النحو١

نَقَلَ الشَّيخُ بدرُ الدين الزركشيُّ في قواعِدِه عن بعضِ المشايخِ أنَّه كان يقول: العلومُ ثلاثةٌ: «علمٌ نَضَجَ وَمَا احتَرَقَ، وهُو عِلْمُ الأصُول والنَّحْوِ، وعِلْمٌ لا نَضَجَ ولا احتَرَقَ، وهُو عِلْمُ البَيَانِ والتَّفْسِيْرِ، وعِلْمٌ نَضَجَ واحتَرَقَ، وهُو عِلْمُ الفِقْهِ والحَدِيثِ.» فعِلْمُ النحو هو من العلوم التي نضجت وما احترقت، فإذا استقريت كلام العرب فلا تجد أداةً أو حرفًا أو حالةً من حالات الكلمة في الجملة إلا استنبط لها النحاةُ حُكمًا ترجع إليه، فإذا كان الاسم مرفوعًا أو منصوبًا أو مخفوضًا مثلًا فلا يخرج عن حُكم المرفوعات أو المنصوبات أو المخفوضات التي نصُّوا عليها.

وما هو النحو؟ هو فَنُّ الإعرابِ والبناءِ، قال القدماءُ: «النَّحْوُ فِي الاصْطِلَاحِ هُو العِلْمُ المُسْتَخْرَجُ بِالمَقَايِيسِ المُسْتَنْبَطَةِ مِن اسْتِقْرَاءِ كَلَامِ العَرَبِ المُوصلَة إلى معرفةِ أَحْكَامِ أَجْزَائِهِ التِي ائتَلَفَ مِنْهَا.»

وقال المتأخرون: «هُو عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيْهِ عَن أَحْوَالِ أَوَاخِرِ الكَلِمِ إِعْرَابًا وَبِنَاءً.»

وما هي فائدته؟ قال النحاةُ: إن فائدته التحرز من الخطأ، وقال ابن الوردي:

جمل المنطق بالنحو فمن
يحرم الإعراب بالنطق اختبل

أي إن فائدته ليست في نفسه؛ بل في تجميل المنطق والتحرز من الخطأ، وبعبارة أخرى في إقامة الملكة العربية. ولكنهم تدرجوا فيه من العناية به إلى الإخصاء فيه إلى اعتباره غَايةً يُطْلَب لِنَفْسِهِ، فخَصَّصُوا له مَدَارس لا يُعَلَّم فِيهَا غَيْرُهُ، منها المدرسة النحوية في جوار المسجد الأقصى في القدس؛ بل كان هو الغاية من كلِّ دُرُوسِ اللُّغَةِ والأدبِ، وما من كِتابٍ أو شعرٍ أو قَولٍ أو مَثَلٍ أو حديثٍ شرحوه إلا عنُوا بإعرابه وتطبيقه على قوانين النحو؛ بل ما من كتابٍ في اللُّغَةِ أو الشعرِ أو الأدبِ أو الأخبارِ أو التفسيرِ أو غير ذلك حتى مِمَّا لا علاقة له باللغةِ إلا وفيه نحو؛ بل قد تجد من دقائق النحو في غير كُتب النحوِ ما لا تجده في أُمَّهَاتِ كتبه. وما من عِلْمٍ شاعت اصطلاحاتُه وأمثالُه ولُغَتُه على ألسنةِ الناس حتى الأُمِّيين منهم مِثل عِلْمِ النحوِ، من ذلك أنهم إذا أرادوا أن يقولوا: «ليس إلى هذا الشيء حاجة» قالوا: «لا محل له من الإعراب»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «فات الشيءُ» قالوا: «أصبح في خبر كان»، وإذا أرادوا أن يقولوا: «وغير ذلك»، قالوا: «وهلم جرًّا» أو «وقِسْ عليه ما ورد».

وقوانين النحو كانت في أصلها قليلة على قدر ما دعت إليه الحاجة لأول عهد الملكة بالفساد، ثم توسعوا في الاستنباط إلى ما تقتضيه الصناعة لا الحاجة، ثم خرجوا بها إلى مماحكات لا طائل تحتها، مما أوشك به عِلْمُ النحو بعد نُضجِه أن يحترق.

إذن كان النحو آلة فأصبح غاية، وكانت قوانينه على قدر ما تقتضيه الحاجة فتوسعوا فيها إلى ما لا تقتضيه، وقد كان الغرض منه على اعتباره آلة، وعلى الوقوف به عند حدِّ الحاجة — إقامة الملكة كما تقدم، وكان ذلك لأن اللُّغَةَ بملكتها تبقى ببقائها وتفسد بفسادها وتذهب بذهابها، ولا يغني اللُّغَة إذا ذهبت ملكتها أن يكون لها ألفاظ ومعاجم ألفاظ؛ فإن الألفاظ تقل وتكثر وتتطور، يندثر منها ما يندثر، ويتولد فيها ما تقتضيه الحاجة ويتحول عن معناه منها ما يتحول، فإذا بقيت الملكة فاللُّغةُ باقية قلت ألفاظها أم كثرت، وتحولت عن معانيها أم لم تتحول. ألا ترى أنَّ مَلَكَةَ الطِّفْلِ فِي اللُّغَةِ العَاميةِ مِثل مَلَكَةِ الرَّجُلِ فِيها على اختلافٍ في مِقدَار ألفاظهما؟! ولما كان العرب حريصين على مَلَكَتِهِم — وحقهم أن يكونوا حريصين عليها — استنبطوا قوانينها ومقاييسها ووضعوا حدودَها إلى ما لم يجارهم فيه أحدٌ، حتى إذا تَحيَّفَتها الركاكةُ وطغتْ عليها العجمةُ توصلوا بتلك القوانين إلى إصلاح ما فسد منها وإرجاعها إلى أصلها.

ولكن ما هو أثر هذه القوانين في تلك المَلَكَةِ؟ هذا ما يجب أن نستدعي الانتباه إليه.

قال ابن خلدون: «إن العِلم بقواعدِ الإعْرَابِ إنَّمَا هُو عِلْمٌ بكيفيةِ العملِ وليس هُو نَفْسُ العَمَلِ؛ ولذلك نجد كثيرًا مِن جَهَابِذَةِ النحاةِ والمهرةِ فِي صِنَاعةِ العربيةِ المُحِيطِين بِتِلك القوانين إِذَا سُئِلَ فِي كِتَابَةِ سَطرين إِلى أخِيهِ أو ذِي مَوَدَّتِهِ، أو شَكْوَى ظلامة، أو قَصْدٍ مِن قُصُودِه، أخطأ فيها عن الصَّوَابِ، وأَكثرَ مِن اللَّحْنِ، ولمْ يَجِد تأليفَ الكلامِ لِذَلك والعبارة عن المقصود على أساليبِ اللِّسَانِ العربي. وَكذا نَجِدُ مَن يُحْسِنُ هَذه المَلَكَةَ وَيُجِيدُ الفنَّينِ في المنظوم والمنثور وهو لا يُحسن إِعرابَ الفَاعِلِ مِن المَفعُولِ، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئًا من قوانين صِنَاعَةِ العربيةِ، فَمِنْ هَذا تَعْلَم أنَّ تِلك المَلَكَة هِي غير صِناعةِ العربيةِ، وأنها مستغنيةٌ عنها بالجملةِ. وقد تجد بعضَ المهرةِ في صِناعةِ الإعرابِ بصيرًا بحالِ هذه المَلَكَةِ وهو قليلٌ واتفاقي.»

هذا ما قاله ابن خلدون، فالأنواع ثلاثة: مَن يُحسِن المَلَكَةِ ولا يُحسِن الصِّناعة، ومَن يُحسِن الصِّناعة ولا يُحسِن المَلَكَة، ومَن يُحسِن المَلَكَة والصِّناعة مَعًا. وفي الحقيقة أن النوع الثالث — على كونه قليلًا واتفاقيًّا — هو من النوع الأول في إحسان المَلَكَةِ، ومن النوع الثاني في إحسان الصِّناعةِ، لا نوع قائم بنفسه ولا أثر لإحسانه الواحدة في إحسانه الأخرى، وإلا فلماذا لا يُحسِن المَلَكَةَ مَن يُحْسِن الصِّناعة؟! ولا يُحسِن الصِّناعةَ مَن يُحسِن المَلَكَةَ؟! وقد بيَّن ابنُ خلدون سببَ إحسان القليلين المَلَكَةَ والصِّناعة معًا بقوله:

أكثر ما يقع ذلك للمخالطين لكتاب سيبويه، فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط؛ بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعلم هذه المَلَكَة، فتجد العاكفَ عليه والمُحصِّلَ له قد حصل على حظٍّ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعلمها فكان أبلغ في الإفادة.

أي إنَّه تعلم المَلَكَةَ على حدة من مخالطته لما جاء في الكتاب من كلامِ العربِ، وتعلم الصِّناعةَ على حِدةٍ ممَّا جاء في الكتاب من قوانين الإعراب، فلو خلا الكتاب من قوانين الإعراب لما أثَّر ذلك على المَلَكَةِ شيئًا، فالمَلَكَةُ إذن مستغنية عن الصِّناعة، ولا أثر للصناعة فيها.

•••

إن العناية بقوانين اللُّغَةِ مَذهبٌ قديمٌ جدًّا، أخذه المتأخرون عن المتقدمين على سبيل التقليد أو العدوى، فالعربُ حين خالطوا السريان في العراق اطَّلعوا على آدابهم، وفي جملتها النحو، فأعجبهم فنسجوا على منواله، يؤيد ذلك أن العرب بدءوا بوضع عِلم النحو وهم في العراق بين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية مثلها في السريانية، كما قال زيدان. والإفرنج نسجوا على منوال اللغتين اللاتينية واليونانية، واقتبسوا اصطلاحاتهما، فهي لا تزال غريبة عن لُغاتهم إلى اليوم، ولا يفهمها تلميذُهم إلا إذا تُرجمت إلى لُغتِه؛ بل لا يزال في أحكام اللُّغات الإفرنجية الحديثة ما لا ينطبق عليها؛ مثل حالات الاسم بين أن يكون مُسندًا إليه Nominative أو مُضافًا إليه possessive أو مجرورًا Dative أو مفعولًا به objective أو مُنادى Vocative، ولا علامات إعرابية لتلك الحالات عندهم إلا في الإضافة، ولا يتغير في بعض هذه الحالات إلا الضمير. ومن العجب أنهم يسمون الحالة الأولى في الإنكليزية رفعًا Upright … خفضًا Falling حسب اصطلاح العرب؛ بل إن مُصيبة الإفرنج أعظم؛ فإن الأديب عندهم لا يعول على أدبه إلا إذا درس مع لغته اللغتين اللاتينية واليونانية، يتعلم ثلاث لغات ليكون أديبًا في واحدة.

•••

قلنا إن العرب نسجوا على منوال السريان، وقد مرَّ عليهم بعد وضع عِلم النحو دوران: في الدور الأول جمعوا بين القوانين والشواهد من كلام العرب، وعلى هذا الأسلوب جرى سيبويه في كتابه كما رأيت. وكان هذا أسلوبُ أهلِ الأندلس، قال ابن خلدون: «وأهل صِناعةِ العربيةِ بالأندلس ومُعلِّمُوها أقربُ إلى تحصيل هذه المَلَكَةِ وتعليمها مِن سواهم؛ لقيامهم فيها على شواهدِ العربِ وأمثالِهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثيرٌ من المَلَكَةِ أثناء التعلُّمِ فتنقطع النفسُ لها وتستعدُ إلى تحصيلها وقبولها»، وقد كان هذا أسلوبَ أهلِ الشرقِ أيضًا لعهدِ الدولةِ الأُمَويَّةِ والعباسيةِ كما قال ابنُ خلدون في موضع آخر.

فالذين يتفقهون في كلام العرب في هذا الدور أحسنوا المَلَكَةَ، والذين انصرفوا إلى القوانين أحسنوا الصِّناعةَ، والذين عُنُوا بالأمرين أحسنوا المَلَكَةَ والصِّنَاعةَ معًا.

وفي الدور الثاني اقتصروا على القوانين وجرَّدوا كتبَهُم مِن أشعارِ العربِ وكلامِهِم، وهُو أسلوبُ أهلِ المغرب وإفريقية وغيرهم. قال ابنُ خلدون: «أمَّا مَن سواهم — أي سوى أهل الأندلس — من أهلِ المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثًا، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب — إلا إن أعربوا شاهدًا أو رجحوا مذهبًا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللِّسان وتراكيبه — فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان ومَلَكَتِهِ، وما ذلك إلا لِعُدُولهم عن البحث في شواهد اللِّسان وتراكيبه، وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده المَلَكَةُ في اللِّسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قُصِدَ بها، وأصاروها عِلمًا بحتًا، وبعدوا عن ثمرتها.»

وعن أهل المغرب وإفريقية أخذنا هذا الأسلوب الذي نتبعه اليوم فتعلقنا بالصِّناعة وأهملنا المَلَكَةَ.

•••

ما كان أغنى المتأخرين من عَربٍ وإفرنج عن تقليد المتقدمين من سريان وكلدان ولاتين ويونان في التعلق بهذه القوانين على غير حاجة، وما كان أحراهم إذا أرادوا إقامة مَلَكَاتِهم أن يُفتِّشوا عن أسلوبٍ آخر؛ بل ما كان أحرانا في هذا العصر إذا لم يكن بُدٌّ من النسج على منوال المتقدمين أن نأخذ الأسلوب الأندلسي على الأقل لا الأسلوب المغربي، ثم بدلًا من أنْ نُجرِّده من أشعارِ العربِ وأمثالهِم وشواهدِ كلامِهم ونقتصر فيه على قوانين الإعراب كما فعل أهلُ المغرب، فنحصل على عِلم اللِّسان صِناعةً، نجري فيه على عكس ذلك أي نجرِّده من القوانين ونقتصر على الشواهد فنحصل على عِلْمِ اللِّسانِ مَلَكَةً … وهذا هو الأسلوب الذي أشار به ابنُ خلدون فيلسوف العرب وأستاذهم الأكبر في مواطن كثيرة من مقدمته، وإليك ما قاله في بعض تلك المواطن:

إنَّ اللُّغاتَ لمَّا كانت مَلَكَات كان تعلمها مُمكنًا شأن سائر المَلَكَات، ووجه التعلم لمَن يبتغي هذه المَلَكَة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضًا في سائر فنونهم، حتى يتنزل — لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور — منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عمَّا في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحل له المَلَكَةُ بهذا الحفظِ والاستعمالِ، ويزداد بكثرتهما رسوخًا وقوة، ويحتاج مع ذلك إلى سلامةِ الطبعِ والتَّفَهُّمِ الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينهما وبين مقتضيات الأحوال، والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه المَلَكَةِ والطبعِ السليم فيهما، وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظمًا ونثرًا، ومَن حَصَلَ على هذه المَلَكَاتِ فقد حَصَلَ على لُغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها.

وقال في موضع آخر:

تعلم مِمَّا قررناه في هذا الباب أن حصول مَلَكَةِ اللِّسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خيالِه المنوالُ الذي نسجوا عليه تراكيبَهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ بينهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له المَلَكَةُ المستقرةُ في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم.

هذا رأي ابن خلدون، وبذلك تكون الأساليب ثلاثة: الأسلوب الأندلسي، والأسلوب المغربي، والأسلوب الخلدوني، وغرضنا في هذا المقال الدعوة إلى الأسلوب الخلدوني.

•••

إذا كان غرضنا إقامة المَلَكَةِ بعد أن فسدت؛ بل إحياءها بعد أن فُقدت، فأحسن الطرق وأقربها أن نخاطب المبتدئين باللُّغة الصحيحة رأسًا، وأن نحرص على أن نجعلهم لا يقرءون من الكتب ولا يحفظون من كلام السلف والمولدين إلا ما كانت مَلَكَتُه صحيحة لا تتنازعها ركاكة أو عجمة، وأن نمرنهم كثيرًا على الكتابة، وأن نقوِّم ما انآد من عباراتهم في القراءة والكتابة والكلام قياسًا على كلام العرب لا على قوانين اللُّغةِ، فنقول: «قال الرجلُ» بالضم قياسًا على «قال النبيُّ»، و«قال الأحنفُ»، و«قال المهلبُ». ونقول: «النهارُ جميلٌ» برفع الاثنين قياسًا على قولهم: «العلمُ زينٌ»، و«الصدقُ عزٌّ والكذبُ خضوعٌ»، و«الخيرُ عادةٌ والشرُّ لجاجةٌ»، وإذا أخطأ أحدُهم أرشدناه أو قلنا لرفاقه: «أرشدوا أخاكم فقد ضلَّ» … وعلى الجملة أن نعلمهم اللُّغَةَ كما يتعلم الطفلُ لُغةِ أُمِّه فهو يسمعها، ثم يَألفها، ثم يفهمها، ثم يتكلمها بدون أن تعلِّمه أُمُّه قوانين اللُّغة، وبدون أن تفسر له ألفاظها أو تترجمها. قد يخل بالأسلوب في أول أمره، كما قد يُسيء التلفظ ببعض حروفه، ولكنه لا يلبث أن يهتدي إلى الصواب بحكم التقليد وبضرورة أن يكون مفهومًا؛ بل كما يتعلم الطفلُ ابتسامات أُمِّه وحركاتها وإشاراتها، وكما يتعلم أن يلبس وأن يمشي وأن يغني، إلى غير ذلك مما يأخذه بالتقليد والتمرن، وهي نفس الطريقة التي بها يتعلم كلُّ أجنبيٍّ لُغةِ أُمِّه، فهو يُحسن مَلَكَتَها قبل أن يعرف شيئًا من أحكامها.

وفي اللغات الأجنبية ما هو أصعب من اللُّغَةِ العربية كثيرًا؛ مثل اللُّغَةِ الروسية والألمانية؛ فإن فيها من التصاريف وتعدد الحالات على الاسم والشذوذ ما لا يذكر بجانبه ما في اللُّغَةِ العربية منه.

وإذا تعلم الأجنبيُّ قوانين لُغتِه فليس عن حاجة إليها، ولا لإحسان مَلَكَته، ولكنه إنما يتعلمها تبعًا للعادة، أو لما قد يكون في درس هذه القوانين من ترويض للعقل؛ ولذلك سُمي النحو في اللُّغاتِ الإفرنجية منطق اللُّغَةِ أو إقليدس اللُّغة. وقد رأيت أن ابنَ خلدون قال في كلامه عن الأسلوب المغربي الذي مرَّ ذكره: «إن صناعة العربية أصبحت من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل» ولكن رياضة العقل فيما لا تدعو إليه حاجةٌ إسرافٌ في غير محله. وكم نجد في اللغات الأجنبية من كِبَارِ الكُتَّابِ والشعراءِ والخطباءِ مَن لم يتعلموا شيئًا من قوانين لُغاتهم، وهي نفس الطريقة التي كان العرب يأخذون بها لُغتهم قبل وضع عِلم النحو، فكم نبغ في الأمة العربية في ذلك العهد من الشعراءِ والخطباءِ، وبينهم مَن لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل: المتلمس، والفرزدق، وذي الرُّمَّة وغيرهم، وهم هم الذين من أقوالهم استخرج النحاةُ أحكامَ النحو، وبأقوالهم لا يزالون يحتجون.

وعلى هذه الطريقة جرى كثيرون بعد وضع عِلم النحو من قديم الزَّمان إلى اليوم وبينهم مَن لم يكونوا في أول نشأتهم من أهلِ العِلمِ والأدبِ؛ بل كانوا يتعاطون أعمالًا يدوية مثل سري الرفاء، الذي نبغ في الشعر على عهد سيف الدولة وهو يرفو ويطرز في دكانه. ومِن الذين جروا على هذه الطريقة في عصرنا هذا الذي كدنا نصبح فيه غرباء عن اللُّغَةِ العربية محمود سامي البارودي، الذي قيل فيه إنه متنبي عصره، فقد كان من أولئك الذين تعلموا على الأسلوب الخلدوني، أي تعلم اللُّغَةَ مِن اللُّغَةِ نفسها، فكان إذا وقع الاسم في كلامه بعد «أن» أو إحدى أخواتها نصبه قياسًا على نظائره من أقوال غيره من الشعراء المتقدمين لا على أحكام «أن» وأخواتها، ومثله كثيرون؛ بل لعل أكثر الذين يحسنون المَلَكَةَ مِن كُتَّابِنا وأُدبَائِنا لا يُحسنون الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور.

وقد لُوحظ أن الذين يشتغلون بتمثيل الروايات الموضوعة باللُّغةِ العربية الصحيحة قد أصبح الإعراب فيهم مَلَكَةً مع أن أكثرهم أُمِّيُّون، فكيف اكتسب كل هؤلاء ملكة اللغة؟! اكتسبوها بالتقليد والبداهة والحفظ والاستعمال. وإذا عرف الذين نبغوا بعد وضع عِلم النحو قوانين اللُّغَة وراعوها في الاستعمال فلأنهم استخرجوها من اللُّغَةِ بالاستقراء فهم تعلموا الصِّناعةَ من المَلَكَةِ لا المَلَكَة من الصِّناعةِ، وهذه الأحكام التي استخرجوها بالاستقراء لم يكن لها أقل علاقة بإجادتهم في الفنين من المنظوم والمنثور؛ بل إن الذين درسوا النحو في مطولاته إذا قرءوا أو كتبوا أو تكلموا راعوا في ذلك وحي السليقة لا أحكام النحو على حدِّ قول الشاعر:

ولست بنحوي يلوك لسانه
ولكن سليقي أقول فأعرب

إذا رأينا أبناءنا يعجزون عن اكتساب ملكة اللُّغَة قراءةً وكتابةً وتكلمًا، فليس ذلك ناشئًا عن جهلهم قوانين اللغة، ولا عن صعوبة اللُّغَة العربية، ولا عن عجز الأساتذة عن تدريسها؛ وإنما السر في ذلك أن اللُّغَة في أكثر مدارسنا ليست اللُّغَة الحية. فسدت الملكة العربية يوم خالطنا الأعاجم فما قولك الآن وقد حلت اللغات الأجنبية محل لُغتنا في بيوتنا ومدارسنا وتعاملنا؟! يدخل أبناؤنا إلى المدارس الأجنبية فلا يلبثون أن يعرفوا اللُّغات الأجنبية أكثر ممَّا يعرفون لُغتهم، فيحسب الوالدون ورؤساء المدارس أن ذلك ناشئ عن صعوبة اللُّغَة العربية وسهولة اللغات الأخرى، ولو تدبرنا الأمر لرأينا أن أبناءنا إنما يتقنون اللُّغات الأجنبية على صعوبة أكثرها بالقياس إلى لُغتنا، وعلى جهل أكثر أساتذتها بأساليب تدريسها؛ لأنهم يسمعونها ويستعملونها دائمًا، فهم يدرسونها في الحساب والجغرافيا والتاريخ والموسيقى والرسم واللعب وسائر الفروع، فضلًا عن دروس اللُّغَةِ من قراءة واستظهار وإنشاء ومحادثة وإملاء وخط، ويتكلمون بها في غُرفِ التدريس وفي ساحات اللعب، وفي دخولهم وخروجهم، فلا عجب إذا انطبعت على ألسنتهم واستسهلوا فيها كلَّ صعبٍ. والأمر بالعكس في لُغتهم فهم لا يستعملونها إلا قراءةً، وإذا تكلموا في المدرسة أو خارجها، فبلُغة أخرى، إما بلُغة أجنبية وإما باللُّغة المحكيةِ العاميةِ، فما أشبه لُغتنا — والحالة هذه — باللُّغتين اللاتينية واليونانية القديمة اللتين تدرسان لا لتستعملا في التخاطب والتعامل مثل سائر اللُّغات الحيَّةِ، ولكن لفهم أدبياتهما القديمة؛ بل ما أشبهها باللُغات الميتة التي يدرسها البعض لأغراض فيلولوجية أو تاريخية.

•••

لا تحيا لُغتنا إلا إذا كانت لُغة التعليم، إلا إذا استعملناها تكلمًا وقراءةً وكتابةً، ولا بأس هنا من التفصيل ولو باختصار تتمةً للفائدة.

أمَّا التكلم فيجب على الأستاذ أن لا يخاطب تلاميذه إلا باللُّغة الصحيحة وأن لا يستعمل اللُّغَةَ المحكية في حال، وإلا انطبعت هذه اللُّغَةُ المحكيةُ العاميةُ التي يُخاطبهم بها على ألسنتهم أكثر من اللُّغَةِ الصحيحةِ التي يُحاول أن يُعلِّمَهم إياها. وإذا كانت أحسن الطرق لاكتساب مَلَكَةِ اللُّغَةِ هي مُشافهة أهلها ومعايشتهم، وإذا لم يكن هذا العصر عصر فصاحة، فلا بُدَّ أن يمثل الأستاذُ بنفسه الأمة العربية في عهد فصاحتها؛ ولذلك يجب أن يكون الأستاذ مُهذبَ اللفظِ، جميلَ الذوقِ، بصيرًا بحال الملكة؛ لأن التلميذ يتعلم من لُغة أستاذه أكثر مِمَّا يتعلم من شواهد كلام العرب. وليس شيء أضر باللُّغة وأدعى بفساد المَلَكَةِ من الأستاذ العييِّ الذي يُعلِّم قوانينَ اللُّغَةِ وأصول الفصاحة والبلاغة وهو عامي اللفظ يرمي الكلام على عواهنه. ما أشبه أستاذ اللُّغَةِ العربية الذي يُعَلِّم اللُّغَةَ الصحيحة ولا يتكلم إلا بالعامية بمَن يُعلِّم اللُّغَةَ الإنكليزية وهو يخاطب تلاميذه بالإفرنسية أو غيرها، وما أحراه أن يفشل. إذا أردت أن تكلف تلميذك القيام أو القعود أو القراءة أو الكتابة فقل له: قم، اقعد، افتح الكتاب، اقرأ السطر الأول، اكتب، امح اللوح، أمسك القلم، فيتعلم الأمر من قام وقعد وقرأ وكتب ومحا وأمسك، ويتعلم أن ينصب المفعول به في: «افتح الكتاب» و«اقرأ السطر» و«امح اللوح» و«أمسك القلم»، من فوره وبدون عناء، ويقيس أمثالها عليها، ولا يفيده شيئًا أن يعرف قاعدة بناء الأمر من الصحيح والمضاعف والمثال والأجوف والناقص واللفيف المفروق واللفيف المقرون والمهموز من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي، ولا يفيده شيئًا أن يعرف أحكام المفعول به بحذافيرها، وإنما يفيده أن يسمع غيره يستعمل اللُّغَةَ على الوجه الصحيح فيقلده، وكذلك يجب على الأستاذ أن يكلف تلاميذه ألا يتكلموا إلا باللُّغة الصحيحة وهم إذا سمعوها فألِفُوها ففهموها هان عليهم التكلم بها.

وأمَّا القراءة فهي من أهمِّ مصادر اللُّغة. أين توجد اللغة؟ اللُّغَةُ لا توجد في كُتب النحو ولا في معاجم اللُغة، وإنما توجد في أدبياتها، في أشعارها، في أمثالها، في كُتب تاريخ الأمة وأخبارها، في كُتب علومِها؛ كالحساب والجغرافيا وسائر الفروع، وما أجدر الأستاذ أن يتناول دروسَه في القراءة كل هذه الموضوعات لا أن يقتصر على موضوع واحد، ولِيَعلم أن المقصود من دروس القراءة ليس التمرين عليها؛ فإن هذا يكفيه الكتاب الأول في الفصول الابتدائية، وإنما الغرض من دروس القراءة التعرف باللُّغة والتفقه في تراكيبها وأساليبها ومخالطة عباراتها، ولكل ذلك أصول دقيقة ليس هذا محل التبسط فيها. ليُرَغِّبَ الأستاذُ تلاميذَه في المطالعة؛ ولذلك يجب أن يكون في كلِّ مدرسةٍ مكتبة صغيرة للتلاميذ تجمع فيها الكتب النقية العبارة، الصحيحة الأسلوب، المنزهة عن العجمة والركاكة والتعقيد. وليحذر أن يجعل في أيديهم تلك الكتب التي توخى فيها أصحابُها العنايةَ بالصِّناعة اللفظية فخرجوا باللُّغةِ عن حالتها الطبيعية، فقد آن للأمة العربية أن تخلص من هذا المرض، واحتفاظًا برغبة التلاميذ في المطالعة يجب عليه أن يُنوِّع الكتب ويُجددها من وقتٍ لآخر.

وأمَّا الكتابة فبعد أن يُمرِّن تلاميذه عليها في الفصول الابتدائية يجدر به أن ينشئ لهم جمعية يقدمون فيها الخطب والمناظرات، ويلقون فيها أجمل ما يستظهرون من القصائد على مثال الأسواق الأدبية التي كان العرب يجتمعون فيها للمفاخرة والمناشدة والمناضلة، كسوق عكاظ في الجاهلية، وسوق المربد في الإسلام، ثم لينشئ لهم جريدةً يتولون كتابتها بأنفسهم، ولكن ليحذر من أن يكثروا أبوابها، ومن أن يتقاضاهم أن يطيلوا في مقالاتهم، ومن أن يكتبوا في موضوعات لا يعرفون عنها شيئًا؛ فإن ذلك يرهقهم ويسئمهم وينفرهم من الكتابة.

•••

ومِمَّا لا بد منه استدعاء الانتباه إليه أن كل دروس اللُّغَةِ من قراءةٍ ومحادثةٍ وإنشاءٍ وإملاءٍ يجب أن تُمزج معًا، لا أن يُؤخذ كل منها على حدة. فكل درس يجب أن يقرأه التلميذ، وأن يفهمه، وأن يتكلمه، وأن يُمْلِيه، وأن يتمرن على الإنشاء فيه، فإذا كان درس القراءة القصة التالية:

كان صبي مرَّةً يصيد الجراد فوجد عقربًا فظنها جرادة، فمد يده ليأخذها، ثم تباعد عنها. فقالت له: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد.

فبعد أن يقرأها التلاميذ ويفهموها، ليكن السؤال والجواب على الوجه الآتي:

ماذا كان الصبي مرة يصيد؟ كان الصبي مرة يصيد الجراد.

ماذا وجد الصبي؟ وجد الصبي عقربًا.

ماذا ظنَّ الصبي العقرب؟ ظن الصبي العقرب جرادة.

لماذا مد الصبي يده؟ مد الصبي يده ليأخذها.

لماذا تباعد الصبي عن العقرب؟ تباعد الصبي عن العقرب؛ لأنه عرف أنها عقرب.

ماذا قالت له؟ قالت له العقرب: لو أنك قبضتني بيدك لتخليت عن صيد الجراد.

وبعد هذه المحادثة يكلفهم أن يحكوا القصة باللغة الصحيحة، ومن أخطأ أرشده وطلب منه أن يعيد العبارة، ثم يكلفهم أن يكتبوها كما حكوها؛ ففي ذلك تمرين على الإنشاء والإملاء معًا، ثم ليكلفهم أن يحولوها للمؤنث بأن يقولوا: كانت بنت مرَّةً تصيد الجراد … إلخ، ثم للمُتكلم بأن يقولوا: كُنت مرَّةً أصيد الجراد … إلخ، ثم ليكلفهم أن يكتب كل منهم خمس جمل على مثال: «وجد الصبيُّ عقربًا»، مثل: «وجد التلميذُ قلمًا»، «وجد سليمٌ ريشةً»، وخمس جمل على مثال: «لو أنك قبضتني لتخليت عن صيد الجراد»، مثل: «لو أنك أسرعت لأدركت القطار»، «لو أنك انتبهت لفهمت كلام الأستاذ»، وما استعصى عليهم تحصيله فليكثر من تمرينهم عليه، وليكثر من التكرار.

ويجب أن يكون في كل درس جديد بعض ما في الدرس الذي سبقه من ألفاظ وتراكيب؛ لتكون الدروس سلسلة يؤدي بعضها إلى بعض. ولما كان العدد في اللُّغَةِ العربية كثير التفاصيل، وقد قال فيه أحدُ أدباء العصر:

في النحو لا يقهرني
إلا تفاصيل العدد

فالأولى أن تعلم هذه التفاصيل ويُمرن التلاميذ عليها وعلى مميز «كم» الاستفهامية في دروس الحساب، كما قد يعلم غيرها ويمرن عليه في غيره. وإحياء اللُّغَة قراءةً وتكلمًا وكتابةً يحتمل كلامًا طويلًا، ولكن بهذا القدر كفاية.

هذا هو الأسلوب الذي ندعو إليه وللأساتذة الكرام في إيثاره الرأي الموفق إن شاء الله.

١  ألقيت هذة المحاضرة في جريدة السياسة الغراء في العدد ٦٠٥ بتاريخ ١٠ اكتوبر (ت١) سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤