الفصل الرابع عشر

من الماضي

لو كان أيُّ مراقبٍ متحمِّس وخبير بالصِّفات الإنسانية الغريبة حاضرًا داخلَ رَدهة هاركر الصغيرة في تلك اللحظة، ويُراقبه هو وزائره، لكان قد صُدِم بما حدث عندما طرَح الرجل العجوز هذا السؤالَ المفاجئ والصريح على زائره الشاب. فقد طرح هاركر السؤال، وإن كان على نحوٍ هامس، بطريقةٍ غيرِ رسمية، تكاد تكون وُديةً وسرية، ولم يُظهِر برايس ولو حتى انتفاضةَ إصبَع أو رمشةَ عين تدلُّ على شعوره بأن هذا السؤال هو بالفعل السؤالُ الأكثر إثارةً للدهشة والذهول مما طُرح عليه من قبل. بدلًا من ذلك، نظر إلى السائلِ بهدوءٍ في عينَيه، وطرح عليه سؤالًا بدوره.

إذ سأله برايس بهدوء: «مَن أنت، يا سيد هاركر؟»

ضحك هاركر — تقريبًا بابتهاج.

وقال: «أجل، مِن حقك أن تسألَ هذا السؤال!» وأردف: «بالطبع! — وأنا سعيدٌ لأنك تأخذ الأمرَ بهذه الطريقة. أنت ستُوصلني لما أريد!»

أضاف برايس: «سأجعل السؤالَ أكثرَ تحديدًا إذن.» وتابع: «إنه ليس مَن أنت — إنه ماذا تعمل؟!»

أشار هاركر بسيجاره نحو رفوف الكتب التي يجلسُ الزائر أمامها.

وقال: «ألقِ نظرةً على مجموعة الكتب الخاصة بي، يا دكتور.» وأردف: «ما رأيُك فيها؟»

التفت برايس وتفحَّص الرفوف الواحدَ تِلو الآخر على مهل.

ثم قال بهدوء: «يبدو أنها تضمُّ في الغالب ملفاتِ قضايا جنائيةٍ ومَراجعَ قانونية.» وتابع: «لقد بدأتُ أشكُّ في أمرك، يا سيد هاركر. إنهم يقولون هنا في رايتشستر إنك تاجرٌ متقاعد. لكنني أعتقد أنك شرطيٌّ متقاعد — من شعبة المحققين.»

ضحك هاركر مرةً أخرى.

وقال: «لم يدخل أيُّ رجل من رايتشستر إلى منزلي منذ أن جئتُ للاستقرار فيها.» وأضاف: «أنت أول شخص أدعوه إلى هنا — باستثناءٍ وحيدٍ بارز. أنا حتى لم أستقبل قط كامباني، أمين المكتبة، هنا. فأنا أشبهُ بالناسك.»

قال برايس: «لكن أنت كنت تعمل محقِّقًا، أليس كذلك؟»

أجاب هاركر: «بلى، ولمدة خمسةٍ وعشرين عامًا كاملة!» وأضاف: «وأنا مشهورٌ للغاية، أيضًا، يا سيدي. لكن ماذا عن سؤالي يا دكتور؟ بيني وبينك!»

قال برايس: «سأسألك سؤالًا، إذن.» وتابع: «كيف عرَفت أنني قد أخذت قصاصة ورق من حقيبة برادن؟»

أجاب هاركر: «لأنني أعلمُ أنه كان يحمل تلك الورقةَ في حقيبته في الليلة التي جاء فيها إلى فندق مايتر، وكنت متأكدًا من وجودها هناك في صباح اليوم التالي، ولأنني أعلم أيضًا أنك تُركتَ بمفردك مع الجثة بضع دقائق بعد أن أحضرك فارنر، وأنه عند تفتيشِ ملابسِ برادن ومتعلقاته من قِبل ميتشينجتون، لم تكن الورقة موجودة. إذن، بالطبع، أنت مَن أخذها! وأنا لا يُهمني أنك فعلتَ ذلك — باستثناء أنني أعلم، من خلال معرفة ذلك، أنك تلعب لعبةً مماثلةً للُعبتي — وهذا هو السبب في أنك ذهبتَ إلى ليسترشير.»

سأله برايس: «هل كنتَ تعرف برادن؟»

أجاب هاركر: «أجل كنتُ أعرفه!»

قال برايس: «هل قابلتَه — وتحدَّثتَ معه — هنا في رايتشستر؟»

أجاب هاركر: «لقد حدث هذا هنا — في هذه الرَّدهة، على هذا الكرسيِّ — من الساعة التاسعة وخمس دقائق إلى نحوِ الساعة العاشرة في الليلة التي سبقَت وفاتَه.»

التقط برايس، الذي كان يستمتعُ في هدوء بسيجار هافانا الذي أعطاه إياه الرجلُ العجوز، كأسَه، وشرب بعضًا مما كان فيها، واستقر في كرسيِّه المريح كما لو كان ينوي البقاءَ هناك مدةً.

وقال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نتحدَّثَ بسريةٍ يا سيد هاركر.»

أجاب هاركر: «وهذا بالضبط ما نفعلُه يا دكتور برايس.»

قال برايس باقتضاب: «حسنًا، يا صديقي.» وتابع: «نحن الآن يفهمُ أحدُنا الآخر. إذن هل تعرف مَن كان جون برادن بالفعل؟»

أجاب هاركر على الفور: «أجل!» ثم أضاف: «كان في الواقع جون بريك، وهو مدير بنك ومجرم مدانٌ سابق.»

سأله برايس: «هل تعرف ما إذا كان لديه أيُّ أقاربَ هنا في رايتشستر؟»

قال هاركر: «أجل.» وأردف: «الفتى والفتاة اللذان يعيشان مع رانسفورد — إنهما ابن بريك وابنتُه.»

تابع برايس: «هل كان بريك يعلم ذلك — عندما أتى إلى هنا؟»

أجاب هاركر: «كلا، لم يكن يعلم — لم تكن لديه أدنى فكرةٍ عن ذلك.»

سأل برايس: «هل كنتَ تعلم أنت ذلك — إذن؟»

أجاب هاركر: «كلا، لكني علمتُ بعد ذلك — بعد ذلك بقليل.»

سأله برايس: «هل اكتشفتَ ذلك في بارثورب؟»

قال هاركر: «كلا، لقد توصلتُ للأمر هنا — بعد موت بريك.» ثم أضاف: «وذهبتُ إلى بارثورب من أجل أمرٍ مختلفٍ تمامًا — أمر يخص بريك.»

قال برايس: «آه!» ثم نظر إلى المحقق العجوز بهدوء في عينَيه. وأضاف: «مِن الأفضل أن تُخبرني بكل شيء عن ذلك الأمر.»

قال هاركر مشترطًا: «إذا كان سيُخبر كلٌّ منا الآخرَ — بكل شيء عن هذا.»

وافق برايس على ذلك قائلًا: «اتفقنا.»

دخَّن هاركر بتأنٍّ للحظةٍ وبدا أنه يُفكر.

ثم قال: «مِن الأفضل أن أعود إلى البداية.» وتابع: «لكن، أولًا، ما الذي تعرفه عن بريك؟ أعلم أنك ذهبتَ إلى بارثورب لتكتشفَ ما يُمكنك اكتشافه؛ فإلى أيِّ مدًى أوصلَك بحثُك؟»

أجاب برايس: «لقد توصلتُ إلى أن بريك تزوَّج فتاةً من برادن ميدورث، وأنه أخذها إلى لندن، حيث كان يعمل مديرًا لفرعِ أحد البنوك، وأنه قد وقع في مشكلة، وحُكم عليه بالسجن مدةَ عشر سنوات مع الأشغال الشاقَّة، هذا بالإضافة لبعض التفاصيل الصغيرة التي لا داعي للخوض فيها في الوقت الحالي.»

قال هاركر: «حسنًا، ما دمتَ تعرف كلَّ ذلك، فهناك أساسٌ مشترك ونقطةُ انطلاق مشتركة؛ لذا سأبدأ مِن محاكمة بريك. لقد كنتُ أنا مَن ألقى القبض على بريك. لم تكن هناك مشكلة، ولا عَناء. لقد أخذه أحدُ مفتشي البنك على حينِ غِرَّة. لقد كان يُعاني عجزًا كبيرًا في عُهدته — ولم يتمكَّن من تسويته — كما لم يتمكن أو لم يُرِد أن يُفسِّر موقفه إلا بتلميحات مكتئبة عن أنه قد خُدع بقسوة. ولم يكن هناك دفاعٌ — ولا يمكن أن يكون هناك. وقد قال محاميه إنه يستطيع …»

قاطعه برايس: «لقد قرأتُ تفاصيل المحاكمة.»

قال هاركر: «حسنًا، إذن فأنت تعلم كلَّ ما يُمكنني إخبارك به بشأن هذه النقطة.» وتابع: «لقد حُكم عليه، كما قلتَ، بالسجن عشرَ سنوات. وقد قابلتُه قبل نقله إلى السجن مباشرةً وسألتُه عما إذا كان بوُسعي فعلُ أيِّ شيء له بشأن زوجته وطِفلَيه. أنا لم أرَهم من قبل — حيث اعتقلته داخل البنك، وبالطبع هو لم يُغادر قط الحبس بعد ذلك. فأجاب بطريقةٍ غريبة ومقتضبة بأن هناك مَن يعتني بزوجته وطِفلَيه. ثم سمعت، بالمصادفة، أن زوجته قد تركَت المنزل، أو هرَبَت منه — كان هناك شيءٌ غامض حول ذلك — إما بمجرد القبض عليه أو قبل ذلك. على أي حال، هو لم يَقُل شيئًا، ومنذ تلك اللحظة لم أُقابله قط مرةً أخرى حتى التقيته في الشارع هنا في رايتشستر، في تلك الليلة، عندما جاء إلى فندق مايتر. لقد عرَفته في الحال — وهو عرَفَني. حيث التقينا تحت أحدِ تلك المصابيح القياسية الكبيرة الموجودة في السوق — بينما كنت أُمارس المشيَ ليلًا وَفْق عادتي، وهو آخِر ما أفعله قبل الذَّهاب إلى الفراش. توقَّفنا وحدَّق كلٌّ منا في الآخر. ثم تقدَّم نحوي مادًّا يده وتصافحنا. ثم قال: «هذا شيء غريب!» ثم أضاف: «أنت الرجل الذي أردتُ إيجادَه! دعنا نذهب إلى مكانٍ ما، يتَّسم بالهدوء، واسمح لي أن أتحدَّثَ معك.» لذلك أحضرته إلى هنا.»

أصبح برايس منتبهًا للغاية الآن — حيث كان يُكرِّس كلَّ ملَكاتِه للتركيز بشدةٍ واستيعابٍ على ما يمكن أن يقوله الرجل الآخر، تاركًا التأملات والاستنتاجاتِ حول ما سمعه حتى ينتهيَ من سرد كلِّ ما لديه.

كرَّر هاركر كلامَه قائلًا: «لقد أحضرتُه إلى هنا.» وأردف: «وأخبرتُه أنني قد تقاعدت وأنني أعيش هنا بمفردي، مثلَما رأى. ولم أسأله أيَّ أسئلة عن نفسه — كان بإمكاني أن أرى أنه رجلٌ حسَنُ الملبس، وتبدو عليه أماراتُ الغنى. ثم بدأ يُخبرني عن نفسه. فقال إنه بعد أن أنهى مدةَ عقوبته، غادر إنجلترا وسافر بعضَ الوقت إلى كندا والولايات المتحدة، ثم ذهب إلى نيوزيلندا وبعد ذلك إلى أستراليا، حيث استقرَّ وبدأ المُضارَبة في تجارة الصوف. فقلت إنني آمُل أن يكون قد وُفِّق في تجارته. قال: أجل، لقد وُفِّق للغاية — وبعد ذلك فتح لي قلبه. حيث قال: «سأُخبرك بشيءٍ فعلتَه يا هاركر.» ثم أضاف: «إنك كنتَ مهذبًا جدًّا ومراعيًا لي عندما كنتُ في أزمتي، لذلك لن أُمانع في إخبارك. لقد دفعتُ لأصحاب البنك كل بنس من تلك الأموال التي خَسِروها بسبب حماقتي في ذلك الوقت — كل بنس، قبل أربع سنوات، مع الفائدة، وحصلتُ منهم على إيصالٍ بذلك.» فقلتُ له: «أنا مسرور لسماع ذلك يا سيد … هل ما زلت تستخدم الاسمَ نفسَه؟» قال، وهو ينظر إليَّ: «إن اسمي منذ أن غادرت إنجلترا، هو برادن — جون برادن.» وتابع قائلًا: «أجل، لقد دفعت لهم — على الرغم من أنني لم أحصل مطلقًا على بنسٍ واحدٍ من المال الذي كنتُ أحمقَ بما يكفي لأن آخُذَه في ذلك الوقت — ولا نصف بنس حتى!» فسألتُه ظانًّا أنه ربما سيعترف بعد كل هذا الوقت: «مَن حصل عليه إذن، يا سيد برادن؟» فأجاب: «لا تهتمَّ يا رجل!» وأضاف وهو يضحك: «سيتَّضح الأمر — لكن فيما بعد. لا تهتمَّ بذلك، الآن. سأُخبرك لماذا أردتُ أن أقابلك. الحقيقة هي أنني رغم أنني لم أُمضِ سوى بضعِ ساعات فقط في إنجلترا، إذا جاز التعبير، فقد فكَّرت فيك، وتساءلت أين يُمكنني أن أجدك — فأنت الرجل الوحيد في مهنتك الذي التقيتَ به، كما ترى.» وتابع: «وأريد بعض المساعدة في هذا المجال.» فقلت: «حسنًا، يا سيد برادن، لقد تقاعدتُ، ولكن إذا كانت مهمة سهلة …» فقال: «يمكنك القيام بها، وهي سهلة بما فيه الكفاية.» وأردف: «إن الأمر هو أنني قد التقيتُ برجل في أستراليا مهتمٍّ للغاية بالحصول على بعض الأخبار عن رجلٍ آخر، يُدعى فولكينر راي، ينحدرُ من بارثورب، في ليسترشير. وقد وعدتُه بالاستفسار عنه. والآن، لديَّ أسبابٌ قوية لعدم رغبتي في الاقتراب من بارثورب — إذ إن لديَّ في بارثورب ذكرياتٍ وارتباطات غير سارة بالنسبة إليَّ، ولا أريد أن يراني أحدٌ هناك. لكن هذا الأمر يجب أن يكون تحريًا شخصيًّا — فهل ستذهب إلى هناك، من أجلي؟ سأدفع لك مقابلًا جيدًا.» وتابع قائلًا: «كلُّ ما عليك فعله هو أن تذهب إلى هناك، وتُقابل مسئولي الشرطة، ومسئولي المدينة، وأيَّ شخص يعرف المكان، وتسألهم عما إذا كان بإمكانهم إخبارُك بأي شيء عن شخصٍ يُدعى فولكينر راي، كان في وقتٍ من الأوقات، وكيلَ عقاراتٍ صغيرًا في بارثورب، وغادر المكانَ منذ نحو سبعة عشر عامًا — وربما ثمانية عشرَ عامًا — ويُعتقد أنه قد عاد مؤخرًا إلى المدينة. هذا كلُّ ما في الأمر. احصل على المعلومات التي يُمكنك الحصولُ عليها، وأرسلها لي، على عُنوان البنك الذي أتعامل معه في لندن. أعطني ورقةً وسأكتب لك فيها التفاصيل».»

توقَّف هاركر عند هذه النقطة وأومأ برأسه نحوَ مكتبٍ قديم في زاوية من غرفته.

وقال: «إن الورقة هناك.» وتابع: «ومكتوب فيها، بخط يده، مذكرة موجزة عما يُريده وعنوان البنك. وعندما أعطاها لي، وضع يده في جيبه وأخرجَ حقيبةً استطعتُ أن أرى أنه يحمل فيها الكثيرَ من المال. فأخذ منها بعض الأوراق النقدية. ثم قال: «هذه خمسة وعشرون جنيهًا تحت حساب المهمة يا هاركر.» ثم أضاف: «قد تُضطَر إلى إنفاق المزيد. لا تخَف — فسأعطيك المزيد.» ثم سأل: «هل ستبدأ المهمَّة قريبًا؟» فأجبته: «أجل، سأفعل ذلك، يا سيد برادن.» وأردفت: «ستكون أشبهَ بنزهةٍ بالنسبة إليَّ.» قال: «رائع.» وأضاف: «أنا سعيدٌ لأنني صادفتُك.» فقلت: «حسنًا، إنها مصدرُ سعادةٍ لك ومفاجأةٍ بالنسبة إليَّ.» وتابعتُ: «فأنا لم أكن أتخيلُ قط رؤيتك في رايتشستر. ما الذي أتى بك إلى هنا، إذا جاز لي أن أسأل — هل لمشاهدة معالم المكان؟» فضحك على ذلك، وأخرج حقيبته مرةً أخرى. وقال بينما يُخرج قصاصةَ ورق مطويةً من حقيبته: «سأُريك شيئًا — سرًّا.» وأضاف: «ماذا تفهم من هذه؟» ثم تابع: «هل يمكنك قراءةُ اللاتينية؟» فقلت: «لا — باستثناء كلمةٍ أو كلمتين، لكني أعرف رجلًا يستطيع ذلك.» فقال: «آه، لا عليك.» وأردف: «فأنا أعرفُ ما يكفي من اللاتينية لِفَهم ما تحوي — وهذا سر. ومع ذلك، لن يظل سرًّا لوقتٍ طويل، وستسمع كلَّ شيء عنه.» وهنا وضع قصاصة الورق في حقيبته مرة أخرى، وبدأنا نتحدَّثُ عن أمور أخرى، وبعد قليل قال إنه وعدَ بإجراء محادثةٍ مع رجلٍ في فندق مايتر كان قد أتى معه في القطار، ومِن ثَم غادر، قائلًا إنه سيُقابلني قبل أن يُغادر المدينة.»

سأل برايس: «هل قال كم من الوقت سيظلُّ هنا؟»

أجاب هاركر: «يومَين أو ثلاثة أيام.»

سأل برايس: «هل ذكر رانسفورد؟»

قال هاركر: «على الإطلاق!»

«هل جاء على ذِكْر زوجته وطِفلَيه؟»

«مطلقًا!»

«ولا إلى التلميح الذي ذكَره محاميه أثناء المحاكمة؟»

«لم يأتِ قط على ذِكْر تلك الفترة إلا من خلال ما أخبرتُك به — أنه لم يحصل على بنس واحد من المال لنفسه، وأنه قد ردَّه إلى البنك.»

تأمَّل برايس الأمرَ للحظات. لقد كان متحيرًا إلى حدٍّ ما من نقاطٍ معيَّنة في قصة المحقِّق العجوز، وأدرك الآن أن هناك الكثيرَ من الغموض في قضية برادن، أكثرَ مما كان يَعتقد في البداية.

فسأل بعد لحظات: «حسنًا، هل رأيتَه مرةً أخرى؟»

أجاب هاركر: «ليس وهو على قيد الحياة!» وأضاف: «رأيته وهو ميت — ولم أُخبر أحدًا عما دار بيني وبينه آنذاك، وحتى الآن. لكن حدث شيءٌ ما في ذلك اليوم. فبعد أن سمعت بالحادث، ذهبت إلى حانة كراون آند كوشن — والحقيقة، أنني ذهبت لشرب بعض الويسكي؛ لأن الأخبار أزعجَتني. وعلى البار الطويل الخاص بهم، رأيت رجلًا كنتُ أعرفه — رجلًا كنت أعرفه، في الحقيقة؛ لأنه كان سجينًا مُدانًا مع بريك. كان اسمه جلاسديل ومدانًا بجريمة التزوير. حُكم عليه بالعقوبة نفسِها التي حُكم بها على بريك، وفي الوقت نفسِه تقريبًا، وكان في السجنِ نفسِه مع بريك، وقد أُطلق سراحه هو وبريك في التاريخ نفسِه تقريبًا. لم يكن هناك شكٌّ في هُويته؛ فأنا لا أنسى أبدًا وجهًا رأيتُه، حتى ولو بعدَ ثلاثين عامًا. وقد رأيته في تلك الحانة قبل أن يَراني، وألقيتُ نظرةً فاحصة عليه. كان هو، أيضًا، مثل بريك، يرتدي ملابسَ أنيقة، ويبدو عليه الغِنى الشديد. وقد استدار وهو يضعُ كأسه، ورآني — وعرَفَني. ضع في اعتبارك أنني مَن ألقيت القبضَ عليه في الماضي! فتحرك على الفور نحو بابٍ جانبي واختفى. فخرجت ونظرتُ عبر بداية الشارع ونهايته — لكنه ذهب. واكتشفتُ بعد ذلك، من خلال بعض التحرِّي الهادئ، أنه ذهب مباشرةً إلى المحطة، وركب أول قطار — كان هناك واحدٌ يستعدُّ للمغادرة، إلى ملتقى الطرق — وغادر المدينة. لكن يمكنني التوصُّل إليه!»

سأل برايس: «أنت لم تُخبر أحدًا بهذا الأمر أيضًا، أليس كذلك؟»

أجاب هاركر: «بالضبط؛ إذ إن لديَّ لُعبتي الخاصةَ.» وتابع: «وهذا الحديث معك هو جزءٌ منها؛ لقد أصبحت على علمٍ الآن بالأمر وسأخبرك لماذا، بعد وقت قصير. لكن أولًا، كما تعلم، لقد ذهبت إلى بارثورب. إذ شعرت، على الرغم من وفاة بريك، بأنه يجب أن أذهب للسبب التالي. كنت على يقينٍ من أنه يريد هذه المعلومات لنفسه؛ فالرجل في أستراليا كان مجردَ شخصية خيالية. ذهبت، آنذاك ولم أصل إلى شيء. عدا أن فولكينر راي هذا كان، كما قال بريك، يعيش في بارثورب، منذ سنوات. وقد غادر المدينة منذ ثمانيةَ عشر عامًا، ولم يعرف أحدٌ شيئًا عنه. لذلك عُدتُ إلى هنا. والآن، إذن، يا دكتور — إنه دورك! ماذا الذي كنتَ تبحث عنه، هناك في بارثورب؟»

تأمل برايس إجابته مدة خمسِ دقائق كاملة. كان ينوي دائمًا الالتزامَ بقواعدِ اللعبة لكن دون أن يجبره أحدٌ على ذلك، لكنه سمع ورأى ما يكفي منذ دخول رَدهةِ هاركر الصغيرة ليعرفَ أنه كان بصحبة رجلٍ ذكي أكثرَ حرصًا ودَهاءً منه، وأنه سيُصبح من مصلحته أن يتشارك ما يعرفه مع الرجل الذي لديه خبرةٌ واسعة وعميقة. وهكذا أخبرَ الرجل بكلِّ ما أجراه من تحقيقات، لكن لم يُخبره مطلقًا عن دافعِه.

قال هاركر، بعد الاستماع بهدوء إلى كلِّ ما قاله برايس: «إن لديك نظريةً بخصوص هذه القضية بالطبع، أليس كذلك؟» وتابع: «بطبيعة الحال، لديك! لا يُمكن أن تعمل على تجميع كلِّ ذلك دون أن يكون لديك نظرية.»

اعترف برايس: «حسنًا، بصراحة، لا يُمكنني القول إن لديَّ نظرية. لكن يمكنني إدراكُ النظرية التي قد تكون موجودة. وهي أن رانسفورد هو الرجلُ الذي خدعَ بريك، وأنه قد هرب مع زوجة بريك، وأنها قد تُوفِّيت، وأنه ربَّى الطفلَين متجاهلًا كلَّ ذلك — ومن ثَم …»

قاطعه هاركر بابتسامة: «ومن ثَم، عندما التقى هو وبريك — كما يبدو أنك تعتقدُ أنهما فعلًا — ألقى رانسفورد بريك من خلال ذلك البابِ المفتوح؛ وقد شاهد كوليشو تلك الواقعةَ، ثم علم رانسفورد بما يُشيعه كوليشو، فوضع رانسفورد السمَّ لكوليشو. أليس كذلك؟»

قال برايس: «إنها تبدو نظريةً تدعمها الوقائع.»

قال المحقِّق العجوز بابتسامة أخرى: «إنها نظرية تُناسب بلا شك رجالًا مثل ميتشينجتون.» وتابع: «لكنها لا تُناسبني أنا، يا سيدي! ضع في اعتبارك أنني لا أقول إنه لا يوجد شيءٌ مريب في الأمر — لأن هناك الكثيرَ بلا شك. لكن اللغز أكثرُ عمقًا من مجرد ذلك. فبريك لم يأتِ إلى هنا للعثور على رانسفورد. لقد جاء بسبب السرِّ الموجود في قُصاصة الورق تلك. وبما أنك قد حصلت عليها، يا دكتور فاعرِضْها عليَّ!»

لم يجد برايس أيَّ سبب لإخفاء قصاصة الورق؛ لذا أخرجها ووضعها على الطاولة بينه وبين مضيِّفه. فتفحَّصها هاركر بعناية.

وقال: «إنها مكتوبةٌ باللغة اللاتينية!» ثم أضاف: «أنت يمكنك قراءتها بالطبع. ماذا تقول؟»

ذكر برايس ترجمةَ الكلمات المكتوبة في القصاصة.

وأضاف: «لقد وجدتُ المكان.» وأردف: «وجدته هذا الصباح. والآن، ماذا تظن أن هذا يعني؟»

كان هاركر ينظر بجدِّية إلى سطرَيِ الكتابة.

وأجاب: «هذا سؤال صعبٌ يا دكتور.» وأضاف: «لكنني أظن أننا عندما نكتشف ما يَعنيه، سنعرف أكثرَ بكثير مما نعرفه الآن!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤