الفصل السادس

(١) الصَّحْوَةُ الثَّانِيَةُ

وَلَمْ تَلْبَثِ «الشَّقْراءُ» أَنِ اسْتَسْلَمَتْ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ وَجَدَتْ نَفْسَها غَيْرَ ما كانَتْ بِالْأَمْسِ. لَقَدْ أَصْبَحَتْ خَلْقًا آخَرَ. فَقَدْ نَما جِسْمُها وَعَقْلُها نُمُوًّا عَجِيبًا، واتَّسَعَتْ آفاقُ تَفْكِيرِها، وأَلَمَّتْ بِطَرائِفَ مِنَ الْعُلومِ والْفُنُونِ، عَرَفَتْها — فِيما قَرَأَتْهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَلُقِّنَتْهُ مِنَ الدُّرُوسِ — وَهِيَ نائِمَةٌ.

وَلَمَّا اسْتَعادَتْ أَحْلامَها اللَّذِيذَةَ ذَكَرَتْ أَنَّها قَضَتْ وَقْتَ نَوْمِها كُلَّهُ فِي الْقراءَةِ والْكِتابَةِ والرَّسْمِ ودَرْسِ الْمُوسِيقَى والْعَزْفِ عَلَى «الْبِيانِ» والنَّايِ والْعُودِ وَما إلَيْها.

وَلَعَلَّ أَعْجَبَ ما عَجِبَتْ مِنْهُ أَنَّها لَمْ تَنْسَ مِمَّا تَعَلَّمَتْهُ فِي نَوْمِها شَيْئًا. وَأَرادَتْ أَنْ تُفَرِّجَ عَنْ نَفْسِها قَلِيلًا، فَنَهَضَتْ مِنْ سَرِيرِها.

وَما رَأَتْ صُورَتَها فِي الْمِرْآةِ حَتَّى أَبْصَرَتْ أَنَّها قَدْ أَصْبَحَتْ أَكْبَرَ حَجْمًا، وَأَرْشَقَ جِسْمًا، وَقَدْ زادَتْ حُسْنًا وَبَهاءً، وَتَأَلَّقَتْ عَيْناها الزَّرْقاوَانِ، وَتَوَرَّدَتْ بَشَرَتُها النَّاصِعَةُ، وَطالَ شَعْرُها الذَّهَبِيُّ الْجَمِيلُ، واسْتَرْسَلَ عَلَى قَوامِها الدَّقِيقِ حَتَّى بَلَغَ قَدَمَيْها. فَتَحَيَّرَتِ «الشَّقْراءُ» مِمَّا رَأتْ، وَظَنَّتْ أَنَّها لا تَزالُ نائِمَةً، سابِحَةً فِي أَحْلامِها اللَّذِيذَةِ هائِمَةً. فَلَمْ تَكَدْ تُصَدِّقُ عَيْنَيْها فِيمَا تَرَيانِ، وَأَسْرَعَتْ إلَى مَلابِسِها فارْتَدَتْها، ثُمَّ ذَهَبَتْ — عَلَى الْفَوْرِ — إلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ.

وَما رَأَتْها حَتَّى سَأَلَتْها مُتَعَجِّبَةً: «أُمَّ عَزَّةَ: سَيدَتِي أُمَّ عَزَّةَ! هَأنَذِي ضارِعَةٌ إلَيْكِ مُتَوَسِّلَةٌ — يا أَمِيرَةَ الْغِزْلانِ — أنْ تُفَسِّرِي لِي سِرَّ هَذا التَّحَوُّلِ الَّذِي أَراهُ وَأَحِسُّهُ فِي نَفْسِي. أَواهِمَةٌ أَنا؟ أَمْ كَبِرْتُ حَقًّا؟»

فَقالَتْ «أُمُّ عَزَّةَ»: «لا رَيْبَ أَنَّ سِنَّكِ قَدْ نَمَتْ، فَأَصْبَحْتِ الآنَ فِي الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِكِ؛ لأَنَّ رَقْدَتَكِ اسْتَمَرَّتْ سَبْعَ سَنَواتٍ كامِلَةً. وَقَدْ أَصْبَحْتِ ضِعْفَ ما كُنْتِ جِسْمًا وَعُمْرًا. فَقَدِ اجْتَمَعَ رَأْيُ وَلَدِي وَرَأْيِي عَلَى أَنْ نَرْفَعَ عَنْكِ عَناءَ ما تَتَطَلَّبُهُ الدِّراساتُ الْأَوَّلِيَّةُ مِنْ جُهْدٍ، وَرَأَيْنا أَنْ تَرْقُدِي سَبْعَ سَنَواتٍ كامِلَةً، نُلَقِّنُكِ — فِي أَثْنائِها — كُلَّ ما تَحْتاجِينَ إلَيْهِ مِنْ فُنُونِ الثَّقافَةِ وَالْعِلْمِ. فَلَمْ نَدَّخِرْ وُسْعًا فِي تَعْلِيمِكِ وأَنْتِ نائِمَةٌ؛ فَعَرَفَتِ ما لَمْ تَكُونِي تَعْرِفِينَ، وَأَصْبَحْتِ الآنَ تَقْرَئِينَ وَتَكْتُبِينَ، وَقَدْ كُنْتِ — قَبْلَ أَنْ تَنامِي — لا تَعْرِفينَ مِنَ الْقِراءَةِ والْكِتابَةِ حَرْفًا واحِدًا.

ما بالِي أَلْمَحُ فِي عَيْنَيْكِ أَنَّكِ تَشُكِّينَ؟ لَعَلَّكِ غَيْرُ واثِقَةٍ مِمَّا تَسْمَعِينَ. فَهَلُمِّي إلَى الْمَكْتَبَةِ لِتَعْلَمِي عِلْمَ الْيَقِينِ.»

(٢) ثَقافَةُ «الشَّقْراءِ»

فَتَبِعَتْها «الشَّقْراءُ» إلَى قاعَةِ الدَّرْسِ. وَما جَلَسَتْ إلَى «الْبِيانِ» حَتَّى رَأَتْ أَنَّها تُجِيدُ الْعَزْفَ، كَأَحْسَنِ ما تُجِيدُهُ أَمْهَرُ الْعازِفاتِ. وَأمْسَكَتِ «النَّايَ» فَأَتَتْ بِأَعْذَبِ الْأَنْغامِ. ثُمَّ أَمْسَكَتِ الْعُودَ، فَغَنَّتْ ما شاءَتْ مِنْ بَدائِعِ الْأَلْحانِ. ثُمَّ أَمْسَكَتِ الْمِرْقَمَ، فَرَسَمَتْ أَلْواحًا فَنِّيَّةً رائِعَةً. وَرَأَتْ أَنَّها تُصَوِّرُ ما تَشاءُ، فِي يُسْرٍ وَسُهُولةٍ عَجِيبَتَيْنِ، وَبَراعَةٍ وَمَهارَةٍ فائِقَتَيْنِ. ثُمَّ أَمْسَكَتْ بِالْقَلَمِ، وَأجْرَتْهُ عَلَى الْقِرْطاسِ، فَإذا هِيَ ماهِرَةٌ فِي الْكِتابَةِ؛ مَهارَتَها فِي الرَّسْمِ والْعَزْفِ والْغِناءِ. ثُمَ نَظَرَتْ فِيما حَوَتْهُ الْمَكْتَبَةُ مِنْ نَفائِسِ الْكُتَبِ.

وَما فَتَحَتْها حتَّى ذَكَرَتْ أَنَها قَرَأَتْ أَكْثَرَها، إن لَمْ تَكُنْ قَرَأَتْها جَمِيعًا. فامْتَزَجَتْ فِي نَفْسِها الدَّهْشَةُ بِالسُّرُورِ، وَأَسْرَعَتْ إلَى أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ وَوَلَدِها، فانْهالَتْ عَلَيْهِما لَثْمًا وَتَقْبِيلًا، وَأَمْطَرَتْهُما ثَناءً وَشُكْرًا. وِلَمْ تَدَّخِرْ وُسْعًا فِي التَّعْبِيرِ لَهُما عَنْ فَرَحِها وَعِرْفانِها بِجَمِيلِهِما، وَقالَتْ لَهُما فِيما قالَتْ: «أَيُّ جَمِيلٍ طَوَّقْتُما بِهِ عُنُقِي، أَيُها الصَّدِيقانِ الْكَرِيمانِ! شَدَّ ما أَحْسَنْتُما إلَيَّ.»

(٣) فِي الْمِرْآةِ

فَشَكَرَتْ لَها «أُمُّ عَزَّةَ» ثَناءَها وَتَلَطُّفَها. وَأَقْبَلَ عَلَيْها «أَبُو خِداشٍ» يَلْحَسُ يَدَيْها فِي خِفَّةٍ وَرَشاقَةٍ. فاسْتَأْنَفَتِ «الشَّقْراءُ» حَدِيثَها قائِلَةً: «أَرْجُو أَنْ تُضِيفا إلَى صَنِيعِكُما فَضْلًا آخَرَ؛ فَتُخْبِرانِي: كَيْفَ حالُ أَبِي؟ أَما زالَ يَبْكِي لِفِراقِي؟ أَمْ خَفَّفَ النِّسْيانُ بَعْضَ ما يَلْقاهُ مِنْ حُزْن؟»

فَقالَتْ «أُمُّ عَزَّةَ»: «هَذِهِ رَغْبَةُ حَقٍّ، وَلَا بُدَّ مِنْ إجابَتِكِ إلَيْها. هاكِ الْمِرْآةَ، فانْظُرِي فِيها، يا «شَقْراءُ»، تَرَيْ ما وَقَعَ لِأَبِيكِ؛ مُنْذُ فارَقْتِهِ إلَى الآنَ.»

فَرَفَعَتِ «الشَّقْراءُ» عَيْنَيْها إلَى الْمِرْآةِ، فَرَأَتْ فِيها حُجْرَةَ أَبِيها: «حَبِّ الرُّمَّانِ»، والحَيْرَةُ مُسْتَوْلِيَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَمْشِي فِي أَرْجاءِها مُضْطَرِبًا ثائِرَ النَّفْسِ، كَأَنَما يَتَرَقَّبُ أَحَدًا، وَقَدْ نَفِدَ صَبْرُهُ لِطُولِ الانْتِظارِ. ثُمَ رَأَتْ زَوْجَهُ «سُمَيَّةَ» قادِمَةً عَلَيْهِ، وَهِيَ تَقُولُ مُتَعَجِّبَةً: «إنَّ الشَّقْراءَ» قَدْ أَبَتْ — بِرَغْمِ مُعارَضَةِ «شَرْهانَ» — إلَّا أَنْ تَسُوقَ بِنَفْسِها الْعَرَبَةَ، وَتُوَجِّهَ النَّعامَتَيْنِ إلَى غابَةِ الزَّنْبَقِ. فَلَمَّا بَلَغَتْها أَسْرَعَتْ إلَى سُورِ الْغابَةِ فاقْتَحَمَتْهُ فَجْأَةً، وَلَمْ تُبالِ تَحْذِيرَ «شَرْهانَ». وَلَقَدِ اسْتَوْلَى الْفَزَعُ والرُّعْبُ عَلَى «شَرْهانَ» الْمِسْكِيِنِ، حَتَّى خَشِيتُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَهُ الْخَوْفُ إلَى الْجُنُونِ أَو الْمَوْتِ؛ فَأَرْسَلْتُهُ إلَى أَهْلِهِ لِأُخَفِّفَ عَنْهُ هَوْلَ ما يَشْعُرُ بِهِ.»

وَرَأَتِ «الشَّقْراءُ» فِي الْمِرْآةِ كَيْفَ وَقَعَ الْخَبَرُ عَلَى قَلْبِ أَبِيها وُقُوعَ الصَّاعِقَةِ. وَكَيْفَ اشْتَدَّ الْيَأْسُ بِهِ حَينَ سَمِعَ هَذا النَّبَأَ، فَحاوَلَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى غابَةِ الزَّنْبَقِ لِيَبْحَثَ عَنْها: وَقَدْ كادَ يَفْعَلُ لَوْلا أَنَّهُمْ حالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُخَاطَرَةِ بِالْقُوَّةِ. وَرَأَتْ كَيْفَ اشْتَدَّ بِهِ الْأَلَمُ فَلَمْ يَكُفَّ عَنْ مُناداتِها. فَلَمَّا نامَ رَأَى بِنْتَهُ فِي عالَمِ الْأَحْلامِ جالِسَةً فِي قَصْرِ «أُمِّ عَزَّةَ» و«أَبِي خِداشٍ»، وَسَمِعَ مِنْهُما ما أَثْلَجَ صَدْرَهُ، إذْ تَعَهَّدا لَهُ أَنْ يُعِيدا إلَيْهِ طِفْلَتَهُ يَوْمًا ما، وَعَرَفَ أَنَّها لَمْ تَلْقَ فِي ضِيافَتِهِما غَيْرَ التَّكْرِيمِ والْعِنايَةِ، والْحَفاوَةِ والرِّعايَةِ.

وَما بَلَغَتِ الشَّقْراءُ هَذا الْمَنْظَرَ، حَتَّى صَدِئَتِ الْمِرْآةُ، واخْتَفَى عَنْ ناظِرِها كُلُّ شَيْءٍ. ثُمَّ عادَتِ الْمِرْآةُ مِنْ جَدِيدٍ مَجْلُوَّةً مَصْقُولَةً كَما كانَتْ. وَظَهَرَ أَبُوها مَرَّةً أُخُرَى وَقَدْ أَدْرَكَتْه الشَّيْخُوخَةُ واشْتَعَلَ الرَّأْسُ مِنْهُ شَيْبًا، فَجَلَسَ حَزِينًا كَئِيبًا، وَقَدْ أَمْسَكَ فِي يَدِهِ بِصُورَةٍ صَغِيرَةٍ لِلْأَمِيرَةِ «الشَّقْراءِ»، وَظَلَّ يَنْظُرُ إلَيْها زَمَنًا طَوِيلًا، ثُمَّ تَغْمُرُ عَيْنَيْهِ الدُّمُوعُ فَيَتْرُكُها قَلِيلًا، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْها لِيَمْلَأَ ناظِرَيْهِ مِنْها. وَقَدْ حَزِنَتِ الْأَمِيرَةُ حِينَ رَأَتْهُ مُنْفَرِدًا لا يُؤْنِسُهُ أَحَدٌ.

وَدَهِشَتْ لِأَنَّها لَمْ تَرَ «سُمَيَّةَ» وَلا بِنْتَها «السَّمْراءَ» إلَى جانِبِهِ. فَأَخْبَرَتْها الْمِرْآةُ أَنَّ المَلِكَ «حَبَّ الرُّمَّانِ» غَضِبَ عَلَى «سُمَيَّةَ»؛ فَبَعَثَ بِها إلَى أَبِيها الْمَلِكِ: «نَوْفَلٍ». وَكانَ سَبَبُ غَضَبِهِ عَلَيْها أَنَّها تَلَقَّتْ نَبَأَ فِقْدانِ «الشَّقْراءِ» بِغَيْرِ اكْتِراثٍ، بَلْ هِيَ لَمْ تَسْتَطَعْ أَنْ تَكْتُمَ فَرَحَها بِذَلِكَ وَشَماتَتَها. فَأَمَرَ الْمَلِكُ «نَوْفَلٌ» بِسَجْنِها فِي بُرْجِ الْعَذابِ. فَتَعاوَنَتْ عَلَيْها الْوَحْدَةُ والضَّجَرُ، وَتَمَلَّكَها الْغَيْظُ والْغَضَبُ، فانْتابَها الْجُنُونُ. وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ لَقِيَتْ حَتْفَها، فَماتَتْ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْها مِنْ أَحَدٍ.

أَمَّا بِنْتُها «السَّمْراءُ» فَقَدْ زادَتْ حَماقَتُها وَشَراسَتُها — يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ — حَتَّى أصْبَحَتْ لا تُطاقُ. وقَدْ زُوِّجَتْ فِي الْعامِ الْماضِي بالْأَمِيرِ «سَلِيمٍ». وَهُوَ أَمِيرٌ حازِمٌ أَلْمَعِيٌّ بَعِيدُ النَّظَرِ، واسِعُ الْخِبْرَةِ بِالطَّبائِعِ الْإنْسانِيَّةِ. فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي تَأْدِيبِ «السَّمْراءِ» وَزَجْرِها والْقَسْوَةِ عَلَيْها. فاضْطَرَّها ذَلِكَ إلَى أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ قَسْوَتِها، وَتُلِينَ مِنْ حِدَّتِها وشَراسَتِها.

وَهَكَذا أَفْلَحَ «سَلِيمٌ» فِي تَرْوِيضِ نَفْسِها الْجَامِحَةِ، وَتَحْسِينِ طَبْعِها النَّكِدِ. فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَصْبَحَتْ مِثالًا لِلْوَداعَةِ واللُّطْفِ وَكَرَمِ الْخِلالِ.

فَلَمَّا رَأَتِ «الشَّقْراءُ» ذَلِكَ شَكَرَتْ لـِ«أُمِّ عَزَّةَ» ما هَيَّأَتْهُ لَها مِنْ تَعَرُّفِ ما جَهِلَتْهُ مِنَ الْحَقائِقِ.

(٤) صَمْتُ «الشَّقْراءِ»

وَمَرَّتْ أَيَّامٌ أُخْرَى، واشْتَدَّ الْقَلَقُ ﺑ«الشَّقْراءِ» وَأَضْجَرَها أَنْ تَقْضِيَ أَكْثَرَ أَوقاتِها صامِتَةً مُسْتَسْلِمَةً لِهُمُومِها وَأَحْزانِها. وَلَمْ تَجِدْ فِي كُلِّ مَنْ حَوْلَها أَحَدًا قادِرًا عَلَى مُحادَثَتِها غَيْرَ أَمِيرَةِ الْغِزْلانِ، وَهِيَ لا تَظْفَرُ بِلِقائِها إلَّا فِي أَوْقاتِ الدَّرْسِ وتَناوُلِ الطَّعامِ. أَمَّا «أَبُو خِداشٍ» فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى سُؤالِها وَيُفْضِيَ إلَيْها بِجَوابِ ما تُرِيد بِأَكْثَرَ مِنَ الْإشَاراتِ والْمُواءِ والنَّظَراتِ. وَلَمْ تَكُنْ غِزْلانُ الْغابَةِ الَّتِي تَخْدُمُ «الشَّقْراءَ» — بِمَهارَةٍ وَدِرايَةٍ — بِقادِراتٍ عَلَى الْكَلامِ أَيْضًا.

وَلَمْ يَكُنْ يُؤْذَنُ «لِلشَّقْراءِ» فِي التَّجْوالِ والتَّنَزُّهِ إلَّا مَعَ «أَبِي خِداشٍ» الَّذِي كانَ لا يُقَصِّرُ فِي رِعايَتِها واصْطِحابِها إلَى أَجْمَلِ الْمُتَنَزَّهاتِ، وَتَخَيَّرِ أَبْدَعِ ما تَحْوِيهِ مِنَ الْأَزْهارِ لَها.

(٥) نَصِيحَةُ الْوَعِلَةِ

وَكانَتْ أَمِيرَةُ الْغِزْلانِ قَدْ أَخَذَتْ عَلَى «الشَّقْراءِ» عهْدًا أَلَّا تَتَجاوَزَ بابَ الْحَدِيِقَةِ، وحَذَّرَتْها أَنْ تَذْهَبَ إلَى الْغابَةِ.

فَلَمَّا سَأَلَتْها «الشَّقْراءُ» — أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ — عَنْ سَبَبِ هَذا الْمَنْعِ، لَمْ تَسْمَعْ مِنْها جَوابًا غَيْرَ تَنَهُّداتِ الْحَسْرَةِ والْأَلَمِ، مَشْفُوعَةً بِقَوْلِها: «إنَّ الْغابَةَ — يا «شَقْراءُ» — جالِبَةُ الْأَلَمِ والشَّقاءِ. فَحَذارِ أَنْ تُحاوِلِي أَوْ تُفَكِّرِي فِي مُخالَفَةِ هذِهِ النَّصِيحَةِ.»

وَكانَتِ «الشَّقْراءُ» تَصْعَدُ — فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ — إلَى جَناحٍ مُنْفَرِدٍ يُشْرِفُ عَلَى الْغابَةِ، فَتَبْدُو لِعَيْنَيْها أَشْجارُها الْبَدِيعَةُ، وَأَزْهارُها الْجَمِيلَةُ، وَتَلُوحُ لَها آلافُ الطُّيُورِ مُحَلِّقَةً فِي طَيَرانِها، مُغَرِّدَةً شادِيَةً، كَأَنَّما تَهُمُّ أَنْ تُنادِيَها.

•••

وَكانَتْ كُلَّما دارَتْ بِذِهْنِها مِثْلُ هَذِهِ الْوَساوِسِ والْأَفْكارِ، قَطَعَها عَلَيْها «أَبُو خِداشٍ»، وَلَمْ يَدَع لَها فُرْصَةً لِلتَّمادِي فِيها، وَجَذَبَها مِنْ ثَوْبِها، فَلَمْ تَمْلِكْ أَنْ تُخالِفَهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤