القيمة الفائضة

القيمة الفائضة أصل من أصول المذهب الماركسي، لا يقل شأنها فيه عن شأن حرب الطبقات أو التفسير المادي للتاريخ، ولعله أخطر شأنًا فيه من كليهما، إذ لا حرب بين الطبقات، ولا تفسير للتاريخ بوسائل الإنتاج، إن لم تثبته نظرية القيمة الفائضة، ولا محل للقول بالمجتمع الذي لا طبقات فيه إن لم تثبت هذه النظرية، فإن القيمة الفائضة هي ربح رأس المال الذي يقوم عليه المجتمع ويتهدم لأجله، فيخلفه مجتمع لا فضلة فيه من الربح فوق نتاج العمل، ولا طبقات، ولا استغلال.

وخلاصة القيمة الفائضة في مذهب «كارل ماركس» أنَّ قيمة كل سلعة إنما هي قيمة العمل الإنساني فيها، ولكن العامل لا يأخذ هذه القيمة كلها، بل يأخذ منها مقدار ما يكفيه للمعيشة الضرورية، وتذهب القيمة الفائضة إلى صاحب رأس المال بغير عمل.

وأحوج ما تكون النظرية إلى الثبوت في مذهب «كارل ماركس» يكون حظها من الوهن والتلفيق والمحال، وقد قيل عن نظرية القيمة الفائضة من هذا المذهب أنها «كعب أشيل» أو مقتل المذهب في جملته، وهي في الواقع كذلك لولا أنَّ الكعب أخفى موضعًا في هذه النظرية المنكشفة بجميع مقاتلها من النظرة الأولى إلى النظرة الأخيرة.

ما هي القيمة «أولًا» في علم الاقتصاد؟ إنها شيء غير الثمن، وغير الكلفة، وغير السعر، ولكن الفاصل بينها لم يوجد بعد على حدٍ قاطع لا خلاف عليه.

وقد نجحت المشكلة مع الخطوة الأولى من خطوات البحث في علم الاقتصاد، إذ لا معنى لعلم الاقتصاد، إن لم يكن معناه أنه علم «التقويم» أو البحث في القيم وعواملها ومؤثراتها وأسباب التأثير فيها.

ولا داعية إلى معرفة كبيرة بالاقتصاد أو اختصاص عظيم بفن من فنونه العويصة للعلم بأن القيمة غير الثمن، فالثمن معروض مطلوب لا يجهله من يسأل عنه، وتقديره بعد عصر المقايضة يرجع إلى قيمة المعادن الحقيقية، وقيمتها المتداولة، وقيمتها في حساب الدولة التي تضرب المسكوكات، وهنا تدعوه الحاجة إلى التفرقة بين القيمة والثمن؛ لأن العملة التي قدر بها الثمن هي نفسها ذات قيمة لا بد من البحث عنها.

ولم يكن معقولًا أن يسأل الباحث الاقتصادي عن قيمة الشيء فيقول: إنها هي ثمنه بالعملة المعدنية، فإننا لا نزال بعد ذلك مضطرين إلى البحث عن قيمة العملة وقيمة المعدن ومعيار هذه القيمة في عرف التجارة وعرف الدولة التي تضرب باسمها المسكوكات.

قالوا: إنَّ الثمن هو قيمة الشيء مقدرًا بالنقود، وأما قيمته بالسلع الأخرى فهي قيمة العمل الذي يستلزمه كل منها، فإذا قيل مثلًا أن قيمة الذراع من الحرير تساوي مائة رغيف، فمعنى ذلك أن العمل اللازم لصنع ذراع الحرير يساوي العمل لصنع مائة رغيف.

فهل هذا صحيح؟

كلا، وقصاراه من الصحة أنه حيلة تفريقية أو معيار مفروض للقياس عليه، مع الاستعداد للزيادة هنا والنقص هناك، أو مع الاستعداد لافتراق المعايير كل الافتراق.

إن هذه السلعة يصنعها عامل في يوم، ويصنعها عامل آخر في يومين.

وإن هذا العامل تكفيه صحفة من البقول لتوليد طاقة العمل في بنيته، وقد يزامله عامل آخر لا تكفيه الصحفة أو لا يستطيع هضمها ولا غنى له عن طعام غيرها في النوع والثمن.

ويستطيع عامل أن يباشر عمله في الشتاء بلباس خفيف، ولا يستطيع العامل الآخر ذلك إلا بمضاعفة الدثار والاحتماء بين الجدران.

والأرض المخصبة تنبت الحبوب بقليلٍ من العمل، ولا تنبتها الأرض المجدبة إلا بعملٍ كثير وتكاليف شتى للري والتخصيب، ولا تعرض الحبوب من صنفٍ واحد إلا بثمنٍ واحد مع اختلاف العمل في إنباتها.

والكتاب المقرر للتدريس في هذه السنة يباع بمائة قرش للطالب في المدرسة، ولكنه لا يشتريه بخمسة قروش إذا تقرر كتاب غيره، ولم ينقص العمل الذي بذل في تأليفه أو طبعه أو تحضيره ذرة من أجل ذلك التغيير!

والعنب يعصر اليوم فيساوي القدح منه مليمات، ثم يترك العصير في الباطية سنة فيرتفع ثمنه خمسة أو ستة أضعاف، ثم يترك عشر سنوات فيساوي مئات!

والبلوطة تغرس اليوم ولا يساوي العمل فيها دريهمات، ثم تمضي السنوات فتساوي الدنانير، ثم يظهر في إبان ذلك منجم جديد يغني عن الخشب، فيهبط الثمن إلى ربعه أو ما دون ربعه في ذلك المكان!

والنظارة التي يشتريها زيد بدينارين، تعرض على عمرو فلا يشتريها بدرهم، ولا يأتي ذلك من اختلاف العمل فيها بطبيعة الحال!

وهذه الحلية ينفق الصانع الماهر في عملها شهورًا أو سنوات، ثم يموت طالبها الذي أوصى على صنعها لتزيين كسائه أو قنيته من مدخراته، فلا تباع بعشر الثمن المتفق عليه.

يقال إذن: إن طلب السلعة يضاف إلى عملها فيعطيها القيمة التي تستحقها.

وهذا معيار كمعيار العمل يؤخذ بالتقريب، ولا ضابط له على التحقيق.

إن هذا التاجر يعرف المكان الذي يقيم فيه طلاب السلعة، ويملك الوسائل التي تؤديه إليهم.

وربما وجد التاجر الذي يعرف المكان ولا يملك الوسيلة، أو وجد التاجر الذي لا يعرف المكان ولا يملك الوسيلة، فهل يبذل هؤلاء التجار ثمنًا واحدًا للسلعة الواحدة؟

ويتفق أحيانًا أنَّ السلعة تطلب في إبانها ولا تحتمل البقاء إلى موعدٍ آخر، ويتفق أنها تطلب في كل أوان، أو تطلب في أوان مؤجل وهي عند تاجرين، هذا يطيق الانتظار إلى الموعد المؤجل فلا يبيعها إلا بما يرضيه، وهذا يعجز عن الانتظار فيقبل فيها الثمن المعروض عليه!

وليس العمل والطلب كل ما يبحث فيه عند البحث في القيمة، إذ هناك عوامل أخرى بديهية تدخل في الحساب وتتغير عوارضها بتغير الأحوال.

هناك اللزوم والكثرة.

فالماء ألزم من الجوهر، ولكن الجوهر يباع بألوف الدنانير، ولا يزيد ثمن الماء على أجرة حمله عند موارد الأنهار والعيون.

والجزء من الكتاب يباع بثمن مع وجود جميع الأجزاء، ولكن قد يباع بثمن الكتاب كله إذا كان هو الجزء الناقص في مجموعةٍ بعينها، وإن لم يكن ناقصًا في غيرها من المجاميع!

والدفتر من طوابع البريد لا يساوي كثيرًا أو قليلًا عند غير الهواة، وربما بيع بثروةٍ من المال القيم لهذا أو لذاك من الهواة أو التجار العارفين بمكان الهواة!

لأجل هذا الاضطراب في تعريف الضوابط التي تقوم بها الأشياء، لا يبرح الباحثون الاقتصاديون يتنقلون من تعريفٍ إلى استدراك، ومن استدراكٍ قديم إلى استدراكٍ جديد.

ومن هنا نشأ الاختلاف بين تعريف القيمة الاسمية، والقيمة التجارية، والقيمة الذاتية، والقيمة المقدرة بالعمل، والقيمة المقدرة بقوة العمل، ولم ينحسم هذا الاختلاف كل الحسم بتعريفٍ من التعريفات.

ومن هنا قيل: إنَّ القيمة غير الكلفة، وإن الكلفة بحساب العمل شيء والكلفة بحساب الإنتاج شيء آخر.

ومن هنا وجدت تلك النظريات التي تزداد كل يوم ولا تنقص مع الزمن؛ لأنها كلما ازدادت من ناحية ظهر عليها الاعتراض من جملة أنحاء.

وعندنا تقويم القيمة بالمنفعة النهائية١ وعندنا تقويم القيمة بالإضافة الهامشية،٢ وهي التي تحسب تكاليف الجملة ثم تحسب السلعة الزائدة، وهي في كثيرٍ من الأحوال أقل من تكاليف السلعة في الجملة، وعندنا تقويم القيمة بنتائج فقد الشيء مع نتائج الحصول عليه، وعندنا تقويم القيمة بمتوسط الطلب،٣ وعندنا تقويم القيمة بالطبقة الخصوصية،٤ وعندنا غير ذلك أشتات من التعريفات، من قال لنا: إنَّ تعريفًا منها حاسم لا استدراك عليه، فهو جاهل بما يقول أو دَعِيٌّ يكذب في دعواه.

وليس من قصدنا هنا أن نوازن بين هذه التعريفات، وأن نفرغ من البحث فيها حيث لا فراغ من البحث في هذه الأمور، ولكننا نحقق المقصد المأمون من هذا البحث إذا علمنا أن التعريفات جميعًا تسمح بالمراجعة والاستدراك، ولا تؤخذ مأخذ الضبط الجازم من الوجهة الفكرية العلمية، وندع الضبط الجازم من الوجهة العملية التي تهدر فيها الدماء، وينعب فيها نعيب الخراب، ويتحول فيها التاريخ عن مجراه فلا يعود إليه إلا بعد اليأس والضلال.

•••

وعلينا قبل الكلام عن نظرية «كارل ماركس» بين هذه النظريات أن نرجع بها إلى ينبوعها من الظواهر النفسية، ولا مشقة على الباحث عن ذلك الينبوع في ضمير «كارل ماركس»، إذ لا توجد بين تلك النظريات إلا نظرية واحدة تملى له في إشباع طوية النقمة والأذى، وهي نظرية القيمة الفائضة، فإما «قيمة فائضة» وتسويغ لهدم المجتمعات كافة وتحريم لبرامج الإصلاح ما عدا الفتنة العمياء، وإما لا «قيمة فائضة» فلا مجتمع إذن بطبقةٍ واحدة، ولا مسوغ إذن لنعيب النقمة والبغضاء ونذير الرعب والبلاء.

•••

إن أحدًا من المنكرين للمادية التاريخية لا يعصم «كارل ماركس» من الخطأ، كما يعصمه أتباعه وشراح مذهبه كلما استعصى عليهم إثبات رأيه على الصراحة، وألجأتهم غلطاته ومساوئه إلى التأويل المتكلف والتخريج العسير، ولكنه مهما يكن من خطئه أو غلطه خليق أن يفهم ما يفهمه أوساط الناس وألا يخفى عليه ما ينجلي لهم بغير جفاء، ولا تعليل لخفاء الحقائق البينة عنه إلا أن يكون مغلوبًا على عقله بحكم هواه، ويرجح هذا التعليل أقوى الرجحان حين ننظر إلى الآراء التي يقبلها، فإذا هي الآراء التي تملى له في إشباع الحقد والنقمة، وننظر إلى الآراء التي يرفضها، فإذا هي الآراء التي تحول بينه وبين إشباع ضغينته، وتفتح الطريق لوجه من وجوه الإصلاح غير الوجه الأوحد الذي لا معدى عنه لجميع آرائه وتقريراته وتقديراته ووصاياه.

وليس من التعليل المقبول أن تخفى عليه ثغرات القوانين والنظريات التي يتعقبها غيره بالحيطة والاستدراك، ثم يتركونها وهم على علم بما فيها من النقص ومصارحة بما يعوزها من الأسانيد، بل الغالب في جميع الزيادات التي يدخلها على تعريفاته أنها تنم على حيلة كحيل الفقهاء في فتح المنافذ للاستثناء والتخلص من الحرج، ولا يتأتى أن نفرض له حسن النية في هذه الحيلة الفقهية إلا أن يكون مغلوبًا على عقله منساقًا بحكم الجِبِلَّة المتسلطة عليه!

كيف تخلص «كارل ماركس» من المحرجات أو الفجوات في تعريف القيمة بالعمل؟ لم يتخلص بمعنى واضح له أو يتأتى توضيحه لمن يتشكك فيه، ولكنه تخلص منه بتلك الحيل الفقهية المصطنعة فقال: إنه يقصد قوة العمل ولا يقصد العمل الواقع، وإنه يقيده بصفة العمل الضروري في «الساعة الاجتماعية». فالسلعة بعد هذه الاستدراكات تساوي قوة العمل الضروري محسوبة بالساعات الاجتماعية.

وعلى هذا يعتقد «كارل ماركس» أنه راغ من الثغرات المفتوحة عليه، وأعد الجواب لكل اعتراض على رأيه الذي يلقى الاعتراضات الكثيرة من خبراء الاقتصاد منذ مائة سنة، ولا تتناقص هذه الاعتراضات اليوم بل تزداد.

لقد زعم «إنجلز» — صفيه المشهور — أنَّ «ماركس» أتى بمعجزة العبقرية حين استبدل قوة العمل بالعمل، وجعل قيمة السلعة منوطة بتوليد القدرة على العمل لا بإجراء العمل الواقع في مختلف الصناعات، إلا أنَّ هذا التبديل يبعد التعريف، ويزيد ثغراته ولا يلمه، أو ييسر لنا الإحاطة بجوانبه ومنافذ الشك فيه.

فقوة العمل تفتح الباب للعامل النفساني «السيكولوجي» إلى جانب العامل الحيوي «البيولوجي»، وتكاد تخرج بنا في كل خطوة من المعلوم إلى المجهول.

إن الصانع الإيطالي مثلًا يطلب صحفة المكرونة في مصر ولا يقنع بصحفة العدس أو الفول، وإن يكن فيها من الغذاء ما يساوي صحفة المكرونة.

وإن الفاعل الذي يشتغل على نغمات الأناشيد يقل ملله ويزيد نشاطه، ويخول الفاعل المنشد حقًّا في الأجر أكبر من حق الفاعل الذي يصغي إليه.

وإن الأجير الذي يشكو الظلم لا يخلص في عمله، كما يخلص زميله الذي يجهل تلك الشكاية، ويعتقد أن أجره مكافئ لعمله، وإن تساوى الأجران.

أما كلمة الضروري، التي ألحقها بالعمل، فهي الفتوى الفقهية التي تجيز كل اعتراض، ولا تمنع اعتراضًا واحدًا مما تقدمت الإشارة إليه.

إن المهارة الضرورية لرسم صورة من صور الفنون الجميلة، تجعل العمل الذي تتضافر عليه ألوف الأيدي أمثل أجرًا وإتقانًا من عمل اليد الواحدة، لا تحل لنا مشكلة واحدة من مشكلات التقدير أو التسعير.

وإن الخبرة الضرورية في قائد الجيش لا تحل محلها خبرة الألوف من جنوده الذين يحسنون القتال ولا يحسنون القيادة.

أما الساعة الاجتماعية فهي صندوق الساحر الذي يجمع الأسرار، ولا يرفع الستر عن سر واحد نحتاج إلى جلائه وإقراره على قرار لا يقبل النزاع.

فالعناصر التي تدخل في تكوين الساعة الاجتماعية تشمل كل ما تتميز به المجتمعات من العادات والتقاليد والأجواء والشروط الصحية، وتكاليف الساعة الاجتماعية في حوار القطب غير تكاليفها في جوار خط الاستواء، والرضا عسير مع الفصل بين العامل وعادات بيئته أو تقاليدها الاجتماعية، وهو يسير بالأجر نفسه إذا اشتغل العامل وهو لا يشعر بالغربة عن بيئة تلك العادات والتقاليد.

وإذا سأل السائل: ما هو الفرق بين الساعة الاجتماعية في مصنع الحديد وبين أفران الخبز؟ وكيف يكون العدل أو المعادلة في الصناعتين بين الأجر والربح ورأس المال؟ فبماذا تسعفنا كلمة الساعة الاجتماعية في جواب هذا السؤال؟

إنَّ رأس المال المتنقل في الأفران أكثر من رأس المال المتنقل في مصانع الحديد، وصاحب الفرن لا يتكلف لإقامة مصنعه، كما يتكلف صاحب مصنع الحديد عند بناء الدار وشراء العدد واستئجار المهندسين والخبراء، وقد تدور «ألف دينار» من رأس المال كل أسبوع بربحٍ جديد في صناعة الخبز وتوزيعه على العملاء، ولا تدور هذه «الألف» بعينها إلا مرَّة أو مرتين، ولا شك أنَّ مقياس الربح هنا غير مقياس الربح هناك، فما هو الفرق بين الساعتين الاجتماعيتين: ساعة في المخبز، وساعة في مصنع الحديد؟ وهل نجعل لكل صناعة ساعة اجتماعية تدور معها بمقاييس العدل والظلم ومقادير الأجور والأرباح؟

وهل يستطيع أحد — بناء على هذا التعريف — أن يدعي الحكم المبرم في قضائه على المجتمعات بتواريخها وعاداتها وآدابها وأديانها ونظم السياسة والشريعة فيها؟ وهل يمتنع التردد على ضمير يستند إلى ذلك التعريف قبل خوض الدماء والأشلاء إلا أن يكون ضميرًا مسيخًا أعماه الدغل عن منافذ الشك التي تتفتح أمامه كما تتفتح منافذ الغرابيل؟

والمصادفة لا تطرد في الخطأ الفكري على وجهةٍ واحدة من الجانبين المتقابلين، فلا يجوز أن يخطئ الفكر — مصادفة — في قبول القيمة الفائضة على الرغم من تراكم الأدلة التي تنفيها أو تشكك فيها، وأن يخطئ — مصادفة — في إنكار النظريات التي تخالفها على الرغم من تراكم الأدلة التي تؤيدها أو ترجحها، فليس هذا الاطراد من مصادفات الخطأ على نسقٍ واحد طردًا وعكسًا ثم عكسًا وطردًا من الجانبين، ولكنه هوى يغلب على العقل فيتجه به إلى وجهةٍ واحدة حيث مال.

انظر مثلًا إلى «القيمة الفائضة» التي يختار لها في الجزء الأول من كتاب «رأس المال» مثل الربح المكسوب للتاجر من ثمن الحصان، وهو يختار الحصان عمدًا ليقول: إنه سلعة لا يضاف إليها شيء من عند صاحب المال.

فلو أراد أحد أن يختار مثلًا ينقض نظرية «كارل ماركس» لكان مَثَل الحصان أصلح الأمثلة لنقضه، وكان أصلح من السلعة المصنوعة التي لا تحيا ولا تموت!

فالسلعة الجامدة قد تبقى زمنًا بغير عمل مضاف يعمله التاجر للمحافظة عليها، ولكن الحصان يحتاج إلى العلف والسقي والسياسة والحراسة، ولا تبقى له قيمة الحصان التي من أجلها يباع ويشترى إذا هزل أو مرض أو ذهب فريسة لوحشٍ من الوحوش، وفي هذا المثل ترتبط القيمة كلها بعمل التاجر، ولا تبقى للحصان قيمة أصيلة ولا قيمة فائضة بغير ذلك العمل.

ولا ينوب عن تاجر الخيل كل تاجر يبذل ثمن الحصان ثم يبيعه رابحًا فيه، بل لا بد من معرفة خاصة بالخيل وأوصافها ولوازمها ووسائل المحافظة عليها وعرضها في أسواقها، أو حيث يشتريها من يطلبها، وليست هذه المعلومات العامة مما يجهله أحد لو أراد أن يعرفه ويدخله في حسابه، إلا أن «كارل ماركس» ضرب المثل بالحصان وقال: إنَّ التاجر يشتريه بمائة جنيه وهو ينوي أن يبيعه بمائة وعشرين جنيهًا، ولو لم يكلفه شيئًا من النفقة بين المشترى والمبيع، ونسي أنَّ تجارة الخيل لا تقوم على هذا الافتراض، وأنَّ الربح في هذه الحالة إنما يصح أن يقال: إنه بغير عمل وبغير مقابل إذا تساوى وجود التاجر وعدمه، فهل هما مستويان؟ وهل يقبل «ماركس» هذا التساوي المزعوم بهذه السهولة إذا كان فيه إنكار للقيمة الفائضة؟

لقد كان مثل الحصان هذا محل مناقشة بين أصحاب النظريات الاقتصادية لبيان عمل التاجر في صفقته التجارية، فقال بعضهم: إنَّ التاجر خدم البائع؛ لأنه أعطاه مالًا أنفع لديه من الحصان، وخدم الشاري؛ لأنه أعطاه حصانًا أنفع لديه من ثمنه، وأخذ على عاتقه أن ينوب عنهما في البحث عن فرص البيع والشراء، وهو عمل له جزاء، ولكن «ماركس» يسمي هذا الاقتصاد باقتصاد الرعاع أو الأوباش — وهي تسمية لا تستغرب من أحد، كما تستغرب من الرجل الذي جعل رسالته تسليم العالم بقضه وقضيضه للصعاليك — ومن تفكير الرعاع عنده أن يقال: إن التاجر قد خلق قيمة للحصان بعمله، وأن يوصف عمله بشيء غير صفة التداول٥ التي هي من طبيعة الحال، فماذا لو ضاعت قيمة الحصان كلها فمات، وماذا لو أكل بثمنه علفًا قبل أن يباع؟ هذه اعتراضات لها ثبوتها اليقيني عند «ماركس» في حالة واحدة وهي الحالة التي ترضيه ولا ثبوت لها — بل لا وجود لها — في أية حالة لا ترضيه!

وإنه ليرفض قيمة الإدارة بمثل هذه السهولة حين يقال له: إنها تقدم وتؤخر في نجاح المعمل واستمراره وكفالة ربحه، وإنَّ الفرق بين معملين في الرواج قد يرجع إلى حسن الإدارة أو خلل الإدارة، فيعيش أحدهما وينمو ويضمحل الآخر ويموت، وكلاهما فيه عمل وفيه عمال.

ولم يصنع «كارل ماركس» في حل هذه المشكلة بادئ الرأي، إلا أن يفرق بين الإدارة ورأس المال، وكيفما تشعبت الآراء في هذه الفروق فلا خطر لها في الموضوع الذي أثيرت من أجله؛ لأن النتيجة على جميع الأقوال أن السلعة لا تستمد قيمتها كلها من عمل الصانع، وأن عمل الصانع قد يزداد وتقل قيمة سلعته مع خلل الإدارة، وأنه قد ينقص وتزيد قيمة السلعة مع حسن الإدارة وانتظامها، فليست القيمة إذن مستمدة من عمل الصانع أو أعمال الصناع أجمعين.

وبالسهولة التي يرفض بها «كارل ماركس» كل رأي لا يرضيه، نراه في مسألة الإدارة يرفض كل احتمال لاستبداد المدير بالنفوذ، ويحصر الاستبداد في صاحب المال، ولا دليل له على ذلك إلا أنه يريده ويأبى ما عداه.

فالإنسان يطلب الربح لأنه يطلب الامتياز، ويأبى «كارل ماركس» هذا؛ لأنه يفسد عليه عمله في حاضره ومصيره، ويقول: إنَّ الإنسان يطلب الامتياز؛ لأن هناك ربحًا يطمع فيه، فما لم يكن ربح فلا امتياز.

والحصان هنا معلق وراء المركبة، على عادة المذهب في أكثر نظرياته، ومن ذاك ما تقدم في قيمة العمل، فالصحيح أنَّ العمل الإنساني له قيمة بمقدار طلبه، وأما الصحيح في المذهب فهو قلب الواقع رأسًا على عقب أو هو القول بأن السلعة لها قيمة بمقدار ما فيها من عمل الإنسان.

وعلى هذا القياس المعكوس يقال: إنَّ حب الامتياز يأتي من حب الربح، ولا يقال: إنَّ حُبَّ الربح يأتي من حُبِّ الامتياز.

ولا تؤخذ الحجة من الواقع المحسوس في طبيعة الإنسان، ولكنها تؤخذ من الهوى الدفين في الطبيعة الممسوخة، فلو قيل: إنَّ المدير يحرص على امتيازه، كما يحرص عليه صاحب رأس المال سقط المذهب من قمته إلى أعمق غور فيه، فوجب إذن أن يلغى هذا القول ولا يطول النظر فيه، مخافة الكسر على الزجاجة المخبأة وراء الظهر، ولا سند لها من الجدار!

على أنَّ الظاهر من مساجلات «كارل ماركس» وزمرته في الأيام الأخيرة أنَّ الحملة على نظرية القيمة الفائضة كانت أقوى من المكابرة واللجاج، وأنها زعزعت المذهب في الآونة التي أدبر فيها إدبارته المنذرة بالموت بعد فشل الفتنة الباريسية، فتراجع دعاته إلى خطوطهم الأخيرة ووعد «كارل ماركس» غير مرَّة بإعادة البحث للإفاضة في مسألة القيمة الفائضة، وتعزيزها بالأدلة من أطوار الحركة الاقتصادية في تلك الآونة، ثم مات ولم ينجز وعده، وشعر صفيه «إنجلز» بالحرج من مناوشة ناقديه، فأعلن أنَّ الرد على اعتراضات الناقدين سيظهر في الجزء الثالث من كتاب «رأس المال» الذي عثر على مسوداته في أوراق «ماركس» بعد موته، ثم ظهر الجزء الثالث فإذا هو يتراجع ولا يفسر ما غمض من أقواله السابقة، وإذا به يعترف بأنَّ بعض السلع يتبادل بقيمته الإنتاجية و«أنَّ جملة أثمان الإنتاج للسلع الاجتماعية — مشتملة على جملة خطوط الإنتاج — تساوي جملة القيم جميعًا.»

وها هنا تفرقة صريحة بين قيمة الإنتاج وقيمة العمل؛ لأن خطوط الإنتاج تشمل رأس المال والإدارة والعمل، ولا معنى معها للقول بالقيمة الفائضة التي شهر من أجلها الحرب على مجتمع الصناعة الكبرى وما سبقه من المجتمعات، وقد ختم «كارل ماركس» رسالته بنصوصه وشروحه واستدراكاته دون أن يبسط القول في شيئين من أحق الأشياء في مذهبه بالشرح والإثبات، فلم يقل لنا كيف كان في الإمكان أن يظفر الصانع بحقه كاملًا في مجتمع القرن التاسع عشر أو المجتمعات السابقة، وكيف كان في الإمكان أن يتم تداول رأس المال مع ذلك وتبقى الأعمال وحقوق العمال؟

وأغرب من ذلك أنه لم يقل لنا كيف يعرف الصانع حاجته، وكيف ينالها بغير بخس ولا محاباة، وكيف تدار المصانع على سنة العدل والمساواة بعد زوال رأس المال واستيلاء الأُجَراء على المصانع وموارد الأرزاق.

فهذا العالم الذي يؤكد لنا أنه يحلم كما يحلم الطوبيون من الاقتصاديين الرعاع، يزعم أنه يعلم — ولا يغرق في النوم والحلم — حين يتنبأ لنا عن مجتمع يزول منه رأس المال، فيطلب فيه كل فرد حاجته بغير زيادة وينالها لساعتها بغير نقصان، ويخدمه مديرون ورؤساء لا يحرصون على مزية الرياسة ولا يحتالون على البقاء فيها، وأنَّ المنافسات التي تنبعث من تفاوت الحظوظ في الذكاء والقدرة والجمال والصحة وكثرة النسل لن يكون لها عمل بعد زوال رأس المال، وأنَّ «الفلوس» وحدها هي التي تعمل كل شيء ولا عمل بعدها — بتة — للتمايز بالحظوظ والأقدار.

من صدق هذا فليس بالعسير عليه أن يصدق طوبى من طوبيات الحالمين، وعلم الله ما رأينا أناسًا يجلسون مجلس الجد للبحث العلمي في هذه الخرافات إلا عبرت أمامنا صور الأطفال الصغار، وهم يلبسون اللحى الطوال؛ ليمثلوا هيبة القضاء بين ألاعيب الفراغ.

وما كانت النبوءة عن المجتمع «بلا عملة فائضة» هي خاتمة النبوءات عند هؤلاء العلماء المحققين غير الحالمين وغير الواهمين، فإنه ليكفي عندهم أن يقول القائل: إنني عالم غير حالم، وإنني أدين بالمادة ولا أدين بما وراءها؛ ليجوز له الشطح الذي لا يجوز لأحد، ولا يستند فيه إلى سند. وهذه نبوءاتهم عن عاقبة الأطوار الاجتماعية رحلة قريبة جدًّا إلى جانب النبوءة التالية عن عاقبة الأطوار المادية، فإن «إنجلز» صفي «ماركس» يعلم علمًا ليس بالحلم «أن المادة تتحرك في دورات أبدية تستتم كل دورة مداها في دهرٍ من الزمان، تلوح السنة الأرضية إلى جانبه كأنها عدم، دورة تلوح فيها فترة التطور الأعلى — ونعني بها فترة الحياة العضوية التي يتوجها الوعي الذاتي — شيئًا صغيرًا بالقياس إلى تاريخ الحياة وتاريخ الوعي نفسه، دورة تكون فيها كل هيئة خاصة من هيئات المادة — سواء كانت شمسًا أو سديمًا، أو كانت حيوانًا أو نوعًا كاملًا من أنواع الحيوان، أو كانت تركيبًا كيميًّا أو انحلالًا كيميًّا — أبدًا في تحول وانتقال، دورة لا يدوم فيها إلا المادة المتغيرة أبدًا، وإلا ناموس التغير الأبدي والحركة الأبدية. ومهما تتكرر هذه الدورة ويبلغ من قسوة تكرارها في الزمان والمكان، أو مهما يطل الانتظار قبل أن تبرز هنا أو هناك منظومة شمسية أو كوكب تتهيأ عليه البيئة للحياة العضوية، ومهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينها أحياء تفكر بأدمغتها، وتجد لها ملاذًا يسمح بالحياة — ولو إلى فترةٍ وجيزة — فإننا مع هذا لعلى يقين أنَّ المادة في كل تغيراتها تظل أبدًا واحدة وأبدًا كما هي، وإنها لن تفقد صفة من صفاتها، وإن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع زهرات المادة — وهي القوة المفكرة — هي بعينها تقضي بميلادها كرَّة أخرى في زمان آخر.»

نعم، هذه هي النبوءات الراسخة عن مصير الأطوار الاجتماعية ومصير الأطوار الكونية، ومن شروطها المسلَّمة أنها بغير دليل ولا محاولة للدليل، وهل يلزم الإنسان أن يدلل على صحة كلام بعد قوله في فاتحة كل دعوى من دعاويه: إنه يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالأحلام؟

١  Final Utility.
٢  Marginal Cost.
٣  Average Demand.
٤  Class Price.
٥  Circulation.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤