الفصل الخامس

١

نعود بالقارئ الآن إلى قصر الملكة، وندخل به إلى بهو رحيب مستوفي الرياش كما يمكن أن يتصوَّر القارئ قصر ملكة، والشباك المطل على حديقة غناء يسرح فيها النظر بين نجوم الأرض، ثم نجوم السماء في الليل، وشمس النهار صارت فوق الأفق، ولو كان لفلكي ذلك الزمان منظار عظيم يقرِّب مسامير السماء لرأى القمر مظلمًا على مقربة من الشمس، ويكاد يهجم عليها هجوم العاشق على حبيبته.

من ذلك البهو باب خاص يدخل منه إلى حجرة الملكة، وفي هذه الحجرة كانت الملكة جالسة على مقعد طويل عريض. وقد دخلت عليها جورجيا أولى الوصيفات، وقالت: إن أوجستينا سيدة القضاء تستأذن بالامتثال.

فأمرت أن تدخل، وقالت لنفسها: ما وراء هذه الداهية من خبر شؤم.

ودخلت أوجستينا وانحنت، فتصنعت الملكة الابتسام وقالت: هل اقتلعت ولو حصاة من مخ ذلك الشاب الهرم الذي يدعي أن له حبيبة لاجئة إلى بنطس؟

– ليس في ذلك المخ المائع إلا صلصال لا يصلح للبناء.

– أما عرفت من أي طينة ذلك الصلصال؟

– لا أرى إلَّا أنه من طينة الأكواخ.

– مهما كانت طينته قذرة، فلا بد أن تكون ذات سلالة، أما تفل اسمًا له؟

– بل تفل اسم سدرون، وهم اسم أفرغ من عقم أمله بالعثور على حبيبته اللاجئة إلى بنطس.

– ألا يمكن أن يكون هو القمر الساطع المقصود بنطق الهيكل؟

فقالت أوجستينا كاظمة ضحكتها: مولاتي، لم يكن جو بنطس مظلمًا في زمن من الأزمان كما هو مظلم منذ طلع هذا القمر الأسود.

– لا يعني نطق الهيكل سواه، فيجب عصره في التحقيق إلى أن يتضح كل ما في صدره من أسرار.

– مولاتي، يستحيل أن يكون هو المقصود بنطق الهيكل، وإلا لقبضت عليه الشرطيات. إن نطق الهيكل أصدق على الفتى ذي العذار منه على ذلك الشاب الدميم، فإن كان ممكنًا نحت تمثال لمكيدة من هذا الشخص الدميم فمن ذي العذار ينحت برج مكايد.

فامتعضت الملكة وقالت متجهمة: لقد أفرغت جعبة الحيل في استخراج أسرار ذي العذار، فوجدت مخه رقًّا منفوخًا خاليًا إلَّا من الطيش والحمق والرعونة.

فهزَّت أوجستينا رأسها هازئة وقالت: طبعًا لا تصدقين جلالتك تظاهره بالنبالة، فإن وراء الأكمة ما وراءها.

ثم قدَّمت لها رقًّا وقالت: تفضلي يا مولاتي، شرِّفي وثيقة الحكم بإعدامه بإمضائك الشريف.

فذعرت الملكة من هذه المفاجأة، وقالت: ويك، لماذا هذا التعجل، وإلى الآن لم يثبت الجرم على الفتى؟

– ذلك أمر جلالتك وقد تسجل الحكم.

كادت الملكة تتفتت من شدة الغيظ، وبذلت مجهودًا عصبيًّا عظيمًا في كظم غيظها. وفكرت في إبان يأسها، ثم قالت مرتبكة: لم يزل عندنا متسع من الوقت للتحقيق معه عسى أن نبلغ إلى ضميره.

– لقد نفد كل أسلوب للتحقيق يا مولاتي، ولم يبق إلَّا أحد أمرين: إما تشريف الحكم بإمضائك إن كان مستطاعًا، أو إصدار العفو عنه إن كان مرغوبًا.

قالت هذا القول وهي تبتسم ابتسامة لؤم، كأنها شاعرة بموقف الملكة الحرج.

فسخطت الملكة وقالت: يستحيل أن يعدم قبل أن يبوح باسم المرأة الشريكة له في جرمه، ولكن هل تجدين مبررًا للعفو؟

– ربما كان المبرر ممكنًا يا مولاتي قبل أن صارت العاصمة تغلي بثرثرة الأمة كالقدر على وطيس حام، أصبحت العاصمة الآن كالمسرح الذي يتوقع المشاهدون فيه ظهور الأبطال بذاهب الصبر. الأمة تلح بإصدار بيان عن أسرار هذا الاعتقال.

فقالت الملكة مرتبكة: رأيك بالبيان؟

– لا يُخمد الأفكار الثائرة إلَّا التصريح بإقرار الفتى عن المرأة التي يتصل بها، أو إعلان الحكم عليه بالإعدام لإصراره على النكران.

وقد أحست الملكة أن أوجستينا هذه وزيرة القضاء تبتغي أن تزيد موقفها تحرُّجًا، ولكن الملكة وجدت منفذًا للفرج في قول أوجستينا وقالت: إذن دعيني أحقق معه مرة أخرى، فأعرف كيف أنجح، ولا فائدة من إعدامه إذا بقي سرُّه دفينًا في صدرهِ. اتركي لي صورة الحكم هنا ريثما أنتهي من التحقيق الأخير.

– وإنما دبري يا مولاتي تدبيرًا ناجعًا يسكن هياج الأمة، فالأمة الآن مثرثرة، وعما قليل مزمجرة. وثم ثائرة، لقد أخلصت البلاغ والنصح يا مولاتي. إذنك بالانصراف.

٢

وما إن انصرفت أوجستينا حتى نقر الباب الأوسط المؤدي إلى داخل الجناح، ولا يدخل منه أو يخرج إلَّا خاصة الملكة. فنهضت الملكة، وفتحت الباب، وبدت منه أمها العجوز، ولما قادتها إلى مقعدها قالت الأم: أين نحن من الويل الأول الآن يا بنتي؟

فقالت الملكة ناحبة متوجعة متواقعة على ذراعي أمها الضريرة: نحن فيه الآن يا أماه.

فقالت الأم مرتبكة: أفي هذا القصر موقعهُ؟

– نعم يا أماه.

فقالت الأم: ويلاه، أتعنين أن المعتقل هو أفريدوس؟

– هو بعينه.

– وا ويلتاه. أما قلت إن ملدافي أكدت لك أنه لا يزال منتظرك في قصر الصيد؟

– إذا كان القدر معاكسًا فلا ينجح الحذر، لقد ملَّ أفريدوس الانتظار في القصر! فعاد لكي يتحرَّى سبب إبطائي، فقُبض عليه وهو يمرُّ على الجسر وتمت فيه النبوءة. وا أسفاه!

فقالت الأم مضطربة: وأقرَّ الشقي بالحقيقة؟

معاذ الله. فهو أنبل من أن يشرك غيره بجرمه.

– الحمد للإله. إذن لم يقع الويل بعد.

– ويحي، أي ويل أعظم من أن يصدر الحكم عليه بالإعدام؟!

فقالت الأم متحمسة: نفذي الحكم عليه حالًا؛ تداركًا لوقوع الويل الأعظم.

فأجابت الملكة ساخطة: يا لكِ من ظالمة!

– أعليه أنت مشفقة أم على نفسك وعرشك، بالقضاء العاجل عليه خلاص نفسك، وبهلاكه راحة قلبك.

– لله من قلبك الصلد الجلمد، أبالقضاء عليه خلاصي؟ وماذا يبقى لي من سعادة بعد؟

– يبقى لك عرشك الأسنى يا حمقاء.

– يا لك من ظالمة جائرة، ألا ترينَ أن العرش بلا حب ظلام دامس، والعرش بلا حبيب ليل بلا بدر، والحياة بلا حب لا تختلف عن الموت إلَّا بالملل والسأم. آه وا شقوتاه!

– بئس غرامك هذا. إنك بهذا الجنون فاقدة العرش والحبيب جميعًا. وتنفيذ الحكم ينقذ أولهما وينقذك.

فقالت الملكة وكأنَّ بها نوبة جنون: ويحك لا أقنع إلَّا بسلامة ثانيهما.

– سلامة أفريدوس تكلفك حياتك يا غبية، أتهرِّبينه. أتعفين عنه. كلا الأمرين يغضبان الهيكل عليك ويهيجان الأمة ضدك.

فارتمت الملكة على المقعد خائرة. وقالت: أماه، دبريني في نكبتي، أين ذكاؤك؟ أين دهاؤك؟

– لقد فقدت نصف ذكائي وثلاثة أرباع دهائي منذ تنازلت عن العرش لك بسبب فقد نظري، لو بقيت في عرشي عمياء لكنت في حكمي أحدَّ منك بصرًا. لقد بسطتُ لك تدبيري فلم تذعني.

فأجفلت الملكة: ماذا؟ أن أنفذ حكم الإعدام بأفريدوس؟ هذا مستحيل، مسكينة أنت. لقد حرمك إلهك نعمة الحب، فصمَّ قلبك عن نبضاته، يجب أن يبقى أفريدوس ولو فقدت العرش، هل فهمت؟

– وتفقدين حياتك أيضًا، وحياته لا تسلم. فنصيحتي الأخيرة: أن تضحي بواحد من الثلاثة خير من التضحية بالثلاثة معًا، حياتك وحياته والعرش. ضحِّي بحياته يبقَ لك حياتك والعرش.

فسخطت الملكة سخطًا عظيمًا، وصرخت صراخًا شديدًا: عني يا أماه. إذا لم يكن عندك غير هذه النصيحة التعسة، فدعيني أتلقى الويل المنقضَّ عليَّ بشجاعة الملكة.

حينذاك دخل أفريدوس من باب السر بثوبه الأمازوني، وقال: النصيحة الخالصة ما قالت أمك الموقرة أيتها الملكة، دعيني أمضي إلى دار القضاء حيث أتلقى بسرور النقمة المنقذة لك من الويل.

فقالت الملكة بأمر محتوم: مكانك، إلى بيت سرك، فللزمن رأي، وفي صدره نصائح، فعاد أفريدوس إلى وجارهِ صاغرًا.

٣

وبقيت الملكة بعد خروج أمها وأفريدوس وحدها، ولو وضع ميزان الحرارة على جبهتها حينئذ لارتفعت حرارته إلى الخمسين، تكاد تنفجر غمًّا وهمًّا، لم يعد القصر يسعها، بل الجو لم يعد يتحمل حرَّ أنفاسها. انتفخ رأسها حتى كاد يصطدم بالجدران حولها، عدمت الحيلة، لم تعد ترى بدًّا من التضحية بنفسها أولًا، وبعد ذلك يبقى أفريدوس والعرش في ميزان القدر الأعمى.

وفي إبان أزمتها طرقت جورجيا الباب ثم دخلت إذ سمعت صوت الملكة بالإذن.

– مولاتي، هنا فتاة جاريجارية تتوسل إلى إذن جلالتك بالامتثال بين يديك لأمر لا تريد أن تفضي به إلى سواك.

فرفعت الملكة رأسها عن صدرها، وقالت لنفسها: «عسى مع هذه الفتاة فرج.» ثم فكرت قليلًا، ثم قالت: قولي لها: إن الملكة مشغولة عن مقابلتك، وإنما كلَّفت رئيسة ديوانها أن تسمع سؤالك. دعيها تدخل من غير أن تشعر أني أنا الملكة، بل يجب أن تعتقد أني رئيسة الديوان، حاذري أن تدعيها تفهم أني الملكة، هل فهمت أنت؟

فهمت كل الفهم يا مولاتي، يجب أن تفهم أنكِ رئيسة للديوان، وأنك بأمر الملكة تسمعين سؤلها.

– حسن جدًّا.

ثم بعد قليل أدخلت جورجيا امرأة بثوب عادي كأثواب الأمازونيات، وتركتها لدى الملكة ومضت. وانحنت المرأة قليلًا لدى الملكة، أو مندوبة الملكة. فسألتها الملكة: ما اسمك؟

– اسمي أنيدون.

– لقد أمرتني جلالة الملكة بأن أهتم بسؤالك جد الاهتمام؛ لأنها مشغولة جدًّا، فليس في وسعها أن تقابل أحدًا في هذه الأيام، فماذا ترومين؟

– شكرًا جزيلًا لجلالتها ولك يا سيدتي، نمى إليَّ أن الفتى المعتقل هنا في القصر يزعم أنه خاطر بنفسه في الدخول إلى بنطس ليبحث عن خطيبته اللاجئة إلى هذه العاصمة من اضطهاد أهلها بسببه، فهل تأذن جلالتها أن أقابله؟

– إن الدخيل المدَّعي هذه الدعوى معتقل في دار القضاء، فهناك اطلبي مقابلته.

فقالت أنيدون: رأيت ذلك المعتقل هناك فما هو فتاي يا سيدتي، فإذا أذنت جلالتها لي بمقابلة الفتى الذي هنا انتفى كل قصد سيئ من وجوده في هذه العاصمة، وخرج منها بريئًا.

– لا أظن أن هذا الفتى المعتقل هنا هو خطيبك؛ لأني لا أعتقد أن خطيب أية امرأة يخاطر بنفسه في الدخول متنكرًا إلى بنطس لكي يبحث عن خطيبته، وهو يعلم العقوبة التي يستحقها.

فقالت أنيدون باسمة: أعذر خطأ حكمك هذا يا سيدتي؛ لأنك أنت أمازونية لا تعرفين ما هو الحب.

فقالت الملكة المتنكرة: أعرف أن الحب … هو … هو … هو … ماذا؟

– هو يا سيدتي القوة التي تجعل المخاطرة حتى الموت في سبيل الحرص على الحبيب ألذَّ من النصر في الحروب، وأمجد من فتح الممالك وقنص العروش.

فقالت الملكة مدهوشة قلقة: هل أنت واثقة أن خطيبك يحبك هذا الحب؟

– إذا كان المعتقل هنا هو إياه فلا يبقى عند جلالة الملكة شك بأنه يحبني هذا الحب، وإلَّا لما خاطر هذه المخاطرة، ولذلك يصبح ذنبه بسيطًا، وجلالة الملكة النبيلة القلب تصفح عنه، وتأذن لنا أن نخرج من المملكة بسلام متمتعين بنعمة الحب.

وكانت الملكة تسمع هذا الكلام وقلبها يخفق وجدًا، وعصبها ينتفض حقدًا أو غضبًا، أيكون أفريدوس خادعها ويلعب عليها دورًا إذا صدقت هذه الفتاة فيما تقول؟ فتجلدت وقالت: هل تسمحين أن أقول لجلالتها من أية أسرة أنت لكي تتضح لها درجة سؤالك من الأهمية.

– هبي أني من أسرة الكهنوت، فهل تسمح الملكة؟

فقالت الملكة باضطراب يكاد يفضح قلبها: أظنها تسمح، ولكن لماذا تضطهدك أسرتك لأجله، هل هو وضيع الأصل؟

– أرجو من سيادتك إعفائي من جواب يُطلب منه هو.

– لعلَّ جلالتها تشترط هذا الشرط للإيذان بالمقابلة.

– إن الحب يا سيدتي كالموت يجعل جميع الناس سواءً في المقام، فإن كان أحدنا أوضع من الآخر ارتفع إلى مقامه، الحب يرفع لا يضع يا مولاتي، ليتك تعرفين ما هو الحب لكنتِ تشعرين أن سماح جلالتها لي بمقابلة خطيبي أعظم فضيلة تتحلى بها الملكة.

أصبحت الملكة بعد اعترافات أنيدون على نار، صارت تود أن تعلم الحقيقة من فم أفريدوس، فقالت: انتظري إذن خارجًا في الرحبة إلى أن تسمعي ثلاث صفقات فتدخلين.

فخرجت أنيدون حسب أمر الملكة، واستدعت أفريدوس على الأثر من حجرته، وسألته: هل ادعيت في التحقيق في دار القضاء أن لك خطيبة لاجئة إلى الهيكل من اضطهاد أهلها بسببك؟

– لم أدَّعِ شيئًا حتى ولا أني موجود في الوجود، ما كنت لقاء الأسئلة التي كانت تلقى عليَّ إلَّا كالعصفور الذي يفر قبل أن تقع عليه اليد التي ترميه بالحبوب.

– هنا فتاة جاريجارية تزعم أن الفتى المعتقل هنا يدَّعي هذه الدعوى وتود مقابلته، فهل تقابلها؟

– أودُّ أن أراها خلسة أولًا لأعلم من هي.

– هي في الرحبة، اختلس نظرة منها من خلال الباب.

فوصوص أفريدوس من خصاص الباب، ثم ارتد مبغوتًا، وقال: أرجو أن تسمحي لي بأن أختلي بها اختلاءً تامًّا.

– إذن صفق ٣ صفقات فتوافيك.

ثم خرجت من الباب الآخر وقالت تكلم نفسها قلقة: أيمكن أن يخدعني؟ وبقيت خلف الباب توصوص وتتسمع.

وصفق أفريدوس ودخلت الفتاة. فقال مبغوتًا: أنيدون؟ ويحك. ما الذي قذف بك إلى عاصمة بنطس، وأنت ابنة أحد كبار الكهنة المعزَّزة في خدرها.

– مثل نفس السبب الذي قذف بك إليها أيها الأمير.

– صه، صه. لست معروفًا هنا بالأمير، فلا تذكري هذه الكلمة، كيف تعلمين أن السببين متماثلان؟

– هل يكون لدخول فتى إلى مملكة بنطس من سبب غير سبب الحب؟

– وي. وي. هل أنت واثقة أن حبيبك تبعك إلى عاصمة بنطس.

– بل أنا تبعته.

– أفي بنطس ملجأ العشاق الأمين؟

– كلا، لا أجهل أنه ملجأ خطر، وقد جئت لإنقاذه من الخطر الذي وقع فيه.

– من غشك بأنه هنا في القصر؟

– لم أنغش البتة.

– أعلم أنه ليس هنا أحد سواي.

– وإياك طلبت أن أقابل.

– أنيدون، ماذا تعنين؟

– لم تتح لي فرصة أبوح فيها لك بسهم وقع في فؤادي.

فقال خائر القوَّة كاليائس: آه، وآه: لعلك أشد مني تعسًا بهذا السهم.

– أتعد ذلك السهم تعسًا وأنا أعده سعادة؟

وكأن أفريدوس يخشى أن تكون الملكة متسمعة من خصاص الباب، فجذب أنيدون إلى ناحية بعيدة، وقال: لا ترفعي صوتك، فللهواء آذان وعيون. إنك لتعسة لأن الخصام الذي احتدم أخيرًا بين الكهنوت والعرش في جاريجاريا أضاع عليكِ الفرصة التي كنت تتوخينها. آسف جدًّا، إن الفرصة سنحت لكِ متأخرة يا أنيدون.

لا بأس لم ينقص تأخرها من شعوري بالسعادة التي أتوخاها منها.

– هذا الشعور الجميل لا يقل من أسفي يا أنيدون.

– لم آت لكي أنتزع شيئًا من غبطة قلبك يا سيدي الأمير.

فأجفل أفريدوس من كلمة الأمير، وأشار لها بالكف عن ذكره، واستمرت تقول: بل جئت لكي أتدارك ما يمكن أن يثلم هذه الغبطة.

– ما الذي يثلمها فتتداركيه؟

جئت لكي أبلغك أن جيهول ابن رئيس الكهنة كان يتتبعك متجسسًا حتى إلى هذه العاصمة.

فقال أفريدوس منفعلًا متغيظًا: ويح ذلك اللئيم! يتتبعني متجسسًا؟ ألا تبًّا له.

– ألم تصدق بعد أنه وأباه اختلقا العداء بين دولتي بنطس وجاريجاريا وأوغرا الصدور بعد تصافيها؛ لكي يقلبا عرش أبيك الملك، ويتبوأ جيهول، وتصبح أنت منفيًّا متشردًا؟ فلما علم جيهول أنك متنكر في بنطس انتهز الفرصة لتدبير المكيدة الهائلة ضدك، ولهذا جئت لكي أنذرك قبل أن يتداعى عرشك ويهبط أنقاضًا.

وكان أفريدوس ينتفض من الغيظ، فقال: شكرًا، وهل جيهول الآن في هذه العاصمة؟

– نعم، معتقل فيها بصفة كونه متنكرًا، وأشعر أن الهيكل البنطسي يتحيز له لكي ينقذه من عقاب هذه الدولة؛ لأنه ابن الكاهن الأكبر، والكهنة متضامنون في كل مكان. وأما أنت فعلامَ تعتمد في النجاة؟

– لا تهتمي بنجاتي يا عزيزتي، فما هي مطمعي، وأما إذا كنت أنت في حاجة إلى خدمة …

فقاطعته قائلة: لم أجئ لأجل نفسي بل لأجلك، فأستطيع أن أشهد مزكية دعواك إذا كنت تدعي أنك ما جئت إلى بنطس إلَّا لتبحث عني لحمايتي من اضطهاد أهلي، فادَّع هذه الدعوى، وأنا أزكيها وأؤكدها ونخرج كلانا سالمين.

– أشكر قصدك، إنك تفترضين افتراضًا يستحيل عليَّ أن أقبله.

– لا تظن أني أتوسل بهذا التدبير إلى تقييدك بعهد، إني مقتنعة أن مرمى حظي أقصر جدًّا من مطمع قلبي، لست أبتغي مكافأة.

– شكرًا يا أنيدون، يستحيل أن أتذرع إلى النجاة بواسطة العاطفة، لا تهتمي بأمر نجاتي، أنصح لك بالعودة إلى خدرك الشريف الطاهر في دار كهنوت جاريجاريا عسى أن يقيِّض لك كيوبد حظًّا أسعد وأمجد. امضي بسلام.

وتراجعت ذليلة بائسة منكسرة النفس متنهدة، ثم انحنت وخرجت وأقفل الباب وراءها.

٤

وما إن خرجت أنيدون حتى دخلت الملكة منفعلة شديدة الانفعال، وقبضت على ذراعه وهزَّته قائلة: ويحك! أعليَّ أنا ملكة بنطس تلعب هذا الدور الهائل؟

فأجاب أفريدوس بكل برودة وابتسام: أجل، إنه لدور غرام هائل، يا ذات الجلالة. سينقش تاريخه على ضريحي كدرس عجيب للعشاق.

– صه، أغرام خداع ينقش على ضريح أمير منتحل صفة الكاهن؟ هل فقدت صولتك أيها الأمير حتى تتوسل بصولة الكهنوت إلى فؤاد ملكة؟ أم أن سياستك الأفَّاكة امتطت متن الغرام لكي تضمن الفوز في المعركة، وكسب العرش البنطسي.

– تؤدة وحلمًا يا مليكتي، لما رماني إلهي بسهم حبك وأنت متنكرة بثوب فلاحة في الصيد، كنت أشعر أني واضع عرشي في حب فلاحة نابغة في الصيد، وما دريت أن إلهي جعل قلبي عرشًا لملكة، ولما أصاب ذلك السهم نفسه فؤادك كنت تظنين أنك باذلة نفسك في سبيل غرامك بفارس مغوار. فلما اكتشفت أن سهم إلهي الذي نفذ في فؤادي نفذ في فؤاد الملكة التي بين عرشي وعرشها خصومة أشفقت أن يدنس دم الخصومة ذلك السهم، وخفت أن تفسري ذلك الغرام الصادق بالتحايل السياسي، فانتحلت رتبة الكهنوت لنفسي دفعًا لهذه المظنة، وتحاشيًا لنفورك، متريثًا إلى أن تسنح الفرصة الملائمة لبسط الحقيقة لك طاهرة من الدنس، سالمةً من لطمة الغش … لدى دولة الغرام يا عزيزتي تضمحل دولة جاريجاريا ودولة بنطس، وفي عرش الهوى يا حبيبتي يفنى عرش بنطس وعرش جاريجاريا معًا، فإن كنت تحسبين انتحالي صفة الكهنوت خدعًا لك في فن السياسة، فهو إخلاص في فن الغرام، فسِّري خداعي هذا بما تشائين اللهم إلا الخداع في الحب. إني أحبك، إني أعبدك، سواء على صهوة الجواد أو في حقل الفلاحة أو على العرش. لم يبق العرش ولا الحكم مطمعي، فقد التهم الحب كل مطمع، فإذا تسنى لي أن أضمن بقائي إلى جنبك كل العمر، ولو في كهف، أثفل على العرش، وأبصق على الدولة.

فقالت الملكة والبشر يطفح من محياها: أما بقيت فلذة من فؤادك مع هذه الفتاة الكهنوتية؟

– لم يبق معها من فؤادي إلَّا ومضات الشفقة عليها. مسكينة، خائبة الأملين.

– الأملين؟ ما هما؟

– نعم، أمل حبي لها، وأملها بإنقاذي. أما استوعبت من مكان تجسسك علينا أنها اقترحت عليَّ أن أدعي أني في بنطس باحثٌ عن حبيبة لاجئة، وأنها تؤيد دعواي؟ فخرجت يائسة حتى من هذا الأمل.

– ألا ترى اقتراحها وسيلة لائقة لإنقاذك؟

– أيليق بأمير أن يسخِّر قلب فتاة بسراب الأمل لإنقاذ نفسه؟ أيليق بأمير الغرام أن يعلل فؤاد فتاة برجاء الحب الكاذب تذرعًا لنجاته؟ إذا أبيت اقتراح هذه الفتاة أفلا أصبح مدينًا لها بعطفة قلب؟ أوَلا تصبح هي شاعرة بهذا الدين وآملة باستيفائه، وإن كانت لا تطالب به؟ أوَلا يتلطخ وشاح حبي لك ولو بنقطة سوداء؟ وأخيرًا كم يكون تمنين أهلها ثقيلًا على عاتقي؟

ونُقر الباب فأسرع أفريدوس إلى حجرة السر.

ففتحت الملكة الباب، وإذا جورجيا تقول: رئيسة الكاهنات تطلب مقابلة جلالتك.

فارتبكت الملكة وقالت كأنها تكلم نفسها: ماذا تريد هذه الشيطانة الآن؟ ماذا في طيلسانها أو طي لسانها؟

فقالت جورجيا مضطربة أيضًا: تقول إن عندها بلاغًا من الهيكل مباشرة.

فجزعت الملكة ولم يسعها إلَّا أن تقول: سمعًا وطاعةً وخضوعًا للهيكل.

ولم تنتظر الكاهنة الإذن فدخلت وانحنت للملكة، وقالت بصوت جهوري ضخم: الويل على الأبواب إذا لم تتداركه الضحية.

عند ذلك وقعت الملكة على المقعد منصعقة، وفي الحال خرجت رئيسة الكاهنات، وما لبث أفريدوس أن دخل من باب الحجرة السرية قلقًا مضطربًا.

٥

وجلس أفريدوس إلى جنب الملكة عاطفًا عليها ممسكًا بكفيها، وقال: فديتك يا نعيمي السرمدي. وبعد هنيهة قال: عسى أن تكوني قد اقتنعتِ أنه لم يبق لنا إلَّا الفرار الليلة من هذا القصر إلى القصر الجاريجاري.

فتشددت الملكة قليلًا وقالت: الويل لي، كيف الفرار من الويل الذي أنذر به الهيكل؟ أما سمعت إنذار رئيسة الكاهنات الأخير الآن؟

– يا للسذاجة، أوَما سمعت خبر أنيدون منذ برهة أن جيهول ابن رئيس كهنة جاريجاريا هو المدبر المكدية بالتواطؤ مع الرئيسة.

– رئيسة الكاهنات لسان الهيكل، والهيكل مقام الإله، فهي تتكلم بلسان الإله. وا شقوتاه!

فقال أفريدوس مقنعًا: إذا فررت معي خاب تدبير الكهنوت، وأخفق إنذار الهيكل، وحبطت المكيدة على مدبريها، فلا بد من تقرير الأمر الليلة وإلَّا فات كل تدبير.

فقالت الملكة يائسة: لو قبلت أنت اقتراح الفتاة أنيدون لنجوت بنفسك.

– لو شئت النجاة وحدي لما احتجت إلى تدبير فتاة حتى ولا إلى تدبير ملكة. إن قوائم جوادي الأربع تصل إلى الحدود قبل بصره، أستطيع أن أفر في رائعة النهار، وأبرع فارسة عندك لا تستطيع أن تنال مني لمحة عين.

– لماذا لم تفر؟

– عجبًا، ألم تفهمي بعد أني لا أهتم بخطة تضمن سلامتي، بل بالخطة التي تضمن سلامتك أولًا.

– دعني للقدر ولدهاء أمي.

– لا أثق بالقدر، ولا آمل بدهاء أمك بعد الذي ظهر من استنكارها لحبنا.

– لعلك تعذرها إذا علمت أنك أمير جارجاريا الوارث عرشها.

– حاذري أن تبوحي لها بهذا السر لئلا يشتد إيجاسها تخوُّفًا على العرش الذي تنازلت عنه لكِ، حذار فهي الخصم الألد.

فقالت الملكة مستسلمة لليأس: إذن أنا أستسلم للظروف مهما كانت سيئة جزاءً لتورطي، فارحل أنت ولا تقاسي نقمة الآلهة، هي ويلات واقعة حتمًا لا مفرَّ لي منها؛ لأن نبوءة الهيكل صادقة.

– يا للسذاجة! ليس لعقل أن يرى حادثًا قبل وقوعه، فما نبوءة الهيكل إلى مكيدة ضدك، فإذا فررت كذبت النبوءة وخابت المكيدة، وإذا بقيت هنا كنت أنت المتممة للنبوءة في نفسك. يستحيل أن أدعك للظروف.

فقالت ملتمسة خيطًا من الأمل: إذن فماذا؟

– عندي خطتان، ولك الخيار في إحداهما: إما أن أمضي إلى ساحة الإعدام، وفيها تنزل ويلات هيكلك عليَّ وحدي وتسلمين بعرشك ولأمتك، أو أن تفري معي الليلة ويستحيل على أية قوة أن تنال منك، فاختاري إحدى الخطتين.

– لا هذه ولا تلك.

– فقال بحزم جازمًا: إذن أنا أختار، أرجو أن تسكني في حجرتك إلى أن تنسيك إياي ألاعيب الأقدار ومكايد الهيكل.

ثم هجم إلى ناحية الخروج، ولكنها أسرعت وصدته صارخة: مكانك.

– دعيني أخرج. أوجستينا استبطأت الأمانة، والأمة تلحف بطلبها.

– لن تخرج، أنا الملكة صاحبة الأمر والنهي.

– الموت أعلى سلطانًا من سلطانك، وأمره فوق كل أمر، وهو يدعوني واستبقائي هنا إلى الغد أصبح قضاءً مبرمًا على حياتك وعرشك، فدعيني أفتديهما.

تبًّا له من افتداء يقض مضجعي، كل حياتي التي أصبحت مفعمة بؤسًا، آمرك أن تمتطي جوادك في أول الليل، وتقذف به إلى ما بعد الحدود، وهكذا نسلم كلانا.

– أنت ملكة وأنا ملك أيضًا. آمرك أن تمتطي مطهمك وتقذفي به أمام جوادي إلى حيث عرش النعيم يتوقعك بذاهب الصبر.

– يتوقعني تمام نبوءة الهيكل.

– إذا أطعت أمري لا تتم نبوءة الهيكل، فإن لي هيكلًا ينقذك من خرافة هيكلك.

– ويلي، ماذا يكون بعدي؟

– يا لك من ساذجة، أإلى الآن لم تدركي قيمة الخطة التي تسلم بها حياتك وحياتي، وتحصلين بها على عرش أمجد من عرشك وأسعد؟

وفكرت الملكة مليًّا، ثم قالت: ويحي، وبماذا تقذفني ألسنة الأمازونيات بغير نعت الخائنة؟

– أجل، ولكن قلوبهن تصفك بنعت السعيدة، في الجهر يقلن تبًّا لها من خائنة، وفي اجتماعاتهن السرية يقلن: هنيئًا لها بما يرشه إليه كيوبد من سهام لذات الحب.

– يا لها من لذات لا تذوقها الأمازونيات إلَّا بالحلم.

– أما أنت فتذوقينها باليقظة. يبقى العرش الجاريجاري متقلقلًا إلى أن تستوي أنت عليه، والدولة تبقى قلقة إلى أن تقبضي على صولجانها. هلمَّ انتقلي من هذا العرش المملوء من المخاوف والإنذارات إلى العرش المطمئن الوطيد.

– والشعب الجاريجاري ماذا يقول؟

– يغتبط عظيم الاغتباط إذ يعد جلوسك على عرشه انتصارًا لإلهه.

– ودسائس كهنتكم؟

– تحبط لدى انتصار إلههم.

– وهل يجهل شعبك ماذا يكون حقد الأمازونيات وغضبهنَّ وهنَّ اللواتي قد دوَّخن الأقطار وفتحنَ الأمصار.

– تنحل قوتهنَّ حالما يبرز كيوبد لهنَّ بسهامه.

– ويحي، من ينقذني من غضب أجكس، وأرس العظيمين؟

– لا يتجاوز غضبهما حدود بنطس، وسحر كيوبد يخبلهما ويشل عضلات الأمازونيات كما شل عضلاتك، فاعتنقي دين كيوبد فهو أقوى الآلهة وأوسعها سلطانًا وأفعلها سحرًا، وأمنحها للسعادة والهناء، هو إله جميع البشر، أبدلي إلهًا بإلهٍ وعرشًا بعرشٍ، وحياة سعادة بحياة بؤس.

– وأفقد عطف أمتي وحبها، وأتعرض لحقدها.

– بل تكسبين عطف شعب آخر مع عطف أمتك التي ستتوسل بك إلى اعتناق دين كيوبد، والتمتع بنعمة الحب التي تجود بها يد الطبيعة.

– ويلي، وغضب كاهنات الهيكل؟

– يبقى كالريح تصدم الصخر الجامد، والصخر لا يكترث لأن الأمة تتمرد على الكاهنات اللواتي كنَّ عقبة في سبيل انصياعهنَّ إلى صوت الطبيعة الموسيقي.

– يا لك من ساحر خالب تكاد تزين لي الفردوس في الفلك السابع.

– أجل، إن ذلك الفردوس مفتوح الباب للترحاب بك يا حبيبتي، فلنمضِ إليه حالما ينسدل الظلام.

٦

في هذه الساعة الحرجة نقر الباب، فأجفلا وأسرع أفريدوس إلى الحجرة السرية، وتقدَّمت الملكة إلى الباب ففتحته، وإذا بأوجستينا فيه، فقالت لها الملكة بصوت متهدج: ادخلي.

ورأت أوجستينا محيَّا الملكة متوردًا، وعينيها مضطربتين، كأنها كانت في معركة خصام حاد ولما تنته بعد. فانحنت باحترام وارتباك، فبادرتها الملكة: ما وراءك يا أوجستينا؟

فقالت متلعثمة: ورائي يا مولاتي أمة تطالبني بالأمانة التي ائتمنتك عليها.

فقالت الملكة مرتعدة وجلة: الأمانة؟

– نعم، الفتى المتنكر ذو العذار.

فأجابت الملكة متشددة: وما هو شأن الأمة؟

– الأمة تنفذ الدستور يا مولاتي، وتريد أن ترى شريكة الفتى بالجريمة، أو أن يقتل الفتى قصاصًا لجريمته.

– عجبًا، هل انتقل حق الحكم من العرش إلى سواد الأمة؟ ما هذا التطاول من الأمة على ملكتها؟

– الأمة تخاف غضب الآلهة قبل غضب الملكة.

– والملكة حريصة على استرضاء الآلهة على الأمة، يجب أن تترك الأمة التدبير للملكة ولسيدات الدولة، اذهبي وطمئني الأمة بهذا.

– لم يبقَ للأمة قياد يا مولاتي، فحبذا أن تشرفي أنت من قصرك وتلقي كلمة اطمئنان، ففكرت الملكة قليلًا، ولم ترَ مخرجًا من هذا المأزق إلَّا بالوعد، فقالت: سأفعل. اخرجي أنت سكني ثائر الأمة بهذا الوعد.

وخرجت أوجستينا وبقيت الملكة تحدث نفسها: ويلاه، الأزمة تشتد، وهذه الخبيثة أوجستينا تزيدها وقدًا بلؤمها، لم يبقَ للتسويف نفع، يجب بت الأمر عاجلًا قبل أن يحدث الكسوف إن كان وقوعه مؤكدًا، ويجب تدارك الويلين ولو بالتملص من سلطة الهيكل.

ثم فتحت الباب الأوسط المؤدي إلى حجرة أمها، ونادت أمها، فلبَّت الأم في الحال، فبادرتها قائلة: أماه، في فمك فصل الخطاب إذا خففت من غلوائك، ورجعت بتذكاراتك إلى أيام صباك، أيام ثورة الطبيعة البشرية.

– لقد كنت في صباي أشد صلابة مني في شيخوختي العمياء، فلا تستنجدي بشيخوختي الهامدة، ولا تنتظري مني تحبيذًا لخطة خرقاء.

فتنهدت الملكة لشدة غمها، وقالت: لقد دبرت خطة أسلم بها وهي أن أترك أفريدوس لرحمة الهيكل؛ لأن الكهنة يعطفون بعضهم على بعض، وإنما أود أن أمهد للأمر بالتشفع به لدى رئيسة الكاهنات أولًا.

– خطة لا بأس بها، ربما كانت أسلم عاقبة من أي خطة أخرى.

– ولكن الأمة ثائرة، وأود تهدئتها ريثما أسترضي الهيكل على أفريدوس، وأوجستينا تنصح لي على أن أشرف على جمهرة الأمة من شرفة القصر، وألقي فيها كلمة لتهدئة ثائرها، فما تكون الكلمة يا أمَّاه؟

– حاذري أن تشرفي على الأمة وهي متجمهرة ثائرة؛ لأن الجمهور مجنون فاقد العقل والاتزان، أرسلي حكمتك إلى الأمة بلسان رئيسة حكومتك أمازونيا، ولتلقها أمازونيا باستخدام سلطتك الشرعية بتؤدةٍ وحكمة.

– وماذا تكون كلمتي يا أماه؟

– الوعد.

– أي وعدٍ أستطيع تنفيذه؟

– الوعد الكاذب الذي لا تريدين أن تبرِّي به يا ساذجة، وما هو إلَّا هدنة ريثما يسكن ثائر الأمة، لكي يتسنى لك أن تنفذي خطتك.

– بأي وعدٍ كاذبٍ أستطيع أن أملك هدنة اليوم فقط.

– بوعد أن تسلمي الأمة غريمها لكي تفتك به.

– ويحي من وعدٍ يتزلزل به هيكل عظامي، أشكر رأيك يا أمَّاه.

– ولكنك لن تبري بالوعد، متى سكن ثائر الأمة نفكر بخطة.

وقادت الملكة أمها إلى باب حجرتها وأدخلتها فيها، ثمَّ استدعت جورجيا كاتبة أسرارها، وأمرتها أن تستدعي أمازونيا رئيسة الحكومة.

٧

وقبل أن تلبي أمازونيا الدعوة استدعت أفريدوس من حجرة السر، وقالت: لم يبقَ عندي من خطة إلا الفرار يا عزيزي، فلنستعد له حالما تفرنقِع المتجمهرات ونختلس الطريق في أول الليل.

فابتهج أفريدوس وقال مرحًا: لقد انتصر الحق على الباطل، كيوبد إله حق، إله الطبيعة الفياضة بالسعادة والهناء.

فقالت الملكة: ولكن الشمس ستنكسف قبل مجيء أول الليل، وعندها يحل الويل، فما التدبير؟

– عندي التدبير، فمهلًا قليلًا.

وعندئذٍ نقر الباب، فأسرع أفريدوس إلى حجرة السر، وأذنت الملكة فدخلت جورجيا، وقالت: إن السيدة أمازونيا جاءت من تلقاء نفسها.

– فلتدخل.

فدخلت أمازونيا، وانحنت لجلالة الملكة، فبادرتها الملكة بالسؤال: ما وراءَك؟

– تحرَّج الأمر يا مولاتي، لم يعد في وسعي ضبط الأمن، الأمة ثائرة تريد القضاء على الخونة قبل أن تنزل ويلات غضب الإلهين حين يقترن القمران.

فقالت الملكة واجفة متظاهرة بالشجاعة: أبلغي الأمة أن غدًا فصل الخطاب، وفيه ننزل العقاب على الخونة، استعملي حكمتك في تهدئة خواطر الأمة وتبديد الجمهور.

فانحنت أمازونيا وقالت: الأمر أمر مولاتي، سأرى ماذا في مقدوري أن أفعل، ليتني أنجح.

ثم خرجت أمازونيا، ودخل توًّا أفريدوس، وقال: لقد أعددت المطهمين الأولين.

– لا نحتاج إلى شيء غيرهما، في الصباح نكون في قصر الحدود، وفي أول الليل نبرحه.

– لا نؤجل السير إلى عاصمة جاريجاريا؛ لئلا تدركنا مطارداتنا.

– لا يشعرن بفرارنا إلَّا صباحا، فلا خوف من مطاردتهن لنا، أود أن أدخل جاريجاريا ليلًا بعد أن تكون قد سبقتني لاسترضاء أبيك.

– أبي يغتبط عظيم الاغتباط بقدومك، ويتنازل لي عن العرش حال وصولك؛ لأنه يحسب قدومك انتصارًا لإلهه. وا سعادتاه إذا صح هذا الحلم، وداعًا يا بنطس.

– لا تودعيها، فستعودين إليها مكرمة محبوبة وملكة.

– هلمَّ أعانقك عناق القران يا ينبوع السعادة والهناء. أظن يجب أن تبرح بنطس بأسرع ما يستطاع لئلا يحدث الكسوف ونحن هنا فتتم نبوءة الهيكل فيقع الويل.

فقهقه أفريدوس وقال: إن نبوءة هيكلك — ولو كسفت الشمس — خائبة؛ إذ لا صلة بين الكسوف وحوادث الأرض. ما هذه النبوءات التي تصدر عن الهياكل إلَّا خداع للشعوب. أنا ابن كاهن وأعرف كيف أبي يؤثر على الشعب بإصدار النبوءات، لا تعلقي أهمية على نبوءة هيكلك، فما هي إلَّا قسم من الدسيسة المتبيَّتة ضدك، والمكيدة المنصوبة حولك.

عند ذلك نقر الباب، فأجفلت الملكة وقالت: داهية جديدة، أسرِع إلى كنِّك.

٨

ففتحت الباب الملكة وإذا جورجيا تقول لها: رئيسة الكاهنات يا مولاتي!

فتجلدت الملكة وقالت: مرحبًا بها، لا ريب أن الإله أوحى إليها أني في حاجة إلى مقابلتها السعيدة، مقابلة موفقة بإذن الإله.

وما خرجت جورجيا حتى فتحت الملكة الباب الأوسط واستدعت أمها بسرعة، فحضرت وهمست لها: أظن أن الخطة موفقة جدًّا يا أماه؛ لأن رئيسة الكاهنات قدمت من تلقاء نفسها كأن الآلهة أوحت لها خيرًا.

فقالت الأم متململة: وقتنا الآلهة من مفاجآت كاهناتها، إني أتوقع شرًّا من هذه الخبيثة.

فقالت الملكة مضطربة شديدة الاضطراب: أرجو أن تساعديني يا أماه في إقناعها بأن تأخذ أفريدوس غدًا إليها لكي يقدم التوبة في الهيكل، وتصفح الآلهة عنه.

فقالت الأم: تصفح الآلهة أو تنتقم سيان عندنا، يكفي أن نطهر العرش من هذا الرجس.

وهنا، دخلت رئيسة الكاهنات.

٩

واستقبلت الملكة رئيسة الكاهنات بكل بشاشة وترحاب، فانحنت الرئيسة قليلًا، وقالت: تحية لصاحبة الجلالة.

فقالت الأم: وسلام لقداسة سفيرة الهيكل المبجلة، لا ريب أن قدومك أيتها الموقرة بشير الرحمة، وبواسطة سموك يكف الآلهة عن الغضب، وتوسلك يستدرك غضب الآلهة، قررنا أن نضع بين يديك وتحت رعايتك المعتقل المتنكر الذي لم يسفر التحقيق معه إلَّا عن هوج وطيش، ولا غرض له سوى مشاهدة عاصمة الأمازونيات.

فأجابت الكاهنة وهي جامدة في مكانها لا تبدي حراكًا، وقالت بصوت جهوري: فليحضر، فليحضر.

فقالت الملكة بتضرع: لقد ظهر يا ذات القداسة أنه من أسرة الكهنوت، ولهذا يستحق عطفك.

فأجابت الكاهنة بصوت جهوري شديد: فليحضر حالًا.

فاستدعت الملكة أفريدوس من حجرة السر، فدخل بثوب رجل وانحنى باحترام كلي.

واستدعت الكاهنة كاتبة السر الملكة جورجيا، فحضرت، وقالت لها: استدعي الكاهنة التي اصطحبتها معي.

فما ترددت جورجيا في أن دعت الكاهنة التي كانت في معية رئيسة الكاهنات المطلوبة، فنزعت رئيسة الكاهنات الثوب عن الكاهنة المزيفة فبدا جيهول بزي كاهن بثوب أسود، وعلى رأسه قلنسوة لا غطاء لها، وإنما لها أربع زوايا.

فانذعر أفريدوس بعض الذعر، ولكنه تجلد وتشجع. وأما الملكة فانذعرت وارتجفت، ووجهت الكلام إلى جيهول قائلة: هل تعرف هذا المزعوم أنه كاهن جاريجاري.

فقال جيهول: كاهن جاريجاري؟ ما هذا كاهنًا، وإنما هو أمير جاريجاريا يا مولاتي. فوجهت كلامها إلى أفريدوس: هل تنكر هذا الكلام؟

فقال أفريدوس بشدة بأس وقوة: لا لست كاهنًا، أنا أمير جاريجاري وزوج ملكة بنطس الشرعي حسب شريعة كيوبد، الملكة التي ستتوج ملكة على جاريجاريا أيضًا.

فصرخت أم الملكة بملء شدقيها: ويلكما، ويلكما، أنتما أخوان من بطن واحد وصلب واحد، سرٌّ لا يدريه أحد سواي.

فقالت رئيسة الكاهنات: والويل يدريه أيضًا.

ربما كانت الرئيسة لا تدريه، وإنما ادعت هكذا لكي تتم النبوءة وتنتصر الرئيسة النصر المبين.

عند ذاك صرخت الملكة صرخة شديدة وانطرحت على ساعدي أمها: ويلاه، ويلاه! الويل، وكان القمر قد شرع يتدرج ببطء على قرص الشمس وكاد يغطيه.

فقال أفريدوس متداركًا: وماذا في الأمر؟ بعض أمراء الأمم يتزوجون أخواتهم، وقد تزوج بعضهم أخواتهم كبطالسة مصر، وابن آدم تزوج بنت آدم، وبنت لوط تزوجت أباها ورزقت منه ولدًا، وهناك ألف شاهد على زواج الإخوة والأخوات.

الأم: ويلكما، ليس لهم شريعة هيكل ينزل الويلات على الأخوين المقترنين.

فقال أفريدوس: مع ذلك لا أصدق دعواك، فقد كنت معارضة زواجنا بكل شدة، فانتحلت هذا السبب لكي تحولي دونه.

وقالت الرئيسة: القمران يقترنان، انظروا الآن … والويلان ينقضان.

من غرائب الاتفاق أن الكسوف حدث في تلك الساعة، فمن من الخرافيين لا يصدق أن نبوءة الهيكل تمت.

وصرخت الملكة صرخة تفجع وهي تنظر إلى الشمس مكسوفة: الويل الويل الويل.

واستلت خنجرها بكل سرعة وطعنت به قلبها. وقعت صريعة.

في إبان هذا الويل دخلت أمازونيا ثم تبعتها جورجيا، ثم أوجستينا ثم فلومينا، وبعض حاشية الملكة، وجزعن من جراء هذه المأساة، وانعقدت ألسنتهن عن الكلام، وأي كلام يطرأ عليهنَّ. والأم تفجعت وصاحت بالويل والثبور إلى أن قالت: يا لنقمة الآلهة فطالما حاولت أن أتدارك هذا الويل، ولكن مقدرتي خانتني.

وقالت الكاهنة بصوت جهوري: القمران يقترنان والويلان ينقضان.

وعندما تناول أفريدوس الخنجر من يد الملكة القتيلة وهزَّه وهو يقول بصوت جهوري بكل تأن: تبًّا للإله الذي يجعل شريعته فوق شريعة الطبيعة، ويحسب الحب جريمة يعاقب عليها بالموت، فلسوف تمتص الطبيعة ذلك الإله كما يمتص الهواء الدخان والبخار، ولسوف تعاقب الأجيال القادمة خدمة ذلك الإله الجاحد الحق والطبيعة بالحديد والنار. معك يا زوجتي إلى عالم الحق والحقيقة، وهجرًا لعالم الغباوة والضلال.

ثم طعن صدره وخرَّ على رجلي الملكة قتيلًا.

ثم قالت الكاهنة: القمران اقترنا، والويلان انقضا، ونبوءة العرش صدقت، انظروا الشمس مكمدة.

وحينئذٍ تمَّ كسوف الشمس وسكنت الطيور في أوجارها، والحيوانات لجأت إلى أوكارها، واضطرب الجو ونفخت الريح.

وقالت أمازونيا: لقد انتصر أجكس وأرس على كيوبد، وسلم عرش بنطس، وحفظ استقلال مملكة الأمازون.

وقالت الكاهنة: تولي يا أمازونيا عرش بنطس، فأنت أولى من يتولاه الآن.

وقالت أوجستينا: إذا لم ترش يمين كيوبد سهامًا فلا يبقى ذكور ولا إناث ولا بطون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤