدًا مغمض العينين، لا يفتحهما إلا بإذن من وسائل الإنتاج! وقد كتب الأستاذ «موريس كلين» مؤرخ الرياضة فصلًا عن مولدها من كتابه عن تاريخ الثقافة الرياضية في الغرب فقال: «إن الرصد لا بد أن يكون قد تتابع سنوات عدة قبل أن يقرر اتخاذ عبور الشعرى بالفلك الأعلى موعدًا للنبوءة عن فيضان النيل.»١٠

ولا يلزم — بداهة — أن يكون المرء حجة في العلوم الرياضية ليفهم أنَّ الهندسة التي شيدت الأهرام وشوامخ الآثار لم تكن ضرورة من ضرورات وسائل الإنتاج، أو وسائل الزراعة في فيضان النيل، فما الذي ارتفع بالعلوم الهندسية والفلكية إلى تلك الذروة التي ارتقت إليها بين المصريين الأقدمين؟ وماذا في زراعة الفيضان مما يوجب إقامة الهياكل بتلك الضخامة وذلك الشموخ؟ ولماذا تعلم المصريون الملاحة، وتعلموا الاهتداء بالنجوم في طريق الملاحين لجلب الأبازير والأفاوية التي يستخدمونها في تحنيط الجثث أو تحنيط الأموات؟

أي جواب يجاب به عن هذه الأسئلة يسقط القول بالعلة المحصورة في وسائل الإنتاج.

فإذا قيل: إنَّ الهياكل المخلدة قربان يرضي الأرباب؛ لتغدق عليهم الوفر والخصب والنتاج، فليست وسائل الإنتاج فعلًا هي التي علمتهم الهندسة وبناء الصروح، وإنما هي العقيدة التي صورت لهم أسباب الوفر، كما يؤمنون بها لا كما هي في الأرض الزراعية أو ماء الفيضان.

وإذا قيل: إنَّ الإنسان يؤمن، ثم يخلق له الإيمان حاجته إلى البناء والملاحة، فماذا يبقى من مذهب «الحاجة» في تعليل العقل وشله عن طلب المعرفة إلا من طريق الفم والمعدة والأمعاء؟

•••

ويلوح لنا أننا نقترب من فهم «ميزان» التهجم على الحقائق عند الماديين التاريخيين إذا تذكرنا — ونحن نطالع كتبهم الأولى والأخيرة — أنهم كتبوها بأسلوب أو في حالتين من أحوال الأمل والقنوط، فالأسلوب الغالب عليهم هو أسلوب التهجم على الحقائق كلما استطاعوا، وهو ملحوظ فيما كتبوه أيام الفتنة على أملٍ في نجاح الانقلابات، أو تفاقم البوادر الأولى واستفحالها في أمدٍ قريب، والأسلوب الآخر هو أسلوبهم كلما خابت ظنونهم، وخابت ظنون الناس في نبوءاتهم، فأعرضوا عنهم، وتعسر إقناعهم بالهجوم على الوعود والتوكيد بغير برهان.

ومما كتبوه على الأكثر في بعض هذه الفترات تلك الآراء التي يفرقون فيها بين العلوم وإمكان تفسيرها بأسبابهم التي يفسرون بها كل ما في الأرض والسماء، ومن هذا القبيل نحسب تقسيمات «إنجلز» للعلوم، وما يطرأ عليها من التحول والتطور على حسب البيئة، فإنه يقسمها في رده على «دهرنج» إلى ثلاث طوائف، لا تتعادل في قابليتها للتأثر بوسائل الإنتاج، وهي طائفة العلوم الطبيعية، وطائفة العلوم البيولوجية، وطائفة العلوم الاجتماعية.

فطائفة العلوم الطبيعية تتعلق بالمادة العضوية كالفلك والرياضة والطبيعة والكيمياء. وطائفة العلوم البيولوجية تتعلق بالمادة العضوية كعلم وظائف الأعضاء وعلم الحياة، وطائفة العلوم الاجتماعية تتعلق بالأحوال التاريخية ومسائل الشريعة والفكر والدين والفلسفة.

فالعلوم الطبيعية والعلوم البيولوجية تبحث في أمور لم يصنعها الإنسان، وليست عرضة للتغير الذي تتعرض له الأحوال الاجتماعية. فلا تتغير وظائف الأعضاء ولا خصائص المواد الطبيعية بين نظامٍ ونظام من النظم الاقتصادية، أو بين عهدٍ وعهد من العهود السياسية، ولا شأن للحقائق المطلقة بهذه العلوم، ولا تزال معرفة الناس بها نسبية؛ أي «غير مطلقة».

أما العلوم التي تتعلق بتاريخ الإنسان كعلوم السياسة والفلسفة والدين والفنون والآداب، فهي عرضة للتغير بين العهود السياسية على حسب اختلاف وسائل الإنتاج، وهي مصطبغة على الدوام بصبغة المنفعة والغرض، متحولة على الدوام مع العلاقات الاقتصادية التي تنشئ المعلومات والمصطلحات، فلا توجد إلا حين توجد مقدماتها ونتائجها.

وللفلسفة بين هذه المعارف البشرية رخصة خاصة عند الماديين التاريخيين في الانفصال من وسائل الإنتاج الحاضرة لجملة أسباب، منها أنها تحمل بقايا الأزمنة الغابرة من قبل التاريخ، إذا كانت الحالة الاقتصادية تنطلق بالإنسان في تيه من الأوهام والخزعبلات، لا تمت إلى الواقع بعلاقةٍ صحيحة، ومنها أنها تتوقف على العلوم الطبيعية، فلا تتقدم إلا تبعًا لتقدمها، ولا تصل إلى الواقع إلا إذا كانت تلك العلوم الطبيعية قد وصلت قبلها، ومنها أنها ذات موضوعات لا ترتبط على الدوام بالموضوعات اليومية، وهي مع هذا الانفصال عن الواقع تمثل عصورها الحاضرة في مذهب فيلسوف أو أكثر من فيلسوف، إن لم تكن مذاهبها جميعًا ممثلة للعصر الذي تعيش فيه.

هذه الرخصة المسموح بها للفلسفة محظورة على الرياضيات؛ لأن الرياضيات مأخوذة من المشاهدات الحسية مهما يكن من ظواهرها النظرية المجردة.

فلا بد — كما يقول «إنجلز» في الرد على «دهرنج» — من أشياء ذات شكل حتى تكون هناك صورة ورسوم هندسية. والنظريات الرياضية المجردة تبحث في صور لها محل من المكان، وفي علاقات عددية بين أجزاء العالم الواقع؛ أي في علاقات بالعالم المادي جِدُّ صحيحة بلا مراء. وإنما تتجرد هذه الصور والعلاقات من الماديات؛ ليتيسر بحثها عقليًّا وتفريغها من محتوياتها؛ لأنها ليست بالضرورية للوصول إلى النقطة التي لا أبعاد لها، ولا للخط الذي لا عرض له ولا كثافة، ومن ثم نصل للمرة الأولى إلى العلاقات الطليقة والتصورات العقلية والمقادير المتخيلة، واشتقاق المقادير الرياضية بعضها من بعض لا يدل على مصدر مجرد؛ بل على ارتباط بينها في التفكير، وقبل أن نستخرج صورة الأسطوانة من حركة السطح القائم الزوايا على جانبٍ واحد لا بد أن تكون حركات كثيرة من هذا القبيل قد شوهدت في الواقع. وهكذا تكون الرياضيات — كغيرها من العلوم — صادرة من حاجات الإنسان، وهذه الحاجات هي قياس الأرض وفراغ الآنية ومسافات الوقت وإدارة الآلات. غير أنه في طور من الأطوار يحدث لهذه القواعد — التي استمدت من العالم الواقع — أن تنعزل من هذا العالم كما يحدث في كل ميدان من ميادين التفكير، فإذا هي مفروضة كأنها مستقلة عنه تأخذه بموافقتها ومطابقتها، وإنما يحدث هذا في المجتمع وفي الدولة، وتصبح الرياضيات بهذه المثابة دون غيرها صالحة للتطبيق في العالم الخارجي.

•••

هذه مراجع العلوم كما بسطها «إنجلز» شارح هذه الآراء في مذهب المادية التاريخية، وهو يؤيد بها آراء أستاذه أو يشرحها؛ لأن «ماركس» لم يشرحها بهذا التفصيل.

واللازم منها بمشيئة المذهب أو بغير مشيئته:
  • أولًا: أنَّ الحقيقة المجردة من عمل العقل.
  • ثانيًا: أنَّ النظرية العلمية لا تصح إلا بالتجريد.
  • ثالثًا: أنَّ قدرة العقل على استنباط هذه الحقائق لا تستمد من الحاجات؛ لأن أقدر العقول على استنباطها لا يكون على الدوام أشد العقول شعورًا بالحاجات وتهافتًا عليها، وقد يكون أشد المحتاجين إليها أعجزهم عن استنباط الحقائق وإدراك العلوم.

إذا قال قائل: إنَّ العقل موهبة من السماء ركبت في الجسد لتهديه إلى حقائق المادة، فما الذي يلزم أن يقوله دعاة المادية بعد طول العناء؟

وننتقل من الفلسفة كما يعيبها الصاحبان إلى الفلسفة التي وضعاها؛ لتكون أول فلسفة صحيحة جاد بها ذهن الإنسان، وتكون كذلك آخر فلسفة يجود بها في تواريخه المقبلة، فلا فلسفة بعدها، ما أضاء النَّيِّرَانِ، وتعاقب المَلَوَانِ!

وتقوم هذه الفلسفة الصحيحة الوحيدة في حياة النوع الإنساني على جملة أصول يجمعها أصلان أو قاعدتان: القاعدة الأولى: هي قاعدة التغير. والقاعدة الثانية: هي قاعدة الكميات والكيفيات.

ونعلم من القاعدة الأولى أنَّ التغير سنة المادة الأبدية، وتنطوي في قاعدة التغير قاعدة «نفي النفي»١١ وقاعدة التطور المتناقض أو التطور بأضداد.١٢

فنحن نعرف الشيء بذاته كما هو، ونعرفه في الوقت نفسه بنقيضه الذي يشتمل عليه؛ لأنه يحمل فيه نقيضه الذي يغيره ويتغير معه.

ونعود إلى تلخيص المذهب فنذكر أنَّ الشيء يمر في ثلاثة أدوار: فعل يتلوه نقيض، ثم يتلوهما معًا تركيب يجمع النقيضين. ونضرب لذلك مثلًا بالحركة: فالحركة فعل، والمقاومة نقيضه، ومن الفعل والمقاومة يتألف التركيب الذي نسميه النظام، ونضرب المثل بالنظام، فهو فعل، يتلوه التعديل وهو نقيضه، ويتألف من الفعل والنقيض مركب هو النظام الجديد.

أما قاعدة الكميات والكيفيات، فمنها نعلم أنَّ الصفات والمزايا والكيفيات تنشأ من الكم والعدد، فاللون الأحمر كيفية، ولكنه ينشأ من عدد الذبذبات في حركة الضوء، والماء يختلف تبعًا لدرجة الحرارة من الجمود إلى الغليان، وتختلف مميزاته على حسب هذه الدرجة مثل إذابة المحلولات وتحليل بعض الأملاح.

ولا جديد في هاتين القاعدتين جاء به الصاحبان من عندهما إلا النتيجة التي ينتهيان إليها من كل رأي يبدآنه، ويمضيان به إلى غايته في مذهبهما، وهي حصر تاريخ الإنسان المقبل في مصير واحد لا يتقبل التعديل، وهو مصير النقمة والخراب.

فقديمًا كان «هيرقليطس» (٥٣٦–٤٧٠ق.م) يقول: أنت لا تستطيع أن تضع قدميك في نهرٍ واحد؛ لأنه يتغير في كل لحظة كما يتغير كل موجود، فلا تبقى له من حقيقة دائمة إلا أنه لا يدوم.

وقديمًا كان أصحاب العناصر الأربعة والطبائع الأربع يقرون أنها لا تزال في تنافر وتوافق، تقوم عليها صحة الأبدان أو اعتدال الأحوال.

وقديمًا «الأثنينية» يقولون بالخير والشر، وإنَّ إله الشر «أهريمان» نجم من فكرة فاسدة خطرت في بال إله الخير «آو رمزد»، فانقسم بينهما كل كائن من الأحياء والجمادات.

وقديمًا قال القائلون بالسعود والنحوس وبالموافقات والعكوس، وحديثًا قيل بالموجب والسالب، وقال «هيجل» بالأضداد التي اقتبسها الصاحبان، وعدلا بها عن معناها عنده إلى المعنى الذي أراده.

ولم يقع في خلد أحد أنَّ الكون كله جسم واحد متحد الصفات معدوم الأشياء أو معدوم الفروق بين الأشياء، ولن يقع في خلد أحد أنه يتركب من أشياء لا عداد لها إلا فهم من ذلك بداهة أنَّ هذه الأشياء على اختلاف، وليست معدومة الفروق والملامح والشيات.

ومن سلامة الرأي أن تلاحظ هذه الفروق والنقائض، ولا يزاد عليها الحتم القاطع إلا في الأمور المحدودة التي يحكمها قانون مقيس بتفصيلاته، كقانون الحركة١٣ تنفصل به الحقائق عن المجازات والتشبيهات.

فالأضداد كما يقول بها الماديون في مذهبهم تشبيهات مجازية، تستطيع أن تطبقها على طريقتهم، وتصل بها إلى إثبات الحياة الأخروية التي ينكرونها أشد الإنكار.

فالحياة الدنيوية — مثلًا — فعل، والموت نقيضه الذي يتلوه، ويتألف من الفعل ونقيضه تركيب هو الحياة الباقية.

أو نقول مثلًا: إنَّ الشيوعية فعل، والفوضوية نقيضه، والديموقراطية التي لا هي بالشيوعية ولا بالفوضوية هي التركيب المؤتلف من الفعل والنقيض.

وانظر مثلًا إلى صعوبة البت في هذه التشبيهات المجازية بين أقطاب المذهب من تلاميذ «كارل ماركس» من طبقة «بوخارين» و«لينين». فهل «الضدية» عداء بين الأضداد أو مجرد اختلاف؟

إن «بوخارين» يقول: إنها عداء، و«لينين» يقول في رده عليه: إنَّها ليست بالعداء، ولكنها مناقضة، ومن أجل تخطئة «بوخارين» ينسى أنَّ المذهب كله قائم على صراع الحياة والموت بين الأضداد.

وانظر مرَّة أخرى إلى الخلاف على تركيب الشيء ونقيضه، هل يكون هذا التركيب اتحادًا أو يكون ضربًا من التوفيق؟ «لينين» يقول في رده على المنشفية: إنه اتحاد، وهم يقولون: إنه توفيق.

أفهذه هي الفروق التي يقيمونها كالصراط بين الجنة والنار وبين الناجِين من أهل الصدق والهالكين من أهل البهتان؟

وأهزل من هذه الحدود الهزيلة توكيدهم بقيام الكيفيات كلها على الكميات، فقد يحدث في طفرة النباتات أن تتجمع بعض التغييرات، ثم تتحول فجأة إلى صفة جديدة، ولا مزيد على هذه الملاحظة في علم صحيح.

أما القول بأن الكيفيات والصفات جميعًا كانت من قبل كميات ومقادير عددية، فليس له دليل؛ بل يقوم على نقضه أقوى دليل، هل مائة ألف شكل دميم يتألف منها شكل واحد جميل؟ هل اللون الأحمر حقًّا كيفية أو هو في الحقيقة صورة الذبذبات كما تراها عين الناظر إليها؟ وما هو الحد الحاسم المصحح للحكم في هذا الاختلاف بين ما هو مزية وما هو كثرة عددية؟ إن كان هناك حد حاسم فهو لا يعدو أساليب الاصطلاح على الأسماء والرموز.

ولا ندري ما هي كرامة الفكر عند إنسان يحرِّمون عليه أن يخرج على رأي من الآراء، بالغًا ما بلغ من وضوح القواعد واستقرار الأصول والفروع، فأما تحريم الخروج على أمثال هذه الرموز أو الألغاز التي تتضارب فيها معاني الكلمات هذا التضارب، فهو إعنات للفكر أشد عليه من إهدار الكرامة والاحتقار، لأنه يسومه أن يلتزم الحدود حيث لا حدود، وأن يؤيد الرأي حيث لا يدري أحد على التحقيق — ولا على الظن — أين ينتهي التأييد بعد وأين تبدأ المخالفة.

وهذه الألغاز المتضاربة هي التي حرمت الهيئات الرسمية الشيوعية مخالفتها على العلماء يوم وُجِدت للمذهب هيئات رسمية تملك التحريم والتحليل.

ففي كتاب «المادية والنقد التجريبي»١٤ يسرد «لينين» قواعد البحث التي ينبغي أن يجري عليها العلماء ولا يخالفوها. وفي سنة ١٩٣٢ قرر مؤتمر الاتحاد العام للعلماء «أن علم الناسلات١٥ وتربية النبات يجب أن يطابق المادية الماركسية».١٦
وقد عوقب بالنفي والاعتقال — أو التصفية — رهط من العلماء لوحظ عليهم أن بحوثهم لا تؤدي إلى النتيجة التي يفترضها هذا القرار، ومن هؤلاء العلماء «شتفريكوف» و«فيري» و«افرويمسون» و«ليفتسكي» و«أجول».١٧

وفي سنة ١٩٤٨ أصدر العالم المعتمد في تجارب الناسلات «ليسنكو» تقريره الرسمي، وفيه تعهد صريح بأن يدحض الباحثون التابعون لاتحاد العلماء كل فكرة تخالف مذهب «ميشورين» الروسي صاحب القول الفصل في مسائل الوراثة.

وليس هنا مجال الخوض في شروح الخلاف بين مذهب «ميشورين» والمذاهب التي ينعتونها بالبرجوازية ويقولون: إنها من دسائس المجتمع القائم على رأس المال، فحسبنا أن نجمل هذا الخلاف بما يكفي لبيان الفارق الذي يقف فيه أناس على ضفة النجاة، ويقف فيه أناس آخرون على شفيرها من النار.

فالمذهب الحديث في الوراثة يرجع إلى تجارب «مندل» الذي يرى أن الصفات المكتسبة أو الطارئة لا تورث إلا إذا تأثرت بها البنية بعد تكرار طويل، وأن التغير قد يتتابع على البنية، ثم يظهر أثره فجأة فيما يسمى بالطفرة أو الانتقال المفاجئ، وأن تغيير النباتات ممكن بطريق اللقاح والتطعيم في أحوالٍ معينة، لم تشمل تجاربها جميع النبات.

أما مذهب «ميشورين» الروسي فهو إنكار الخصائص الثابتة في الوراثة ورد جميع الخصائص إلى فعل الوسط والبيئة، ومن قال بغير ذلك فهو متهم في إخلاصه؛ لأنه يقرر شيئًا قد يلقي الشك على قواعد المادية الماركسية التي لخصها «إنجلز» إذ يقول: «إن كل كائن عضوي في كل لحظة هو ذاته وغير ذاته في وقتٍ واحد، إذ في كل لحظة تموت خلايا في جسمه وتتألف خلايا جديدة. وبعد فترة من الزمن تطول أو تقصر تتغير مادة جسمه كل التغير، ومن ثم يكون كل كائن عضوي في كل لحظة هو ذاته وغير ذاته. إلخ إلخ.»

وموضع الصعوبة على العقل في التقيد بهذا المذهب أنه لا ينكر الثبات في تكوين الأحياء ولا يقول: إنها تتبدل في كل لحظة كل التبدل، فإذا جاز أن يدان العالم؛ لأنه يقرر الثبات في خصائص الوراثة، فيجوز أن يدان كذلك؛ لأنه ينكر الثبات على حسب المصادفات، لأن المسألة تتعلق بالوقت الذي يطول فيه الثبات أو يقصر، ولا يوجد المقياس الذي يقدر طول زمنه تقديرًا محكمًا في كل بنيةٍ حية، أو في النباتات التي تأتي فيها التجربة بأسرع النتائج بالنسبة إلى الحيوان.

وأنكأ ما في الأمر أن الكلمة الفاصلة في العلم على لسان رجل لا يفقه كثيرًا ولا قليلًا في علم الناسلات. قال الدكتور «هارلاند» العالم البيولوجي الكبير: «ذهبنا في أوديسه لمقابلة شاب يسمى «تروفيم ليسنكو» قال لنا الدكتور «فافيلوف»: إنه يجري التجارب في الحبوب لتعجيل نموها وتوفير محصولها، فحادثته ساعات ثلاثًا فوجدته على جهلٍ مطبق بأبسط مبادئ الناسلات وتشريح النبات.»١٨

ولا يُطْعَنُ في الدكتور «هارلاند» بعداوة الشيوعية؛ لأنه هو والأستاذ «هلدان» معدودان من علماء الإنجليز المتعاونين مع المراجع الروسية.

ولقد دامت هذه المعركة — التي لا موجب فيها للعراك — زهاء عشرين سنة، ذهب فيها من ذهب من العلماء ضحية للخلاف على معاني الألغاز والرموز، ثم ثبت أنَّ النظريات التي يقال: إنَّ الفرق بينها وبين العلم البرجوازي — كالفرق بين الأمانة والخيانة وبين صدق النية والتدليس — لم تأت بثمرةٍ واحدة لا تستفاد من التجارب البرجوازية، وأنَّ العلماء المجندين للحملة على العلم البرجوازي لم يجسروا على مخالفة قاعدة واحدة من القواعد التي يجري عليها ذلك العلم البرجوازي في الصناعات الآلية، أو صناعات البناء والملاحة والكيمياء وفنون النسيج والتعدين وما إليها؛ لأن التهريج في هذه القواعد غير مأمون العاقبة على المهرجين وغير المهرجين في حل الرموز وتفسير الألغاز.

ونرجع إلى مصدر العلوم جميعًا في المذهب المادي، وهو الحاجة على حسب اختلاف المجتمعات، فنلمس الأكذوبة كأضخم ما تكون الأكاذيب الملموسة، إذ نعلم أنَّ الحاجة في المجتمع الشيوعي لم تعطه شيئًا من العلوم يناقض ما أعطت في المجتمعات البرجوازية، وأن اختلاس الأسرار العلمية من المجتمع المغضوب عليه هو السر الأكبر الذي أسفر عنه تطبيق المذهب في المجتمع المثالي ثلاثين سنة.

١  Fundamental.
٢  Superstructure.
٣  Prolet Cult.
٤  Berggoltz.
٥  Pastosky.
٦  Tvarowsky.
٧  من كتاب «أفيون الشعوب» للمؤلف.
٨  Lyric.
٩  Geometry.
١٠  Mathematics in Western Culture.
١١  Negation of Negation.
١٢  Contradictory Evolution.
١٣  Dynamics.
١٤  Materialism and Empiriocriticism.
١٥  Genetics.
١٦  صفحة ٩٨ من كتاب العالم في روسيا تأليف لاشبي Scientist In Russia by Eric Asby.
١٧  كتاب الناسلات السوفيتية والعلم العالمي تأليف هكسلي Soviet Genetics and World Science by Juiian Huxely.
١٨  كتاب روسيا تدير الساعة إلى الوراء: تأليف لانجدون دافيز Russia Puts the Clock Back by Langdon Davies.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤