الفصل السابع

المسار المزدوج

لم يكن بيمبرتون برايس الشخصَ الوحيد في رايتشستر الذي كان يُراقب رانسفورد باهتمامٍ شديدٍ خلال هذه الأحداث. لقد أدركَت ماري بيوري، وهي فتاة تتمتع بقدراتٍ أكثرَ من المعتادة في الملاحظة وسَبْر أغوار البشر، على نحوٍ سريع أن القلق الشديد لدى وصيِّها بشأن الحادث في بارادايس كان شيئًا خارجَ نطاق المألوف. لقد عرَفَت رانسفورد كرجلٍ رقيق القلب للغاية، حيث كان لديه قدرٌ كبير من العاطفة في تكوينه؛ فقد عُرف باهتمامه الذي يتعدى الاهتمامَ المِهني بمَرْضاه الأكثرِ فقرًا، واكتسب شهرةً مستحَقة في المدينة بسبب رعايته لهم. ولكن كان من المدهش بعضَ الشيء، حتى بالنسبة إلى ماري، أن يُصبح منزعجًا للغاية بسبب وفاة شخصٍ غريب تمامًا، لدرجةٍ تجعله يفقد شهيته للطعام، ويكون، لما لا يقل عن يومين، مضطربًا لدرجة أن سلوكه هذا صار ملحوظًا بوضوحٍ لها ولشقيقها. كانت ملاحظاتُه على المأساة تقليديةً تمامًا — حادث محزن للغاية، مصيرٌ محزن للرجل المسكين، حادث غامض ويصعب تفسيره، وما إلى ذلك — ولكن من الواضح أنَّ قلقه قد تجاوز ذلك. لقد كان يضطرب عندما تسأله ماري عن الحقائق، وينزعج عندما يسأله ديك بيوري، بسذاجةِ تلميذِ مدرسة، عن التفاصيل المهنية، وكانت متأكِّدة، بسبب الهالات حول عينَيه والإرهاقِ البادي على وجهه، أنه قد قضى ليلةً مضطربة عندما نزل لتناول الإفطار في صباح يوم جلسة التحقيق. ولكن عندما عاد من جلسة التحقيق، لاحظَت حدوث تغيير — كان من الواضح، لذكائها اليقظ، أن رانسفورد قد شعر بارتياحٍ كبير. وتحدَّث بارتياح، في الواقع، في تلك الليلة على العشاء، موضحًا أن الحُكم الذي قررَته هيئةُ المحلَّفين قد أبرأ المدينةَ من حدوث جريمة شنيعة كهذه على أرضها، وقال إنه لن يكون أمرًا جيدًا، إذا اكتسبَت كاتدرائية رايتشستر سُمعةً سيئة لا تُحسد عليها باعتبارها ساحةً لجريمة قتل.

علَّق ديك، الذي كان يعرف كل الحديث الدائر في المدينة، قائلًا: «مع ذلك، ما زال فارنر متمسكًا بما قاله طوال الوقت. إذ يقول فارنر — قال بعد ظهر ذلك اليوم، بعد انتهاء جلسة التحقيق — إنه متأكد تمامًا مما رآه، وإنه لم يرَ فقط يدًا في سوار قميصٍ أبيضَ وكمِّ معطف أسود، ولكنه رأى الشمسَ تلمع لثانيةٍ على أزرار السِّوار، كما لو كانت من الذهب أو الماس. إن هذا دليلٌ قوي جدًّا، يا سيدي، أليس كذلك؟»

أجاب رانسفورد: «في الحالة الذهنية التي كان عليها فارنر في تلك اللحظة، لم يكن قادرًا تمامًا على اتخاذ قرارٍ قاطع بشأنِ ما رآه حقًّا. ستحتفظ رؤيته بصورٍ مشوشة. من المحتمل أنه رأى يدَ القتيل — حيث كان يرتدي معطفًا أسودَ وقميصًا أبيض. إن الحكم الصادر في القضية منطقيٌّ بشدة.»

لم يستمرَّ الحديث بعد ذلك، وفي ذلك المساء عاد رانسفورد تقريبًا إلى طبيعته مرةً أخرى. لكن لم يَعُد كما كان على الإطلاق. حيث شاهدَته ماري وهو يبدو شديدَ الحزن، ومستغرقًا في التفكير، أكثرَ من مرة، كما سمعته يتنهَّد بشدة أكثرَ من مرة أيضًا. لكنه توقَّف عن الحديث حول الأمر لمدة يومين، بعدهما أعلن، عند الإفطار، عن نيتِه حضورَ جنازة جون برادن، التي كان من المقرَّر إقامتها في ذلك الصباح.

قال: «لقد طلبتُ عربة بروم لتُقلَّني في الساعة الحادية عشرة، وقد رتبتُ مع دكتور نيكلسون لاستقبال أيِّ حالة عاجلة تأتي بين هذا الوقتِ ووقتِ الظهيرة — لذلك، إذا كان هناك أيُّ حالة من هذا القبيل، يُمكنكِ الاتصالُ به عبر الهاتف. سيحضر عددٌ قليل منا جنازة هذا الرجل المسكين — سيكون من السيِّئ للغاية دفنُ شخص غريب دون حضور بعض الناس، خاصة بعد هذا المصير. سيحضر شخصٌ ما نائبًا عن العميد والمجلس، وثلاثةٌ أو أربعة من سكان المدينة البارزين، لذلك لن يتمَّ إهماله تمامًا.» وهنا تردَّد ونظر ببعضِ التوتر إلى ماري، التي كان يُخبرها بكلِّ هذا، بعد أن غادرَ ديك إلى المدرسة، ثم قال: «وهناك أمرٌ صغير أتمنى أن تهتمِّي به — وأظن أنك ستفعلينَه بنحوٍ أفضلَ مني. يبدو أن الرجل كان بلا أصدقاء، هنا، على أيِّ حال، لم يظهر له أيُّ أقارب، على الرغم من الإعلان عن موته بالوسائلِ الممكنة كافةً؛ لذا ألا تعتقدين أنه سيُصبح تصرُّفًا نبيلًا — نوعًا ما — إذا وُضع إكليلٌ من الزهور، أو صليب، أو شيء من هذا القبيل على قبره — فقط لإظهار التعاطف كما تعلمين؟»

قالت ماري: «إنه لَلُطفٌ شديدٌ منك أن تُفكِّر في هذا الأمر.» وأضافت: «ماذا تريد مني أن أفعل؟»

أجاب رانسفورد: «أن تذهبي إلى متجر الزهور جاردالز، وتختاري إكليلًا مناسبًا، وبعد ذلك — في وقتٍ لاحق من اليوم — تأخذيه إلى مدفنِ كنيسة سانت ويجبرت، حيث سيُدفَن الرجل، خذيه — إذا كنتِ لا تُمانعين — بنفسك إلى هناك.»

أجابت ماري: «بكل تأكيد.» ثم أردفَت: «سأفعل ما تريد.»

كانت ستفعل أيَّ شيء يبدو جيدًا لرانسفورد — لكن مع ذلك تساءلت عن هذا الاهتمام غيرِ المعتاد بعضَ الشيء بشخصٍ غريب تمامًا. لكنها فسَّرَت الأمر في النهاية بأنه بلا شكٍّ طيبةُ قلب من رانسفورد — حيث أثَّر فيه بشدةٍ المصيرُ المؤسف للرجل. وبعد ظُهر ذلك اليوم، أرشد خادم كنيسة سانت ويجبرت الآنسةَ بيوري والسيد ساكفيل بونهام إلى القبر الجديد، حيث كان يحمل أحدهما إكليلًا من الزهور والآخَرُ مجموعةً كبيرة من الزنابق. كان ساكفيل، الذي تصادف أن يجد ماري في متجر الزهور، قد ذهب إلى هناك ليشتريَ باقةَ زهورٍ لأمه، وعرَف ما تريد ماري أن تفعل، وقد استرعَته الفكرة — أو الرغبةُ في نيل رضا الآنسة بيوري — لدرجةِ أنه اشترى زهورًا على الفور لنفسِه إرضاءً لها، وأصرَّ على مرافقة ماري إلى مدفن الكنيسة.

سمع برايس عن هذا التكريم لجون برادن في اليوم التالي — من السيدة فوليوت، والدة ساكفيل بونهام، وهي سيدةٌ ضخمة البنيان تُهيمن على دوائرَ معينةٍ في مجتمع رايتشستر من نواحٍ عديدة. وكانت السيدة فوليوت واحدةً من هؤلاء النساء التي حبَتْها الطبيعة بالقوة — وهي لافتةٌ للانتباه من نواحٍ كثيرة. كان صوتها ذُكوريًّا، ويبلغ طولها حوالي ستة أقدام، وعرْضها يتوافق مع ارتفاعها، وهي ذات عينَين ثاقبتين، وأنفٍ روماني، ولم يكن هناك مسئول كنيس في رايتشستر لا يخضع لسيطرتها، وإذا رآها العميد نفسُه قادمةً، فقد كان يستدير على عجَلٍ ويدخل إلى أقربِ متجرٍ وهو يتصبب عرقًا؛ خوفًا من أن تتبعَه. كانت السيدة فوليوت، ذاتُ الثروة والثقة بالنفس، هي الروحَ القائدةَ في العديد من أعمال البرِّ والإحسان، لكن كان هناك أشخاصٌ في رايتشستر قُساةً بما يكفي ليقولوا — من خلفِ ظهرها — إنها متطفلةٌ بقدْرِ ما كانت بلا شكٍّ استبداديةً، ولكن، كما أشار ذاتَ مرة أحدُ أخلصِ المدافعين عنها من رجال الدين، فإن هؤلاء المتذمرين يُمكن أن يُغيروا رأيهم مقابل خمسة شلنات. كانت السيدة فوليوت، من خلال طريقتها، بلا شك مركزَ قوةٍ، وكان بيمبرتون برايس ولأسبابٍ تخصه، كلما التقى بها — وهو ما يحدث كثيرًا إلى حدٍّ ما — يُعاملها بلطفٍ وتهذيب على الدوام.

علقت السيدة فوليوت بأعمقِ نبرةٍ لصوتها، عندما قابلت برايس، في اليوم التالي للجنازة، عند زاوية شارعٍ خلفي كانت متوجهةً عبره إلى إحدى مهامِّها الخيرية، كي تُفزع أيًّا من النساء اللواتي يتصادف أن تُضبط وهي تُمارس النميمة: «إن هذا هو الشيء الأكثر غموضًا يا دكتور برايس.» وتابع: «ما الذي يجعل دكتور رانسفورد يطلب أن تُوضَع الزهور على قبر شخصٍ غريب تمامًا؟ هل هو شعور عاطفي؟ أنا لا أظن ذلك! لا بد أن هناك سببًا.»

أجاب برايس، الذي أثار الأمرُ فضوله بالفعل: «أخشى أنني لا أعرف ما الذي تتحدَّثين عنه، يا سيدة فوليوت.» وأضاف: «هل وضع دكتور رانسفورد زهورًا على أحد القبور؟ — أنا لم أكن أعلم ذلك. لقد تركتُ العمل مع دكتور رانسفورد قبل يومين — لذلك لم أعد أعلمُ عنه شيئًا.»

قالت السيدة فوليوت: «لقد أخبرني ابني، السيد ساكفيل بونهام، أن الآنسة بيوري ذهبَت أمسِ إلى جاردالز وأنفقَت جنيهًا ذهبيًّا — جنيهًا ذهبيًّا بأكمله! — لشراء إكليلٍ من الزهور، وقد أخبرت ساكفيل، أنها ذاهبة، حسَب رغبةِ وصيِّها، لتضعه على قبر ذلك الرجل الغريب. فتأثَّر ساكفيل، وهو فتًى طيب القلب، واشترى هو أيضًا بعضَ الزهور ورافق الآنسةَ بيوري. إنه لأمرٌ في غاية العجب! فالرجل غريب تمامًا! يا إلهي! — عجبًا، إن أحدًا لا يعرف مَن كان هذا الرجل!»

قال برايس: «باستثناء مدير مصرفه، الذي يقول إنه يمتلك عشَرةَ آلاف جنيهٍ في حسابه.»

قالت السيدة فوليوت بجدِّية: «هذا بالتأكيد أمرٌ يدعو للتفكير. ولكن مَن يدري؟ — ربما يكون هذا المالُ مسروقًا. والآن، حقًّا، هل سمعت يومًا عن رجلٍ محترم جدًّا ليس معه حتى بطاقة شخصية أو رسالة؟ ومن أستراليا أيضًا! — التي يهرب إليها كلُّ المتهمين المطلوبين! أتساءل، يا دكتور برايس، حول ما إذا كان الطبيب رانسفورد قد عرَف هذا الرجل — خلال السنوات الماضية؟ ربما كان يعرفه، ربما كان يعرفه — بالتأكيد! وهذا، بالطبع، يُفسِّر رغبتَه في وضع زهورٍ على قبره.»

قال برايس: «هناك قدرٌ كبير في الأمر يتطلَّب تفسيرًا يا سيدة فوليوت.» كان يتساءل في نفسه عما إذا كان من الحكمة سكْب قطرة صغيرة من السُّم في عقل السيدة، لزيادةِ التأثيرِ والانتشار في الوقت المناسب. فتابع قائلًا: «أنا — بالطبع، ربما أكون مخطئًا — أعتقد بالتأكيد أن دكتور رانسفورد بدا مضطربًا بنحوٍ غيرِ معتاد بسبب هذه المسألة — من الواضح أنها أزعجته كثيرًا.»

ردَّت السيدة فوليوت: «لقد سمعت هذا — من آخَرين حضروا جلسةَ التحقيق.» وتابع: «في رأيي أن القاضيَ — وهو رجل موقَّر بخلاف ذلك — ليس دقيقًا بما فيه الكفاية. لقد قلت للسيد فوليوت هذا الصباح، عند قراءة الصحيفة، إنه في رأيي كان ينبغي تأجيلُ جلسة التحقيق لجمع المزيدِ من المعلومات. أنا أعرف معلومةً لم تُذكر قط في تلك الجلسة!»

قال برايس: «ماذا؟» ثم أردف: «وما هي؟»

أجابت السيدة فوليوت: «لقد أخبرَتني السيدة ديرامور، التي يقع منزلها، كما تعلم، بجوار منزل دكتور رانسفورد، هذا الصباح أنه في صباحِ يوم الحادث، تصادف أنها نظرت من إحدى نوافذ منزلها العُلوية، فرأت رجلًا تشعر السيدة ديرامور، من الوصف الوارد في الصحف، أنها متأكِّدة من أنه هو الغريب الغامض، وكان يَعبر كلوس باتجاهِ الكاتدرائية، بحسَب السيدة ديرامور، في خطٍّ مستقيم مباشر من حديقة دكتور رانسفورد — كما لو كان قد خرج من هناك. دكتور برايس، كان يجب طرح سؤال مباشر على دكتور رانسفورد وهو: هل رأى ذلك الرجل من قبل؟»

«أنتِ على حق، لكن كما ترين، يا سيدة فوليوت، فإن القاضيَ لم يكن يعرف ما رأته السيدة ديرامور؛ لذلك لم يستطِع طرحَ مثل هذا السؤال، وكذلك لم يستطِع أيُّ شخص آخر.» هكذا أجاب برايس، الذي كان يتساءل عن المدة التي وقفَت خلالها السيدةُ ديرامور في نافذتها العلوية وما إذا كانت قد رأته يتبع برادن أو لا. ثم أضاف: «لكن هناك ملابَسات، بلا شك، يجب الاستفسارُ عنها. ومن المؤكد أنه أمر مثيرٌ للفضول للغاية أن يُرسل دكتور رانسفورد إكليلًا من الزهور إلى قبر شخص غريب.»

وعندما ترك السيدة فوليوت، كان مقتنعًا بأن فضولها قد أُثير، وأن لسانَها لن يتوقف عن الحديث في هذا الأمر؛ فالسيدة فوليوت لديها موهبةُ خلقِ جوٍّ عام، وإذا كانت قد اقتنعت بأن هناك صلةً غامضة بين دكتور رانسفورد والرجل الميت، فهي لن ترتاح أبدًا حتى تنشر شكوكها. لكن بالنسبة إلى برايس نفسِه، فقد أراد أكثرَ من الشكوك؛ لقد أراد الحقائق والتفاصيلَ والبيانات. ومرةً أخرى بدأ يراجع كم الأدلة التي تراكمَت لديه.

لقد ترك في الوقت الحاليِّ مسألة قُصاصة الورق التي عثر عليها في حقيبة برادن، والمكان الدقيق لقبر ريتشارد جينكينز في بارادايس. إذ إن ما أثار اهتمامه الآن بنحوٍ رئيسي هو الإعلان في صحيفة «ذا تايمز» الذي لفت الانتباهَ إليه مدير البنك اللندني. وسارع إلى شراء نسخةٍ من الصحيفة وقصَّ منها الإعلان. وقد كان ينصُّ على ما يلي: إن ستيكر (الذي من المفترض أن يكون صديقًا قديمًا) يُريد مقابلة الصديق القديم ماركو، وأيًّا مَن يكون ستيكر فيُمكن العثور عليه بالتأكيد من خلال جيه برادن. ولم يكن هناك شكٌّ للحظةٍ، في ذهن برايس، أن ستيكر هو جيه برادن نفسُه. والآن، مَن هو ماركو؟ مَن سيكون — بنسبة تأكيد مليون إلى واحد! — سوى رانسفورد، الذي كان اسمه الأول مارك؟

لقد تصوَّر أن فُرصه في التعرُّف على حقيقة القضية تجدَّدت مرةً أخرى في تلك الليلة. وحسبما كانت الأمور، بدا من غير المحتمل أن يظهر أيُّ أقاربَ أو معارفَ لبرادن الآن. لقد انتشرت قضية رايتشستر بارادايس، وَفْق ما أطلق عليها الصحفيُّون على نحوٍ ملائم، على نحوٍ كبير في الصحف، سواءٌ اللندنية أو الإقليمية؛ ولم يكن من الممكن أن تحظى بتغطيةٍ أكثرَ من ذلك — ومع ذلك لم يظهر أحدٌ من معارفه، باستثناءِ مديرِ البنك هذا. إذا كان هناك أيُّ شخص سيظهر، فإن كلام مدير البنك كان سيُصبح بالتأكيد حافزًا للإسراع من ذلك — لأنه كان هناك مبلغُ عشَرة آلافِ جنيه في انتظار أقربِ أقرباء جون برادن. في رأي برايس، فإن فرصةَ تقديمِ مطالبةٍ بالعشَرة الآلاف جنيه لن تُترَك لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة — فكلُّ مَن سيرى إمكانية استثمار مثل هذه الفرصة سوف يستخدم التلغراف أو الهاتفَ بنحوٍ فوري. لكن لم تصل حتى الآن أيُّ رسالة من أي شخص يدَّعي علاقته بالرجل الميت إلى شرطة رايتشستر.

عندما أخذ برايس كلَّ شيء في الاعتبار، لم يجد أيَّ دليلٍ أفضلَ في الوقت الحاليِّ من ذلك الذي اقترحه أمبروز كامباني — بارثورب. كان برايس يرى أن أمبروز كامباني، بالإضافة إلى كونه قارئًا نهمًا، رجلٌ فَطِن، وذكي — إنه رجلٌ لديه القدرة على صياغةِ أفكارٍ منطقية ومبتكَرة. كان هناك بالتأكيد الكثيرُ من الوجاهة في اقتراحه بأن الرجل لم يكن من المحتمل أن يشتريَ كتابًا قديمًا عن بلدةٍ صغيرةٍ غيرِ مهمة مثل بارثورب ما لم يكن لديه بعضُ الاهتمام بها — لذا فإن بارثورب، إذا كانت نظريةُ كامباني صحيحةً، هي على الأرجح موطنُ جون برادن الأصلي.

ومن ثَم، يُمكن العثور في بارثورب على معلوماتٍ حول برادن تؤدي إلى معرفة ارتباطِه أو علاقته برانسفورد. صحيحٌ أن شرطة بارثورب قد أعلنَت بالفعل أنها ليس لديها أيُّ معلومات عن برادن، لكن هذا، في رأي برايس، لم يكن ليُثبت أيَّ شيء — حيث توصَّل بالفعل إلى استنتاجٍ مفاده أن برادن كان اسمًا مستعارًا. وإذا ذهب إلى بارثورب، فلن يُزعج الشرطة؛ فهو يعرف أساليبَ أفضلَ من ذلك لاستخلاص المعلومات. فهل سيذهب إلى هناك وهل يستحق الأمر عناءه؟ وقد اتخذ قرارَه بعد التأمُّل للحظة؛ إن أي شيء من شأنه أن يُساعده في إحكام قبضته على مارك رانسفورد يستحق عناءه. ولأنه دائمًا ما كان عمليًّا في أفعاله، فقد ذهب إلى المكتبة العامة، وحصل على أحد المعاجم الجُغرافية، وبحث عن معلوماتٍ حول بارثورب. ومنها علم أن بارثورب هي مدينة تِجارية قديمة يبلغ عددُ سكانها ألفَي نسمة في شمال ليسترشير، ولا تشتهر بأيِّ شيء سوى أنها كانت ساحةً لمعركةٍ في زمن حروب الوردتَين، وأن اقتصادها كان يقوم بالأساس على الزراعة وصناعة الجوارب — من الواضح أنه مكان عتيقٌ بطيءُ الإيقاع وهادئ.

في تلك الليلة، ملأ برايس حقيبةً بمستلزماتٍ صغيرة تكفي رحلةً لبضعة أيام، وفي صباح اليوم التالي استقلَّ قطارًا مبكرًا إلى لندن، وفي نهاية عصر ذلك اليوم، وجد نفسَه في قطارٍ سريعٍ متجهٍ شمالًا نحو منطقة ميدلاندز، وكان القطار أثناء سيره يجعله يرى مساحاتٍ خضراءَ متموجةً من ليسترشير. وبينما كان قطاره يتوقف لمدة ثلاث دقائق في ليستر نفسِها، جرى تذكيره بالغرض من رحلته فجأةً من خلال سماع أصوات الحمَّالين العالية على الرصيف.

«المحطَّة التالية هي بارثورب! — بارثورب هي المحطَّة التالية!»

استدار أحدُ الرجلَين الآخرَين، اللذين كانا يتَشاركان مقصورةَ تدخينٍ مع برايس، إلى رفيقه عندما انطلق القطارُ مرة أخرى.

وقال: «بارثورب؟» وأضاف: «هذا هو المكان الذي ذُكر في تلك القضية الغريبة للغاية في رايتشستر، التي كُتب عنها في الصُّحف كثيرًا خلال الأيام القليلة الماضية. إنها الخاصةُ بذلك الغريب الغامض الذي أودعَ عشَرة آلافِ جنيه في أحد بنوك لندن، والذي لا يبدو أن أحدًا يعرفُ شيئًا عنه، ولم يكن معه شيء سوى كتابٍ عن تاريخ بارثورب. إنه أمرٌ غريب! ومع ذلك، على الرغم من أنك قد تظنُّ أنه لديه علاقةٌ ما بالمكان، أو أنه يعرفه، فإنهم يقولون إنه لا أحدَ في بارثورب يعرف أيَّ شيء عن أي شخص بهذا الاسم.»

أجاب الرجلُ الآخر: «حسنًا، أنا لا أجد أنَّ هناك شيئًا غريبًا جدًّا في هذا في نهاية الأمر.» وتابع: «فربما اشترى ذلك الكتابَ العتيقَ لأحد الأسباب العديدة التي يُمكن اقتراحها. كلا، لقد قرأت كلَّ شيء عن هذه القضية في الصحف، ولم أهتمَّ كثيرًا بمعلومة الكتاب العتيق. لكن دعني أخبِرْك بأمرٍ ما؛ وهو أن هناك شيئًا استرعى انتباهي. أنا أعرف منطقة بارثورب هذه — التي سنصل إليها في غضون بضع دقائق — وقد زُرتها كثيرًا. لقد وردَ اسم هذا الرجل الغريب في الصحف على أنه جون برادن. ويوجد بالقرب من بارثورب — على بُعد ميلٍ أو ميلَين خارجها — قريةٌ بهذا الاسم؛ برادن ميدوورث. هذه مصادفةٌ غريبة — وبالأخذ في الاعتبار امتلاك الرجل لكتاب عتيق عن بارثورب، ربما يوجد شيء في الأمر — ربما أكثر مما كنتُ أعتقد في البداية.»

قال المتحدث الأول: «حسنًا، إنها قضية غريبة — غريبة جدًّا.» وأردف: «وبما أن هناك عشَرةَ آلاف جنيه في المسألة، فسوف نسمع المزيدَ عنها. سيسعى شخصٌ ما للحصول عليها، تأكَّد من ذلك!»

غادر برايس القطارَ في بارثورب شاكرًا حظَّه السعيد؛ فالرجل الجالس في الزاوية البعيدة قد أعطاه تلميحًا مهمًّا عن غير قصد. لذا كان سيزور برادن ميدوورث — كانت الصدفة مدهشةً للغاية بحيث لا يُمكن إهمالها. لكنه أولًا، كان سيتفقَّد بارثورب نفسَها، وهي مدينة تِجاريةٌ صغيرة غريبة ذاتُ طرازٍ عتيق، حيث كانت بعض المنازل الرئيسية لا تزال أسقفُها مصنوعةً من القش، وحيث ظلت العادة القديمة لدقِّ جرس إطفاء الأنوار ساريةً. وهناك وجد فندقًا عتيقَ الطراز في السوق القريب بشدة من الكنيسة الرعوية، وفي غرفة الطعام الخاصة به والمكسوةِ جدرانُها بألواحٍ من خشب البلوط، التي عُلقت عليها لوحاتٌ لكبار ممارسي رياضة صيد الثعالب ومطبوعات قديمة غريبة لأيام الرياضة والتدريب، تناول العشاء بنحوٍ مريحٍ وجيد.

كان الوقت قد تأخَّر جدًّا لمحاولة إجراء أيِّ تحرٍّ في ذلك المساء، وعندما انتهى برايس من عشائه الهادئ، توجَّه إلى غرفة التدخين — وهي قاعةٌ أقدمُ وأكثرُ روعةً من تلك التي ترَكها للتو. كانت واحدةً من تلك الغرف الموجودة فقط في المنازل العتيقة للغاية؛ غرفة ذات زوايا وأركانٍ متعددة، مع مِدفأة كبيرة مفتوحة، وأثاث قديم ولوحات وتحف قديمة، وهو من نوعية الأماكن التي لا يزال يلتقي فيها التجارُ ذَوو الطراز العتيق من مدنِ الريف الصغيرة لقضاء أمسية، بدلًا من ارتياد النوادي السياسية الحديثة. كان هناك العديدُ من الرجال من هذا النوع في القاعة عندما دخل برايس، الذين كانوا يتحدَّثون عن السياسة المحلية فيما بينهم، ووجد ركنًا هادئًا وجلس فيه للتدخين، مُمنِّيًا نفسه بالحصول على بعض التسلية من الحديث الذي يدور حوله؛ فقد كان من شأنه دائمًا أن يحاول العثورَ على الإثارة والتسلية من أيِّ شيء يُعرَض أمامه. لكنه لم يكن قد استقرَّ على كرسيٍّ مريح ذي وسادة ومسندَين عندما فُتح الباب مرةً أخرى ودخل إلى القاعة سيمبسون هاركر العجوز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤