المصير

من علماء الاجتماع والسياسة من يتشاءم من مصير الحرية الإنسانية، ويخيل إليه أنَّ دور الديمقراطية قد انتهى، ووجب أن يخلفه نظام يسمح بالتدخل في حرية الفرد وحرية المعاملات على اختلافها؛ لتنظيم الثروة العامة، وتحقق البرامج التي توضع للحاضر والمستقبل في وقتٍ واحد، ولا يتأتى تنفيذها بغير تقييد المعاملات بين الأفراد، وبغير اتباع نظم التأميم في بعض المرافق والمشروعات.

والتحول الذي يلاحظه العلماء المتشائمون حاصل متسع النطاق، ولا منازعة في وقوعه واتساع نطاقه، ولا منازعة بين بعضهم في وجوبه وصعوبة الاستغناء عنه، ولكن هذه الملاحظات الصادقة جميعًا لا تستلزم الجزم بانتهاء عصر الديمقراطية وعصر الحرية الفردية؛ لأنها قد تكون من عوارض العصر الحاضر في طريقٍ طويل، تتجدد عوارضه فترة بعد فترة، ثم تنتهي هذه العوارض، ويخلفها طور جديد من أطوار الديمقراطية يدل على النمو والامتداد، ولا يسوغ التشاؤم من الحاضر أو المصير.

ويرجح هذا الاعتقاد أمران: أحدهما: أنَّ الحرية الإنسانية تراث التاريخ كله، كما ينجلي لنا من جملة أدواره وأطواره، وليست عرضًا متقطعًا تبديه لنا صفحة من التاريخ هنا وهناك، ثم تطويه صفحة تليها إلى غير رجعة.

والأمر الآخر: أنَّ التنظيم لا ينفي الحرية ما دام حكمه ساريًا بين الناس على سنة المساواة، وما دام سلطان الحاكم فيه مستمدًا من إرادة الجميع منصرفًا إلى تدبير شئون الجميع، فإن تنظيم مواعيد القطارات والبواخر — مثلًا — لا يؤدي إلى تقييد حرية السفر أو تقييد حرية المسافرين، وقد يؤدي إلى تمكينهم من السفر الذي يحول دونه ترك «المواصلات» فوضى على غير نظام.

والذي يرجح لدينا أن القيود الحاضرة عوارض موقوتة، وأن أسبابها الموقوتة معروفة، لا تختلف عن طبيعة القيود الموقوتة التي تدعو إليها الأحوال الاستثنائية، كأحوال الحروب والانتقال من طور إلى طور في نظام الدولة أو حياة الجماعة، وقد يكون من دواعي التفاؤل أن هذه العوارض الموقوتة خلقتها حركة التقدم واتساع مجال التطبيق، ولم تخلقها نكسة من نكسات التاريخ التي تعوق الحركة إلى الأمام.

ألا يمكن أن تكون هذه العوارض جميعًا راجعة إلى اتساع العلاقات العالمية، واتساع الحقوق السياسية بين جماهير المحكومين؟

بلى، يمكن ذلك، بل هو التعليل الوحيد الراجح بأسبابه المشهورة بين سائر التعليلات.

فالتنظيم والتأميم خطتان لا مناص منهما مع اتساع العلاقات العالمية، وارتباط المعاملات بين الأمم في شئون الزراعة والاقتصاد وشئون الإصدار والإيراد، ومن نتائج هذا التنظيم والتأميم أن «تتركب» الأوضاع الديمقراطية في ميدان عالمي متضامن متكافل بعد انحصارها في حدود كل أمة من الأمم، التي كانت تستغني عن التوفيق بين أحوالها والأحوال العالمية، فتستغني بذلك عن التنظيم والتأميم.

ويتمشى مع هذا الاتساع العالمي اتساع مثله في الحقوق السياسية، يقضي به اشتراك جماعات من الجماهير في الحكم، لم يكن لها من الحكم نصيب كبير ولا صغير.

هذه الجماهير لا بد لها من مفتتح في هذا المجال، تفتتح به تجاربها على نحوٍ من الأنحاء، ولا بد أن تتعثر في هذا المفتتح إلى حين، ريثما تدرك ما حولها من العلاقات القومية والعلاقات العالمية حق إدراك، فلا تنخدع بالسهولة التي ينخدع بها من يقضي حياته — كما انقضت حياة آبائه من قبله — بمعزلٍ عن مسائل الحكم وكفاياته وكفايات القائمين به والمتطلعين إليه، فإذا استقر بها القرار عند حدودها التي تعرفها باختيارها أو تقسرها الضرورة على عرفانها، فهذه الحالة المنظورة أدنى إلى الديمقراطية من حالة العزلة التي حجبت تلك الجماهير عن واجباتها وحقوقها، وتركتها عرضة للخداع والتضليل ممن يقصدون خداعها وتضليلها أو ممن ينقادون بها — أو معها — مخدوعين مضللين.

وسينتهي الشطط في استخدام الحقوق السياسية لا محالة، متى انتهت كل طائفة من طوائف المجتمع إلى حدودها، وعلمت أنها عاجزة عن تجاوز هذه الحدود للجور على الطوائف الأخرى؛ لأن الطوائف الأخرى تملك مثلها سلاح الدفاع عن حقوقها ومصالحها بحكم القانون الصادر من الجميع لمصلحة الجميع.

ولم تصل طوائف المجتمعات في الأمم المختلفة إلى هذا الحد الذي يمتنع فيه الجور من طائفة على أخرى، فإن الطوائف الوسطى في أكثر المجتمعات لا تزال محرومة من سلاحها الاجتماعي، الذي تذود به شطط العلية وشطط الجماهير، ولا تزال مكتوفة اليدين أمام سلاح النفوذ والجاه من جهةٍ، وسلاح الإضراب والشغب من الجهة الأخرى، فإذا وجد في يديها سلاحها الاجتماعي — ولا بد أن يوجد مع الزمن؛ لأنه مطلب تدعو إليه مصلحة الجميع، كما تدعو إليه ضرورة الدفاع عن الذات — فهنالك تنتظم الحقوق السياسية قسرًا بين أناس لا يملك بعضهم أن يجور على بعض، ولا يعجز فريق منهم عن دفع هذا الجور إذا اجترأ عليه فريق يشتط في طلب الحقوق، وتقوم الديمقراطية يومئذ بقوة الدفاع عن الذات، كما تقوم بقوة العقيدة والإيمان.

•••

ولعلنا — في المجتمع المتزن المنتظم — نفرغ من غاشية الحقوق التي استفحلت في العصر الحديث حتى أصبح لها وبال لا يقل في خطره عن وبال الظلم والغشم في عصور الظلمات؛ لأن ادعاء الحقوق لا يقل عن جهل الحقوق في سوء عقباه.

وقد غبرت على الناس عصور كانوا يجهلون فيها حقوقهم، ولا يفرغون فيها من الواجبات المفروضة عليهم، كانوا مثقلين بالواجبات ممطولين في حقوقهم؛ بل ساكتين عنها يجهلونها ولا يطلبونها.

كانت هنالك واجبات الدين، وواجبات العرف، وواجبات الحاكم، وواجبات السادة على العبيد، وواجبات الآباء على الأبناء، وواجبات الكبار على الصغار، ولم تكن هنالك حقوق إلا الحق الإلهي الذي كان يدعيه مدعيه لإنكار جميع الحقوق.

فلما نهضت الأمم للمطالبة بحقوقها لم تظفر بها على هينة وهوادة، ولم تزل تجاهد فيها حتى بلغتها من غاصبيها، واستدارت إلى أنفسها تطالب بعضها بعضًا بما يتخيله من حقوق مهضومة عند المجتمع المحيط بالطالبين والمطلوبين، إذ كانت بدعة المجتمع وتبعاته قد ظهرت في أوانها مع ظهور مظالم الطبقات ودعاوى الطبقات، وأوشك الأمر أن ينتقل جملة واحدة من كفة الواجبات إلى كفة الحقوق؛ لأننا لا نسمع إلا أحاديث عن حقوق كثيرة، ولم يذكر فيما بينها شيء من الواجبات.

حق الرعية، حق الجيل الجديد، حق المرأة، حق الطفل، حق العامل، حق الزارع، حق الكتابة، حق الخطابة، حق الاحتجاج، حق السخط والقلق ومركبات النقص والعقد النفسية، وظروف الحياة القاسية، وظروف الحياة التي توصف بما شاء المدعون من الصفات، إلى آخر هذا الطوفان المتدفق من الحقوق.

ومن يطالب بهذا الطوفان المتدفق من جميع هذه الحقوق؟

شبح واحد يسمى المجتمع، يتكلم الناس عنه كما كانوا يتكلمون قديمًا عن الدهر، وعن الحظ، وعن المقادير.

شبح مبهم لا ملامح له ولا شيات، هو المسئول عن كل أحد وعن كل حق، وعن كل شيء، وكل من عداه سائل لا واجب عليه؛ لأنه ألقى التبعة — بل التبعات جميعًا — على ذلك الشبح المجهول.

فإذا زال ذلك الشبح المجهول يومًا، وحلَّ في محله كيان ذو صورة وأعضاء وحدود وأجزاء وجدوا أنهم يطالبون أنفسهم، وأنهم هم الهاضمون للحقوق، أو المقصرون فيها إذا تحدثوا بحقٍ معروف من موئل في المجتمع معروف.

وأدركوا اضطرارًا أنَّ المطالبة بالحقوق — هي في الوقت نفسه — مطالبة بالواجبات، إذ كان المجتمع المسكين قد تحول من شبح مبهم في الظلام إلى «شخص» مرسوم تبدو فيه ملامح جماعاته وآحاده معروفة الطاقة معروفة العمل معروفة التبعات.

ولا ندري اليوم متى يتسق هذا المجتمع، ويتناسق على سوائه في كل أمة من الأمم التي تسير إلى المستقبل، ولكنها لا تسير إليه بخطوة واحدة ولا على هدًى واحد، ولكننا ندري أنه يستقيم على سوائه، كلما رجحت فيه كفة «الإنسانية» على كفة الخارجين عليها.

مجتمع لبني الإنسان جميعًا لا لطبقة تجور على سائر طبقاته، ومجتمع للعالم المتضامن المتكامل لا لمن يتسلط عليه ويسخره في خدمته بقوة المال والسلاح، ومجتمع تعمل فيه قوى الحياة الإنسانية من شعور عاطفة وخلق وفكر وعقيدة، وليس بالمجتمع الذي تحكمه الآلات والأدوات.

مجتمع الإنسانية وليس بمجتمع الشيوعية، وكل مصير يتحراه أو ينساق إليه بقوانين الحياة فله قسطاس واحد، يفصل بين الهداية فيه والضلال، إنه على هدًى كلما كان مجتمع إنسان لبني الإنسان، في رعاية خالق هذا الإنسان وخالق جميع الأكوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤