الأخلاق

مذهب الشيوعيين في الأخلاق أنَّ المجتمع ينشئ الأخلاق لخدمة مصالح الطبقة التي تملك زمام الثروة فيه، وتسيطر على وسائل الإنتاج، وأنَّ أبناء المجتمع لا يعيبون هذه الأخلاق ما دامت وسائل الإنتاج ناجحة منتظمة، ولو كانوا من ضحاياها، فلا يعاب الرق حيث تقوم وسائل الإنتاج على تسخير العبيد، ولا يقول العبيد في إبانه: إنه ظلم وخبث، بل يقولون: إنه من سوء الحظ أو من ضربات القدر التي لا محيص عنها، وليس في أصل الطبيعة البشرية ما يوصف بالخير أو بالشر إلا حين يرتبط بمصلحة الطبقة الغالبة، أو بما يدابر مصلحتها، فليس لطبقة الأُجَراء الصعاليك إذن أن تستحسن شيئًا غير ما يوافق مقاصدها، ولا أن تستهجن شيئًا غير ما يعوق تلك المقاصد، وما عدا ذلك من عرف شائع فإنما هو من بقايا المجتمعات التي كانت تقوم على تسخير الطبقة الأجيرة واستغلال جهودها، ثم لم يبطل التسخير كل البطلان، ولم يقض على بقايا ذلك العرف وعقابيله، ولم يخلفه عرف جديد.

وقد ألم «ماركس» بقواعد هذا المذهب، وشرحه «إنجلز» بعض الشرح في الكلام على أصل الأسرة بصفةٍ خاصة، وفي ردوده المتفرقة على المعارضين من أطراف متعددة. وكلاهما «ماركس، وإنجلز» يرى أنَّ الدعوة المادية وصف لما هو واقع وما سيقع أو سوف يقع لا محالة، وليست تبشيرًا بالأخلاق الصالحة والمناقب المأثورة التي يثني عليها المثاليون من الدينيين والحكماء، فما يحمدانه من الأخلاق هو الواقع الذي يجب على المجتمع الموعود أن يدين به؛ لأنه لا يقدر على ابتداع دين سواه.

ثم قام متجمع الطبقة كما تخيل أتباع «كارل ماركس» بعد الحرب العالمية الأولى، فأعلن «لينين» هذا المذهب في مواقف كثيرة أصرحها موقفه — التعليمي — في مؤتمر الشباب الشيوعيين الذي انعقد في سنة ١٩٢٠ وخطب فيه فقال:

إنني سأعرض هنا قبل كل شيء لمسألة الأخلاق الشيوعية.

فالواجب عليكم أن تدربوا أنفسكم على الشيوعية، ومهمة عصبة الشباب أن تنظم نشاطها العملي، بحيث تصبح بالتعليم والتنظيم والتعاون والنضال هي ومن ينظر إليها نظرة القدرة والمثال — جماعة شيوعية. وكل عمل من أعمال التدريب والإرشاد لتعليم شباب اليوم فالغاية الوحيدة منه أن يصبحوا شيوعيين.

ويسأل السائل: أهناك شيء يسمى آدابًا شيوعية؟ أهناك شيء يسمى دستورًا أخلاقيًّا للشيوعية؟ والجواب: نعم ولا ريب. وربما حاول بعضهم أن يصورنا كأننا قوم لا نعرف لنا دستورًا معلومًا للأخلاق والآداب، وكثيرًا ما يقول البرجوازيون: إننا معشر الشيوعيين أناس نخرج على جميع الأخلاق والآداب، وهو أسلوب من أساليب الإدراك المتبلبل، ووسيلة من وسائل إثارة الغبار على أعين العمال والفلاحين.

فبأي معنى يقال: إننا نخرج على جميع الأخلاق والآداب؟ بمعنى واحد، وهو المعنى الذي يدين به البرجوازيون، إذ يستمدون الأخلاق والآداب من أوامر الإله.

فنحن نخرج على جميع الأخلاق والآداب التي تنفصل من المجتمع البشري وطبقاته. ونحن نرى أنها خداع وتزييف وتضليل لعقول العمال والفلاحين من قبل الملاك وأصحاب الأموال.

نحن نرى أنَّ دستورنا الأخلاقي تابع لمصالح الحرب الطبقية التي يخوضها الأُجَراء، ومستمد من الصراع في سبيلها.

ولقد كان المجتمع القديم قائمًا على ظلم الملاك وأصحاب الأموال للعمال والفلاحين، فيجب علينا أن نتلفه وأن نسقطهم، ولا بد من الاتحاد لتحقيق هذه الأهداف. إلا أنه اتحاد لا يتم في غير المصانع والمعامل وعلى أيدي طبقة البرولتارية بعد تدريبها وإيقاظها من سباتها الطويل، ونحن نقول الآن عن تجربة واقعة: إنَّ البرولتارية دون غيرها هي التي تخلق تلك الوحدة التي يقتدي بها الفلاحون المتفرقون المبعثرون على الرغم من عراقيل المستغلين. فلا طبقة غير هذه الطبقة يرجى أن تعمل على توحيد الصفوف بين الكادحين، وأن تحمي دائمًا، وتدعم دائمًا، وتشيد دائمًا مجتمع الشيوعية.

ولهذا نقول: إنه لا يوجد شيء يسمى الأخلاق بمعزلٍ عن المجتمع البشري، وإن تلك الأخلاق تزييف وتزوير، ولا أخلاق عندنا إلا الأخلاق التي تستمد من صراع طبقة الصعاليك.

وإذا تحدث الناس إلينا عن الأخلاق قلنا: إنَّ الأخلاق عند الشيوعيين تجتمع كلها في هذه الوحدة الوثيقة المنظمة الواعية أمام المشتغلين.

ذاك مصدر الأخلاق الإنسانية في مذهب الشيوعيين من يوم تأسيسه إلى يوم قيام الدولة الشيوعية، تفسيره بعلةٍ من علل الظواهر النفسية المريضة قريب متناسق محيط منه بالسر والعلانية، وتفسيره بغير ذلك من العلل الفكرية والعلمية يلتوي بنا خطوات كلما مضينا به خطوة في طريق.

تفسيره بعلة الحقد والكراهية أنه يقطع الصلة الإنسانية بين الطبقة الموعودة وسائر الطبقات، ويجعل بينها وبين المجتمعات القائمة فجوة أبدية، لا ينفتح فيها باب من أبواب التفاهم أو المصالحة أو الْبُقْيَا.

وتفسيره بالعلل الفكرية أو العلمية لا يسمح لأصحاب المذهب قبل غيرهم بالاسترسال فيه إلى نتيجة على مدى تلك النتيجة أو إلى نتيجة أقرب منها؛ لأنه يستند إلى علل تتنافر وتتضارب، ولا تصطحب خطوة إلا افترقت بعد ذلك خطوات.

لا أخلاق في الإنسان إلا من وسائل الإنتاج.

ووسائل الإنتاج في المجتمعات البدائية الأولى تخلق لنا إنسانًا بريئًا براءة الطفل، يكاد مقال «إنجلز» عنه في أصل الأسرة أن يحسب من أغاني القصيد لا من بحوث الآراء والأسانيد، و«إنجلز» هو الذي تكفل هنا بشرح المذهب المتفق عليه بينه وبين أستاذه وصفيه «كارل ماركس» المصدق في المشهد والمغيب.

يقول «إنجلز» في وصف تلك الحالة: «لقد كانت نظامًا عجبًا تلك الحالة التي درج عليها الرفقة في بساطة الطفولة: لا جنود، لا حرس، لا شرطة، لا نبلاء، لا ملوك، لا أوصياء، لا محافظين، لا قضاة، لا سجون، لا محاكم ولا محاكمات، ويجري كل شيء في مجراه على وتيرةٍ ونظام، فتشترك الجماعة كلها في تسوية المنازعات والخصومات برأي الشيوخ في القبيلة أو برأي أبنائها فيما بينهم وبين أنفسهم، ولا يحدث إلا في الندرة أن يقع النذير بالثأر أو بالنقمة الدموية، إذ ليست عقوبة الإعدام بيننا اليوم إلا بقية متمدنة من بقايا النقمة الدموية بما لحقها من مزايا المدنية وآفاتها. ولقد كانت الشئون التي تتطلب التسوية أكثر عددًا من مثيلاتها في يومنا هذا، ولكن تدبير الشئون المنزلية كان مشتركًا بين طائفة من الأسر على اتفاق وعلى قواعد المشاع، والأرض في حوزة القبيلة بأسرها، والبساتين على حسب الحاجة في أيدي الموكلين بالشئون المنزلية، ولا ضرورة لشيءٍ من هذه الإدارة المشتبكة وما يتخللها من الحواجز في المدنية الحاضرة، ويتقرر الأمر على أيدي أصحاب الأمر بعد قرون يكرر فيها القرار بحكم العادة والقدوة، وليس من الممكن في هذه الحالة أن يوجد الفقير أو المعوز، إذ يعرف أبناء القبيلة واجبهم نحو الكبار في السن والمرضى والمصابين في الحروب، وكلهم متساوون في الحرية ومنهم النساء.»

ثم يفرغ «إنجلز» من هذا النشيد لينتقل إلى وصف أحوال القبيلة بعد امتياز بعض الأفراد باقتناء القطعان الكثيرة من الأنعام والماشية، فيقول:
ذلك جانب واحد من جوانب المسألة، ولا ينبغي أن يفوتنا أنَّ هذا النظام مقضي عليه، لأنه نظام لا يتخطى حدود القبيلة، والاتحاد بين القبائل أول علامة من علامات الانحلال كما سنرى، وكما سيظهر من محاولة قبائل «أروكيز»١ الأمريكية أن تخضع غيرها، فكل ما تخطى حدود القبيلة فهو خارج من الزمرة. وحيث لا ينعقد الصلح بين القبائل فهنالك الحرب القائمة بين كل قبيلة وقبيلة، تجري بتلك القسوة التي اختص بها الإنسان بين سائر الحيوان وعملت المصلحة الذاتية فيما بعد على تهذيبها.
إلى أن يقول:

فالقبيلة وأنظمتها مقدسة خلقتها الطبيعة، والفرد وعواطفه وأفكاره وأعماله تظل بغير قيد ولا شرط خاضعة لتلك الأنظمة. وهم كما يبدون لنا لا تمييز بينهم، بل يظلون كما قال «ماركس» مرتبطين بالحبل السري برباط الجماعة البدائية: ولا مناص من كسر قوة هذه الجماعة الطبيعية اللدنية وقد كسرت، إلا أن كسرها قد تم بمؤثرات كانت من البداءة تحمل علامة الانحطاط والسقوط من بساطة الأخلاق الفاخرة التي تخلقت بها الجماعات الغابرة، ونشأت نظم الطبقات الجديدة من أسوأ الدوافع والمغريات.

وهناك يجمع «إنجلز» كل ما قدر عليه من قبائح الذم في قصيدة هجاء تقابل تلك القصيدة الغنائية، التي ترنم فيها بمناقب الجماعات الهمجية الأولى، فيقول ما ترجمته بحرفه:

إنه الجشع الوبشي والمتاع البيهمي والطمع الكالح واللصوصية الأنانية.

ثم يقول:

وما كان ينقص إلا النظام الذي كان لا يكتفي بضمان الملكية الجديدة التي استأثر بها بعض الآحاد خلافًا لسنة القبيلة، ولا بتقديس أرفع مطالب الجماعة البشرية، بل يزيد على ذلك أن يدفع الوسائل الجديدة التي جعلت تنمو لإحراز الملكية وتوفير الثروة برضى المجتمع كله. ولم يكن ثمة بد من نظام يكفل دوام الطبقات المستحدثة، ويكفل مع ذلك للطبقة الراجحة حق استغلال الآخرين، وكذلك وجد هذا النظام، وكذلك وجدت الحكومية.

ثم يكون الجشع الكالح — كما جاء في الكتاب نفسه — حافز الحضارة من مطلع فجرها إلى اليوم، «الثروة ثم الثروة ثم الثروة مرَّة ثالثة: ثروة الفرد الضئيل لا ثروة المجتمع الشامل هي غاية الغايات».

ولا يخفى أنَّ أهم ما يهم في هذه النقلة أن نعرف كيف وجدت هذه الأنانية من تلك الحالة البريئة؟

إن ظهور الملكية الخاصة هو الذي أحدث هذا التغيير، غير أننا لا نعلم هل الملكية الخاصة جاءت في الأنانية، أو الأنانية هي التي جاءت في الملكية الخاصة.

تلك مسألة هامة لا تضارعها في خطرها مسألة من مسائل هذا الدور المزعوم، فإذا كان من السهل وجود الأنانية مع وسائل الإنتاج المشاعة، فمن السهل أن توجد الأنانية مرَّة أخرى في المشاعية الموعودة التي تهدر من أجلها ملايين الأرواح بغير رحمة ولا هوادة، وإذا كان ذلك ممتنعًا مستحيلًا فمن الواجب أن نعلم على اليقين كيف يمتنع وكيف يستحيل، قبل أن ننهض بذلك العبء الثقيل.

لقد كان المجتمع الشعري الذي تغنى به «إنجلز» محصورًا في القبيلة الصغيرة، لا تشترك فيه جميع القبائل المتجاورة أو المتباعدة من مثيلاتها، وقد كانت كل قبيلة على هذا المثال من البراءة والإيثار، ثم تقاتلت القبائل، ولم تكن البراءة في كل منها مانعة لهذا القتال ولا لما يعقبه من الفتك والنكال ومن الإخضاع والإذلال، فهل يحسب هذا القتال من الأنانية البغيضة، أو يحسب من البراءة والطهارة وسلامة الصدر من الأثرة وحب الذات؟

ثم نعود إلى مشكلة الفرد وأثره في أخلاق المجتمع وأثر المجتمع في أخلاقه، فلا نزال في تردد بين الآراء المتناقضة: بين «كارل ماركس» الذي يقول غير مرَّة: إنَّ المجتمع يخترع الفرد إن لم يجده. و«كارل ماركس» الذي يعيد غير مرَّة ما كتبه إلى صاحبه العظيم أن صاحبه «كجلمان» وعني بنشره في المجلد العشرين من صحيفة «نيوزيت»، وفيه يقرر أن التعجيل والإبطاء في الحركات الاجتماعية يرجعان كثيرًا إلى عوامل المصادفة، وفي مقدمتها أخلاق القادة الآخذين بأزِمَّة تلك الحركات.

•••

والعقدة الْمُؤَرِّيَة التي أعضلت على الأخلاقيين الماديين هي الفصل بين أخلاق العهود وإسناد كل طائفة من الأخلاق إلى وسائل الإنتاج في عهدها الذي يصلح لها ولا يصلح لغيرها.

فما هي الأخلاق التي أنشأها عهد الرق لاستبقاء الإنتاج بتسخير العبيد؟ هل هي المبالغة في احتقار العبودية والتنفير من الذل الذي يقبله العبيد؟

وما هي الأخلاق التي أنشأها عهد الإقطاع لاستبقاء الإنتاج باستغلال عمل الزراع؟ هل هي المبالغة في تمجيد النسب العريق وازدراء النسب الخامل؟

وما هي الأخلاق التي أنشأها عهد رأس المال لاستبقاء الإنتاج بابتزاز حقوق الأُجَراء؟ هل هي المبالغة في تعظيم الترف والغنى والأنفة من ذل الحاجة والفاقة؟

لو أنَّ السادة في كل عهد من العهود يعملون للتعجيل بزوال عهدهم لما أنشئوا أخلاقًا غير هذه الأخلاق، ونحن نفهم تحقير ذل العبودية وذل الخمول وذل الحاجة حين توضع الأخلاق للإنسان، وما يليق بالإنسان في العهود، ولكننا لا نفهم أن نستبقي وسائل الإنتاج بتحقيرها والتنفير منها.

وعقدة مثل هذه العقدة تعترض الأخلاقيين الماديين فلا يملونها ويكتفون بتسجيلها كأنما التسجيل وحده كاف للتنفيذ والتصحيح، وتلك العقدة هي وجود الأخلاق بعد زوال الداعي إليها على زعمهم في كل عهد من العهود، فإن «كارل ماركس» يقول في رسالة الثامن عشر من بروميير: «إن الناس يستمدون الدوافع أحيانًا من الأسماء الغابرة والأوضاع العتيقة ولا يستمدونها من الحوادث التي أنشأتها، وإن التقاليد الموروثة في الأجيال الغابرة ترين كالجبال على أدمغة الأحياء»، و«إنجلز» يقول في الاشتراكية الطوبية والاشتراكية العلمية: «إن هذه التقاليد عقبة معطلة تصد مجرى التاريخ»، ومن البديه أنَّ الاعتراف بهذا الأمر الواقع لا يؤيد القول بصدور الأخلاق جميعًا من وسائل الإنتاج، ولا يمحو العوامل الأخرى التي ترجع إلى شيء في طبيعة الإنسان غير البيئة الاقتصادية، فما هو الحد الفاصل بين فعل الطبيعة الإنسانية وفعل الوسائل الاقتصادية؟ وما هو المحك الذي نعرف به ما كان من فعل التقاليد وما كان من فعل الحياة الحاضرة؟ ولماذا تكون التقاليد جميعًا ضارة ولا يكون فيها ما يفيد وهي صالحة — كما يقول «كارل ماركس» — لاستمداد الدوافع منها حين تعجز الحوادث الحاضرة عن إمدادها؟

لم تحل الأخلاق المادية هذه العقدة، وانطوى القرن ونشأ المجتمع الشيوعي من الثورة الروسية، ولم يكن لدعاته رأي بين فيما ينبغي أن تكون عليه أخلاق «الصعاليك»، أو أخلاق المجتمع من طبقةٍ واحدة، وكاد بيانهم لهذه الأخلاق أن يكون «سلبيًّا» محصورًا في مخالفة كل خلق من الأخلاق التي جاء تقديسها في المجتمع البرجوازي كما يزعمون، وأوشكوا أن يتخذوا «الأسرة» محكًّا للأخلاق التي يحمدونها من المجتمع الجديد؛ لأنها في مذهبهم سولت للناس حب الملكية والوراثة، وهما رأس الآفات والشرور، فكل ما هدم الأسرة فهو حسن، وكل ما صانها وحافظ عليها فهو سيء ذميم. وتساوى الزواج والزنا من أجل ذلك في شريعتهم، وسمحوا بالإجهاض لأنه في صورة من صوره انتهاك لحقوق الزواج، وأباحوا كل ما حرمه الناس قديمًا لأنه تحريم صادر — في زعمهم — من مصالح المستغلين والمستبدين، ووجب عندهم الخروج على أدب الاحترام ولو لم يكن ذا علاقة بمسائل الاقتصاد، ووسائل الإنتاج، فكان من تشبيهاتهم للشمس المحمرة أنها تحكي «بركة من بول الخيل»، وكان من آدابهم أن يجلس القضاة للحكم، وهم يدخنون ويأكلون كأنما الشعور بالفارق بين مكان الحكم ونادي السمر رذيلة موقوفة على المجتمعات البرجوازية، وكأنما الاحترام كيفما كان أدب لا يليق بالمجتمع المنشود، أو كأنه أدب لا توجد له علامة في سلوك الإنسان، ويستوي من يحترم ومن لا يحترم في هذا السلوك؟

ودلالة الأخلاق من سلوك الأتباع الذين يقبلون على المذهب لا تقل عن دلالة هذه الآراء التي يروجها الدعاة المؤسسون لقواعده والمقررون لمبادئه من مباحثهم التي يسمونها بالمباحث العلمية، فهؤلاء الأتباع لا يفهمون من الأخلاق المطلوبة، إلا أنها الخروج على الأخلاق المحترمة في المجتمعات الإنسانية، وفي إحدى القصص الواقعية التي اشتملت على الكثير من «الشخصيات» الشيوعية حديث صريح، يحكي ما يجري على ألسنة هذه الشخصيات في المجتمعات المعدة للدعوة، لا نسمي القصة؛ لأننا لا نحب أن نلفت الأنظار إليها، ولكننا ننقل كلام المؤلف في الصفحة اﻟ (٢٥٦)، بعد عتاب سمعه المجتمعون من شاب خانه أحدهم، واحتال عليه جزاء له على وفائه ومودته.

قال المؤلف: «قد يكون الحق ما يقول، ولكن صاحبكم لم يستعمل حيلته مع أبي أو أخي ولكنه استعملها معي أنا، أنا الذي كنت نصيره الوحيد، أنا الذي تركت أبي وهجرت أسرتي من أجله، فهل أفهم من هذا أنه تجرد من كرامته بحيث …

ولم يتم خالد حديثه إذ قاطعته ضحكة ساخرة صدرت من فم نصيف.

أسمعك تقول: الكرامة، هذا لفظ لا نعرفه هنا أيها السيد العزيز، فالفتيان الذين يحيطون بك الآن أناس اختاروا لأنفسهم لقب الرفقاء الأنذال، الكرامة! إنَّ لنا معجمًا خاصًّا يا سيد خالد. هذا المعجم هو معجم الفقراء، وهو لذلك خلو من كثير من الكلمات التي تعرفها أمثال الكرامة والشرف والأمانة، ونحو ذلك من الحلي الغالية التي يستطيع الأغنياء ابتياعها ولكن لا يقدر عليها الفقراء!

وجاء دور خالد لكي يطلق ضحكة ساخرة فأطلقها وقال: شيء عجيب، لقد كنت أظن أنَّ الكرامة والشرف جواهر لا يتحلى بها سوى الفقراء، ولكنك تحدثني بأن الفقراء لا يعلمون من أمر هذه الصفات شيئًا، فهل لك أن تخبرني أين أجدها إذن؟

وبعد حوار على هذا المنوال يتقدم أحدهم إلى الأستاذ خالد ويسأله: هل أنت جزري يا أستاذ خالد؟

فيرفع خالد بصره إلى محدثه ويقول: «لست بفاهم.»

فيقال له: أنصت إلي يا سيد خالد، افترض أنك قمت برحلة مع أسرتك، وبينما أنتم في وسط المحيط إذ قامت عاصفة هوجاء أغرقت السفينة فلم ينج من ركابها سواك وأخت لك. فتعلقتما ببعض حطام الباخرة وظللتما على هذه الحال إلى أن ألقت بكما الريح إلى جزيرة صغيرة، ولما استقر بكما المقام في هذه الجزيرة رحت ترتاد مجاهلها مع أختك، فظهر لكما أن ليس من البشر سواكما، ومرت بكما الأيام والليالي دون أن تجوز بكما سفينة حتى تأكد لديكما أنكما لن تغادرا هذه الجزيرة حياتكما، والآن أخبرني يا أستاذ خالد: «أتسمح نفسك بأن تعاشر أختك معاشرة الأزواج أم تراك تمتنع من ذلك؟»»

وليس في مقدور أحد من ألد أعداء الأخلاق الشيوعية أن يفندها بكلام أبلغ في تفنيدها من كلام أتباعها هؤلاء؛ لأن أبلغ ما يقال في تفنيد مذهب أنه يجرد الإنسان من مزيته على الحيوان، ومزية الإنسان بالشرف والكرامة، وليست مزيته بحشو البطون الذي يتساوى فيه وأحقر الحيوان!

إننا نصل بعد لَأْيٍ إلى المجتمع الموعود الذي حطمنا من أجله المجتمعات، ونطمع في نعيم شعري كذلك النعيم الذي ترنم به «إنجلز»، فلا نجد في المجتمع الموعود إلا مفسدة للأخلاق والعقول إذا صدقنا «كارل ماركس»؛ لأنه مجتمع رخاء وسخاء، يجد كل ذي حاجة فيه حاجته بين يديه، وذلك أضر المجتمعات بطبائع الأفراد، كما يقرر «كارل ماركس» في كتابه رأس المال، وكما يقرر هو و«إنجلز» في كتاب «العقلية الألمانية»، ولم يرد هذا المعنى عرضًا في موضع واحد من كتاباته؛ بل كرره حيث يقول: «إن الوفر في خيرات الطبيعة يترك الإنسان كالطفل ولا يضطره إلى تربية ملكاته واستيفاء نموها.

ولكن الطبيعة التي تَضِنُّ بخيراتها عليه تنبهه وتوقظه، وتدعوه إلى إعداد ملكاته للعمل الدائم والاجتهاد في استنهاض قواه.»

فالمجتمع المثالي الموعود شر المجتمعات على الإنسان وأسوؤها أثرًا في ملكاته وأخلاقه، وهو أسوأ ما يكون إذا صدقت فيه جميع الظنون، وامتنع فيه القلق واستقرت فيه الطمأنينة، وزالت فيه جميع التكاليف التي تشغل المرء بغير الساعة الحاضرة التي بين يديه، فلا تفكير في الغد أيام الحياة ولا بعد أيام الحياة، إذ لا تبعة على الآباء نحو البنين ولا نحو الأقربين، ولا فرق بين الوليد الذي تقر به العينان والوليد الذي لا يعرفه أبواه.

وقد تخيل الشيوعيون كثيرًا في شئون لا سند لها من الواقع، وخاضوا بالخيال في مجاهل التاريخ وما قبل التاريخ، فنحن لا نعتسف الخيال إذا تمثل لنا المجتمع الذي يسخو للعامل والكسلان، ويسقط عنهما معًا تبعات الأسرة والأبناء، فرأيناه يعود مضطرًا إلى الأسرة التي قضى عليها قبل أن يقضي عليه الخلو منها، ولا ينمو فيه الشعور بالتبعات والتكاليف — وهي أصل الأصول في الأخلاق — إلا من حيث نمت وتفرعت وأينعت في التاريخ القديم، أو التاريخ الحديث.

•••

إن فضل الأسرة في تكوين الأخلاق الاجتماعية أو الفردية ليس من الأمور التي تجدي في إنكارها أو بخسها نظريات أصحاب الآراء، ولو لم تكن التي يضرب بعضها بعضًا كهذه النظريات.

ولا يقول أحد: إنَّ الأسرة أفادت النوع الإنساني بالنفع الخاص الذي لا شائبة فيه من سوء أو ضرر. فلا الأسرة ولا غير الأسرة من أطوار الإنسان تسلم من النقص الملازم لكل عمل إنساني، لا يخطر على البال أنه يأتي كاملًا مبرأ من العيوب في أدوار التجربة والتطور على الخصوص، غير أنَّ السيئات التي جاءت بها الأسرة خليقة أن تحصل بها وبغيرها؛ لأنها جاءت في غريزة الأثرة وتنازع البقاء، وهي الغريزة التي كَمُنت في طبيعة الحيوان الأعجم قبل أن تكمن في طبيعة الإنسان، أما حسنات الأسرة فلم تكن لتأتي بغيرها سواء منها حسنات الأخلاق وحسنات المرافق والأعمال والصناعات، وما من خلقٍ كريم نبحث عن مصدره الأول إلا استطعنا أن نرده إلى الأسرة الصغيرة من الأب والأم والبنين والأقربين، وأن نترسم علاقته بالأسرة من اشتقاق لفظه في اللغات المتباعدة كاللغات السامية واللغات الآرية.

فالرحمة أجمل الفضائل الإنسانية مشتقة من مودة ذوي الأرحام، وتقابلها في اللغات الجرامانية كلمة «كايند»٢ بمعنى بلد أو بمعنى القرابة، ومنها كلمة الطفل في تلك اللغات.
والكرم — وهو فضيلة البر بالإنسانية — مأخوذ من صفاء النسب وخلوصه من الهجنة والاختلاط، وتقابله في اللغات الجرمانية كلمة «جنروستي»٣ وهي مأخوذة من الأصل النبيل، وتشبهها كلمة «اللطف»٤ وكلمة «الجنتلمان»٥ وهو الرجل المهذب الرقيق في معاملة الناس وتصريف الأمور.
والحرية تلاقي الكرم في هذا المعنى، وتقابلها في اللغات الجرمانية كلمة «فريدم»٦ من الألفة ورفع التكليف وكلمة «فرانك»٧ بمعنى الطليق من القيود.

ولا تتفق اللغات المتباعدة هذا الاتفاق إلا لأنها تعبر عن حقيقة عامة وشعور عميق في بديهة الإنسان. وليس مما يغض من هذه الفضائل أن يقال: إنها من فضائل القلة أو النخبة أو الصفوة بين الآدميين، فإن المزايا لم تزل ندرة في كل خليقة جسدية أو نفسية يحسها الناس بالأعين أو يحسونها بالضمائر والأذواق، وجمال الوجوه ندرة يمتاز بها الوجه الواحد بين المئات والألوف، ومثله قوة البدن واعتدال المزاج مما لا شأن فيه لمذاهب الاقتصاديين أو الماديين، فما عرف الناس مزية قط في خلق أو خليقة إلا كان الممتازون بها أقل من غير الممتازين، ولا يغض من فضل الأسرة في تكوين صفات الرحمة والكرم والحرية أنها صفات عزيزة، لا تبذل بذل الشيوع والجزاف، ولكن هذه العزة هي التي تعطيها القيمة النفيسة حتى بمعيار «الاقتصاد».

ومتى ذكرنا القيم الاقتصادية، فنحن نذكر فضل الأسرة في القيم التي تدور عليها مذاهب الاقتصاد وتواريخ الصناعات، فلولا حفظ الأسرة للصناعات الموروثة لما بقيت إلى اليوم صناعة واحدة ينتفع بها الغني أو الفقير، ولولا تعليم الأسرة قبل أن يوجد في التاريخ نظام التعليم العام لماتت كل صناعة في مهدها، ولم تنتقل إلينا كما انتقلت بالوراثة من الآباء إلى الأبناء.

وإنه لمن الحذلقة الرخيصة أن يقال: إنَّ الطبيعة الإنسانية لا توصف بالخير والشر إلا بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية أو إلى المعاملات في البيئة المشتركة، فهكذا يقال عن جميع الخصائص والأحوال في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد.

بماذا نقدر صلابة الحديد؟ وبماذا نقدر متانة الخشب؟ وبماذا نقدر مرونة الخيط أو النسيج؟ إنَّ تقدير هذه الخصائص بالنسبة إلى غيرها في حالة التركيب لا يزيل تلك الخصائص، ولا يمنع استعداد كل مادة لتركيب من التركيب التي تغني فيه ولا يغني فيه سواها.

وظهور طبيعة الإنسان في المجتمع لا يمنع أن تكون تلك الطبائع متأصلة في تكوين كل فرد من أفراد البشر متعاونة بين الأفراد والجماعات، ولا يجيز لنا أن نقول: إنَّ الخير هو الشر وإن الشر هو الخير، وإن الفرد يستعد لهذا كما يستعد لذاك.

ومهما نرجع إلى المجتمع في تكوين الأخلاق فهناك قوة في الفرد تناط بها تلك الأخلاق، وتتفاوت بها أدوات البناء في المجتمع كما تتفاوت بها أدوات البناء في كل تركيب.

تلك القوة هي ضابط الإرادة أمام الشهوات والرغبات، ولا يلزم أن تكون تلك الشهوات والرغبات من قبيل العلاقات والمعاملات ليبدو فيها ضابط الإرادة بقوته التي تناط بها الأخلاق.

فيجوز أن يكون العمل مباحًا لا حرج فيه من جانب المعاملات الاجتماعية، ولكنه إذا تهافت عليه الإنسان بغير ضابط من الإرادة دلَّ ذلك على نقص في استعداد الأخلاق، وفي استعداد الاجتماع، وفي كل استعداد تتميز به قيم الأفراد.

إن شهوة الطعام شهوة فردية لا تحاط بالقيود التي تحاط بها الشهوة الجنسية، ولكن الإنسان الذي لا يملك إرادته أمام شهوة الطعام إنسان معيب في مقاييس الأخلاق؛ لأنه معيب في الإرادة التي تناط بها جميع الواجبات.

ومن أدعياء الحرية في عصرنا هذا من يرى أنَّ حرية المرأة التي لا زوج لها هي إباحة مطلقة لا يقيدها واجب من الواجبات، وأن القيود الجنسية التي اصطلحت عليها الأمم منذ القدم إن هي إلا اعتساف من الأديان، أو من الكهانات الطوطمية قبل الأديان، ويعنون بالطوطمية تقديس بعض الأحياء واعتبارها سلفًا للقبيلة يضمها في نسب واحد ويحرم على أتباعه المزاوجة، كما تحرم الآن بين الإخوة والمحارم.

وتمادى بعض هؤلاء فاستكثروا القيود الجنسية على الحيوانات الدنيا، وزعموا أنها لا تتقيد بموسم للمزاوجة إلا لوفرة الثمرات في ذلك الموسم وامتلاء الجسم فيه بفيض من الحيوية يدعوه إلى طلب الذرية، قالوا: وإذا توافر الطعام على طول العام للدواجن من الحيوانات نسيت قيود الموسم وطلبت المزاوجة أنى تيسرت لها من أيام العام. وهذا كلام لا يعنينا أن نخوض في تفاصيله وأن نتوسع في تفنيده، ولكننا نلاحظ عليه عرضًا أنَّ السر في موسم المزاوجة أعمق جدًّا من الطعام وأحوج إلى الفهم جدًّا من هذا النظر القصير، وإلا فلماذا تتوافر الثمرات في ذلك الموسم، ولماذا يكون من خصائص ذلك الموسم أن يزيد قوة التوالد من النبات، ولا يكون من خصائصه أن يزيد قوة التوالد من باب أولى في عالم الحيوان؟ وما بال الحيوانات التي تأكل الأحياء وتجدها طوال السنة تجري على سنة الحيوانات التي تأكل النبات؟ وما بال الأسماك في البحار تقصد إلى الأنهار القصية للمزاوجة خلال فترة واحدة وهي في موسم متشابه من الأطعمة طول العام؟

إن سر التوالد لأبعد جدًّا من أن يحده ذلك النظر القصير؛ لأنه هو بعينه سر الحياة. وأيًّا كان القول في الاختلاف بين الدواجن والأوابد في موسم المزاوجة، فالأمر الذي يتفقان فيه أنَّ الحيوان لا يقارب الأنثى وهي حامل ولا يطلب المزاوجة للعبث والمجون.

فالحيوان نفسه لا ينطلق من جميع القيود في علاقاته الجنسية، ومن السخف أن ترد قيود الأخلاق الجنسية في الإنسان إلى اعتساف الطوطمية والكهانة، لأنَّ الأخلاق كلها — جنسية أو غير جنسية — قائمة على ضبط النفس، أو على وجود الضوابط الأدبية في بنية الإنسان. والطعام مثلًا مباح — كما تقدم — لا يتعلق به عرض ولا شرف ولا تزييف نسب ولا اختلاس ذرية، ولكن الإنسان الذي لا يضبط شهوته أمام إغراء الطعام حيثما أصابه إنسان مهين ولو كان طعامه من كسب يديه، وإنما كان ضبط النفس لازمًا في الشئون الجنسية لزومه في كل شهوة من الشهوات؛ لأنه قيمة أخلاقية يطلبها الرجل في المرأة، وتطلبها المرأة في الرجل، ويطلبانها معًا في الذرية التي ترث منهما هذه الفضيلة، وإذا نفر الرجل من المرأة التي تنطلق مع أهوائها وتتهافت على شهواتها فهو لا ينفر منها لأنها خالفت الدين أو خالفت الطوطمية كما يزعمون، ولكنه ينفر منها فطرةً؛ لأنها مخلوق معيب في تكوينه سليب من الضوابط السليمة التي تناط بها جميع الأخلاق، والدين لم يعتسف هذه الضوابط اعتسافًا لغير علة ولغير مزية، ولكنه شرعها وهي في أصول الفطرة القويمة؛ لأنها مزية في أخلاق الفرد ومزية في أخلاق النوع، وما كرامة نوع يعرف الإباحة ولا يعرف ضوابط الشهوات؟!٨

ولترجع الأخلاق إذن إلى مصلحة الطبقة أو إلى مصلحة الطبقات جميعًا، فهي لا تصيب الاحترام عند الفرد إلا لأنه فرد صالح التكوين مالك لزمام مشيئته بين مضطرب الأهواء والشهوات. ومن السخف أن يقال إذن: إنَّ الشهوات الجنسية مباحة لمن لا يعترف بنظام الأسرة أو لا يدين بقداسة الزواج، فإن شهوات الطعام التي تعني الفرد وحده لا تباح — كما تقدم — إذا نمت على خلل في الإرادة، وضعفت عن ضبط النزوات والمغريات، وهكذا ينبغي أن يكون الحكم على الإباحة التي يطلقها الشيوعيون لهذه الشهوات.

•••

يقول «إنجلز» وهو يشرح مذهب «ماركس» ومذهبه في قواعد الأخلاق من مقاله في الرد على «دوهرنج»:

إن واضعي القيم الأخلاقية المطلقة مجانين أو دجالون، وإنه في عصره لا يعرف مقياسًا واحدًا للقيم الأخلاقية؛ لأنه يرى حوله ثلاثة مقاييس: مقياس المسيحية من بقايا عصر الفرسان وعصر العقيدة الأولى، وقد تفرع إلى شعبتين: شعبة الكثلكة وشعبة البروتستانت، ومقياس البرجوازية ومقياس الطبقة الأخيرة أو البرولتارية أو الصعاليك، وإن هذه المقاييس إذا اتفقت على بعض المحامد والعيوب، فذلك من الطبيعي الذي لا غرابة فيه؛ لأنها تطورت في عصور التاريخ ومرت بأدوار متشابهة في العهود الاقتصادية.

ومثل هذا الكلام الذي يقوله الماديون عن الأخلاق يجوز أن يقال عن ذوق الجمال وذوق الطعام وسائر الأذواق، فليس بين الناس مقياس متفق عليه لذوق الجمال ولا مقياس متفق عليه لذوق الطعام، ولكننا لا نلغي من أجل ذلك وجود الكائن الإنساني، ولا نبطل وجود إنسان له شعور يتذوق الجمال، أو يتذوق الطعام إلا أن يكون عضوًا في طبقة. ومن الجائز كثيرًا أن يوجد أناس يسيغون ما لا يساغ، أو يشمئزون مما يسيغه غيرهم، ولا يمنع هذا أن نقول: إنهم مصيبون أو مخطئون بالقياس إلى الذوق العام كما نشعر به أو نتخيله، ومن قال بالتقدم — كما يقول الماديون — وجب أن يقول بمقياسٍ عام للأخلاق نحتكم إليه عند المفاضلة بين أخلاق الطبقات وأخلاق العهود، وإلا فلا تقدم ولا تفاضل ولا وسيلة للخروج من حدود هذا العهد الزماني أو تلك الطبقة الاجتماعية. ولا محل لانتقاد البرجوازي، ووصفه — كما وصفه ماركس وإنجلز — بالشر وفقدان الحياة إن لم يكن للخير مقياس غير الخير الذي يرضاه البرجوازيون لخدمة مصالحهم واستبقاء وسائل الإنتاج في أيديهم.

وينكشف الدَّخَل كله في طوايا هؤلاء الماديين حين نذكر أن مذهبهم لا يستلزم هذه النتيجة التي يذهبون إليها. فإنما اللازم من مذهبهم في الأخلاق أنَّ الفرد لا يؤثر في الحوادث العامة بأخلاق الحسنة أو السيئة إلا إذا وافقته الظروف الاجتماعية. والمسافة بعيدة بين القول بهذا وبين القول بأن أخلاق الكائن الإنساني لا توجد عند الجميع ولا يدين بها الفرد في كل طبقة، فالقول بأن أخلاق الفرد لا تغير المجتمع معناه أنَّ هذه الأخلاق توجد، ولكنها لا تقوى على تغيير الأحوال الاجتماعية، وهذا هو الرأي الذي يطرد مع آرائهم جميعًا، ويوافق قولهم ببقاء التقاليد الموروثة من العهود الماضية، ويوافق قولهم الصريح بالتقدم على أي نحوٍ من الأنحاء ولأية علةٍ من العلل، سواء كانت من علل الاقتصاد أو علل الحياة، ولا مفر من التسليم في الأخلاق بالعامل النوعي الذي يعترف بوجود الكائن الإنساني في كل طبقة، ولا مفر كذلك من التسليم في الأخلاق بالعامل الفردي الذي يتمايز فيه الأفراد بضابط الإرادة والقدرة على مقاومة الشهوات، أو فقدان هذه القدرة لاختلال في التكوين يحسب من خصائص البنية أو خصائص التركيب.

ولا مفر على الحالين من التسليم بالمقياس الذي نثوب إليه عند المقارنة بين مجتمعات شتى في أزمنة متباعدة أو متقاربة، فإن مذهب الماديين في جميع آرائه وقضاياه لا يدحض هذه الحقيقة ولا يوجب إدحاضها.

فلماذا إذن هذا التشبث بمحو الشعور الإنساني وحصر الشعور كله في الطبقة؟ ولماذا هذا التشبث بطبقةٍ واحدة هي طبقة الصعاليك أو الطبقة التي يئول إليها التاريخ مجردًا من الطبقات؟

من جانب الفكر لا موجب لذلك التشبث، ولا حجة له من آراء الماديين والشيوعيين بَلْهَ المعارضين والمناقضين.

وأما من جهة الظاهرة النفسية المريضة، فليس في الدنيا منفس إبرة يصرف عنه الضمائر المبتلاة بداء النقمة والبغضاء، لا منفس لهذه الضمائر غير إلغاء النوع والإيمان بالطبقة الأخيرة.

وأية طبقة؟

الطبقة التي لا تحسد ولا يحقد عليها، وما من كاشف للدخل في أطواء تلك الضمائر كهذه الظاهرة الكاشفة عما يفعله الحقد والحسد بالماديين «خدام الإنسانية!» فلو استطاع عازل الحقد والحسد هنا أن يعزل عقولهم وضمائرهم لكان موقفهم من الطبقة الأخيرة كموقفهم من غيرها، ولكنها تستثنى من الحفيظة الكامنة في تلك الضمائر المريضة؛ لأنهم لا يحسدونها ولا يحقدون عليها.

وهذا هو التفسير الأخير لكل رأي وكل تقدير، بعد كل تفسير وقبل كل تفسير.

١  Iroquois.
٢  Kind.
٣  Generosity.
٤  Gentleness.
٥  Gentleman.
٦  Freedom.
٧  Franc.
٨  من كتاب «الصديقة بنت الصديق» للمؤلف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤