خاتمة

لعلك أدركت الآن كيف تطورت مصر في هذا العصر منذ دخلها العرب فاتحين، ثم استقروا بها، حتى دخلها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة من الهجرة، وانتزع مصر من الإخشيديين، فقد كان أثر العرب في مصر كبيرًا جدًّا، تدركه في تحول المصريين عن لغتهم اليونانية والقبطية واتخاذهم اللغة العربية لغة للتخاطب ولغة لآدابهم، ثم تدركه في هذه الدراسات الإسلامية والعربية وازدهار هذه الدراسات في مصر، حتى صارت مركزًا من مراكز الحياة العقلية في الأقطار الإسلامية.

ومع ذلك كله فقد استطاعت مصر أن تحتفظ بشخصيتها، فقد اضطرت العرب إلى أن يندمجوا في المصريين، وأن يكون الجميع شعبًا واحدًا هو الشعب المصري الإسلامي.

وقد نقلت مصر جُلَّ المدنيات القديمة، وأخذت منها بحظوظ تختلف قوة وضعفًا، ولكن مصر استطاعت أن تمصِّر هذه المدنيات جميعًا، فلما أن جاءها العرب المسلمون يحملون الثقافة الإسلامية العربية، التقت هذه الثقافة بالثقافات التي كانت في مصر قديمًا، وامتزجت هذه الثقافات جميعًا، فكان ثمرة هذا المزج هي الثقافة المصرية الإسلامية التي ظهرت بعد ذلك العصر الذي أرخناه في هذا الكتاب.

ولعلك أدركت أيضًا أثر مصر في الشعر الذي أوردنا لك صورًا منه، فإنك لم تر المعاني البدوية القديمة، ولا تشبيهات الجاهليين أو شعراء الأمويين، وظهر في شعر المصريين الآراء المصرية والحوادث المصرية، التي لا تصدر إلا عن قوم عاشوا في مصر، وإذن فقد كان أثر مصر في الشعر كبيرًا كما كان أثرها في العلم كبيرًا.

وبعدُ، فهذا البحث الذي تحدَّثت فيه عن مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ما هو إلا مقدمة لبحث آخر، أرجو أن أقدمه للطبع قريبًا وهو بحث «الأدب في مصر الفاطمية» وهو تاريخ الأدب في العصر الذي أصبحت فيه مصر زعيمة الأقطار الإسلامية في الآداب والعلوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤