تَطَوُّرُ اللُّغَةِ فِي ألفَاظِهَا وأَسَالِيبِهَا (٣)١

انتقدتُ إكثارَ الأميرِ من المترادفات بدون مسوغ، فردَّ عليَّ ردًّا طويلًا استغرق أربعة عشر عمودًا من السياسة الغرَّاء دافع به عن مذهبه وحاول أن يثبت أنه أسلوب عربي، فرددت عليه بثلاثة أعمدة قلت فيها إن التكرار لا يكون إلا لنكتة كزيادة التوكيد، نحو: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ؛ ونحو: «إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليًّا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن.» وإن زيادة التوكيد هذه لا يقتضيها إلا المعاني التي يُراد بيان شدتها وعظم تأثر النفس بها، وإن المناشير إلى العامة يجب أن تكون بلُغَةٍ مفهومةٍ يتجنب فيها مثل قوله: «الشقص الأوفر»، وأن لا دخل للإطناب والإيجاز في إكثاره، وإنما الإكثار أن يضاعف معانيه ويتبسط فيها ما شاء وشاء المقام لا أن يضاعف ألفاظه على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.

وقد كنت أظن أنه لم يبق مجال للأخذ والرد، وإذا بالأمير يعود إلى الردِّ عليَّ بكلامٍ استغرق سبعةَ أعمدةٍ من السياسة الغرَّاء فقط! وإذا بنا لا نزال حيث كنا، كلامي في وادٍ وكلامه في وادٍ آخر. ومن العجب أن يلزمني كلامًا لم أقله؛ إِذْ قال: «تحرير القضية أنك أنت تنكر المترادف مطلقًا، وأنا أقول بل له مواضع»، وتحرير القضية أني قلت إن للإطناب — ومنه تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه — مواطن وشرائط نصَّ عليها البيانيون، وأن الأمير يكثر من المترادفات، اقتضاها المقام أم لم يقتضها، فأنت ترى أن الجدال أصبح عقيمًا.

ولكني قلتُ لِأجرِّدَ نفسي عن أن أكون المعنيَّ بردِّ الأمير، ولأجعل منها شخصًا ثالثًا، ولأنظر في ردِّه الأخير باعتبار أنه كلام الأمير لا باعتبار أنه ردٌّ عليَّ، وللأمير في أن يسعني بحلمه فيما أُعلِّقُه على كلامِه الرأي الموفق إن شاء الله.

إن الأمير — أعزَّه اللهُ — وإن تكلف الدفاع عن مذهبه في الكتابة جهد ما يستطيعه كاتب كبير مثله، لم يسعه إلا أن ينكب في ردِّه هذا الأخير عن مذهبه الذي أَلِفَهُ وأَلِفْنَاهُ منه؛ إذ لم يأتِ فيه بالمترادفاتِ يكيلها كيلًا اقتضاها الحال أم لم يقتضها، كما فعل في منشوره إلى الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها … إلخ، وكما فعل في ردِّه الأول. ولا شك أن تنكيبه عن مذهبه — الذي لم يدافع عنه هذا الدفاع الشديد على غير طائل إلا ليقال إنه لم يعجز عن الرد — اعتراف منه أنه مذهب بالٍ وأنه ليس طبيعيًّا ولا عربيًّا ولا يستمرئه ذوق هذا العصر. ولا شك أن أصحاب المذهب الجديد يرحبون بل يعتزون به، وأنا الضمين لهم ألا تحدثه نفسه بالعودة إليه، فلن يقول بعد اليوم كما قال قبله بدون مسوغ: «إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية نشأت مع الأمم وبدأت مع الأقوام مُذ الكيان ومنذ الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان»، وكما قال: «الشقص الأوفر والحظ الأكمل»، وكما قال: «إذا أراد الكاتب أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة»، وكما قال: «للُّغة الإفرنسية أسلوبٌ خاص ونمطٌ قائم بها» إلى غير ذلك … ولا أخال الأمير إلا معترفًا لي في قلبه أني قد كسبته — ولا أقول غلبته — وحسبي ذلك فخرًا.

إن الأمير — أعزَّهُ اللهُ — اعتمد في ردِّه الأول على قواعد اقتبسها من صبح الأعشى، وعلى شواهد اقتبسها من أقوال بعض القدماء على ذِمة راويها، فلم تُغْنِهِ في الدفاع عن مذهبه شيئًا، وأمَّا في ردِّه الثاني فقد جعل يستشهد بكُتَّابِ العصر، ولا شك أن هذا دليلٌ آخر على أنه تجدد.

إن الأمير — أعزَّهُ اللهُ — كان في ردِّه الأول على عِلْمِهِ وفضلِهِ مُتأبهًا شديدًا لا يقيم لأحدٍ وزنًا، وقد غضب لأن يقوم واحدٌ مثلي فينتقده، وأمَّا اليوم فقد ضاق ذرعًا وجعل يتظلم ويستنجد القراء ويستنهض هِمَمَهُم وينشدهم الله ويرجوهم، وإليك الدليل على ذلك من كلامِه، قال: «والله قد أعيتني الحيلة، ماذا أصنع لأقنع مناظري بالعدول عن هذا المراء» وقال: «وأنا مع عجزي واعترافي بأنني لا أصلح أن أكون من تلاميذهم» أي من تلاميذ الفصحاء والبلغاء القدماء الذين استشهد بقولهم، وقال: «هل هذا مبلغك من الإنصاف أيها الأديب»، وقال: «نشدت الله كل قارئ منصف»، وقال: «أنا أعرض هذه الجمل على كلِّ مَن شمَّ رائحةَ العربيةِ وأرجو منه أن يخبرني»، وقال: «أستنجد القرَّاءَ الكرام، أستنهض هممهم، بالله عليك أيها القارئ الكريم» … إلى غير ذلك؛ بل قد تواضع كثيرًا فذكر اسم مناظره ووصفه بالأديب والأستاذ، وإن لم يخلُ ردُّه من غمزات؛ كقوله: «صاحبنا أصبح صاحب مذهب، ولا غرو؛ فلكل زمان أبطال ولكل دولة رجال.»

لست يا سيدي الأمير صاحب هذا المذهب الجديد في الكتابة ولكنني من دعاته، فإذا كان لك شيءٌ فدونك المذهب ففنده ولا شأن لك مع أصحابه ودعاته، إلا إذا كنت أرستقراطي المذهب في الكتابة كما أنك أرستقراطي المذهب في الاجتماع، فلا يجوز في عرفك أن يكون الكتاب من غير الأمراء؛ وكقوله: «فاربع على ظلعك، ولا تركب في غير سرجك»، وكأنه أحس بشدَّةِ هذه الغمزة — وإنه لإحساس عالٍ أشكره عليه كثيرًا — فاستدرك وقال: «فلسنا وإياك من تلك الطبقة»؛ وكقوله: «والله ما غضبت لنفسي مثلما غضبت لأساطين اللُّغَةِ وسلاطين البلاغة أن يقوم اليوم واحد مثلي أو أعجز مني فيقول إن بلاغتهم صارت قديمة بالية»، ولا شك أنه يعنيني بقوله: «أعجز مني»، إني لأعجز كاتب أيها الأمير، أما وقد تشرفت أن أكون مناظرك فإذا نسبت إليَّ العجزَ في معرض الدفاع عن نفسك لا عن أساطين اللُّغَةِ وسلاطين البلاغة فتلك كلمةٌ أنت أدرى بما يُفهم منها في هذا المقام … ثم ألا يجوز أن يقال إنك لم تعظم من شأن القدماء فقلت إنهم أساطين اللُّغَةِ وسلاطين البلاغة إلا تعظيمًا لشأنك؛ لأنك تكتب كما يكتبون، فكأنك قلت عن نفسك إنك من أساطين اللُّغَةِ وسلاطين البلاغة، وليس قولك في آخر العبارة: «أن يقوم واحدٌ مثلي أو أعجزُ مني فينتقدهم» إلا من قبيل التمدح في معرض التواضع؛ لأنك لم تنتقدهم، ولقد ذكرني تمدحك هذا في معرض التواضع بذلك الرجل الذي سُئِلَ: مَن كان في مجلس كذا؟ فقال: كان الأميرُ فلان والوزير فلان والكبير فلان والعبد الفقير، يعني نفسه على سبيل التواضع؛ وكقوله: «أدباء آخر زمان» كأنه يعني أنه خاتمة الأدباء فلا يجوز أن يتجرأ أحدٌ بعده أن يمسك قلمًا. على أنه قد يفهم من ذكر اسمي بعد أن قال: «أنا استشهدت في ردِّي السابق بكلامِ الرسولِ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبي عبيدة … إلى أربعةَ عشرَ اسمًا» وقد جاء بهم قبسة عجلان أنه لم يذكره لا ليُغري الكُتَّاب والقرَّاء وليعرفوا على من يصبون نقمتهم، فكأنه قال لهم هذا هو الذي يتنقص فضل السلف الصالح فارجموه.

يقول الأمير — أعزَّهُ اللهُ: «إذا كان لهؤلاء مذهب — أي للجاحظ وعلي بن أبي طالب، فاستعمل «هؤلاء» للمثنى — فلست أنت الذي يأتي بنقيضه.» إذن يجوز أن ينقض ولكن على يد أميرٍ مثله لا على يد صعلوك مثلي. ثم ما باله يصرف النقد عنه إلى الجاحظ وعلي بن أبي طالب وغيرهما؟ أنا لم أتعرض لأحدٍ من هؤلاء، أم لعله يريد أن يحتمي بهم كما احتمى بأديبين من أدباء العصر.

مع إقلاع الأمير عن مذهبه كما ترى من مقابلة ردِّه الأخير بمنشوره إلى العامة وردِّه السابق، ومع تواضعه في انتحال المذهب الجديد لم يسعه في ردِّه عليَّ إلا أن يظهر بمظهر المحافظين، فقال: «إن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كلِّ عصرٍ واحدةٍ، وإن الذي قرَّره علماءُ الأدبِ هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية، الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد. إذا كان هذا مذهبك أيها الأمير — ولا أخال أحدًا يقرك عليه — فقد انقطع الجدال وكفى الله المؤمنين القتال، وصار يحق لي الآن أن أقول: «لك مذهبك ولي مذهبي»، وإنهما لمختلفان جدًّا، ومن المستحيل أن أقنعك، ومن المستحيل أن تقنعني، وما أحراني أن أقف هنا وأترك بقية تعليقاتي على ردِّك.

١  الرد الثاني على الأمير، نشر في جريدة السياسة الغراء في العدد ٣٦٩ بتاريخ ٣ يناير سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤