مغامرة الرجل الزاحف

لطالما كان السيِّد شيرلوك هولمز يرى أنه يجِب عليَّ أن أنشر الحقائق الغريبة المُرتبطة بالبروفيسور بريسبري، حتى لو لم يكن ذلك إلَّا لتبديد الشائعات المُزعِجة بصورةٍ نهائية، والتي أثارتْ قلق الجامعة وتردَّد صداها في جمعيَّات لندن العِلمية قبل ما يقرُب من عشرين عامًا. غير أنَّ الطريق إلى ذلك لم يَخلُ من العَقبات، وظلَّت القصَّة الحقيقية لهذه القضية الغريبة مَدفونةً في عُلبة الصفيح التي يقبَع فيها الكثير من السِّجلَّات الشاهِدة على مُغامرات صديقي. لكنَّنا حصلْنا أخيرًا الآن على الإذن بإعلان الحقائق التي شكَّلتْ واحدةً من آخِر القضايا التي تولَّاها هولمز قبل تقاعُده عن هذه المهنة. وحتى في وقتِنا الراهن علينا أن نُراعي قدْرًا مُعيَّنًا من التكتُّم والتحفُّظ عند عرْض الحقائق أمام الجمهور.

كان الوقت مساءَ يومٍ من أيام الآحاد في بداية سبتمبر عام ١٩٠٣ عندما تلقَّيتُ من هولمز رسالةً مقتضبةً يقول فيها:

احضر فورًا إذا ناسبَك ذلك، وإن لم يُناسِبك، فاحضر على أيِّ حال.

إس إتش

كانت علاقتنا غريبةً في تلك الأيام الأخيرة؛ فقد كان رجلًا يتَّبِع عاداتٍ مُعينة، عادات مُحدَّدة ومركزة، وقد أصبحتُ أنا واحدةً منها. أصبحتُ ركنًا مُهمًّا من أركان حياته؛ كنتُ كالكمان والتَّبغ الخشن والغليون الأسود القديم والفهارس، وغيرها مِن الأشياء التي قد أجِد صعوبةً أكبر في تبرير أهمِّيتها بالنسبة إليه. فحين كانت تبرز قضية تتطلَّب عملًا حثيثًا وكان يحتاج إلى رفيق يُمكنه أن يُعوِّل بعض الشيء على شجاعتِه ورَباطة جأشِه، كان دوري واضحًا. لكن بخِلاف ذلك، كانت لي مَنافع أخرى؛ كنتُ أداةً لشحْذ عقله ومُحفِّزًا له؛ فكان يُحبُّ أن يفكر بصوتٍ عالٍ في حضوري. يصعُب الزَّعم بأنه كان يوجِّه مُلاحظاته إليَّ، فقد كان يُوجِّه الكثير منها إلى هَيكل سريره، لكنَّه على أيِّ حالٍ تَبنَّى هذه العادة؛ ومن ثَمَّ فقد كان من المُفيد على نحوٍ ما أن أكون حاضرًا، مُوثِّقًا ومُتدخِّلًا. وحتى إنْ أزعجه منِّي بعض البطء المَنهجي الذي تتَّسِم به عقليتي، لم يكن ذلك الانزعاج ليؤدِّي إلَّا إلى توهُّج انطباعاته وحدْسِه المُتوقِّد كاللهيب، بسرعةٍ أكبر وحيوية أشدَّ. كان ذلك هو دَوري المُتواضع في رابِطتنا.

حين وصلتُ إلى شارع بيكر وجدتُه مُكَوَّمًا في كُرسيِّه ذي الذِّراعَين. رُكبتاه مَرفوعتان إلى الأعلى، وقد وَضع غليونه في فمه، وتقطَّب جبينُه من التفكير؛ فقد كان من الواضح أنه في خضمِّ التفكير في مسألةٍ مُزعِجة. وبإيماءة من يدِه، أشار إلى مقعدي القديم. أمَّا فيما عدا ذلك، فقد مرَّ نِصف ساعة كاملة قبل أن تبدو منه أيُّ إشارةٍ أخرى تدلُّ على أنه كان مُدركًا لوجودي، ثم أجفل وكأنَّه يُفيق من أحد أحلام اليقظة، وبابتسامته الهازلة المُعتادة، رحَّب بي مُجدَّدًا في المنزل الذي كان منزلي يومًا ما.

بدأ بالحديث قائلًا: «لعلَّك تعذُر شرود ذِهني يا عزيزي واطسون؛ فقد تنامى إلى عِلمي بعض الحقائق المُثيرة في غضون الأربع والعشرين ساعةً الماضية، فطرَحَت تلك الحقائق أمامي بعض التأمُّلاتِ الأعمِّ في طبيعتها. إنَّني أفكر جدِّيًّا في كتابة دراسةٍ قصيرة عن استخدام الكلاب في عمل المُحقِّق.»

أجبتُه قائلًا: «لكنَّ ذلك قد كُتِبَ من قبل بلا شكٍّ يا هولمز، الكلاب البوليسية بأنواعها …»

استدرك هولمز قائلًا: «كلَّا، كلَّا يا واطسون، هذا الجانب من المسألة واضِح بالطبع، لكنَّ لها جانبًا آخَرَ أشدَّ خفاءً بكثير. لعلك تتذكَّر تلك القضية التي أطلقتَ عليها بطريقتك المُثيرة اسم «مُغامرة أشجار الزان النُّحاسية»؛ إذ تمكَّنتُ من خلال مُراقبة حالة الطفل المِزاجية من أن أستنتِج العادات الإجرامية لذلك الأب المَرموق المُتعجرِف.»

«أجل، أتذكَّر ذلك جيدًا.»

«حسنًا، إنَّ المَنحى الذي تتَّخِذه أفكاري عن الكلاب يتَّبِع المِنوال نفسه؛ فالكلاب تعكِس حياة الأُسرة التي تعيش بينها؛ فمن ذا الذي رأى كلبًا مرِحًا في أُسرة كئيبةٍ أو كلبًا حزينًا في أسرةٍ سعيدة؟ ستجِد أنَّ الغَضوبِين كلابُهم غَضوبة، والخَطِرين كلابُهم خَطِرة، ومن ثَمَّ فقد تُعبِّر أمزِجَةُ الكلاب عن أمزِجَةِ أصحابها.»

هززتُ رأسي قائلًا: «لا بدَّ أنَّ ذلك احتمال بعيد يا هولمز.»

كان هولمز قد ملأ غليونه من جديد، وتابَع جلسته دون أن ينتبِهَ لتعليقي.

«إنَّ التطبيق العملي لما قُلتُه وَثيق الصِّلة بالمسألة التي أحقِّقُ فيها الآن. إنها عقدة من خُيوطٍ مُتشابكة، كما تعرِف، وأنا أبحث فيها عن طرفٍ يُمكنني البَدء منه، وقد يتمثَّل أحد هذه الأطراف في السؤال: لماذا حاوَلَ رُوي، الكلب الذِّئبي للبروفيسور بريسبري، أن يَعَضَّه؟»

غصتُ في مقعدي وقد انتابني شيء من خَيبة الأمل؛ ألِسؤالٍ تافِهٍ كهذا استدْعاني من عَملي؟ رمَقَني هولمز بنظره قائلًا:

«لم تتغيَّر بعدُ يا واطسون! لا تُدرك أبدًا أنَّ أخطر القضايا قد تستنِد إلى أتفَهِ الأمور. لكن ألا يبدو غريبًا للوَهلة الأولى أن فَيلسوفًا عَجوزًا وَقورًا — لقد سمعتُ عن بريسبري بالطبع، أستاذ الفسيولوجيا الشهير بجامعة كامفورد. أليس كذلك؟ — أليس غريبًا أن يتعرَّض رجل كهذا، كان كلبُه الذِّئبي الوفيُّ هو صديقه الصَّدُوق، لهجومٍ من كلبه مرَّتَين حتى الآن؟ ماذا تَستنتِج من هذا؟»

«الكلب مريض.»

«حسنًا، لا يُمكننا إغفال هذا الاحتمال، لكنه لم يُهاجِم أيَّ شخصٍ آخر، ولا يبدو حتى أنه يُزعِج صاحِبه إلَّا في مواقِفَ استثنائيةٍ للغاية. إنه أمرٌ غريب يا واطسون، غريب للغاية. ها هو السيد بينيت الشابُّ قد حضر قبل مَوعِده، إن كان هو مَن يدقُّ الجرَس. كنتُ آمُل أن يطول حديثُنا قبل أن يأتي.»

وقْع خطواتٍ سريعة على الدَّرَج، ثم نقرٌ حادٌّ على الباب، وبعدَها بلحظة، قدَّم العميل الجديد نفسه. كان شابًّا طويلًا وسيمًا، في الثلاثين من عمره، حسن الهِندام مُتأنِّقًا، لكنَّ ثَمَّةَ شيئًا في تَصرُّفاته يَشِي بخجلِ الطالِب لا ثِقة الرجل الذي اختبَرَ الحياة. صافَحَ هُولمز ثُمَّ نظر إليَّ ببعض الدَّهْشة.

بدأ بالحديث مُخاطبًا هولمز: «هذا الأمرُ حسَّاس للغاية يا سيِّد هُولمز، يجِب أن تُراعي صِلَتي بالبروفيسور بريسبري من الناحية الخاصَّة والعامَّة كذلك؛ لذا فإنه يصعُب عليَّ أن أجِدَ مُبرِّرًا يدفعُني إلى الحديث في وجود أيِّ شخصٍ آخر.»

«لا تخشَ شيئًا يا سيِّد بينيت؛ فالدكتور واطسون خير مثال على التكتُّم، كما أنَّني أستطيع أن أؤكد لك أنَّني سأحتاج على الأرجَح إلى وجود مُساعدٍ في هذا الأمر.»

«كما تشاء يا سيد هولمز، أنا على يقينٍ من أنك ستتفهَّم السبب فيما أبديتُه من تحفُّظات في هذا الأمر.»

«سوف تتفهَّم الأمر يا واطسون حين أُخبرك بأنَّ هذا السيد النبيل، تريفور بينيت، هو المُساعد الفني للعالِم العظيم، وهو خطيب ابنته ويعيش معه تحت سقْفٍ واحد. لا بُدَّ أن نتَّفِق بالتأكيد على أنَّ البروفيسور يرى استحقاقَه التامَّ لولائه وإخلاصه، غير أنَّهُ قد يكون من الأفضل إثبات ذلك باتِّخاذ الخطوات المُناسبة لتفسير هذا اللُّغز الغريب.»

«آمُل ذلك يا سيد هولمز؛ فذلك هو هدَفي الوحيد. هل يدري الدكتور واطسون بالوضع؟»

«لم يَتوافر لي الوقت الكافي لكي أشرَح له.»

«حسنًا، ربما يكون من الأفضل إذن أن أستعرِض خلفيَّةَ الموضوع أوَّلًا، قبل أن أُخبركم ببعض التطوُّرات الجديدة.»

تناولَ هولمز دفَّة الحديث قائلًا: «سأفعل أنا ذلك بنفسي كي أُثبِتَ أنني مُلمٌّ بالأحداث في ترتيبها الصحيح. حسنًا يا واطسون، تَذيع سُمعة البروفيسور في أوروبا كلها. تَصطبِغ حياته بالطابع الأكاديمي ولم تَشُبْ سُمعته أيُّ شائعة قط. تُوفِّيَتْ زوجته ولديه ابنة واحدة تُسمَّى إديث. إنه، حسب استنتاجي، رجل ذو شخصية فعَّالة وإيجابية للغاية، وطبيعةٍ ربما يَسَعُنا أن نَصِفها بأنها نِضاليَّة، وقد كانت تلك هي الحال حتى بضعة أشهر.

بعد ذلك اضطرَب مَسار حياته. إنه يبلُغ من العمر واحدًا وستِّين عامًا، لكنَّه خطب ابنة البروفيسور مُورفي، زميله في قِسم التشريح المُقارَن. لم يكن السبب في تلك الخِطبة، كما فهمتُ، نابعًا من التودُّد المُتعقِّل إلى رجلٍ مُسنٍّ، وإنما هو شغفُ الشباب المُتَّقِد؛ فلم يكن لغيره أن يُبدي كلَّ هذا التَّفاني والإخلاص في الحُب. أما السيدة، ألِيس مورفي، فقد كانت فتاةً مِثاليَّة، جمالًا وعقلًا؛ لذا فالبروفيسور معذور تمامًا في افتِتانه بها، غير أنَّ تلك العلاقة لم تحظَ بالقَبول التامِّ من جميع أفراد عائلته.»

تحدَّث زائرنا: «كُنَّا نرى أنَّها علاقة مُتجاوِزة حدود المعقول.»

«بالضبط، مُتجاوِزة حدود المعقول وجامِحة بعض الشيء وغريبة كذلك، لكن البروفيسور بريسبري كان ثريًّا، ولم يكن ثَمَّ اعتراض من جانب الوالد. أما الابنة فقد كانت لها آراء أخرى، وكان هناك بالفعل العديد من الرجال مِمَّن يتقدَّمون لخِطبتها. وحتى إن كان البروفيسور يفوقهم غنًى، فإنهم كانوا على الأقلِّ أكثر مُناسبةً من ناحية العمر. بدا أنَّ الفتاة أُعْجِبَتْ بالبروفيسور بالرغم من غرابة أطواره، ولم يقِف عقبةً في الطريق إلَّا عنصر السنِّ.

وفي هذه الفترة ظهر فجأة لُغزٌ صغير عكَّر صفاء الرُّوتين المُعتاد لحياة البروفيسور؛ فقد فعل ما لم يكن يفعله قطُّ من قبل، فقد غادر المنزل دون أن يُخبر أحدًا بوِجْهته، وغاب لمدة أسبوعَين، ثم عاد مُرهقًا كمَن أبلاه السفر دون أدنى إشارةٍ إلى المكان الذي ذهب إليه، رغم أنه كان دومًا أكثر الرجال وضوحًا وصراحةً. لكن تَصادَف أنَّ عميلنا هنا، السيد بينيت، تلقَّى خِطابًا من أحد زُملائه الطلَّاب في براج، يُعبِّر فيه عن سعادته برؤية البروفيسور بريسبري هناك، غير أنه لم يتمكَّن من التحدُّث إليه، وبهذه الطريقة فقط عَلِم أهل بيتِهِ بمكان اختفائه.

والآن نصِل إلى أهمِّ نُقطة، منذ ذلك الوقت فصاعدًا طرأتْ على البروفيسور تَغيُّرات غريبة؛ فقد أصبح غامضًا ومُتخابثًا. صار مَن حوله يَشعرون دائمًا أنه لم يَعُد الرجل نفسه الذي كانوا يعرفونه، بل أضحى مُحاطًا بظِلالٍ ما تُخفي مَناقِبَه السامية. لم يتأثر ذكاؤه؛ فمُحاضراته لا تزال رائعة كعهدها، لكنَّنا كنَّا نُلاحظ دائمًا أنَّ هناك شيئًا جديدًا، شيئًا غير مُتوقَّع ويُنذر بالشؤم. حاولتِ ابنته المُخلِصة مِرارًا وتكرارًا أن تُحافظ على علاقتهما القديمة وأن تخترِق هذا القِناع الذي بدا أنَّ أباها قد ارتداه، وأنت أيضًا يا سيدي أعتقد أنك حاولتَ أن تفعل الشيء نفسه، لكنَّ كلَّ ذلك ذهب هباءً. والآن يا سيد بينيت، أخبِرْنا بنفسك عن حادِثةِ الخطابات.»

«يجِب أن تفهَمَ يا دكتور واطسون أنَّ البروفيسور لم يُخفِ عنِّي أسرارًا قبل ذلك؛ فلو أنَّني كنتُ ابنه أو أخاه الأصغر لما حَظِيتُ بمزيدٍ من ثِقتِه، وبِصِفَتي مُساعِده الخاص، كنتُ أتعامل مع كل ورقةٍ تَرِدُه؛ فكنتُ أفتح الخطابات وأُصَنِّفها حسْب فئاتها، لكنَّه بعد أن عاد بفترةٍ قصيرة تغيَّر كلُّ ذلك؛ فقد أخبَرَني أنَّ بعض الخطابات قد تَرِدُه من لندن، وعليها علامة الصَّليب تحت طابع البريد، وعليَّ أن أُنحِّي هذه الخطابات جانبًا، فلا يراها غيره. يُمكنني أن أقول إنَّ العديد من هذه الخطابات قد مرَّ بيدي، وكانت تحمِل علامة إي سي، وقد كُتِبَتْ بخطٍّ تصعُب قراءته. إن حدث وردَّ على أيٍّ من هذه الخطابات، لم تكن تلك الردود تمرُّ بيدي، ولا كانت تُوضَع حتى في سلَّة البريد التي كُنَّا نجمع فيها الخطابات.»

قال هولمز: «حدِّثنا عن الصندوق أيضًا.»

«أوه، أجل، الصندوق. لقد أحضر البروفيسور من أسفاره صندوقًا خشبيًّا صغيرًا، وهو الشيء الوحيد الذي كان يدلُّ على قِيامه بجَولة أوروبية؛ فقد كان من القِطَع العتيقة المَنحوتة التي تُذكِّرك بألمانيا. كان يحتفِظ بهذا الصندوق في خِزانة أدواته. وفي أحد الأيام، بينما كنتُ أبحث عن قُنْيَة في الخِزانة، تناولتُ الصندوق، وقد فاجأني ردُّ فِعله؛ فقد ثار غضبًا وراح يُوبِّخُني بأقسى الألفاظ. لقد كانت تلك هي المرَّة الأولى التي يحدُث فيها شيء مثل هذا، وقد آلمني ذلك كثيرًا. حاولتُ أن أشرح له أنني لم أتعمَّد أن ألمِس الصندوق، لكنَّني كنتُ مُدركًا أنه ظلَّ ينظر إليَّ بحدَّة طوال المساء، وأنَّ تلك الحادثة كانت ما تزال تعتمل في ذِهنه.» بعد ذلك، أخرج السيد بينيت مُفكِّرة صغيرة من جيبه وقال: «كان ذلك في الثاني من يوليو.»

تحدَّث إليه هولمز: «إنك شاهد مُمتاز بلا شك؛ فقد أحتاج إلى بعض هذه التواريخ التي دوَّنْتَها.»

«لقد تَعَلَّمْتُ أمورًا عديدة من أستاذي، ومنها المَنهجية؛ لذا فورَ أن بدأتُ مُلاحظة سلوكه الغريب، شعرتُ بأنه من واجبي أن أدرُس حالته. ومن ثَمَّ فقد دوَّنتُ هنا أنه في ذلك اليوم بالتحديد، الثاني من يوليو، قد هاجم رُوي البروفيسور بينما كان يخرُج من مكتبه إلى الصالة. ومرةً أخرى في الحادي عشر من يوليو حدَث الشيءُ نفسُه، ثُم في العشرين من يوليو أيضًا تكرَّر الأمر. وبعد ذلك، اضطُرِرْنا إلى أن نُبعد روي في الإسطبلات. لقد كان حيوانًا وَدودًا وعزيزًا لدَينا، لكنِّي أخشى أنَّني قد أضْجرتُكما معي.»

تحدَّث السيد بينيت بنبرةِ تأنيب؛ فقد كان واضحًا للغاية أنَّ هولمز لم يكن يستمع. كان وجهه جامدًا، بينما راح هو يُحدِّق في السقف شاردَ الذهن، ولم يَستفِق من شُروده إلَّا ببعض المجهود، ثم راح يُغمغِم بالحديث: «غريب! غريب للغاية! إنَّ هذه التفاصيل جديدة عليَّ يا سيد بينيت. أعتقد أننا غَطَّينا الآن خلفية الموضوع بما فيه الكفاية. أليس كذلك؟ لكنك كنتَ تتحدَّث عن بعض التطوُّرات الجديدة.»

تَعكَّر وجه زائرنا الحَسن الطَّلْق بغِشاوة التذكُّر، ثم استأنف قائلًا: «ما أحكيه قد جرى في الليلة قبل الماضية. كنتُ أرقُد في السرير مُستيقظًا في الثانية صباحًا، حين سمعتُ صوتًا خافتًا مكتومًا يأتي من الرَّدهة؛ ففتحتُ الباب ورُحتُ أسترِقُ منه النظر إلى الخارج. ويجِب أن تعرِفا أنَّ غرفة نوم البروفيسور تقَع في آخر الردهة …»

قاطعَه هولمز سائلًا: «وقد كان ذلك بتاريخ؟»

بدا زائرنا مُنزعِجًا من تلك المُقاطعة غير ذات الصِّلة بما يَسرُد.

«أخبرتك يا سيدي أنَّ ذلك كان في الليلة قبل الفائتة، أي في الرابع من سبتمبر.»

أومأ هولمز برأسه وابتسم، ثم قال: «أكمل من فضلك.»

«إنه ينام في غرفته في آخر الردهة، ولا بدَّ له من أن يَمُرَّ بباب غُرفتي كي يصِل إلى الدرَج. لقد كانت تلك تجربة مُخيفة يا سيد هولمز. أعتقد أنَّني أتمتَّع برَبَاطة الجأش كجيراني، لكنَّ ما رأيتُه أخافَني حقًّا. كان المَمرُّ مُظلمًا فيما عدا بُقعةً من الضوء قد سقطتْ من النافذة الموجودة في منتصف الطريق. رأيتُ شيئًا يأتي من المَمر، شيئًا داكنًا يربُض في الظلام، وفجأةً ظهَر في الضوء، وقد رأيتُه، كان هو. كان يزحَفُ يا سيِّد هولمز، كان يزحَف! لم يكن يزحَف على يديه ورُكبتَيه، وإنما على يَدَيه وقَدَمَيه، ووجهُه غارِق بين يدَيه. بالرغم من ذلك، فقد كان يبدو أنه يتحرَّك بسهولة، أمَّا أنا، فقد شلَّني منظرُه حتى أنَّني ظللْتُ مُتَسمِّرًا لفترةٍ حتى وصل إلى باب غُرفتي، حينَها تقدَّمتُ وسألتُه إن كان يحتاج إلى المُساعدة. وأما عن إجابته، فقد كانت في غاية الغرابة؛ فقد نهضَ ورَماني بكلمةٍ بذيئة، ومرَّ بي مُسرعًا ثم راح يهبِط الدَّرَج. ظللتُ مُنتظرًا على مدى ساعة، لكنَّه لم يأتِ مُجدَّدًا. أعتقِد أنه لم يدخل غُرفتَه مُجدَّدًا إلى أن بزَغ ضُوء الصباح.»

«حسنًا يا واطسون، ما الذي تَستنتِجه من ذلك؟» سألَني هُولمز وكأنَّه اختصاصي في عِلم الأمراض يَعرِض حالةً نادِرة.

«ربما يُعاني من القُطان، لقد علمتُ بنوبةٍ حادَّة قد جعلتْ رجلًا يمشي بهذه الطريقة، ولا شيء أكثر مَشقَّة على النفس من ذلك.»

«جيِّد يا واطسون! دائمًا ما تُساعِدنا على ألَّا نُغفِل الحقائق، لكنَّنا لا نستطيع أن نقبَل باحتمالِ أنْ يكون السبب هو القُطان؛ ذلك لأنَّهُ سُرعان ما استطاع أن يقِف مُنتصِبًا.»

تحدَّث بينيت قائلًا: «كانت صِحَّتُه بأفضل حال. في الواقع، إنه أقوى ممَّا عهدتُه عليه منذ سنوات. وها هي الحقائق أمامك يا سيد هولمز، وتلك قضية لا يُمكننا أن نَستشير الشُّرطة فيها، وقد حِرْنا تمامًا فيما علينا أن نفعل، ويَنتابنا شعور غريب بأنَّنا على وشْك أن نتَّجِه نحو كارثة. فالآنسة بريسبري، إديث، تشعُر، كما أشعُر أنا أيضًا، بأنَّنا لا يُمكننا أن نقِف مكتوفي الأيدي أكثر من ذلك.»

«إنها قضيَّةٌ غريبةٌ ومُثيرة بلا شك. ما رأيُك يا واطسون؟»

شرعتُ في الحديث قائلًا: «بصِفتي طبيبًا، يبدو لي أنها حالة عقلية؛ فقد تأثَّرت عمليَّات الدِّماغ لدى البروفيسور نتيجة لهذه العلاقة العاطفية، وقد سافر إلى الخارج أملًا في أن يَنسى عِشقه. أما الخطابات والصندوق، فربما تكون مُرتبِطة ببعض المُعاملات الخاصَّة؛ قرْض مثلًا أو بعض شهادات الأسهُم التي وَضَعها في الصندوق.»

«ولم يُوافِق الكلبُ الذئبي بالطبع على تلك الصَّفقة المالية. كلا، كلا يا واطسون، الآن لا يُمكِنني إلَّا أن أقترح …»

إنَّ ما كان شيرلوك هولمز على وشْك أن يقترِحه سيبقى مجهولًا إلى الأبد؛ ففي هذه اللحظة، انفتح الباب ودخلتْ منه امرأة شابَّة، وبمُجرَّد أن ظهرتْ نهض السيد بينيت صائحًا وأقبل عليها بيدَين مَمدودَتَين لتلتقِيا بيدَين كانت قد بَسطتهُما هي نفسها.

«إديث، عزيزتي! أرجو أن تكون الأمور على ما يُرام. هل حدَث شيء؟»

«لقد شعرتُ بأنَّ عليَّ أن أتَّبِعك، أوه، جاك! لقد كنتُ مُرتعِبةً للغاية! إنه لأمرٌ مُريع أن أكون وحدي هناك.»

«هذه هي السيدة الشابَّة التي كنتُ أتحدَّث عنها يا سيد هولمز، إنها خطيبتي.»

أجابه هولمز مُبتسمًا: «كُنَّا على وشك التوصُّل إلى ذلك الاستنتاج بالفعل. أليس كذلك يا واطسون؟ أعتقِد أنه قد جدَّ جديد في قضيَّتنا يا آنسة بريسبري، فشعرتِ بأنَّنا يجدُر بنا أن نعرفه. أليس كذلك؟»

كانت زائرتنا الجديدة شابَّةً حَسْناء وَضيئةً تَتَّسِم بالحُسن الإنجليزي التقليدي، وقد أجابت ابتسامة هولمز بِمِثلِها بينما تتَّخِذ مقعدها بجوار السيد بينيت.

«حين اكتشفتُ أنَّ السيد بينيت قد غادر فُندُقه، خمَّنتُ أنَّني سأجِده هنا على الأرجح. وكان قد أخبرَني بالطبع أنه سيطلُب مَشورتك. أوه، يا سيد هولمز ألا تستطيع أن تُساعد والدي المسكين؟»

«تَحْدُوني آمال يا آنسة بريسبري، لكنَّ القضية ما تزال غامضة، ولعلَّ ما تقولينه يكشِف لنا بعض الحقائق الجديدة.»

«كان ذلك في الليلة الماضية يا سيد هولمز. كان يتصرَّف بغرابةٍ شديدة طوال اليوم. إنني على يقينٍ أنه لا يتذكر أحيانًا ما يفعله، وكأنه يحيا في حلمٍ غريب. لقد كان أمس يومًا غريبًا حقًّا. لم يكن ذلك والدي الذي عشتُ معه. لم يتغيَّر مَظهره الخارجي، لكنَّ تلك ليست بسجاياه.»

«قُصِّي عليَّ ما حدَث.»

«استيقظْتُ في الليل على صوت الكلب وهو ينبَح بشدَّة. رُوي المسكين، إنه مُقيَّد الآن بالقُرب من الإسطبل. دائمًا ما أُغلق باب غُرفتي عند النوم، فنحن، كما سيُخبرك جاك — السيد بينيت — نشعُر بأنَّنا جميعًا في خطرٍ مُحدق. تقَع غُرفتي في الطابق الثاني، وقد حدَث أن كانت ستائر نافذتي الأفقية مفتوحة، وكان ضوء القمر ساطعًا بالخارج. وبينما كنتُ أرقد وعيناي مُثبَّتتان على مُربع الضوء وأنا أستمع إلى نباح الكلب الجنوني، ذُهِلتُ حين رأيتُ وجْهَ والدي ينظر إليَّ من النافذة. لقد كدتُ أموت من المُفاجأة والهلَع يا سيد هولمز. رأيتُ وجهه مُلتصقًا بزُجاج النافذة، وقد بدتْ إحدى يديه مرفوعةً وكأنه يُحاول دفْع النافذة. لو أنَّ تلك النافذة قد فُتحت، لَمَسَّنِي الجنون. لم يكن ذلك خيالًا يا سيد هولمز. لا تُوهِم نفسك باعتقاد ذلك. أستطيع أن أجزِم بأنَّني ظللتُ مدَّةَ عشرين ثانية تقريبًا أشاهِد الوجه وأنا لا أستطيع حَراكًا. ثم اختفى بعد ذلك، لكنَّني لم أستطع، لم أستطع أن أنهض من الفِراش وأُتابعه ببصري. تجمدتُ في مكاني وبتُّ أرتجِف حتى الصباح. وعلى مائدة الإفطار كان حادًّا وعنيفًا. لم تبدُر منه أيُّ إشارة إلى مُغامرة الليل، وكذلك لم أفعل أنا، لكنَّني تذرَّعتُ بالذَّهاب إلى المدينة. وها أنا قد حضرتُ إلى هنا.»

بدا هولمز مُندهشًا تمامًا من حكاية الآنسة بريسبري.

«آنِستي العزيزة، تقولين إنَّ غُرفتك في الطابق الثاني، فهل يُوجَد في الحديقة سُلَّم طويل؟»

«كلَّا، وذلك هو الأمر المُدهِش يا سيد هولمز، لا تُوجَد أي طريقة مُمكنة يُمكن أن يصِل بها إلى النافذة. ورغم ذلك ها قد وصل هناك.»

قال هولمز: «وقد كان ذلك في الخامس من سبتمبر، إنَّ ذلك يُعقِّد الأمر بلا شك.»

كان ذلك دَور الفتاة في أن تبدو مُندهِشة.

وتدخَّل بينيت قائلًا: «إنَّ تلك هي المرَّة الثانية التي تُشير فيها إلى التاريخ يا سيد هولمز، أيُمكن أن يكون لذلك تأثير في القضية؟»

«من المُمكن، من المُمكن جدًّا، لكنَّني لا أمتلِك جميع المعلومات في الوقت الحاضر.»

«لعلَّك تُفكِّر في العلاقة بين الجنون وأطوار القمر؟»

«كلا، أؤكد لك أنَّني كنتُ أفكر في اتِّجاهٍ آخَر. ربما يُمكنك أن تترُك مُفكرتك معي لأتحقَّق من التواريخ. والآن يا واطسون، أعتقِد أنَّ ما سنفعلُه واضح للغاية. لقد أخبرَتْنا هذه الشابَّة، وأنا أثِقُ تمامًا في حدْسها، بأنَّ والِدَها يكاد لا يتذكر شيئًا ممَّا يحدُث في تواريخ مُعيَّنة؛ لذا فإننا سنطلُب مُقابلتَه وكأنه قد حدَّد لنا مَوعدًا في ذلك التاريخ، وسيعزو هو الأمر إلى ضَعف ذاكرته، ومن ثَمَّ فسوف نبدأ رِحلتنا بأن نُشاهِدَه عن قُرب.»

تحدَّث السيد بينيت: «مُمتاز! لكنَّني أُحذِّركما من أنَّ البروفيسور غَضوب وعنيف في بعض الأوقات.»

ابتسم هولمز قائلًا: «ثَمَّة أسباب تدعو إلى تَحرُّكنا على الفور، أسباب وَجيهة جدًّا إن كانت نظريَّتي صحيحة. في الغد سيلتقي بنا السيد بينيت في كامفورد، حيث يُوجَد، حسْبما أتذكر، نُزُل يُدعى تشيكرز، نَبيذُه ذو جَودةٍ فوق المُتوسِّطة وفِراش الأسرَّة فيه مَقبول. أعتقِد يا واطسون أنَّ حظَّنا في الأيام القليلة القادِمة قد يَكمُن في أماكن أقلَّ ترَفًا.»

في صباح يوم الإثنين كُنَّا في طريقنا إلى المدينة التي تقَع بها الجامعة الشهيرة. كان ذلك أمرًا يسيرًا على هولمز الذي لم تكن له جُذور يقتلِعُها. أما أنا، فقد كان ذلك يتطلَّب تَخطيطًا واستعجالًا مَحمومَين؛ فلم يكن عملي حينئذٍ يُستَهان به. لم يُبْدِ هولمز أيَّ إشارة عن القضية إلَّا بعد أن أودَعْنا حقائبنا في النُّزُل القديم الذي تحدَّث عنه.

«أعتقد يا واطسون أننا نستطيع أن نلحَق بالبروفيسور قبل الغَداء؛ فهو يُلقي مُحاضرةً في الحادية عشرة، ثم يذهب للراحة في المَنزل.»

«وماذا سيكون عُذرُنا في زيارته؟»

ألقى هُولمز نظرةً سريعة على المُفكرة.

«لقد شهِدَت الفترة التي أحاطت بيوم السادس والعشرين من أغسطس أحداثًا مُثيرة؛ أعتقد أنه سيكون مُشوَّشًا بعض الشيء بشأن ما يفعله في مثل هذه الأوقات. وإذا جزمْنا له بأنَّنا هناك بناءً على مَوعدٍ معه، فأظنُّ أنه لن يَجرؤ على مُعارضَتِنا في ذلك. فهل لدَيك ما يكفي من الوَقاحة لكي نَتمكَّن من تنفيذ خُطَّتنا؟»

«لا يَسعُنا إلَّا أن نُحاول.»

«رائع يا واطسون! مَزيج من الاجتهاد والبراعة. لا يسعنا إلَّا أن نُحاول؛ ذلك هو شِعار شراكتنا. سوف يُرشدنا أحد سكان المدينة الوَدودين بالتأكيد.»

على ظهر عربةٍ أنيقة مَرَرْنا بصفٍّ من الكليَّات القديمة، ثم انحرفْنا أخيرًا بها إلى طريق تصطفُّ فيه الأشجار، إلى أن توقَّفْنا أمام باب منزلٍ خلَّاب، يَحُفُّ به العُشب في شكلٍ دائري وتُغطيه الوِسْتارية الأرجوانية. لا شكَّ في أنَّ البروفيسور بريسبري كان مُحاطًا بكلِّ وسائل الراحة، بل والتَّرَف أيضًا. في اللحظة التي توقَّفْنا فيها عند الباب ظهَر من النافذة الأمامية رأسٌ قد اشتعل فيه الشَّيب، ورأيْنا عينَين ثاقِبتَين تُشعَّان من تحت حاجبَين أشعثَين، وتتفقدانِنا من وراء نظارة سميكة. وبعدها بلحظةٍ كنَّا في صَومعته، ووقفَ أمامنا العالِم الغامِض الذي أحضرتْنا تقلُّباته السلوكية الغريبة من لندن. لم يَبْدُ عليه أيُّ شيء غريب، لا في تَصرُّفاته أو في مَظهره؛ فقد كان رجلًا مَهيبًا، بارز الملامح، ضخمًا طويلًا، يرتدي مِعطفًا فراك، وتعكس هيئتُه وقارًا يَحتاجُه من هُم مِثله من المُحاضرين. كانت عيناه هي أكثر ملامحه تَميُّزًا؛ ثاقِبتين ومُنتبِهَتَين وماهِرَتَين إلى حدِّ المَكْر.

نظر إلى بطاقتَينا ثم قال: «تفَضَّلا بالجلوس أيها السيِّدان، ماذا عساني أنْ أقدِّم لكما؟»

ابتسم هولمز بِوِد.

«ذلك هو السؤال الذي كنتُ على وشْك أن أطرحَه عليك أيها البروفيسور.»

«عليَّ أنا يا سيِّدي!»

«ربما يكون هناك خطأ ما، فأنا قد سمعتُ من طرفٍ ثانٍ أنَّ البروفيسور بريسبري بمدينة كامفورد يحتاج إلى خِدماتي.»

«حسنًا، بالتأكيد!» قالها البروفيسور وقد لمحتُ في عينَيه بريقًا خبيثًا، ثم تابع: «أيُمكنك أن تُخبرَني باسم من أخبرَك بهذا؟»

«آسِف يا سيدي البروفيسور، لكنَّه أمرٌ يقتضي السِّرِّيَّة. إذا كنتُ قد ارتكبتُ خطأً، فلا بأس بذلك، ولا يَسعُني إلَّا أن أُعبِّر عن أسفي.»

«كلَّا، على الإطلاق، بل إنَّني أودُّ أن أُتابِع هذا الأمر. إنه يُثير اهتمامي. ألدَيك أيُّ دليلٍ كِتابي، كخِطاب أو برقية، يؤكد زَعمك؟»

«كلا، ليس معي.»

«أعتقِد أنك لن تُغامِر إلى حدِّ الإصرار على أنِّي طلبتُ لقاءك. أليس كذلك؟»

أجاب هولمز: «أفضِّل ألَّا أُجيب عن أيِّ أسئلة.»

ردَّ البروفيسور بخشونة: «كلَّا، أظنُّك لا تُفضِّل ذلك. لكن ذلك السؤال بالتحديد يُمكن الإجابة عنه بِسهولة تامَّة دون مُساعدتك.»

ذَرَع الغرفة حتى وصل إلى الجرَس، والذي أجاب نِداءه صديقُنا من لندن السيد بينيت.

«أقبِل يا سيد بينيت، هذان السيِّدان يزعُمان أنهما حضرا من لندن بناءً على طلبي للقائهما، وأنت تُدير جميع مُراسلاتي؛ فهل لدَيك فِكرة عن إرسال أيِّ شيءٍ إلى شخصٍ يُدعى هولمز؟»

أجاب بينيت وقد احمرَّ وجهه: «كلا يا سيدي.»

فقال البروفيسور وهو يرمُق رفيقي بغضب: «إذن فقد حُسِمَ الأمر.» ثُمَّ مال بجسمه إلى الأمام، وقد وضع يدَيه على الطاولة قائلًا: «والآن يا سيدي، يبدو لي أنَّ موقفك محلُّ رِيبةٍ كبيرة.»

هزَّ هولمز كتِفَيه.

«لا يَسعُني سوى أن أُكرِّرَ أسفي على هذا التطفُّل الذي لا ضرورة له.»

«ذلك لا يكفي يا سيِّد هولمز!» قالَها الرجل وهو يَصيح بصوتٍ عالٍ ووجهُه ينطِق بغلٍّ غير عادي. كان يتحدَّث وهو واقِف يَحول بيننا وبين الباب، ثم أشار بيدَيه نحوَنا وهو يَهزُّهُما بغضبٍ مُتَّقِد: «لن يُمكنكما أن تنجُوا من ذلك بمِثل هذه السُّهولة.» تشنَّجَتْ قسَمات وجهه وظلَّ يهذي مُتجهِّمًا في خضمِّ ثَورتِهِ الطائشة. إنَّني مُقتنِع بأنَّنا كُنَّا سنُضطرُّ إلى الشِّجار كي نخرُج من الغرفة لولا تدخُّل السيد بينيت.

إذ صاح قائلًا: «سيدي البروفيسور، فكِّر في مركزك! فكِّر فيما يُمكن أن يتسبَّب فيه ذلك من فضيحةٍ في الجامعة! إنَّ السيد هولمز رجلٌ مشهور؛ لا يُمكنك أن تُعامِلَه بمثل هذه الطريقة الفظَّة.»

أفسح لنا مُضيفُنا الباب بعبوس، إنْ كان يصحُّ لنا أن ندعوه بذلك، الطريق إلى الباب. سُرِرْنا حين وجدْنا أنفسنا خارجَ المنزل، يَكتنِفُنا هدوءُ ذلك الطريق الذي تصطفُّ فيه الأشجار. بدا هولمز مسرورًا للغاية بما حدَث.

تحدَّث هولمز قائلًا: «يبدو أنَّ أعصاب صديقنا المُثقَّف خارج السَّيطرة إلى حدٍّ ما. ربما كان تطفُّلنا فجًّا، لكنَّنا تَمكنَّا من التعرُّف على شخصه، وهو ما كنتُ أرغب فيه. لكن، يا للهول، لا بدَّ أنه يَتتبَّعُنا يا واطسون. هذا الخبيث لا يزال يتعقَّبُنا.»

سمِعْنا صوتَ أقدامٍ تجري من خلفِنا، لكنَّها، لحُسن الحظ، لم تكن قدمَي البروفيسور المُرعِب، بل قدمَي مُساعِده الذي ظهر بالقُرب من مُنحَنى الطريق، وأتانا لاهِثًا.

«إنني آسِفٌ للغاية يا سيد هولمز. أردتُ أن أعتذِر.»

«كلَّا يا عزيزي. لا داعي للأسف، كل ذلك في سياق الخِبرة المِهنية.»

«لم أرَه قطُّ في حالة مِزاجيَّة أخطرَ من تلك، لكنه يَشتدُّ عنفًا كلَّ يوم. لعلَّكما تتفهَّمان الآن سبب قلقِنا أنا وابنتِه، ومع ذلك، فذِهنُه حاضر تمامًا.»

ردَّ هولمز: «حاضر أكثرَ من اللَّازم! وقد كان ذلك سُوء تقديرٍ منِّي؛ فمِن الواضح أنَّ ذاكرته أقوى مما ظننتُ. بالمُناسبة، هل يُمكننا أن نرى نافذة غُرفة الآنسة بريسبري قبل أن نرحل؟»

شقَّ السيد بينيت طريقَه بين بعض الشُّجيرات، ورأيْنا المنزل من الجانب.

«إنها هناك. النافذة الثانية على اليسار.»

«يا إلهي! ليس من السهل الوصول إليها، لكنكما ستُلاحظان وجود هذا النَّبات الزاحِف بالأسفل ومن فوقِه أنبوب مياه، وهو ما يُمكن استخدامه في التسلُّق.»

تحدَّث السيد بينيت: «أنا شخصيًّا لم أستطع تَسلُّقَه.»

«هذا مُتوقَّع تمامًا؛ فهي بالتأكيد مُغامرة خطيرة بالنسبة إلى أيِّ رجُل طبيعي.»

«يُوجَد أمرٌ آخر أودُّ أن أُخبرك به يا سيد هولمز. لديَّ عنوان الرجل الذي يُراسله البروفيسور في لندن. يبدو أنه قد كتَبَ إليه هذا الصباح وقد حصلتُ عليه من ورقِهِ النَّشَّاف. إنه تصرُّفٌ خسيس بالطبع من مُساعدٍ مُؤتمَن، لكن ماذا عساني أن أفعل غير هذا؟»

ألقى هولمز نظرةً على الورقة ثم وَضعها في جَيبِه.

«دوراك، اسم غريب. أعتقد أنه سُلافي. حسنًا، إنها حلقةُ وصلٍ مُهمَّة. سنعود إلى لندن عصر هذا اليوم يا سيد بينيت؛ فلستُ أرى نفعًا من بقائنا هنا. لا يُمكننا القبضُ على البروفيسور لأنه لم يرتكِب أيَّ جريمة، ولا يُمكننا كذلك أن نَضعَه تحت الحِراسة، إذ لا يُمكننا إثبات أنه مجنون. لا يُمكننا أن نتَّخِذ أيَّ إجراء في الوقت الراهن.»

«ماذا عسانا أن نفعل إذن؟»

«القليل من الصبر يا سيد بينيت. قريبًا ستحدُث تطوُّرات جديدة. إن كان ظنِّي صحيحًا، فقد تحدُث أزمةٌ يوم الثلاثاء المُقبل. يجِب أن نكون في كامفورد بالطبع في ذلك اليوم. أما في الوقت الحالي، فالوضع العام ليس جيدًا بلا شك؛ فإذا استطاعت الآنسة بريسبري أن تُطيل زيارتها …»

«ذلك أمر سهل.»

«اطلُب منها أن تبقى إذن حتى نستطيع أن نُطمئنها بأنَّ الخطر قد زال تمامًا. وخلال هذه المدة، دَعْه يفعل كلَّ ما يحلو له ولا تُعارضه؛ فطالما أنه في مِزاج جيد، سيكون كلُّ شيء على ما يُرام.»

همسَ بينيت مَذعورًا: «ها هو هناك!» نظرْنا بين فروع الأشجار فرأيْنا ذلك الجسد الطويل المُنتصِب يظهر من باب الصالة ناظرًا حوله. وقف مائلًا إلى الأمام، ويداه تتأرْجَحان أمامه، بينما يستدير برأسه من جانبٍ إلى جانب. لوَّح إلينا المُساعِد بتحية أخيرة وتسلَّل بين الأشجار، وسُرعان ما رأيناه ينضمُّ إلى ربِّ عمله من جديد، ويدخُلان إلى المنزل معًا بينما يدور بينهما حديثٌ حيويٌّ بل وحماسي أيضًا.

تحدَّث هولمز ونحن نسير باتِّجاه النُّزُل: «أظنُّ أنَّ العجوز قد خمَّن حقيقة الأمر. لقد أُلقيَ في رَوعي من ذلك الوقت القليل الذي رأيتُه فيه أنَّه يتمتَّع بذِهنٍ مَنطقيٍّ شديد التركيز. سيُفجِّر لنا مُفاجأةً عنيفة بالطبع، لكنَّه يرى من وِجهةِ نظره أنه لا بدَّ له من أن يفعل ذلك إن بدأ المُحقِّقون يَعترِضون طريقه واشتَبَهَ في أنَّ أهل بيتِه وراء هذا. إخال أنَّ ذلك الصديق، بينيت، يُواجِهُ وقتًا عَصيبًا بالداخل.»

توقَّف هولمز عند مكتب بريدٍ في طريقنا وأرسل برقية، ووصَلَنا الردُّ في المساء، فقرأه ثم ناوَلَني إيَّاه.

زار طريق كوميرشال رود وقابل دوراك. شخص لطيف وكبير في السنِّ من أصول بوهيمية. يمتلِك مَتجرًا عامًّا كبيرًا.

ميرسر

تحدَّث هولمز: «إنَّني أتعاوَنُ مع ميرسر منذ بدأتُ التعاون معك. إنه مُساعدي ذو الخدمات العامة والذي يؤدِّي المَهامَّ الروتينية. كان من المُهمِّ أن أعرِف شيئًا عن الرجل الذي كان البروفيسور يتواصل معه سرًّا، وقد اتَّضَح أنَّ جنسيته لها علاقة بزيارة براج.»

تحدثتُ قائلًا: «حمدًا لله أنَّ ثَمَّ رابطًا بين أمرَين. يبدو أنَّنا نُواجِه في الوقت الحالي سلسلةً طويلة من الأحداث غير المفهومة والتي لا علاقة لبعضها ببعض. فعلى سبيل المثال، ما هي الصِّلة المُمكنة بين كلبٍ ذِئبي غاضب وزيارة إلى بوهيمي، أو صِلة أيٍّ منهما برجلٍ يزحَفُ على الأرض ليلًا؟ أمَّا بالنسبة إلى التواريخ التي تحرِص على تسجيلها، فذلك هو الأمر الأكثر غموضًا على الإطلاق.»

ابتسم هولمز وراح يفرُك يديه. كُنَّا جالسَين في غرفة الجلوس القديمة بذلك الفندق العتيق، ومعنا زجاجة من الخمر المُعتَّق الشهير على الطاولة.

ضمَّ هولمز أطراف أصابعه إلى بعضها وبدأ في الحديث وكأنه يُخاطب صفًّا دراسيًّا: «حسنًا، لنتناول التَّواريخ أولًا. إنَّ مُفكرة هذا الشابِّ الرائع تُخبِرنا بعدَم استقرار الأمور في الثاني من يوليو، ويبدو، منذ ذلك التاريخ، أنَّ هذا الاضطراب يحدُث كلَّ تسعةِ أيام، فيما عدا استثناءً واحدًا، حسْبما أتذكَّر. إذن، وقَعَ الحادث الأخير يوم الجمعة في الثالث من سبتمبر وهو يَتناسَب مع ذلك التسلسُل، وكذلك حادِث السادس والعشرين من أغسطس الذي سبَقَه. لا يُمكن أن يكون الأمر مُصادَفة.»

لم يكن أمامي بدٌّ من المُوافَقة.

«فلنبدأ إذن بتكوين نظريَّةٍ مُؤقَّتة، وسنفترِض فيها أنَّ البروفيسور يتناوَل عقارًا قويًّا كلَّ تسعة أيام، وهذا العقار له تأثير بالِغُ الضَّرر، لكنَّه مُؤقَّت، وهو يُعزِّز من طبيعته الفِطرية العنيفة. اعتاد البروفيسور على هذا العقار وهو في براج، وهو يَحصُل عليه الآن من وسيطٍ بُوهيميٍّ يعيش في لندن. إنَّ ذلك كله يتلاءم معًا يا واطسون.»

«لكن ماذا عن الكلب، والوجه على النافذة، والرَّجُل الزاحف في المَمر؟»

«حسنًا، حسنًا، لقد تَوصَّلنا إلى البداية. لا أتوقَّع حُدوث أيِّ مُستجدَّات حتى الخميس القادم. لا يَسعُنا حتى ذلك الحين إلَّا أن نَبقى على تواصُلٍ مع صديقنا بينيت، ونستمتِع برفاهية هذه البلدة الساحرة.»

في الصباح، مرَّ بنا السيد بينيت مُتسلِّلًا ليُخبِرنا بآخِر الأخبار. وكما توقَّع هولمز، لم يكن الأمر سهلًا بالنسبة إليه؛ فبالرَّغم من أنَّ البروفيسور لم يَتَّهِمه مُباشرةً بأنه المسئول عن حضورنا، فإنه كان فظًّا وغليظًا للغاية في الحديث. ومن الواضح أنه كان يَعتريه شُعور بالظلم الفادح، لكنه في هذا الصباح، بدا في حالته الطبيعية تمامًا، وألقى مُحاضرته البارِعة كالعادة على صفٍّ مُزدحِم بالطلاب. تحدَّث بينيت قائلًا: «بعيدًا عن نَوباته العصبية الغريبة، أجِدُ أنه يتمتَّع بالفعل بطاقةٍ وحيوية تَفُوقان ما عَهِدته عليه من قبل على الإطلاق، كما أنَّ ذِهنه لم يكن أشدَّ صفاءً ممَّا كان عليه هذا الصباح. لكنه ليس هو، لا يُمكن أبدًا أن يكون الرجل الذي عرَفْناه.»

أجابَه هولمز: «أعتقِد أنَّهُ لا شيءَ يدعوك إلى القلق الآن، ولمُدَّة أسبوع على الأقل. أنا لديَّ أشغالي، والدكتور واطسون لدَيه مَرضاه، فلنتَّفِق على أن نلتقي هنا في هذا التوقيت يوم الثلاثاء القادم. ولا أظنُّ أنَّنا سنُغادر مُجدَّدًا قبل أن نتمكَّن من تفسير مَتاعِبك، حتى وإن لم نَتمكَّن من أن نضَعَ لها حدًّا. راسِلنْا بما يحدُث حتى يَحين لقاؤنا.»

لم أرَ صديقي على الإطلاق في الأيام القليلة التالية، لكنَّني تلقَّيتُ منه رسالةً قصيرة في مساء الإثنين التالي، يطلُب منِّي فيها أن ألقاه في اليوم التالي في القطار. وفقًا لما أخبرَني به ونحن مُسافران في القِطار مُتَّجِهَيْن إلى كامفورد، كان كلُّ شيءٍ يسير على ما يُرام، ولم يحدُث ما يُعكِّر السلام في منزل البروفيسور، وكذلك كانت تَصرُّفاته طبيعيةً تمامًا. كان ذلك أيضًا هو ما أخبرَنا به السيد بينيت حِين زارَنا في مَقرِّنا القديم في نُزُل تشيكرز. «لقد تلقَّى اليوم خطابًا من مُراسِله في لندن، وكذلك طردًا صغيرًا، وكِلاهما كان عليه علامة الصَّليب أسفل الطابع، وهي العلامة التي تُحذِّرني بألَّا أفتح أيًّا منهما. لم يحدُث أيُّ شيء آخَر.»

تحدَّث هولمز عابسًا: «هذا قد يُثبِتُ لنا ما يكفي تمامًا. والآن يا سيد بينيت، أعتقد أننا سنتوَصَّل إلى نتيجةٍ ما هذه الليلة. إذا كانت استنتاجاتي صحيحة، فسوف نَحظى بفُرصة لدفْع القضية إلى نُقطة الحَسْم، وفي سبيل ذلك يلزَم أن يبقى البروفيسور تحت المُلاحظة؛ ولهذا فإنني أقترِح أن تظلَّ مُستيقظًا ومُتأهِّبًا. إذا سمعتَه يمرُّ ببابك، فلا تُقاطعه، واتبَعْه بأقصى ما تستطيع من الحَيطة. وسنبقى أنا والدكتور واطسون على مقرُبة. بالمُناسبة، أين مِفتاح الصندوق الصغير الذي تحدثتَ عنه؟»

«إنه في سلسلة ساعته.»

«أعتقد أنَّ بحْثَنا يجِب أن يتركَّز في هذا الاتجاه إذن. في أسوأ الأحوال، لن يكون القُفل منيعًا للغاية. هل يُوجَد في المنزل غَيرك من الرجال الأشدَّاء؟»

«يُوجَد الحُوذِيُّ، ماكفيل.»

«أين ينام؟»

«أعلى الإسطبلات.»

«مِن المُمكن أن نحتاج إليه. حسنًا، لا يُوجَد ما نفعله أكثر من ذلك حتى نرى إلامَ ستئول الأمور. إلى اللقاء الآن، لكنَّني أتوقَّع أننا سنلتقي قبل الصباح.»

كان الوقت يقترِب من مُنتصف الليل حين اتَّخذْنا مَواقِعنا بين بعض الشُّجيرات التي تقَع أمام باب صالة البروفيسور مُباشرةً. كانت ليلةً لطيفة، لكنها لم تَخلُ من البرودة؛ فسُرِرْنا بمعاطفنا الثقيلة الدافئة. هبَّ النسيم وراحَتِ السُّحب تجري عبر صفحة السماء، فتحجُبُ بين الحِين والآخر وجهَ البدْرِ المُنتصِف. كانت ستُصبِح نَوبة مُراقبةٍ كئيبة لولا ما كان يغشانا من التوقُّع والإثارة، ولولا تأكيد رفيقي أنَّنا قد أوشَكْنا غالبًا على الوصول إلى نهاية سلسلة الأحداث الغريبة التي شغلتِ انْتباهنا.

بدأ هولمز بالحديث: «إذا كانت دَورة الأيام التسعة صحيحة، فسوف يكون البروفيسور في أسوأ حالاته الليلة. بالنظر إلى أنَّ هذه الأعراض الغريبة قد بدأت بعد زيارته إلى براج، وإلى مُراسلاته السِّرِّيَّة مع ذلك التاجر البُوهيمي في لندن، والذي أعتقِد أنه يَنوب عن شخصٍ ما في براج، وإلى تلقِّيه طردًا منه اليوم تحديدًا، فإن كلَّ شيءٍ يصبُّ إذن في اتِّجاهٍ واحد. إنَّ ما يتناوله، والسبب الذي يَتناوَلُه لأجلِه، هذا هو ما لا نعرفه بعدُ، لكنَّنا نعرف أنه يأتي من براج، وهذا واضِح بما يكفي. وهو يَتناوله وفقَ تَوجيهاتٍ مُحدَّدة هي التي تُنظِّم دورة الأيام التسعة، وهي أول ما لفتَ انتباهي. لكنَّ أعراضَهُ لافتة للنظر بشدَّة. هل لاحظتَ مفاصِلَ أصابِعه؟»

كان عليَّ أن أعترِف بأنِّي لم أفعل.

«إنها سميكة وصُلبة بشكلٍ لم أعهدْه ولم يُصادِفْني من قبل. عليك دائمًا أن تنظُر إلى الأيدي أولًا يا واطسون، ثم إلى المَعاصِم ورُكبتَي السروال والحِذاء. إنَّ مفاصل أصابعه غريبة للغاية، ولا يُمكن تفسيرها إلَّا من خلال طريقة التقدُّم التي لاحَظَها …» توقَّف هولمز فجأةً وصفَّق بيدِه على جبينه قائلًا: «أوه، واطسون، واطسون، يا لي من أحمق! يا لي من أحمق! يبدو الأمر غير معقول، لكنه لا بُدَّ أن يكون صحيحًا. إنَّ كلَّ الأمور تُؤدِّي إلى اتِّجاهٍ واحد. كيف فاتَني الانتباه إلى هذا الرابط بين الأفكار؟ هذه المفاصل، كيف أمكنَني أن أُغفِلَها؟ والكلب! واللبلاب! لا بدَّ أنَّني كنتُ غارقًا في مَزرَعة أحلامي الصغيرة. انتبِهْ يا واطسون! ها هو ذا! سوف تتسنَّى لنا فُرصة رؤيته بأنفسنا.»

فُتح باب الصالة ببطء، وعلى خلفية ضوء المصباح، رأينا الجسد الطويل للبروفيسور بريسبري، مُتَّشِحًا في رِداء نَومِه. ظهر البروفيسور في مدخل الباب، وقد بدا مُنتصبًا لكنَّه كان مائلًا إلى الأمام، بينما تتدلَّى ذِراعاه، تمامًا كما رأيناه آخِر مرَّة.

والآن، ها هو يخطو إلى الأمام نحو الطريق، وقد حلَّ عليه تغيُّرٌ عجيب؛ فقد برك على الأرض رابضًا، وراح يتحرَّك على يدَيه وقدَميه، قافزًا بين الحِين والآخَر كما لو كان يَفيض طاقةً وحيوية. مرَّ بواجهة البيت ثُمَّ انحرَف إلى جانبه، وعندما اختفى، انسلَّ بينيت بهدوءٍ من باب الصالة وتَبِعَه.

صاح هولمز فيَّ: «هيا يا واطسون، هيا!» فانسللْنا بهدوءٍ من بين الشُّجيرات حتى وَصلنا إلى بقعةٍ نستطيع أن نرى منها الجانِب الآخَر من المنزل، والذي كان غارقًا في ضوء القمر نِصف المُكتمل. تمكنَّا من رؤية البروفيسور بوضوح: كان رابضًا أسفل الجِدار المُغطَّى باللبلاب. وبينما كُنَّا نُشاهده، بدأ يتسلَّقُه فجأةً برشاقةٍ مُدهشة، فراح ينتقل من غُصنٍ إلى غُصن، واثِق الخُطى، مُحكِمًا قَبضتَه، وهو يتسلَّق في ابتهاجٍ خالِص بِقُواه، دون أن يكون هناك أيُّ هدفٍ مُحدَّد. راح رداؤه يخفق على جانِبَيه، فبدا وكأنه خُفَّاش ضخم مُلتصِق على جانب منزله، أو رُقعة مُربَّعة ضخمة قاتمة جاثمة على الجِدار المُضيء بنور القمر.

سُرعان ما ملَّ هذه المُتعة، فراح يهبِط من غُصنٍ إلى غُصن، إلى أن جثَم مُجدَّدًا وشرَع يتحرَّك نحو الإسطبلات زاحِفًا بالطريقة الغريبة نفسها كما كان يفعل من قبل. كان الكلب الذِّئبي بالخارج آنئذٍ ينبَحُ بشراسة، وازداد استثارةً عن ذي قبل حِين لمَحَ صاحِبَه. راح الكلب يجرُّ سلسلته ويهتزُّ في هَياجٍ وغضب. أقْعى البروفيسور بحرصٍ شديد حتى أصبح في مأمنٍ منه، ثم بدأ يَستفزُّه بكلِّ طريقةٍ مُمكنة؛ فأخذ حفناتٍ من الحصى من الطريق ورماها في وَجهه، ثم نَخزَه في جِسمه بعصًا كان قد التقطها، وكذلك راح يُلوِّح بيده أمام فمِهِ المَفغُور. لقد حاولَ بكلِّ طريقة مُمكنة أن يزيد من غضب الكلب، والذي كان قد خرج عن حدِّ السيطرة بالفعل. في كلِّ مُغامراتنا التي خُضناها، لا أذكرُ أنَّني رأيتُ مَشهدًا أغربَ من ذلك المشهد؛ هذا الرجل مُتبلِّد الشعور، لكنه لا يخلو من وَقارٍ في الوقت نفسه، وهو يربُضُ على الأرض مُقَرفِصًا كالضفدعة، مُستفزًّا الكلب المُستَشيط غضبًا، وقد راح يَثُور ويَمُور أمامه، لكي يُبدي المَزيد من الانفعال والغضب، وقد فعل ذلك بجميع طُرُق القسوة الماهرة والمدروسة.

وفي لحظةٍ واحدة، حدَث ما حدَث! لم تنكسِر السلسلة، وإنما انزلَقَ الطَّوق؛ فقد كان مصنوعًا في الأصل لكلب نيوفاوندلاند غليظ الرَّقَبة. سمِعنا صلصلة المَعدِن وهو يسقط، وفي اللحظة التالية، كان الرجل والكلب يتدحرجان معًا على الأرض، أحدُهما يزأر في غضبٍ والآخر يُطلِق صرخةَ رُعبٍ غريبة شديدة الحدَّة. كان البروفيسور على شفا الموت، فقد أطبَقَ الكائن المُتوحِّش على حلقِه وأنشبَ فيه نابَيه بِعُمق. فقد البروفيسور وعيَه قبل أن نصِل إليهما ونُفرِّق أحدَهما عن الآخر، وهي مُهمَّة ربما كانت تُمثِّل خطورة علينا لولا أنَّ حضور بينيت وصوته أعادا الكلب إلى رُشدِه على الفور. وصل صوت العواء إلى غُرفة الحُوذي النائم فأيقَظَه وأتى به مذهولًا من غرفة نومه الموجودة فوق الإسطبلات، وقد هزَّ رأسه قائلًا: «لست مُتفاجئًا، فقد رأيتُه من قبل وهو يُحاول استفزازه، وكنتُ أعرف أنَّ الكلب سينال منه عاجلًا أم آجلًا.»

ربطنا الكلب وحملنا البروفيسور معًا إلى غرفته، وهناك ساعدني بينيت، الذي كان يحمل شهادة في الطب، على مُعالجة حلقه الجريح. كانت الأسنان الحادَّة قد اخترقتْ حلقه وكادت تقترِب من الشريان السباتي، فكان النزيف بالغًا. في غضون نِصف ساعة، زال الخطر، وأعطيتُ المريض حقنة مورفين، فغاب في نومٍ عميق. وحينها، فقط حينها، تمكنَّا من أن نتبادَلَ النظرات ونستوعِب الموقِف.

بدأتُ أنا بالحديث قائلًا: «أعتقِد أنَّنا يجِب أن نعرِضه على جرَّاح مُتخصِّص.»

صاح بينيت: «بربِّك، لا! إنَّ الفضيحة الآن في حدود منزلنا فحسْب، ونحن سنحفظها، أما إذا تخطَّت هذه الجُدران، فلن تتوقَّف أبدًا. فكِّر في مركزه في الجامعة، وسُمعته في أوروبا، وكذلك مشاعر ابنته.»

ردَّ هولمز: «معك حق، أعتقِد أنَّ بوُسعنا أن نُبقي الأمر فيما بيننا وأن نمنع تكراره، لا سيما أنَّ لدَينا الآن كامل الحرية في التصرُّف. ناوِلْني المفتاح الموجود في سلسلة الساعة يا سيد بينيت، وسيرعى ماكفيل المريضَ ويُخبرنا إن جدَّ جديد. أما الآن، فلنرَ ما يُوجَد في صندوق البروفيسور الغامض.»

لم يكن به الكثير، لكنه كان كافيًا؛ قِنِّينة فارغة وأخرى لم ينقُص منها إلَّا القليل ومِحقنة وعدَّة خطابات قد كُتبت بخطٍّ غريب تصعُب قراءته. ووجدْنا على الأظرُف العلامات التي كانت قد أثارت قلقَ المُساعد، وقد ظهر على كلٍّ من تلك الخطابات التاريخ الصادر من طريق كوميرشال رود، مع توقيع «إيه دوراك». لم تكن إلا مُجرَّد فواتير تُثبت إرسال زجاجةٍ جديدة إلى البروفيسور بريسبري أو إيصالًا يُثبت استلام النقود. غير أنَّنا وجدْنا مظروفًا واحدًا مُختلفًا، قد كُتِب بخطٍّ مُتمكن، وعليه طابع البريد النمساوي والختم البريدي لبراج؛ فصاح هولمز وهو يفتح المظروف: «ها نحن نحصُل على ما نبغي من معلومات!»

[بدأ الخطاب كالتالي]:

زميلي المحترم

منذ زيارتك الجليلة، وأنا أُطيل النظر في حالتك، وبالرغم ممَّا لدَيك من أسبابٍ خاصَّة تستدعي العلاج، فإنني أدعوك إلى تَوخِّي الحذَر؛ فقد أثبتت نتائجي أنَّ الأمر لا يخلو من خطورةٍ ما.

ربما كان مَصْل إنسان الغاب أفضل. لقد استخدمتُ اللانجور الأسود الوجه، كما شرحتُ لك، وذلك لأنَّني استطعتُ الحصول على عيِّنة. اللانجور بالطبع يزحَفُ ويتسلَّق، على عكس إنسان الغاب الذي يسير مُنتصبًا، وهو أقرب من جميع الوجوه.

أرجو منك أن تتَّخِذ جميع الاحتياطات المُمكنة لكيلا يَذيع أمر تلك التجربة قبل أوانها. ليس لديَّ إلا عميل آخَر في إنجلترا، ودوراك هو وَسيطي لكليكما.

سأكون مُمتنًّا لتقاريرك الأسبوعية.

خالص مودَّتي وتقديري.

إتش لوفنشتاين

لوفنشتاين! ذكَّرني الاسم على الفور بقصاصةٍ من جريدةٍ كانت تتحدَّث عن عالم مغمور، يُكرِّس جميع جهوده في البحث عن سرِّ تجديد الشباب وإكسير الحياة. لوفنشتاين من براج! لوفنشتاين ومَصْله العجيب الذي يمنح القوَّة، والذي حظرته الدوائر العلمية لرفضه الإفصاح عن مصدره. قلتُ ما قد تذكَّرتُه في هذه الكلمات القليلة. أما بينيت، فقد تناوَلَ مَرجِعًا في عِلم الحيوان من فوق الأرفُف وراح يقرأ فيه: ««اللانجور، أحد القِرَدة العُليا السوداء الوجه التي تعيش في مُنحدرات الهيمالايا، وهو أضخم القِرَدة المُتسلِّقة وأكثرها شبهًا بالإنسان.» لقد عرَفْنا الكثير من التفاصيل، وبفضلك يا سيد هولمز تَمكنَّا من تتبُّع هذا الشرِّ وصولًا إلى مصدره.»

تحدَّث هولمز: «إنَّ مصدره الحقيقي يكمُن بالطبع في تلك العلاقة الغرامِيَّة غير المُناسبة، والتي أقنعَتِ البروفيسور المُندفع بأنَّه لن يحصُل على مُراده إلَّا إذا عاد شابًّا من جديد. عندما يُحاوِل المرء أن يتحدَّى الطبيعة ينتهي به الحال إلى الوقوع تحت رحمتها. إن أشدَّ الرجال رُقيًّا قد ينتكِس إلى الحَيوانية إذا حاد عن صِراط القدر المُستقيم.» جلس هولمز مُتأمِّلًا لبُرهة والقنِّينة في يده، ينظر إلى ذلك السائل الصافي بداخلها. «إذا أرسلتَ إلى هذا الرجل أخبِرْه بأنَّني أُحمِّله المسئولية الجنائية عن تَداوُل هذه السموم، فلن نُعاني مزيدًا من المتاعب، لكنَّ الأمر قد يتكرَّر مرة أخرى، وقد يجِد آخرون طريقةً أفضل لتحقيقه. ثَمَّ خطر يكمُن في ذلك، خطر حقيقي بالفعل على الإنسانية. تخيَّل يا واطسون أنَّ هؤلاء الذين لا يُهمُّهم سوى السعي وراء المادة، وكذلك مُتتبِّعو اللذَّة والمُتهالكون على الدُّنيا؛ إن جميعهم قد أطالوا من حَيواتهم التي لا قِيمةَ لها. وأما الرُّوحانيون، فلن يَمتنعوا عن السعي إلى ما هو أسمى. سيكون البقاء إذن للأقلِّ صلاحًا. أيُّ بالوعة قاذورات سيُصبح عليها عالمُنا البائس؟» وفجأة، اختفى هولمز الحالِم، ونهض هولمز رجل الأفعال من مقعده وقال: «أعتقد أنه لا يُوجَد أكثر من ذلك من المُمكن أن يُقال يا سيد بينيت. ستجِد أنَّ الوقائع المُختلفة تندمِج الآن من تلقاء نفسها لتُكمل الصورة العامَّة. لا شكَّ في أنَّ الكلب قد أدرك التغيُّر أسرعَ منك بكثير؛ فحاسَّة شَمِّه تؤهِّله لذلك. إنَّ روي لم يُهاجِم البروفيسور، وإنما هاجم القرد، وكذلك فإنَّ القرد هو الذي كان يَستفزُّ الكلب. لقد كان التسلُّق مُتعةً بالنسبة إلى هذا الكائن، وأعتقِد أن الصُّدفة المَحضة هي التي حمَلتْه إلى نافذة ابنتِه بينما كان يُمارس هذه المُتعة. يُوجَد قطار مبكر سيذهب إلى المدينة يا واطسون، لكنَّني أعتقِد أنه بإمكاننا أن نتناول قدحًا من الشاي في تشيكرز أولًا قبل أن نلحَق به.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤