أيديولوجية برجوازية

مَن يتسوق في «هايبر وان» يجب أن يمتلك سيارة. يقع «هايبر وان»، مثله مثل غيره من مجمعات التسوق التي تُقام في أنحاء القاهرة، على شارع متعدد الحارات يؤدي إلى خارج المدينة، ولا تجرؤ عربات «الكارو» التي تجرها الحمير على ارتياد مثل هذه الشوارع، بينما لا تزال جزءًا من صورة المدينة في وسط البلد. أما السيارات القديمة والمستهلكة غالبًا التي تقف في ساحة انتظار السيارات فتُظِهر أنها السيارة الأولى لمالكها. هذه الصفة الخارجية المميزة لتلك المجمعات، أما الصفة الأخرى فتتجلى في المسجد المبني على طراز «الحركة المستقبلية» الملحق بمبنى المجمع المربع الشكل. بدءوا في الولايات المتحدة الأمريكية في تزويد مجمعات التسوق بكنائس، وفي الهند بمعابد، حتى هذا الفرق بدأ يتلاشى مثل السيارات التي تزداد أناقة. المهم في الأمر هو معابد التسوق: هنا الخلاص، هنا الدخول إلى عالم ما وراء شاشة التلفاز. يوجد أمام مجمع التسوق تمثال لعربة تسوق بحجم بيت سكني. تكاد جميع النساء يرتدين حجابًا سابغًا، وكثير من الرجال ملتحون. تروج شركة ستيلا للبيرة لجعة شعير «الملت» على لوحات إعلانية مضيئة موضوعة في ساحة انتظار السيارات. عندما يُرفع الأذان للصلاة تتوقف موسيقى المصعد ذات الطابع الجنوب أمريكي.

يقرأ المرء كثيرًا، أو يدَّعي ببساطة، أن الفقراء وغير المتعلمين يميلون إلى التوجه الديني، وأن الأصولية تعبير عن الظلم والقهر وهبوط المستوى الاجتماعي والجهل. غير أن إدراكي للوضع يخالف ذلك. تتكون حشود الغوغاء التي تشارك في أعمال العنف ضد الأقليات الدينية أو في أعمال التصفية الجسدية أو الاعتراض على رسوم كاريكاتيرية في بلد بعيد مثل الدنمارك بكل تأكيد من أشخاص من الطبقات الاجتماعية الدنيا، إلا أن أيديولوجية تلك الاعتراضات تكون برجوازية. إلى جانب أن الإرهابيين — أي الأشخاص الذين لا يتصرفون بصورة تلقائية، وإنما يقررون بوعي استخدام العنف كوسيلة للجدل السياسي — يأتون في كل الأحوال تقريبًا من الطبقات الوسطى. الأشخاص الأكثر فقرًا يمدون بالشرعية ويمكن في بعض الأحيان تحريكهم بوصفهم القاعدة العريضة هنا وهناك، وذلك عادة باستخدام المال، وفي بعض الأحيان بالخمر، ودائمًا بحُجة أن الآخرين هم المتسببون في وضعهم المزري؛ ولكن عندما أسير في الأحياء التقليدية والأحياء البسيطة، أو أذهب إلى الريف سواء في مصر أو الهند أو إندونيسيا، فإنني لا أجد أن الكثير قد تغير، فهناك كان الناس دائمًا متدينين وفي كل مكان تجد نفس كرم الضيافة والمعاملة الطيبة للأجانب.

أما الحجاب — حتى نبقى في الحديث عن الدول الإسلامية — فلم يزدد انتشارًا في القرى، وإنما في البنايات السكنية العالية وفي ضواحي المدن وفي مجمعات التسوق وفي ماكدونالدز. وهذا ما ينطبق أيضًا على التصورات الأخلاقية: فسيدات الأعمال هن من ازددن تزمتًا لا الفلاحات، ولم تعد النقابات وحدها هي التي تطالب فجأة بمنع جميع الأوصاف الإباحية في الأدب وصولًا إلى «ألف ليلة وليلة»، بل أصبحت نقابة المحامين والجامعات تطالب أيضًا بذلك.

تنتشر المسيحية الإنجيلية في جميع ربوع القارة الأمريكية، وفي غضون بضع سنين سينضم أمريكيون جنوبيون للجماعات الكاريزمية أكثر من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وذلك لأن جاذبيتها لا تظهر في أقوى صورها على من يُسمَّون بالأشخاص البُسطاء وإنما على الموظفين والمدرسين وربات البيوت ورجال الأعمال. لذلك نرى ظاهرة مشابهة في الهند، حيث تتمسك بالدرجة الأولى الطبقات المتوسطة بثقافاتها الخاصة بصورة متزايدة، وهذه الطبقة تتكون من الأشخاص الذين تغيرت حياتهم تغيرًا كبيرًا بسبب العولمة.

هذا يعني أنه حالما تنتهي النماذج الثابتة للهوية كما يحدث بفعل العولمة، تنشأ نزعة إلى التشبث بشيء ما يُعد خاصًّا أو ادعاء صفة تميز المرء عن الآخرين. يعود المرء إلى ما يتصور أنه كان عليه من قبل وإن كان لم يعشه في حياته قط. والحقيقة أن المرء لا «يعود» لأنه لم يشارك في تلك الثقافة قط، بل لأنه لم يشارك فيها الوالدان ولا حتى الجدان أيضًا. إن طريقة الحياة الخالصة والمنقولة والأصلية والواضحة والتي لا يوجد بها أي تناقضات — وهذا ما تدعيه جميع الأصوليات — لم تكن قط موجودة بهذه الصورة الخالصة، إنها فقط تصور مثالي.

لقد كتبت أن العودة إلى الجذور يمكن ملاحظتها بالدرجة الأولى في الطبقات المتوسطة التي تتعرض حياتها لأقوى تغييرات وتأثيرات غريبة في ظل العولمة، إلا أنه يمكن للمرء أن يزيد في ذلك فيقول: هناك توافق في معظم الدول بين هذا التدين السلطوي، وإن كان غير سياسي، والنظام الاقتصادي الليبرالي البحت، بل إن هذا التدين يبدو من الناحية الاقتصادية أنه يتواكب بصورة حتمية مع السوق الليبرالي. يمكن مشاهدة ذلك أوضح ما يكون في المملكة العربية السعودية، حيث يسود أكثر تأويلات الإسلام تزمتًا من ناحية ويسود من ناحية أخرى اعتقاد في الرأسمالية والاستهلاك والتقدم التكنولوجي، إذ لو قورن بالحزب الديمقراطي الحر في ألمانيا لبدا الأخير بجانبه وكأنه حزب من اللينينيين القدامى. تحديدًا بجوار الكعبة يُنشَأ الآن أكبر مجمع تسوق في الشرق الأوسط، وكل ماركات الاستهلاك العالمي ستكون ممثلة بفروعها فيه من بنيتون وصولًا إلى دايملار بنز. وللمبنى أبعاد ضخمة تجعل الحرم يبدو بجواره وكأنه ساحة لعب للأطفال. ولا يحمل واضعو التصميمات المعمارية همَّ الحفاظ على المدينة القديمة، إذ حُولت أجزاء منها إلى ساحات تابعة للحرم وهُدم ما تبقى منها منذ أمد بعيد. لا أحد يقطع ما بينه وبين ماضيه بصورة متطرفة مثل ما تفعل الجماعات التي ترغب في العودة إلى الماضي.

كثيرًا ما يُقال إن ما يُسمى بصراع الثقافات لا تدور رحاه ببساطة بين الإسلام والغرب، وإنما يسير مجراه في وسط الإسلام نفسه. هذا صحيح ويمكن الاستدلال عليه بكثير من الأمثلة. لم تقوَ شوكة القوى الأصولية في العالم الإسلامي وحدها، بل قويت أيضًا القوى المُضادة التي تُمثل نموذج المجتمع العلماني، أو حتى التي تسوق له ببراهين دينية. بالتأكيد لا ندرك وجودها إلا نادرًا؛ نظرًا لأنها لا تمثل تهديدًا، ولا تلفت النظر إليها عن طريق حشد المظاهرات الضخمة أو القيام بأعمال العنف (إلى جانب أننا أيضًا لا ندرك وجودها عندما يتظاهر في باكستان مئات الآلاف مطالبين بالديمقراطية، وهذا عدد لم يصل إليه الإسلاماويون في باكستان في مؤتمراتهم الشعبية). نعم، الصراع الحقيقي حول الإسلام يدور داخل العالم الإسلامي نفسه. بطبيعة الحال تجري مناقشته في علاقته بالغرب، أي في ضوء السؤال عن الموقف الذي يجب على الإسلام أن يتخذه من الغرب، وخصوصًا فيما يتعلق بقيمه وإنجازاته، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية. الغرب هو الآخر الذي يرسم المرءُ الحدودَ التي تفصله عنه، أو الذي يتخذه المرء معيارًا ليتمكن من تحديد موقعه. أي أن الأمر يدور حول الإسلام في حد ذاته ويتعلق بمجتمعه.

أوروبا مُستثناة من هذا التطور؛ هذا ما يبدو. يدور النقاش بالتأكيد هنا وهناك عن عودة الدين والتهديد الذي يمثله ذلك لنظام المجتمع الليبرالي. لكن المرء يغفل أن الأديان في خارج أوروبا لم تختفِ قط من الحياة العامة. إن العولمة التي تتخطى حدود الفصل بين الدين والدولة، والتي تسببت فعليًّا في فقدان شامل لمعنى الأديان النظامية، أو بعبارة أشد ذلك الجمود الديني — تُعد ظاهرة تنفرد بها أوروبا. بهذا المفهوم الأوروبي لا تُعد الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا دولة علمانية. عندما نتحدث عن الغرب العلماني، فإننا نعني بذلك أوروبا الغربية. بينما في اليونان وفي البلقان بل حتى في بلد الجوار بولندا تقوم الأديان بدور سياسي جوهري وحاسم في الحياة العامة. يُفهم مُصطلح حرية الرأي في هذه الدول فهمًا أضيق بصورة واضحة، وتتعامل المحاكم مع جريمة القدح في الذات الإلهية تعاملًا أكثر صرامة وكثيرًا ما يُقاضَى الفنانون والأدباء الذين يسخرون من المسيحية. إن العودة العالمية إلى الأديان، التي يُعلن عنها في بلدنا هذا، ما هي في حقيقة الأمر إلا اكتشاف أن الأديان في خارج أوروبا لم تختفِ قط.

ولكن هل أوروبا الغربية مُستثناة حقًّا من انتشار خطاب الهوية؟ لا أظن ذلك. يتم لدينا أيضًا — وبصورة متزايدة — تعريف ما هو خاص، ويتم بذلك تثبيته؛ مما يؤدي في الوقت نفسه إلى تعريف الآخر، المُغاير. لا أعني هنا حماس البابا والمشاهير الكُثُر الذين يخرجون من ألمانيا في رحلات الحج أو الذين ينادون بعودة الأخلاق القديمة. مجتمعات غرب أوروبا أصبحت علمانية بدرجة من العُمق — بمعنى فقدان معنى الأديان النظامية — تجعل من المستحيل أن يكون للجانب المذهبي أثر سياسي، وفي بعض الأحيان يكون له على الأكثر صبغة فلكلورية. لذا نجد أن الحماس الديني لا يختلف في عرضه الإعلامي عن أي دفقات حماسية أخرى في ألمانيا. العنوان الرئيسي لجريدة «بيلد تسايتونج» عن يوم الشباب العالمي يعبر عن مُجمل الغرابة التي أصبحت عليها ثقافة الحدث الديني: «أكثر حفلات الرب شبقًا». يحق للمرء أن يفكر في القيم التي يمثلها البابا وفي القيم التي تمثلها صحافة «بيلد تسايتونج» غير الأخلاقية والجنسية والمعادية للأجانب. إنه نوع من الكتابة الحماسية التي لا يضاهيها شيطانية إلا التقارير الصحفية من عصور الديكتاتورية أو الحكم الديني مثلما في إيران. غير أن الأمر لا يتعلق بحال من الأحوال بالمحتوى الذي يمثله بنديكت السادس عشر وبعض مواقفه الغربية (التي ستبقى غريبة!) مثل خطابه في أوشفيتس الذي اعتبر فيه المسيحيين ضحايا مع اليهود، أو خطابه في البرازيل الذي وعظ فيه الهنود الحمر قائلًا إنهم هم الذين دعوا إليهم المبشرين، فهو لا تثار حوله ضجة في صفحات الفنون والثقافة ولا في تلك المجلات، التي كانت تثير ضجة تستمر أسابيع حول كل ما كان البابا السابق يقوله حول الإجهاض. البابا الحالي يتكلم بصورة أكثر حسمًا وبطريقة مستفزة لنموذج مجتمع علماني يتبع مذهب اللذة ومنفتح على العالم. إلا أن واحدًا منَّا أصبح الآن بابا الفاتيكان، بل نحن أصبحنا الآن البابا. إنه يحقق لنا الهوية.

إن حماس مثقف، لم يكن متدينًا من قبل، للكنيسة الكاثوليكية ليس له أهمية الأصولية الإسلامية للشرق الأوسط أو القومية الهندوسية للهند أو الحركة الإنجيلية للولايات المتحدة الأمريكية. الكنائس لم تمتلئ أكثر مما كانت، وأظن أن البابا لن يعبأ كثيرًا بهذا الدعم الذي مرجعه إلى الإحساس ﺑ «نحن» أكثر منه إلى الصدق الديني. إذا أراد المرء في أوروبا الغربية أن يُحقق الشعور ﺑ «نحن»، فإن المسيحية لا تكفي كمرجعية للهوية. إن ما يناسب أكثر لرسم حدود فاصلة عن الثقافات الأخرى — وخصوصًا الإسلام — هو التنوير والعلمانية. يمكن عند ذلك إدخال المسيحية بوصفها عاملًا ثقافيًّا تاريخيًّا، أي باعتبار التاريخ الأوروبي تاريخ الغرب المسيحي. إن «اختبار المسلمين» الذي أُجري في ولاية بادينفورتيمبرج يوضح التطورات الغريبة التي يمكن أن يؤدي إليها هذا الفهم المسيحي للتنوير، إذ رأى الديمقراطيون المسيحيون تحديدًا أن المثلية الجنسية هي الصفة المميزة للثقافة الأوروبية. بالتأكيد لم يكن هدف الحزب المسيحي الديمقراطي التقرب من المثليين، وإنما اتخاذ حدٍّ فاصلٍ عن الإسلام، ولكن على أي حال: إذا كان المسيحيون الديمقراطيون في حاجة إلى المسلمين حتى يعترفوا بالثورة الجنسية، فإن هذا يعني أننا يمكن أن نكون نافعين في شيء ما!

لقد أصبح الآخر الذي يحتاجه المرء في أوروبا الغربية دائمًا حتى يُحدد معالم نفسه يتمثل ليس فقط — ولكن بالدرجة الأولى — في الإسلام. ليس من باب المصادفة أن يكون الجدل الدائر عن التعددية الثقافية جدلًا عن الإسلام، علمًا بأنه ليس جدلًا «مع» المسلمين وإنما «عن» المسلمين بالدرجة الأولى. كان السؤال التقليدي الذي أدار به موقع بيرلينتاوخر الإلكتروني عجلة النقاش العابر لحدود الدول: «من الذي يجب على الغرب دعمه: المسلمون المعتدلون مثل طارق رمضان أم المعارضون الإسلاميون مثل أيان حرزي علي؟» يبدو أن السؤال قد استبعد حقيقة أن طارق رمضان وأيان حرزي علي ينتميان إلى الغرب، وأغفل السؤال أيضًا إمكانية أن يكون شخص ولد مسلمًا ليس إسلاماويًّا ولا معارضًا للإسلام. في الحقيقة فإن الأشخاص الذين يظهرون في مثل هذا الجدل أو ما يشبهه من النقاشات التي تحمل أسماءً عربية أو إيرانية أو تركية يكونون دائمًا كُتابًا يرفضون الإسلام، دورهم مثل دور شهود الإثبات للادعاء. يقدم الدفاع هنا وهناك أيضًا شهود نفي في صورة مثقفين مسلمين يؤكدون عدم وجود تعارض بين دينهم والتنوير. إلا أن الشهود يُستبعدون من الحكم. ليس هذا فحسب، بل لا يكاد يوجد عالم واحد في الدراسات الإسلامية يشارك في الجدال. جميع الكفاءات الأخرى نجدها ممثلة في النقاشات — وفي كلا المعسكرين، معارضي الإسلام وفاهمي الإسلام — سواء الصحفيين أو المؤرخين أو الكتاب أو علماء الاجتماع أو علماء السياسة، ولكن في كل الجدل الدائر في الآونة الأخيرة لم أجد في الحلقات النقاشية في التلفاز ولا في الكتب التي تُجمع فيها المقالات ولا على الصفحات الثقافية في الجرائد أستاذًا واحدًا من أساتذة العلوم الإسلامية الذين يُدرسون في إحدى الجامعات الألمانية، على الرغم من وجود عدد من علماء الدراسات الإسلامية المتميزين في الجامعات الألمانية. إن الاستغناء عن الكفاءات العلمية له منطق واحد: الجدل في غرب أوروبا عن الإسلام ما هو إلا جدل عن أوروبا الغربية نفسها.

وهذا أمر غير مستنكر، فعن طريق الإسلام الذي يقوم بدور الانتماء البديل يمكن بصورة أوضح مناقشة كيف يُنظَر إلى الثقافة الخاصة بأوروبا الغربية، وماذا يعني المرء بمفاهيم مثل الليبرالية والعلمانية والتعددية. كثيرًا ما رأيت كيف تحولت نقاشات حول أوروبا وقيمها في ساحات عامة إلى نقاشات حادة وعاطفية عندما كان يُذكر عنوان مثل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أو الحجاب. على الفور تصبح الأسئلة أكثر تحديدًا: هل من الليبرالية أن نسمح للمعلمات المسلمات بارتداء الحجاب؟ هل تعني العلمانية أن تعامل الدولة جميع الأديان بمساواة تامة؟ هل تعني التعددية أن تصبح المئذنة جزءًا من شكل المدينة؟ هل يمكن لدولة إسلامية أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي؟ إن التصور الذي تقوم عليه أوروبا التي ينتمي إليها الإسلام ولو بصورة ضمنية على الأقل يختلف عن تصور تقوم عليه أوروبا التي تُعرِّف نفسها من خلال جذورها المسيحية اليهودية، وتضع حدودًا فاصلة لها عن الإسلام. تحولت القضايا الخلافية للمؤرخين إلى قضايا العصر الخلافية: هل الفلسفة العربية للمسلمين واليهود جزء من تقاليد التنوير الأوروبية؟ هل تقوم أوروبا أيضًا على فكر رواد إسلاميين للحداثة في الفلسفة وفي علم الكلام أو في الأدب؟ هل تدخل إسبانيا الإسلامية أو الدولة العثمانية في التاريخ الأوروبي؟ أم أن عرضها يجب نقله إلى علوم الشرق الأوسط؟ أيًّا ما كانت الإجابة فإن لها، بالنظر إلى تركيبة مجتمعنا، تأثيرات على مستقبلنا.

التعبئة الذهنية التي تتم في أجزاء من المجتمع لا تُخطئها العين. اتخذت التقارير الصحفية عن الإسلام في فرادى وسائل الإعلام منذ فترة طويلة صورة الحملة، وقد حللها العلماء كثيرًا أيضًا فيما يتعلق بلغة الصور المستخدمة فيها: رجال ملثمون ومدججون بأسلحة آلية، وحشود من النساء المنتقبات، وصور من الخلف لفتيات محجبات في أفنية المدارس الألمانية، ووجوه متشنجة وهي تصرخ، ومُصلون في اللحظة التي ينزلون فيها إلى السجود بحيث تُحدِّق مؤخراتهم مبتسمةً في عدسة الكاميرا. ولإثبات العنف الفطري في الإسلام تقدم المقالات والبرامج والكتب التقليدية دائمًا نفس الاقتباسات من الآيات القرآنية عن العنف، وكأنه لا يوجد سياق تاريخي أو نصِّي تجب مراعاته، بالإضافة إلى أنهم ينتقون من التاريخ المذابح والاضطهاد وحروب الاستعمار التي حدثت بالفعل وبالتأكيد في التاريخ الإسلامي، وبذلك يبدو تاريخ الإسلام وكأنه بيت الأشباح. يتضح كم هو رخيص مثل هذا النموذج إذا قلبناه إلى عكسه: الاستعمار والحروب الصليبية، والإبادة الجماعية للهنود الحمر، ومحاكم التفتيش، وأمر المسيح بالتبشير، والشيشان، والعراق، وصبرا وشاتيلا، وفلسطين، وسريبرينيتشا، والدعاية المسيحية للصرب، والفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي كانت له شرعية حاسمة من الإنجيل، والمحرقة، وحربان عالميتان، وعلى سبيل التغيير حاليًّا أيضًا ساحل العاج أو معارضة المساجد في أوروبا، كل هذا إذا أضفنا إليه بعض الاقتباسات عن الحرب المقدسة من الإنجيل وبعض أقوال بوش وبيرلسكوني، ثم قدمناها إلى مجموعة من كارهي أمريكا حتى يحللوها، فسيصبح لدينا على الفور ما يكفي لإقناع السُّذَّج في العالم الإسلامي بالعنف الفطري في المسيحية. تعمل مختلف المواقع الإلكترونية تبعًا لنفس هذا النموذج عندما تسرد يومًا بعد يوم أين ارتكب المسلمون مجددًا أعمال عنف أو أعمالًا جديدة يبرهنون بها على غبائهم، أو وضعوا أنفسهم موضع السخرية. ومن السهل أيضًا ما تقوم به بعض المواقع الإسلامية يومًا بعد يوم من عرض أخبار سلبية عن أشخاص أو مجموعات أو دول في مكان ما من العالم تقوم بأعمال تتطابق مع صورة العدو التي يرسمها المرء لهم، بداية من اتحادات شركات البترول العملاقة في الشرق الأوسط، مرورًا بالاستغلال الجنسي للأطفال، وصولًا إلى الاعتداء بالعبوات الحارقة على مخيمات اللاجئين أو المساجد. يمكن أن يكون كل خبر صحيحًا في حد ذاته، إلا أن تجميعها بهذه الطريقة يصنع كذبة.

وفي معظم الأحيان تصف أكثر الكتب مبيعًا في أوروبا عن الإسلام مشاكل اجتماعية مُلحة في داخل العائلات المسلمة، دون استخدام إحصاءات ميدانية توضح علاقتها بالعدد الحقيقي للمسلمين، وبذلك تنقل انطباعًا للقارئ بأن وجود جرائم الشرف والزواج القسري والعنف هو القاعدة في العائلات المسلمة، وأن المسلمين المتحضرين والعلمانيين هم الاستثناء. هذا أمر غريب، كما لو كانت دراسة عن المتطرفين اليمينيين في شرق ألمانيا ستعطي انطباعًا بأن جميع الألمان الشرقيين متطرفون يمينيون، أو كأن طبيب عيون سيصل إلى نتيجة مؤداها أن لدى جميع الناس مشاكل في عيونهم. هذا يشبه في ضحالته الفكرية الاقتصار دائمًا على حصر الحالات التي يتعرض فيها مسلمون في العالم — وخصوصًا في ألمانيا — إلى اضطهاد. بالتأكيد توجد مثل هذه الحالات: عائلات لا تتمكن من الحصول على شقة سكنية بسبب اسمها العربي، أو نساء يتعرضن لأن يبصق عليهن أحدهم في الطريق لأنهن يرتدين الحجاب. وإذا أمعنا النظر، فسنجد كل يوم بعض الحالات المثيلة. ولكن الأمر يصبح هزليًّا إذا اتخذنا هذه الحالات دليلًا لإثبات وجود اضطهاد ضد المسلمين، بل وعقد مقارنات مع اضطهاد اليهود إبَّان العصر النازي كما يحدث أحيانًا. لا تكاد توجد دولة في العالم تتمتع فيها الأقليات الثقافية والدينية بنفس الحقوق بصورة كاملة. إلا أنه بالمقارنة بالدول الأخرى، وخصوصًا الإسلامية منها، فإن الأقليات تتمتع في أوروبا بدرجة عالية من الحرية والتحرر، وهذا ينطبق على المسلمين أيضًا. ولا يعني هذا تقبل الاضطهاد، ولكن على المسلم أيضًا ألا تغيب عن عينيه النِّسَب تمامًا، ويجب عليه أن يعترف بمميزات مجتمعاتنا الغرب أوروبية. نعم، هناك صورة الإسلام العدو، ولكن ما يجب أن يؤرق المسلمين أكثر من ذلك هو وجود إسلام يتصرف وكأنه عدو.

كي نعبر عن ذلك بوضوح أكثر: لقد ألقت الكتابات الناقدة للإسلام التي تحظى بانتشار شعبي — حتى وهي تبالغ أو تعرض صورًا أُحادية — في السنوات الأخيرة الضوء على أوضاع سيئة كان العلم والسياسة يتجاهلانها فيما سبق، وهذا سيبقى المكسب من ورائها. ولكنها في الوقت نفسه — أحيانًا من دون قصد، وكثيرًا مع سبق الإصرار والترصد — كانت تقدم القرائن لمطالب سياسية من شأنها تدمير نظام مجتمعنا الليبرالي. إن التعاطف والترابط المؤسسي اللذين يتمتع بهما أشهر ناقدي الإسلام دوليًّا — مثل أيان حرزي علي أو ليون دي فينتر — مع المحافظين الجدد في شمال أمريكا لهما دلالتهما مثلهما مثل التصفيق الذي يحظى به كتَّاب في ألمانيا مثل هنريك إم برودر أو رالف جيوردانو من معجبيهم من دوائر الإنجيليين ومُعادي الأجانب وحتى النازيين الجُدد. وكونهم يقاومون بطريقة مقنعة محاولات الأصوليين اليمينيين لضمهم إليهم لا يغير شيئًا في أن آراءهم وادعاءاتهم ونماذج اتهاماتهم لا تختلف حتى في اختيار المفردات المستخدمة عن بعضها شيئًا.

أما من يحاول أن يُسمع الآذان ويلفت الانتباه مستخدمًا الحُجج وحتى المعارف العلمية، فإنه سرعان ما سيوضع عليه علامة «المدافع الساذج عن التعددية الثقافية». إذا صدَّق المرء دُعاة صراع الثقافات، فإن العلوم الإسلامية الألمانية تكون قد وقعت جميعها في شرك الإسلاماوية. وقد لاقت الدراسات الألمانية حول الهجرة نفس المصير، بعدما وجهت في خطاب مفتوح نُشر في جريدة «تسايت» نقدًا ضد الجدل الذي يدَّعي العلمية والذي يدور بين مؤلفي الكتب الأكثر مبيعًا مثل التركية نكلا كيليك، ممن لا يعبئون بالإحصاءات الميدانية المؤكَّدة. إذا انطلقنا مما ورد على بعض الصفحات الثقافية من ردود فعل غاضبة، فإن المرء ربما يعتقد أن الجامعات الألمانية تجري غسيل مخ إسلامي فاشيًّا للطلاب.

من الملاحظ أيضًا أنه حتى قيادة الكنيسة الإنجيلية التي كانت في السابق ليبرالية قد اكتشفت في الجدل حول الإسلام حقلًا مناسبًا لإبراز الذات. لقد سعت الكنائس في ألمانيا — الكنيستان الكبيرتان على وجه التحديد — إلى إدماج المسلمين بفعالية أكثر من مؤسسات المجتمع الأخرى. لقد شجعت الكنيستان الحوار وساندتا مصالح المسلمين الدينية؛ وخصوصًا في أماكن حياتهم في المدن والمحليات بصورة أكبر مما يستطيعه المسلمون، لأنهم بالنظر إلى هياكلهم الاجتماعية كانوا لا يملكون الممثلين المفوهين. حتى اليوم لا تُبنى مساجد إلا إذا دعمت ذلك الطوائف المسيحية التي تعيش في المكان، أو شاركت في التصميم، أو قامت بدور المؤيد للمشروع لدى إدارة المدينة أو على الملأ. كان هذا أكثر مما يمكن لأبناء أقلية من الأقليات أن يتوقعوه من مؤسسات تابعة لدين آخر. كان هذا إنجازًا اجتماعيًّا رائعًا في العقود الماضية، سبقت به الكنيسة الدولة بكثير. وأثَّرت تلك السماحة في حالات كثيرة على الإسلام في ألمانيا، على سبيل المثال يوم المسجد المفتوح، والصلات الكثيرة مع الأشخاص في أماكن حياتهم، وتقليد دعوة مسيحيين إلى الإفطار في رمضان، وكثير غير ذلك. فكرة عقد حوار بين الأديان في حد ذاتها لم تكن بديهية في رأي جماعات المسلمين التي كانت تبعًا لهيكلها الاجتماعي والثقافي جماعات منغلقة إلى حد ما، ذات ثقافة ريفية تركية.

على العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي — على الرغم من خطاب بنديكت السادس عشر في ريجنسبورج — تُجري الحوار بين المسيحية والإسلام بحماس كبير، وتتخذ إجمالًا موقفًا متسامحًا ومتفاهمًا من الإسلام في ألمانيا؛ فإن قيادة الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا تبتعد عن الإسلام بصورة متزايدة. المنشور الذي نشرته مؤخرًا عن الحوار كان بأقلام كتاب إنجيليين وتظهر فيه لهجة العداء التي لم تكن لتخطر ببال أحد قبل أعوام. في احتفالية يوم الكنيسة التي عُقدت مؤخرًا قابل الجمهور ممثلي الإسلام بالصفير فور اعتلائهم خشبة المسرح. أما رئيس مجلس الطائفة الإنجيلية في ألمانيا الأسقف فولفجانج هوبر، الذي كان يجلس على منصة المتحدثين، فلم يُذكِّر الجمهور بوصية الضيافة، وإنما تسبب بملاحظاته في ازدياد حدة عبارات الاستياء الموجهة ضد المسلمين. وفي المؤتمر الكَنَسي الأخير اقتصر تعريف العقيدة الإنجيلية اليوم إلى حدٍّ بعيد على الفروق التي بينها وبين الإسلام.

يتحمل المسلمون بطبيعة الحال جزءًا من مسئولية تزايد النظرة المتشككة لهم في الغرب. لا أعني بذلك العنف السياسي الذي يرتكبه بعض المسلمين، والأوضاع غير الديمقراطية في معظم دول العالم الإسلامي، ولكن أيضًا الطريقة التي يتصرف بها المسلمون على الملأ. إن أشهر وأوضح مثال لذلك من الفترة القريبة الماضية يوضح ويؤكد في الوقت نفسه صورة الإسلام العدو — هو النزاع حول الصور الكاريكاتيرية الدنماركية المسيئة للرسول محمد. تطورت أحداث الصراع وكأنما كتب مؤلف أفلام سيناريو لصراع ثقافات عالمي. ورد فعل المسلمين في هذا السيناريو يشبه رد فعل الكلاب البافلوفية المعروف بالارتباط الشرطي؛ أي بصورة متوقعة ودون تفكير وبعنف. وكأنهم ينبحون إذا رأوا الإشارة الضوئية ويعضون إذا أُمروا بذلك. لم يدرك قطاع كبير من الرأي العام، وخصوصًا الإيراني والعربي، أن المرء يجب ألا يلجأ إلى العنف فقط لأنه غاضب أو يشعر بالإهانة، وأنه توجد الآن في العالم وفي ظل العولمة طرق سلمية وذات تأثير أكبر بكثير للتعبير عن الموقف. لدى كل مستهلك إمكانية مقاطعة السلع؛ هذه هي لعبة اقتصاد السوق الحرة. لذا نجد أن شركات الإعلام الأمريكية الكبيرة تحديدًا لا تجرؤ على إثارة حفيظة جماعات المشترين المهمة وذلك بالنظر إلى العواقب الاقتصادية الممكنة. لو تصرف المسلمون بهذه الطريقة لكسبوا الصراع لمصلحتهم، وأظهروا فضلًا على ذلك للعالم كله أن رئيس الوزراء الدنماركي عديم المبادئ؛ إذ إنه كان مستعدًا للتخلي عن احتقاره للمسلمين وأن يلوح راجيًا «أرجوكم، أرجوكم الحوار» مع أول علبة جبن «فيتا» امتنع المسلمون عن شرائها عملًا بمبدأ المقاطعة. كان بإمكان المسلمين أن يفعلوا ذلك حتى إن أغضبت المقاطعة أوروبا، وكان بإمكانهم أن يثقوا في أن قطاعات عريضة من الرأي العام العالمي ستتعاطف معهم؛ بما في ذلك كثير من المراسلين الصحفيين من الولايات المتحدة الأمريكية حيث تقدم وسائل الإعلام الجادة تقارير أكثر دقة عن الإسلام. ولكن اتضح مجددًا أن كثيرًا من المسلمين لم يفهموا قواعد اللعبة في العالم الحديث على الرغم من أنهم يعيشون فيه. يمكن للمرء أن يقاطع السلع ويكتب المقالات وينفق الأموال على الحملات الإعلامية ويقوم بعمل جماعي في صورة تكوين «لوبي»؛ ولكن لا أحد يملك الحق في أن يقتحم السفارات وأن يهدد بالقتل. هناك الكثير مما يمكن شرحه في سلوك القائمين بأعمال الشغب (مثلًا استخدامهم من قبل أنظمة ديكتاتورية)، لكن لا مبرر لأفعالهم. لقد أساءوا إلى ميراث الرسول وإلى صورة الإسلام أكثر مما فعلت الرسوم الكاريكاتيرية نفسها. ويوضح ميلها لاستخدام العنف مدى بعد الجماهير العربية عن معايير التمدن والعدالة والاتزان التي تتوقع من الغرب أن يتحلى بها.

على الجانب الآخر من صراع الثقافات كانت هناك جريدة دنماركية تقف على الهامش السياسي اليميني في بلد اتجه في الأعوام الماضية بلا شك إلى اليمين حتى أصبح لديه الآن أكثر قوانين الأجانب تشددًا في جميع دول الاتحاد الأوروبي، كما أعلن رئيس وزرائه مفاخرًا. لم تفلح هذه الجريدة طيلة أربعة أشهر في أن تستفز الجالية المسلمة في الدنمارك استفزازًا حقيقيًّا. على مدار أربعة أشهر أرسلت تلك الرسوم السخيفة مرارًا وتكرارًا حتى وجدت في آخر المطاف الأشخاص المتحمسين الذين تصرفوا بالطريقة التي كانت تريدها الجريدة. الاستفزاز لا يبرر ولا يقلل من حدة رد فعل بعض الأئمة في الدنمارك وفي قطاعات من الرأي العام الإيراني والعربي. عندما يحرك الآخر وشاحًا أحمر أمامي، فهذا لا يعني أنه يجب عليَّ أن أتصرف كالثور الهائج. لكن للأسف يتصرف حاليًّا كثير من العرب والمسلمين مثل الثيران قليلة الذكاء والإدراك عندما يفقدون صوابهم بسبب بعض الرسوم الكاريكاتيرية السيئة.

أي شخص لديه بعض الدراية بالأدب الشرقي يعرف أن فيه كثيرين من الحمقى الذين يسيئون لكل شيء، فعلًا لكل شيء، بما في ذلك الإله والملالي والحكام (بينما يُستثنى الأنبياء — جميع الأنبياء — إلى حدٍّ بعيد)، ولم يكن يوجد بكل تأكيد التزام كامل بتحريم تصوير النبي محمد، ويمكن عمومًا رصد وجود انتهاك دائم للأمور المحرمة أو التابوهات في الحضارة الإسلامية، وتحديدًا في فترات ازدهارها في العصور الوسطى. فأنت تستمع إلى أكثر النكات حدة عن الإسلام في طهران وبيروت أو في إسطنبول، وكثيرًا ما تسمعها من أفواه الملالي وهم يبتسمون ابتسامة ماكرة. أما ما لا يمكن أن تسمعه إلا في أوساط العنصريين في إيران فهو النكات التي تدور حول الأقليات اليهودية والمسيحية، ولن تجد شخصًا يضحك عليها من أولئك الذين يهتمون بالتعايش السلمي للأديان. كما تبرهن دعوة إحدى الصحف الإيرانية القراء أن يرسلوا رسومًا كاريكاتيرية معادية للسامية على أن الرئيس الحالي لإيران والصحافة التي يسيطر عليها لا يهتمون بمثل هذا التعايش السلمي. فهل يجب علينا أن نتخذه مثلًا يُحتذى؟ لا يوجد جميل يمكن للأوروبيين أن يسدوه للإسلاماويين أكبر من أن يضربوا بمعاييرهم ومثلهم العليا عرض الحائط. يرفع كثير من المثقفين والصحفيين والسياسيين في أوروبا منذ فترة وللأسف شعار: من اليوم سنرد الضربة بالضربة. إن من يكافح أعداء المجتمع المنفتح عن طريق تخليه عن انفتاحه الثقافي يخسر المعركة بالفعل.

لم تكن الرسوم المسيئة للنبي محمد تكرارًا لحالة سلمان رشدي. فقد كان حق رشدي — الذي لا يقبل الفصال والذي يجب الدفاع عنه دائمًا — أن يعبر عن فهمه للثقافة الإسلامية كما يراها، بل والأكثر من ذلك: إن التعامل بغير اكتراث مع القيم الذاتية والمرجعيات السلطوية ينتمي إلى عمل الآداب والفنون، حتى إن تسبب ذلك في ازدياد أعداد أعدائها. يُعد رشدي واحدًا في إطار تقليد قديم من الأدبيات في العالم الإسلامي التي تعرضت للإسلام نفسه. كثير منهم دفع ثمن ذلك بالمنع أو بالحبس أو بحياته نفسها.

كان غرض هيئة التحرير الدنماركية مختلفًا تمامًا، فقد حاولت على مدار أربعة أشهر استفزاز أقلية في بلدها حتى تقوم برد فعل يمكن استخدامه لتبرير تهميش نفس هذه الأقلية بصورة أكبر. لم يتعلق الأمر لا بالحق في النقد ولا بالسخرية بوصفها رأس الحربة في حرية التعبير عن الرأي. هنا تم ويتم الضحك على ثقافة أخرى. وهذا له في أوروبا تقليد مختلف تمامًا، وهو التقليد الذي يقف أبعد ما يكون عن المذهب الإنساني؛ وهذا ينطبق على الاتجاه السياسي للجريدة الدنماركية وللسياسيين الذين يقفون وراءها. إن حربهم لا تتجه فقط ضد المسلمين ولكن ضد كل ما جعل أوروبا بعد كل هذه الجرائم والحروب تصبح مكانًا رائعًا، ضد التسامح والعقل وثقافة الحل الوسط والتوازن والعلمانية الحقيقية التي تعتمد على المساواة وأيضًا احترام الأديان. إن نشر رسوم كاريكاتيرية تسيء إلى أقلية مظلومة على أي حال وتعيش في ظل قوانين عنصرية هو أمر ينافي التنوير. إنها معاداة بغيضة للأجانب وستبقى.

سيخدم الصراع حول الرسوم المسيئة في المستقبل علماء الإعلام، بوصفه مثالًا على قدرة وسائل الإعلام الغربية وغير الغربية في أيام قلائل، وبتعاون محكم فيما بينها، على التسبب في حالة من الهستريا تنتاب جموع البشر، الذين تقدم تلك الوسائل تقاريرها عنهم. وكل من يدلي بدلوه في الحديث يتحول إلى جزء من السيناريو الذي يجب أن يتحدث فيه الجميع: ناقد الإسلام وكذلك من يمثل الإسلام ويحاول أن يهدئ من غضب الجماهير، والناقد الإعلامي وكذلك الصحفي الذي يشكو من النقد الإعلامي. هذا التتابع من استفزاز ثم تهديد ثم تهدئة ثم غضب من محاولات التهدئة يتكرر مع كل ثورة مشاعر تحدث كل بضعة أشهر بسبب موضوع الإسلام، كما حدث مؤخرًا بعد رفض دار نشر أمريكية نشر رواية عن النبي محمد، مما منح هذا الكتيب الضعيف من الناحية الأدبية الذي لا يعتبر بحال من الأحوال معاديًا للإسلام نجاحًا عالميًّا لم يكن يحلم به. لأن «الفضيحة توجد حيث تضع لها وسائل الإعلام نهاية» إذا استعرنا مقولة كارل كراوس. لقد أصبح النموذج مألوفًا حتى إنه لم يعد بحاجة إلى الاستفزاز أو إلى التهديد حتى تنطلق نفس الحجج والبراهين: لذلك لم يُسمح للفنان جريجور شنايدر بعرض مكعبه الأسود الذي يُذكِّر بالكعبة لا في مدينة البندقية ولا في برلين على الرغم من أن الاتحادات الإسلامية هناك أكدت أن هذا لا يُعد إهانة لهم على الإطلاق، وأُلغيت أوبرا «إيدومينيو» لموتسارت التي كان مقررًا عرضها في برلين بسبب القلق من ردود الفعل الإسلامية الغاضبة، دون أن يكون هناك مَن غضِب.

من الذي يشارك في جدل مثل الذي دار حول الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية أو إلغاء عرض أوبرا في برلين؟ إن الذي لم يتصفح باب الثقافة في الجرائد قط لديه هموم أخرى. تُعد حرب الثقافات في الدول الإسلامية أو في الهند وأيضًا في ألمانيا همًّا برجوازيًّا. توجد بالتأكيد القاعدة العريضة من الشعب، التي تخرج في مظاهرات ضد المساجد أو تعبر عن غضبها على الإنترنت، ولكن الاتجاه يعطيه دائمًا الصحفيون والأساتذة والسياسيون، الذين يشاهدون كيف يتغلغل الصراع بين الغرب والإسلام ليصل حتى إلى أنفاق المترو تحت الأرض؛ بينما يعيشون هم عادة في أحياء سكنية قد لا يتمكن مهاجر من السكن فيها أبدًا. إن شعور الحياة هنا أيضًا ليس موجهًا ضد شيء بعينه بالدرجة الأولى. هناك تسامح مع المسلم. فقط المتطرفون اليمينيون هم الذين يعادون الأجانب، وبالطبع فإن المرء ينأى بنفسه عنهم. إلى جانب أنه ليس للمرء أي علاقة بالعنف ضد الأجانب، والأكثر من ذلك: المعتدون يسيئون لثقافتهم بأنفسهم. إن المرء ليس ضد الآخرين، وإنما فقط «مع» الحفاظ على ثقافته، لأن هذه الثقافة الخاصة مهددة دائمًا وفي كل مكان. عندما يسافر المرء كثيرًا، فإنه يأخذ انطباعًا بأن الجميع مهددون وحسب.

لا أحد يرى نفسه عدوانيًّا، ولا توجد ضغائن دون خوف يعتبر ذريعة لها. حتى أسامة بن لادن قد لا يرى نفسه عدوانيًّا. دائمًا وفي كل مكان يدور خطاب الهوية مع الإشارة إلى الحفاظ والدفاع. ليس لدى المرء قط أي شيء ضد الآخرين ولكن للأسف الآخرون هم الذين يحملون مشاعر الكره، حتى لو لم تكن أسباب ذلك مفهومة، وكانت في حقيقة الأمر ادعاءات مريضة فقط. يعد المرء نفسه دائمًا مسالمًا جدًّا. «لماذا يكرهوننا؟» عنوان نقرؤه على أغلفة المجلات في هامبورج والقاهرة ودلهي وواشنطن. لكنك لو لفت نظر عالم دين مسلم عادي أو رجل أعمال عربي أو صحفي إندونيسي إلى أنه يكره الغرب، فسوف يظنك قد أصبت بلوثة. ربما يعترف بوجود قلة من المتطرفين لا علاقة له بهم يكرهون الغرب، لكنه هو نفسه ربما يرفض في الغرب هذا الأمر أو ذاك؛ ربما يخاف من التفوق العسكري للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الكراهية سيرفض تمامًا وبكل تأكيد نسبها إليه.

هل سيكون الوضع مختلفًا في الغرب؟ لا يوجد مسيحي عاقل ولا مثقف وربما ولا حتى متطرف يميني سيدَّعي على نفسه كراهية الإسلام. الكراهية في داخل المعسكر الذي ينتمي إليه المرء تُعد أساسًا ظاهرة الأقلية المتطرفة، وفي معسكر الآخرين ظاهرة الحشود. لو كانت الثقافات والمجتمعات مسالمة هكذا كما تظن بنفسها لما وجدت بالتأكيد حروب. ولكن بصرف النظر عن حملة الاستعمار هذه أو تلك في العصور القديمة — ربما يمكن هنا ذكر المغول — فإن المرء يبدأ الحروب أساسًا لكي يدافع عن نفسه. حتى الحملات الصليبية كانت تبعًا لأيديولوجيتها الخاصة حروبًا دفاعية أو بالأحرى حروبًا لاسترداد ما قد سُلِب، وكان انتشار الإسلام تبعًا لوجهة النظر الإسلامية عملًا دفاعيًّا حاسمًا تبرره دائمًا الأعمال العدائية التي يقوم بها الآخرون غير المسلمين. لا، بل ربما شعر المغول هم أيضًا بأنهم مهددون.

إن الدين الجديد للبرجوازية الصغيرة التي تمثل الطبقة المتوسطة في العالم، والتي تشبه معابدها «هايبر وان»، متنوع بما يكفي لتزويد عمود الإعلانات الذي يُضاء من الداخل بما يحتاجه من وحي مناسب، وأمام العمود يوجد رفان يمتلئان بما يشرح القلب من ثقافة البلد، مما يهدف إلى خلاص الأفراد الذين يخاطبهم بصيغة «أنت». والسياسة هي الشيطان الذي يعبث بالعلاقات الاجتماعية. في مصر لا يزال عمرو خالد النجم بين الدعاة، وهو ابن الواحد والأربعين عامًا، وخريج كلية التجارة، وعادةً ما يرتدي قميصًا أبيض وربطة عنق دون جاكت، وله شارب مهذب. وهو دائمًا مبتسم في الصور التي تغطي جميع كتبه وكأنها شعار. أضع في عربة التسوق أقل كتبه سعرًا، ثلاثة جنيهات وخمس وسبعون قرشًا، أي ما يقارب الخمسين سنتًا، وهو كتاب عن التفكير بوصفه عبادة، يشرح الكتاب لي، أي للقارئ، في خمس وسبعين صفحة قصة الخلق منذ بدايتها. تُعد قضية النشوء والتطور أبسط فيما يخص الدين الإسلامي لأن القرآن تجنب الخوض في التفاصيل عندما قال في السورة رقم ٩٦ (العلق) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ مما يفتح الباب حتى أمام نظرية الانفجار الأول.

معظم الكتب الأخرى لعمرو خالد تهدف إلى تنمية الشخصية سواء «شخصية المؤمن» أو «الصبر والذوق». وبينما تعرض طاولات الكتب الأخرى في مصر كل جندي أمريكي على أنه محارب صليبي، وكل مهاجر غير شرعي يغرق أمام سواحل جبل طارق على أنه شهيد إسلامي، نجد أن صراع الثقافات سلعة غير متوفرة في «هايبر وان»؛ لا شيء عن شر الغرب، ولا توجد قصص حوارية على غرار «هروبي من براثن مغتصب الأطفال» أو «ثماني مرات اغتصاب في برلين» أو «مضطهدة: قصة معاناة مسلمة أوروبية». بل على العكس من ذلك نجد إبرازًا لسماحة الإسلام: «حقيقة غزوات النبي». وأمام الرف الديني توجد الكتب العامة التي تقدم النصح والإرشاد: «الطريق إلى السعادة» أو «كيف تتغلب على منافسيك» أو «الاحتراف في المكتب»، والرف الذي وراءه تشغله مستلزمات الكمبيوتر، طابعة سامسونج ليزر بحوالي ٦٠ يورو، وعلى عمود الإعلانات بجوار المصاحف كتب الطبخ والتدبير المنزلي مثل «ستائر هيثر لوك» وهي أيضًا مثل الكتب السابقة مترجمة من الإنجليزية. في حين لا تجد في رف الأدب إلا كتبًا باللغة الإنجليزية للمؤلفين كين فوليت وجون جريشام ودونا ليون. وإذا بحثت عن كاتب مثل نجيب محفوظ، فإن بحثك سيضيع سُدى. في مقابل ذلك تعود «ألف ليلة وليلة» في نسخة والت ديزني إلى العالم العربي.

بينما كانت القرى السياحية التي كان يرتادها السائحون الغربيون قديمًا متشابهة، أصبحت اليوم أيضًا أماكن حياة المواطنين متشابهة. في «هايبر وان» أشتري نظرة في المستقبل. بصرف النظر عن بعض المنتجات المحلية مثل التمر، فإن المواد الغذائية ليست فقط هي نفسها، بل إن الماركات بدرجة كبيرة هي نفسها. المقهى ومحل الأحذية الإيطالي «فيارجيو» ومتاجر الهواتف النقالة ومحال البيتزا والآيس كريم، ومطاعم الوجبات السريعة الخمسة واستديو الأثاث وفيه أرائك ماركة «لين روزيه» وقبعات البيسبول والقمصان الصفراء التي يرتديها العاملون، والخزائن المميكنة (العمالة رخيصة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، لذا يوجد من يساعد في تعبئة المشتريات في الأكياس)، والبنوك تتجنب أيضًا أي علامات محلية، ولكن أثناء أزمة الرسوم الكاريكاتيرية وضعوا في الثلاجات مصاحف مكان الجبن «الفيتا». آهٍ لو تعلم أمريكا كم هي ناجحة وكم هي محبوبة، ربما قلَّ عدد الحروب التي تشعل فتيلها.

في مكان العروض الخاصة عند المدخل تباع أشجار عيد الميلاد البلاستيكية المزينة بالقطن الأبيض، فضلًا على زينة عيد الميلاد وسلاسل الزينة المضيئة. الغائب الوحيد عن المشهد هو «بابا نويل»، ربما لأنه بذقنه البيضاء شديد الشبه بالملالي في إيران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤